موسوعة الأخلاق والسلوك

د- الحَذَرُ واليَقَظةُ والحَيطةُ عِندَ السَّلَفِ


تنوَّعَت صُوَرُ يَقَظةِ السَّلَفِ وحَيطتُهم وحَذَرُهم؛ فليس هناك صورةٌ واحدةٌ لحِرصِهم وحَذَرِهم، فهذا يَحذَرُ الشُّبهةَ في مالٍ أو كَسبٍ، أو شِراءٍ وبيعٍ، وآخَرُ يحتاطُ في القولِ والفِعلِ أشَدَّ الاحتياطِ، وثالثٌ يَحذَرُ في روايتِه للحديثِ، فلا يروي أو يحَدِّثُ إلَّا مَن كان ثقةً أمينًا، إلى غيرِ ذلك من صُوَرِ الحَيطةِ والحَذَرِ واليَقَظةِ.
عن هِشامٍ قال: سمِعتُ الحَسَنَ يقولُ: (واللَّهِ لقد أدركْتُ أقوامًا وإن كان أحَدُهم ليَرِثُ المالَ العظيمَ، قال: وإنَّه -واللَّهِ- لمجهودٌ شديدُ الجَهدِ، قال: فيقولُ لأخيه: يا أخي، إنِّي قد عَلِمتُ أنَّ ذا ميراثٌ وهو حلالٌ، ولكِنِّي أخافُ أن يُفسِدَ عَلَيَّ قلبي وعَمَلي، فهو لك، لا حاجةَ لي فيه! قال: فلا يَرزَأُ منه شيئًا أبدًا، قال: وهو -واللَّهِ-  مجهودٌ شديدُ الجَهدِ!) [3001] ((الزهد)) لأحمد بن حنبل (ص: 211). .
فتأمَّلْ مَبلَغَ حَيطتِهم وحَذَرِهم من الدُّنيا، وتأمَّلْ يَقَظةَ قُلوبِهم وشِدَّةِ مراقبتِهم.
- مالِكُ بنُ أنَسٍ:
قال بِشرُ بنُ عُمَرَ الزَّهرانيُّ: (سألتُ مالِكًا عن رَجُلٍ، فقال: هل رأيتَه في كُتُبي؟ قلتُ: لا. قال: لو كان ثقةً لرأيتَه في كُتُبي) [3002] ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (8/72). .
قال الذَّهبيُّ مُعَلِّقًا على هذه الرِّوايةِ: (فهذا القولُ يعطيك بأنَّه لا يروي إلَّا عمَّن هو عندَه ثقةٌ، ولا يلزَمُ من ذلك أنَّه يروي عن كُلِّ الثِّقاتِ، ثمَّ لا يلزَمُ ممَّا قال أنَّ كُلَّ من روى عنه -وهو عِندَه ثِقةٌ- أن يكونَ ثِقةً عِندَ باقي الحُفَّاظِ، فقد يخفى عليه من حالِ شَيْخِه ما يظهَرُ لغيرِه، إلَّا أنَّه بكُلِّ حالٍ كثيرُ التَّحرِّي في نَقدِ الرِّجالِ) [3003] ((سير أعلام النبلاء)) (8/72). .
- وقال مُطَرِّفٌ: (كان مالِكٌ يَستعمِلُ في نفسِه ما لا يلتَزِمُه النَّاسُ، ويقولُ: لا يكونُ العالمُ عالمًا حتَّى يكونَ كذلك، وحتَّى يحتاطَ لنفسِه بما لو ترَكَه لا يكونُ عليه فيه إثمٌ) [3004] ((ترتيب المدارك)) للقاضي عياض (2/53). .
-ميمونُ بنُ مِهرانَ:
عن فُراتِ بنِ السَّائِبِ، عن ميمونِ بنِ مِهرانَ، قال: (ثلاثٌ لا تَبلونَّ نفسَك بهِنَّ: لا تدخُلْ على السُّلطانِ وإن قُلتَ: آمُرُه بطاعةِ اللَّهِ، ولا تُصغِيَنَّ بسَمعِك إلى هوًى؛ فإنَّك لا تدري ما يَعلَقُ بقَلبِك منه، ولا تَدخُلْ على امرأةٍ ولو قُلتَ: أعَلِّمُها كتابَ اللَّهِ) [3005] ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (5/77). .
- سُفيانُ الثَّوريُّ:
عن عَطاءٍ الخَفَّافِ قال: (قال لي سُفيانُ الثَّوريُّ ونحن نطوفُ بالبَيتِ وضَرَب حُجْزَتي، فقال: يا عطاءُ، احذَرِ النَّاسَ، وأنا فاحذَرْني!) [3006] ((مداراة الناس)) لابن أبي الدنيا (ص: 102). .
- محمَّدُ بنُ سِيرينَ:
عن عاصِمٍ الأحوَلِ، عن ابنِ سِيرينَ، قال: (لم يكونوا يَسألون عن الإسنادِ، فلمَّا وقَعَت الفِتنةُ، قالوا: سمُّوا لنا رجالَكم، فيُنظَرُ إلى أهلِ السُّنَّةِ فيُؤخَذُ حديثُهم، ويُنظَرُ إلى أهلِ البِدَعِ فلا يؤخَذُ حديثُهم) [3007] ((مقدمة صحيح مسلم)) (1/15). .
وهكذا طَبَّق محمَّدُ بنُ سِيرينَ مبدَأَ الحَيطةِ والحَذَرِ لَمَّا وَجَد داعيَه.
- عبدُ اللَّهِ بنُ مُحَيريزٍ:
عن خالِدِ بنِ دُرَيكٍ قال: (خرَج ابنُ مُحَيريزٍ إلى بزَّازٍ يشتري منه ثوبًا، والبزَّازُ لا يَعرِفُه، قال: وعندَه رجُلٌ يعرِفُه، فقال: بكم هذا الثَّوبُ؟ قال الرَّجُلُ: بكذا وكذا. فقال الرَّجُلُ الذي يعرِفُه: أحسِنْ إلى ابنِ مُحَيريزٍ! فقال ابنُ مُحَيريزٍ: إنَّما جئتُ أشتري بمالي ولم أجِئْ أشتري بديني! فقام ولم يَشْتَرِ) [3008] ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (5/ 138). .
فتأمَّلْ كيف بلَغَت حَيطةُ عبدِ اللَّهِ بنِ مُحَيريزٍ أن تكونَ في هذه المعاملةِ أدنى شُبهةِ مجامَلةٍ، وكيف خَشِيَ على دينِه منها، فتَرَكها؟!
- بَلْتَعةُ بنُ الوردِ:
فقد كان حَذِرًا محتاطًا في مأكَلِه ومَشرَبِه، حريصًا على كَسبِ الحلالِ، متوَرِّعًا عن الحرامِ.
يقولُ: (لو قُمتَ قيامَ السَّاريةِ ما نفَعَك حتى تنظُرَ ما يدخُلُ في بَطنِك!) [3009] ((الزواجر)) لابن حجر الهيتمي (1/386). .

انظر أيضا: