الموسوعة العقدية

المَطلَبُ الرَّابعُ: قُدرةُ المَلائِكةِ على التشَكُّلِ بغيرِ أشكالِهم

أعطى اللهُ المَلائِكةَ القُدرةَ على أن يتشَكَّلوا بغيرِ أشكالِهم.
قال أبو العَبَّاسِ القُرطبيُّ: (اللهُ تعالى قد مكَّن المَلائِكةَ والجِنَّ من التشَكُّلِ في الصُّوَرِ المختَلِفةِ، والتمثيلِ بها، مع أنَّ للنوعينِ في أنفُسِهما خِلَقًا خاصةً بهما، خلَقَهما اللهُ تعالى عليها) [3806] يُنظر: ((المفهم)) (6/ 172). .
وقال ابنُ حجَرٍ: (المَلائِكةُ أجسامٌ لطيفةٌ أُعطِيَت قُدرةً على التشَكُّلِ بأشكالٍ مختَلِفةٍ) [3807] يُنظر: ((فتح الباري)) (6/ 306). .
وقد أرسل اللهُ جِبريلَ إلى مريمَ في صورةِ بَشَرٍ.
قال اللهُ تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا [مريم: 16-19] .
قال ابنُ كثير: (أرسل اللهُ تعالى إليها جبريلَ عليه السَّلامُ فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا أي: على صورةِ إنسانٍ تامٍّ كامِلٍ) [3808] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/219). .
وإبراهيمُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ جاءته المَلائِكةُ في صُورةِ بَشَرٍ، ولم يَعرِفْ أنَّهم مَلائِكةٌ حتى كَشَفوا له عن حقيقةِ أَمْرِهم.
قال اللهُ سُبحانَه: وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ [هود: 69-70] .
وجاءت المَلائِكةُ كذلك إلى لوطٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ.
قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ [هود: 77] .
قال ابنُ كثير: (ذكَرْنا في التفسيرِ ما ذكره غيرُ واحدٍ مِنَ العُلَماءِ مِن أنَّ المَلائِكة تَبَدَّوا لهم في صورةِ شَبابٍ حِسانٍ؛ امتحانًا واختبارًا، حتى قامت على قَومِ لوطٍ الحُجَّةُ، وأخذهم اللهُ أَخْذَ عزيزٍ مُقتَدِرٍ) [3809] يُنظر: ((البداية والنهاية)) (1/ 91). .
وقال أيضًا: (كان جِبريلُ يأتي إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في صِفاتٍ متعَدِّدةٍ؛ فتارةً يأتي في صُورةِ دِحيةَ بنِ خَليفةَ الكَلبيِّ، وتارةً في صورةِ أعرابيٍّ، وتارةً في صُورتِه التي خُلِق عليها، له سِتُّمائةِ جَناحٍ ما بين كُلِّ جَناحينِ كما بين المَشرِقِ والمغرِبِ، كما رآه على هذه الصِّفةِ مَرَّتينِ) [3810] يُنظر: ((البداية والنهاية)) (1/ 91). .
عن أُسامةَ بنِ زَيدٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((أُنْبِئْتُ أنَّ جِبْرِيلَ عليه السَّلَامُ أتَى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعِنْدَهُ أُمُّ سَلَمَةَ، فَجَعَلَ يُحَدِّثُ ثُمَّ قَامَ، فَقَالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِأُمِّ سَلَمَةَ: مَن هذا؟ -أوْ كما قَالَ- قَالَ: قَالَتْ: هذا دِحْيَةُ، قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: ايْمُ اللَّهِ ما حَسِبْتُهُ إلَّا إيَّاهُ، حتَّى سَمِعْتُ خُطْبَةَ نَبِيِّ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُخْبِرُ جِبْرِيلَ، أوْ كما قَالَ )) [3811] أخرجه البخاري (3633). .
قال أبو العبَّاسِ القُرطبيُّ: (تقدَّم القَولُ في تمثُّلِ المَلائِكةِ والجِنِّ في الصُّوَرِ المختَلِفةِ، وأنَّ لهم في أنفُسِهم صُوَرًا خلقهم اللهُ تعالى عليها، وأنَّ الإيمانَ بذلك كُلِّه واجِبٌ؛ لِما دَلَّ عليه من السَّمعِ الصَّادِقِ، وكان دِحْيَةُ بنُ خَليفةَ رجُلًا حَسَنَ الصُّورةِ... وهو دِحْيَةُ بنُ خَليفةَ بنِ فَروةَ الكَلبيُّ، وكان من كِبارِ الصَّحابةِ) [3812] يُنظر: ((المفهم)) (6/ 359). .
وقال ابنُ حَجَرٍ: (في هذا الحديثِ أنَّ للمَلَكِ أن يتَصَوَّرَ على صورةِ الآدَمِيِّ وأنَّ له هو في ذاتِه صورةً لا يستطيعُ الآدَميُّ أن يراه فيها لضَعفِ القُوى البَشَريَّةِ إلَّا من يشاء اللهُ أن يُقَوِّيَه على ذلك؛ ولهذا كان غالِبُ ما يأتي جِبريلُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في صُورةِ الرَّجُلِ، كما تقدَّم في بَدءِ الوَحيِ ((وأحيانًا يتمَثَّلُ ليَ المَلَكُ رَجُلًا )) [3813] أخرجه مطولًا البخاري (2) واللَّفظُ له، ومسلم (2333) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عائشةَ رضي الله عنها. ولم يَرَ جِبريلَ على صورتِه التي خُلِقَ عليها إلَّا مرَّتينِ، كما ثبت في الصَّحيحَينِ) [3814] يُنظر: ((فتح الباري)) (9/ 6). .
وقد شاهده عددٌ من الصَّحابةِ عندما كان يأتي على صُورةِ رَجُلٍ؛ فعن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: بينما نحن عند رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذاتَ يومٍ، إذ طلع علينا رجلٌ شديدُ بياضِ الثِّيابِ، شديدُ سَوادِ الشَّعرِ، لا يُرَى عليه أَثَرُ السَّفَرِ، ولا يَعرِفُه منا أحدٌ، حتى جلس إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأسنَدَ رُكَبَتيه إلى رُكبَتَيه، ووضَعَ كَفَّيه على فَخِذَيه، وقال: يا محمَّدُ، أخبِرْني عن الإسلامِ. وفي الحديثِ أنَّه سأله عن الإسلامِ، والإيمانِ، والإحسانِ، والسَّاعةِ وأماراتِها. ثم أخبر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أصحابَه فيما بعدُ أنَّ السَّائِلَ جبريلُ، جاء يُعَلِّمُهم دينَهم [3815] أخرجه مسلم (8) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رضي الله عنه. .
وفي حديثِ أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه في قِصَّةِ الرَّجُلِ الذي قتل تسعةً وتسعين نفسًا، وأنَّه لَمَّا هاجر تائبًا جاءه الموتُ في منتَصَفِ الطَّريقِ إلى الأرضِ التي هاجر إليها، فاختصَمَت فيه مَلائِكةُ الرَّحمةِ ومَلائِكةُ العَذابِ، فحكَّموا فيه مَلَكًا أتاهم في صورةِ آدَميٍّ، فقال: ((قيسوا ما بين الأرضَينِ، فإلى أيَّتِهما كان أدنى فهو له)) [3816] أخرجه البخاري (3470) بنحوه، ومسلم (2766) واللَّفظُ له مُطَوَّلًا. .

انظر أيضا: