موسوعة الأخلاق والسلوك

ج- الحَذَرُ واليَقَظةُ والحَيطةُ عِندَ الصَّحابةِ


كان الصَّحابةُ رَضِيَ اللَّهُ عنهم في يقَظةٍ دائِمةٍ وحَذَرٍ متواصلٍ، سواءٌ فيما يصدُرُ عنهم أو فيما يدورُ حولَهم، فهم يراقِبون اللَّهَ في أقوالِهم وأفعالِهم، ويحتاطون لأمرِ دينِهم ولأمرِ المُسلِمين، ولِما يقعُ حولَهم أو يُكادُ لهم.
- أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عنه:
- عن عائِشةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها قالت: (كان لأبي بَكرٍ غلامٌ يُخرِجُ له الخَراجَ، وكان أبو بكرٍ يأكُلُ مِن خَراجِه، فجاء يومًا بشيءٍ، فأكَل منه أبو بكرٍ، فقال له الغُلامُ: تدري ما هذا؟ فقال أبو بَكرٍ: وما هو؟ قال: كنتُ تكَهَّنْتُ لإنسانٍ في الجاهليَّةِ، وما أُحسِنُ الكِهانةَ إلَّا أنِّي خدَعْتُه، فلَقِيَني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكَلْتَ منه! فأدخَل أبو بكرٍ يَدَه، فقاء كُلَّ شيءٍ في بطنِه) [2990] أخرجه البخاري (3842). .
فأبو بكرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه له تلك النَّفسُ اليَقِظةُ التي تَحذَرُ الحرامَ، وتحتاطُ لدينِها.
- وتَظهَرُ يَقَظةُ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عنه في أبرَزِ معانيها بعدَ وفاةِ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وارتدادِ مَن ارتَدَّ من العَرَبِ، وامتناعِ البَعضِ مِن دَفعِ الزَّكاةِ، فيَقِفُ الصِّدِّيقُ لكُلِّ مَن سوَّلت له نفسُه العَبَثَ بنظامِ دَولةِ الإسلامِ، والإخلالِ بقواعدِها.
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((لَمَّا تُوُفِّيَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم واستُخلِف أبو بكرٍ، وكَفَر من كَفَر من العَرَبِ، قال عُمَرُ: يا أبا بكرٍ، كيف تقاتِلُ النَّاسَ، وقد قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أُمِرْتُ أن أقاتِلَ النَّاسَ حتَّى يقولوا: لا إلهَ إلَّا اللهُ، فمَن قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ، فقد عَصَم منِّي مالَه ونَفْسَه إلَّا بحَقِّه، وحِسابُه على اللهِ. قال أبو بكرٍ: واللهِ لأقاتِلَنَّ من فَرَّق بين الصَّلاةِ والزَّكاةِ؛ فإنَّ الزَّكاةَ حَقُّ المالِ، واللهِ لو منَعوني عَناقًا [2991] العَناقُ: الأُنثى من أولادِ المَعزِ ما لم يَتِمَّ له سَنةٌ. ينظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (3/ 311). كانوا يُؤَدُّونها إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لقاتَلْتُهم على مَنْعِها، قال عُمَرُ: فواللهِ ما هو إلَّا أن رأيتُ أنْ قد شرَحَ اللهُ صَدْرَ أبي بكرٍ للقِتالِ، فعَرَفْتُ أنَّه الحَقُّ)) [2992] أخرجه البخاري (6924، 6925) واللَّفظُ له، ومسلم (20). .
- عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنه:
ومن مَظاهِرِ يَقَظتِه رَضِيَ اللَّهُ عنه اهتِمامُه بأمرِ المُسلِمين، ومَعرفةِ ما يجِدُّ مِن أخبارٍ حولَ بلادِ المُسلِمين، وتتبُّعِ أخبارِ عَدُوِّهم لمعرفةِ خُطَطِه وكَيدِه.
يقولُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عنه: (وكان لي جارٌ من الأنصارِ، فكُنَّا نتناوَبُ النُّزولَ إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيَنزِلُ يومًا وأنزِلُ يومًا، فيأتيني بخبَرِ الوَحيِ وغيرِه، وآتيه بمِثلِ ذلك. وكنَّا نتحَدَّثُ أنَّ غَسَّانَ تُنعِلُ الخيلَ [2993] أي: تجعَلُ لها نَعلًا. يُنظَر: ((طرح التثريب)) للعراقي (8/ 137). لتَغزونا، فنَزَل صاحبي، ثمَّ أتاني عِشاءً، فضَرَب بابي، ثمَّ ناداني، فخرَجْتُ إليه، فقال: حَدَث أمرٌ عظيمٌ، قلتُ: ماذا؟ أجاءَت غَسَّانُ؟ ...) [2994] أخرجه البخاري (2468)، ومسلم (1479) واللفظ له. .
 ففي هذا الخَبَرِ يَظهَرُ حِرصُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنه ويقَظتُه في السُّؤالِ عن غَسَّان؛ اهتمامًا بأمرِ المُسلِمين، وحَذَرًا من مباغَتتِهم مِن قِبَلِ عَدُوِّهم.
-ويحذَرُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عنه لكَثرةِ الدَّاخِلين على رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيسألُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَفرِضَ الحِجابَ على نِسائِه صيانةً لهُنَّ، وحَيطةً لهُنَّ عن أعيُنِ مَن لا يخشى اللَّهَ في أفعالِه.
عن أنَسٍ قال: قال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عنه: قلتُ: (يا رسولَ اللَّهِ، يدخُلُ عليك البَرُّ والفاجِرُ، فلو أمَرْتَ أمَّهاتِ المُؤمِنين بالحِجابِ؛ فأنزَلَ اللَّهُ آيةَ الحِجابِ) [2995] أخرجه البخاري (4483). وأخرجه مسلم (2399) عن ابنِ عُمَرَ، قال: قال عُمَرُ: (وافَقْتُ رَبِّي في ثلاثٍ: في مقامِ إبراهيمَ، وفي الحِجابِ، وفي أُسارى بَدرٍ). .
وهكذا هي يَقَظةُ الفاروقِ التي تدفَعُه لتوقِّي الشُّرورِ، وتدفعُه للخَيرِ.
وعن طارِقٍ، قال: قلتُ لابنِ عبَّاسٍ: أيَّ رَجُلٍ كان عُمَرُ؟ قال: (كان كالطَّيرِ الحَذَرِ، الذي كأنَّ له بكُلِّ طريقٍ شَرَكًا [2996] أي: حِبالةُ الصَّائدِ. يُنظَر: ((مختار الصحاح)) لزين الدين الرازي (ص: 164). [2997] ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (44/ 312). ويُنظَر: ((البيان والتبيين)) للجاحظ (3/ 177)، ((محاضرات الأدباء)) للراغب (2/ 425). .
- عائشةُ رَضِيَ اللَّهُ عنها:
كانت أمُّ المُؤمِنين شديدةَ اليَقَظةِ في محاسَبةِ نَفسِها، دائمةَ الحَذَرِ مِن أن تَقَعَ في محظورٍ، وحينَ وَقَع بينها وبَينَ عبدِ اللَّهِ بنِ الزُّبَيرِ ما وقع، ونذَرَت ألَّا تحَدِّثَه وحاولوا معها وناشَدوها أن تُكَلِّمَه، كان أشَدَّ ما يُؤلِمُها حَذَرُها وحَيطتُها من أن تخالِفَ نَذرًا نذَرَتْه للهِ سُبحانَه.
عن الزُّهريِّ، قال: ((حدَّثني عَوفُ بنُ مالِكِ بنِ الطُّفَيلِ هو ابنُ الحارِثِ، - وهو ابنُ أخي عائشةَ زَوجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأمِّها- أنَّ عائشةَ حُدِّثَت: أنَّ عبدَ اللَّهِ بنَ الزُّبَيرِ قال في بَيعٍ أو عَطاءٍ أعطَتْه عائشةُ: واللَّهِ لتَنْتَهِينَّ عائشةُ أو لأحجُرَنَّ عليها، فقالت: أهو قال هذا؟ قالوا: نعم، قالت: هو للهِ عليَّ نَذرٌ، أن لا أكَلِّمَ ابنَ الزُّبَيرِ أبدًا! فاستشفَعَ ابنُ الزُّبَيرِ إليها حينَ طالت الهِجرةُ، فقالت: لا واللَّهِ لا أشفَعُ فيه أبدًا، ولا أتحنَّثُ إلى نَذْري. فلمَّا طال ذلك على ابنِ الزُّبَيرِ، كلَّم المِسْوَرَ بنَ مَخْرَمةَ، وعبدَ الرَّحمنِ بنَ الأسوَدِ بنِ عبدِ يَغوثَ، وهما من بني زُهرةَ، وقال لهما: أَنشُدُكما باللَّهِ لمَا أدخَلْتُماني على عائشةَ؛ فإنَّها لا يَحِلُّ لها أن تَنذِرَ قطيعتي. فأقبَلَ به المِسْوَرُ وعبدُ الرَّحمنِ مُشتَمِلينِ بأرديتِهما، حتَّى استأذَنا على عائشةَ، فقالا: السَّلامُ عليك ورحمةُ اللَّهِ وبركاتُه، أندخُلُ؟ قالت عائشةُ: ادخُلوا، قالوا: كُلُّنا؟ قالت: نعم، ادخُلوا كُلُّكم، ولا تَعلَمُ أنَّ معهما ابنَ الزُّبَيرِ، فلمَّا دخلوا دَخَل ابنُ الزُّبَيرِ الحِجابَ، فاعتَنَق عائِشةَ وطَفِق يناشِدُها ويبكي، وطَفِق المِسْوَرُ وعبدُ الرَّحمنِ يُناشِدانها إلَّا ما كلَّمَتْه، وقَبِلَت منه، ويقولان: إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهى عمَّا قد عَلِمْتِ من الهِجرةِ، فإنَّه: لا يحِلُّ لمُسلِمٍ أن يَهجُرَ أخاه فوقَ ثلاثِ لَيالٍ. فلمَّا أكثَروا على عائشةَ مِن التَّذكِرةِ والتَّحريجِ طَفِقَت تُذَكِّرُهما نَذْرَها وتبكي وتقولُ: إنِّي نذَرْتُ، والنَّذرُ شديدٌ، فلم يزالا بها حتَّى كَلَّمَت ابنَ الزُّبَيرِ، وأعتَقَت في نَذْرِها ذلك أربعينَ رَقَبةً، وكانت تَذكُرُ نَذْرَها بعدَ ذلك، فتبكي حتَّى تَبُلَّ دُموعُها خِمارَها)) [2998] أخرجه البخاري (6073، 6074، 6075). .
- عُثمانُ بنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عنه:
ولعَلَّ أبرَزَ مواقِفِ اليَقَظةِ لعُثمانَ رَضِيَ اللَّهُ عنه موقِفُه في جمعِ القُرآنِ على لِسانِ قُرَيشٍ، وشِدَّةُ عَزمِه على ذلك حَيطةً من اختلافِ المُسلِمين في كتابِ اللَّهِ سُبحانَه.
عن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (إنَّ حُذَيفةَ بنَ اليَمَانِ قَدِمَ على عُثمانَ وكان يُغازي أهلَ الشَّأمِ في فَتحِ أرمينِيَّةَ وأَذْرَبيجانَ مع أهلِ العِراقِ، فأفزعَ حُذَيفةَ اختلافُهم في القُرْآنِ، فقال حُذَيفةُ لعُثمانَ: يا أميرَ المُؤمِنينَ، أدرِكْ هذه الأُمَّةَ قبل أن يختَلِفوا في الكِتابِ اختِلافَ اليَهودِ والنَّصارى، فأرسَل عُثمانُ إلى حَفصةَ: أنْ أرسِلي إلينا بالصُّحُفِ نَنسَخْها في المصاحِفِ، ثمَّ نرُدَّها إليكِ. فأرسَلَت بها حفصةُ إلى عُثمانَ، فأمر زَيدَ بنَ ثابتٍ، وعبدَ اللهِ بنَ الزُّبَيرِ، وسَعيدَ بنَ العاصِ، وعبدَ الرَّحمنِ بنَ الحارِثِ بنِ هِشامٍ، فنسخوها في المصاحِفِ، وقال عُثمانُ للرَّهْطِ القُرَشِيِّينَ الثَّلاثةِ: إذا اختَلَفْتُم أنتم وزيدُ بنُ ثابتٍ في شَيءٍ مِن القُرْآنِ فاكتُبوه بلسانِ قُرَيشٍ؛ فإنَّما نزل بلسانِهم؛ ففعلوا، حتَّى إذا نسَخوا الصُّحُفَ في المصاحِفِ رَدَّ عُثمانُ الصُّحُفَ إلى حَفصةَ، فأرسل إلى كُلِّ أُفُقٍ بمُصحَفٍ ممَّا نسَخوا، وأمَر بما سِواه من القُرْآنِ في كُلِّ صَحيفةٍ أو مُصحَفٍ أن يُحرَقَ) [2999] أخرجه البخاري (4987). .
- ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما:
عن سالمٍ أنَّ عبدَ اللَّهِ بنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما قال: (كنتُ أعلَمُ في عَهدِ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ الأرضَ تُكْرى، ثمَّ خَشِيَ عبدُ اللَّهِ أن يكونَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد أحدَث في ذلك شيئًا لم يكُنْ يَعلَمُه، فتَرَك كِراءَ الأرضِ) [3000] أخرجه البخاري (2345) واللفظ له، ومسلم (1547). .
فتأمَّلْ كيف دفَعَت يقَظةُ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنه وحَذَرُه وخَوفُه أن يكونَ النَّهيُ عامًّا، وأنَّه يشمَلُ المزارعةَ الجائِرةَ؛ فتركَه حَذَرًا وخَوفًا من أن يكونَ حَدَث في الأمرِ شيءٌ ما عَلِمَه.

انظر أيضا: