تم اعتماد المنهجية من الجمعية الفقهية السعودية
برئاسة الشيخ الدكتور سعد بن تركي الخثلان
أستاذ الفقه بجامعة الإمام محمد بن سعود
عضو هيئة كبار العلماء (سابقاً)
كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَيِّدَ المتوكِّلين، وإمامَ المتَّقين، قد عصَمَه اللَّهُ سُبحانَه من أن يَصِلَ إليه أحدٌ بسُوءٍ، ومع ذلك فقد كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يأخذُ بالأسبابِ مع الحَذَرِ والحَيطةِ في أمورِه، سواءٌ تعَلَّقَت به أو بأمورِ المُسلِمين. - قال القاضي عِياضٌ في بيانِ ما كان عليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من الحِرصِ والحَذَرِ والحَيطةِ في أمورِه: (كان رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يؤلِّفُهم ولا يُنَفِّرُهم، ويُكرِمُ كريمَ كُلِّ قومٍ ويُوَلِّيه عليهم، ويحذَرُ النَّاسَ ويحتَرِسُ منهم، من غيرِ أن يطويَ عن أحدٍ منهم بِشْرَه ولا خُلُقَهـ) . - فقد اختبأ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في غارِ ثَورٍ أثناءَ هِجرتِه هو وصاحِبُه أبو بكرٍ، وأخذ بكُلِّ وسائِلِ الحَيطةِ والحَذَرِ؛ تقولُ عائشةُ رَضِيَ اللَّهُ عنها: (ثمَّ لَحِق رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبو بكرٍ بغارٍ في جَبَلِ ثَورٍ، فكَمَنا فيه ثلاثَ ليالٍ) . وما فَعَل صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذلك إلَّا من أجْلِ أن تَتِمَّ هِجرتُه إلى المدينةِ، مع كونِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُستشعِرًا لمعيَّةِ اللَّهِ تعالى، إلَّا أنَّه كان حَذِرًا من إدراكِ المُشرِكين. - وعن عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها قالت: ((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَهِرَ، فلمَّا قَدِم المدينةَ قال: ليت رجُلًا من أصحابي صالحًا يحرُسُني اللَّيلةَ، إذ سَمِعْنا صوتَ سِلاحٍ، فقال: مَن هذا؟ فقال: أنا سَعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ، جِئتُ لأحرُسَك، ونام النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)) . - وعن البراءِ بنِ عازبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما يحَدِّثُ، قال: ((جعل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الرَّجَّالةِ يومَ أحُدٍ - وكانوا خمسينَ رَجُلًا- عبدَ اللَّهِ بنَ جُبَيرٍ، فقال: إن رأيتُمونا تخطَفُنا الطَّيرُ فلا تَبْرَحوا مكانَكم هذا حتَّى أرسِلَ إليكم، وإن رأيتُمونا هَزَمْنا القومَ وأوطَأْناهم فلا تَبرَحوا حتَّى أُرسِلَ إليكم)) . - وعن أنَسِ بنِ مالِكٍ، قال: ((بَعَث رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بُسَيسةً عينًا ينظُرُ ما صنَعَتْ عِيرُ أبي سفيانَ، فجاء وما في البيتِ أحَدٌ غيري وغيرُ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم -قال: لا أدري ما استثنى بعضَ نِسائِه- قال: فحدَّثه الحديثَ، قال: فخرج رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فتكَلَّم، فقال: إنَّ لنا طَلِبةً، فمن كان ظَهرُه حاضِرًا فليركَبْ معنا...)) . («عينًا»: أي: مُتجَسِّسًا ورَقيبًا. والعِيرُ: الإبِلُ والدَّوابُّ التي تحمِلُ الأحمالَ. وقولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للصَّحابةِ: «إنَّ لنا طَلِبةً» أي: شيءٌ نطلُبُه. «فمَن كان ظهرُه حاضِرًا فليركَبْ معنا»: فيه كَتمُ أمورِ الحَربِ، وأنَّ الحَزمَ تَركُ إنشائِها والتَّوريةُ بها؛ لئلَّا يطَّلِعَ العَدُوُّ عليها، ولتؤخَذَ على غِرَّةٍ) . - وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه، قال: ((بعث رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَشَرةَ رَهطٍ سَرِيَّةً عَينًا، وأمَّر عليهم عاصِمَ بنَ ثابتٍ الأنصاريَّ ...)) . - وعن إبراهيمَ التَّيميِّ، عن أبيه، قال: كنَّا عِندَ حُذَيفةَ، فقال رجُلٌ: لو أدركْتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قاتَلْتُ معه وأبلَيتُ، فقال حُذَيفةُ: ((أنت كُنتَ تَفعَلُ ذلك؟! لقد رأيتُنا مع رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليلةَ الأحزابِ، وأخذَتْنا ريحٌ شديدةٌ وقُرٌّ ، فقال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ألا رجُلٌ يأتيني بخبَرِ القومِ جَعَله اللَّهُ معي يومَ القيامةِ؟ فسكَتْنا فلم يجِبْه منَّا أحدٌ، ثمَّ قال: ألَا رجُلٌ يأتينا بخَبَرِ القومِ جَعَله اللَّهُ معي يومَ القيامةِ؟ فسكَتْنا فلم يُجِبْه منَّا أحَدٌ، ثمَّ قال: ألا رجُلٌ يأتينا بخَبَرِ القومِ جَعَله اللَّهُ معي يومَ القيامةِ؟ فسكَتْنا فلم يجِبْه منَّا أحدٌ، فقال: قُمْ يا حُذَيفةُ، فأْتِنا بخَبَرِ القومِ، فلم أجِدْ بُدًّا إذ دعاني باسمي أن أقومَ، قال: اذهَبْ فأْتِني بخبَرِ القومِ، ولا تَذْعَرْهم علَيَّ، فلمَّا ولَّيتُ مِن عندِه جعَلْتُ كأنَّما أمشي في حمَّامٍ حتَّى أتيتُهم! فرأيتُ أبا سفيانَ يَصْلي ظَهْرَه بالنَّارِ ، فوضَعْتُ سَهمًا في كَبِدِ القَوسِ فأردْتُ أن أرمِيَه، فذكَرْتُ قَولَ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ولا تَذعَرْهم عَلَيَّ، ولو رمَيتُه لأصَبْتُه، فرجَعْتُ وأنا أمشي في مِثلِ الحَمَّامِ، فلمَّا أتيتُه فأخبَرْتُه بخبرِ القَومِ، وفرَغْتُ قُرِرْتُ ، فألبَسني رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن فَضلِ عَباءةٍ كانت عليه يُصَلِّي فيها، فلم أزَلْ نائمًا حتَّى أصبَحْتُ، فلمَّا أصبَحْتُ قال: قُمْ يا نَومانُ!)) . - وعن زَيدِ بنِ ثابتٍ: أمَرَني رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فتعلَّمتُ له كتابَ يَهودَ، وقال: ((إنِّي واللَّهِ ما آمنُ يهودَ على كتابي)) فتعلَّمْتُه، فلم يمُرَّ بي إلَّا نِصفُ شَهرٍ حتَّى حذَقْتُه، فكنتُ أكتُبُ له إذا كَتَب، وأقرأُ له إذا كُتِبَ إليه . -وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه، عن النَّبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنِّي لأنقَلِبُ إلى أهلي، فأجِدُ التَّمرةَ ساقِطةً على فِراشي، ثمَّ أرفَعُها لآكُلَها، ثمَّ أخشى أن تكونَ صَدَقةً، فأُلقيها)) .
(11) أي: بَرْدٌ. يُنظَر: ((شرح النووي على مسلم)) (12/ 145).
(12) الذُّعرُ: الفَزَعُ، يريدُ: لا تُعلِمْهم بنفسِك وامشِ في خفيةٍ؛ لئلَّا يَنفِروا منك ويُقبِلوا علَيَّ. يُنظَر: ((النهاية في غريب الحديث)) لابن الأثير (2/161).
(13) الحمَّام مُشتَقٌّ من الحميمِ، وهو الماءُ الحارُّ، والمرادُ أنَّه لم يجِدِ البردَ الذي يجِدُه النَّاسُ، ولا من تلك الرِّيحِ الشَّديدةِ شيئًا، بل عافاه اللهُ منه ببركةِ إجابتِه للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وذَهابِه فيما وجَّهه له ودُعائِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم له، واستمَرَّ ذلك اللُّطفُ به ومعافاتُه من البردِ حتى عاد إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا رجَع ووصَل عاد إليه البردُ الذي يجِدُه النَّاسُ! وهذه من معجزاتِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. يُنظَر: ((شرح النووي على مسلم)) (12/ 146).
(14) أي: يُدَفِّئُه ويُدنيه منها. يُنظَر: ((شرح النووي على مسلم)) (12/ 146).
(15) قُرِرْتُ: أي: أصابني البردُ الذي كان يجِدُه النَّاسُ. يُنظَر: ((إكمال المعلم بفوائد مسلم)) للمازري (6/ 161).
(17) أخرجه البخاري معلَّقًا بصيغة الجزم (7195)، وأخرجه موصولًا أبو داود (3645) واللفظُ له، والترمذي (2715). صحَّحه الترمذي، والحاكم في ((المستدرك)) (252)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3645)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3645).
(18) أخرجه البخاريُّ مُعَلَّقًا بصيغةِ الجزم (2432)، وأخرجه موصولًا مسلم (1070) واللفظ له.