ثانيًا: الفَرْقُ بَيْنَ التَّثَبُّتِ وغيرِه من الصِّفاتِ
الفَرْقُ بَيْنَ التَّثَبُّتِ والتَّبَيُّنِ:يرى بعضُ العُلَماءِ أنَّ التَّثَبُّتَ والتَّبَيُّنَ بمعنًى واحدٍ، وذلك عِندَ توجيهِهم لقراءةِ
فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 6] ، و
فَتَثَبَّتُوا
. فالمتَثَبِّتُ عِندَ هؤلاء متَبَيِّنٌ، والمتَبَيِّنُ متَثَبِّتٌ
.
ويرى البعضُ أنَّ بَيْنَهما فَرقًا؛ فقد قال أبو عليٍّ الفارسيُّ في توجيهِه للقراءةِ: (حُجَّةُ مَن قال:
تَثَبَّتُوا: أنَّ التَّثَبُّتَ هو خلافُ الإقدامِ، والمرادُ التَّأنِّي، وخِلافُ التَّقدُّمِ، والتَّثَبُّتُ أشَدُّ اختصاصًا بهذا الموضِعِ. وممَّا يُبَيِّنُ ذلك قولُه:
وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا [النساء: 66] أي: أشَدَّ وَقفًا لهم عمَّا وُعِظوا بألَّا يُقدِموا عليه. وممَّا يُقَوِّي ذلك قولُهم: تَثَبَّتْ في أمرِك. ولا يكادُ يُقالُ في هذا المعنى: تَبَيَّنْ.
ومن قرَأ:
فتَبَيَّنُوا فحُجَّتُه أنَّ التَّبَيُّنَ ليس وراءَه شيءٌ، وقد يكونُ تَبَيَّنْتُ أشَدَّ مِن تَثَبَّتُّ...، وقد قال الأعشى:
كما راشِدٍ تَجِدَنَّ امرَأً
تَبَيَّنَ ثمَّ ارعوى أو قَدِمْ
فاستعمَل التَّبَيُّنَ في الموضعِ الذي يقِفُ فيه ناظِرًا في الشَّيءِ حتَّى يُقدِمَ عليه أو يرتَدِعَ عنه. فالتَّبَيُّنُ على هذا أَولى من التَّثَبُّتِ، وقال في موضِعِ الزَّجرِ والنَّهيِ والتَّوقُّفِ:
أَزَيدَ مناةَ تُوعِدُ يا بنَ تَيمٍ
تَبَيَّنْ أين تاهَ بك الوعيدُ
.
ومِن أوجُهِ الفَرْقِ التي وردت ما قاله أبو النَّجمِ النَّسَفيُّ: (
إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 6] ، وقُرِئ
فَتَثَبَّتُوا
. التَّبَيُّنُ والاستبانةُ: التَّعرُّفُ والتَّفحُّصُ ليُعلَمَ، والتَّثَبُّتُ والاستِثباتُ: التَّأنِّي والتَّأمُّلُ لِيَظهَرَ)
.
وقال
الشَّوكانيُّ: (المرادُ من التَّبَيُّنِ التَّعرُّفُ والتَّفحُّصُ، ومن التَّثَبُّتِ: الأناةُ وعَدَمُ العَجَلةِ، والتَّبصُّرُ في الأمرِ الواقِعِ والخبَرِ الوارِدِ حتَّى يتَّضِحَ ويَظهَرَ)
.
وقيل: (الرَّاجِحُ أنَّ بَيْنَهما فَرقًا، فلو لم يكُنْ بَيْنَهما فَرقٌ لَما جاءت القراءةُ الأُخرى باللَّفظِ الآخَرِ، فهناك فرقٌ بَيْنَهما...: أنَّ التَّبَيُّنَ يكونُ بالبَحثِ في الوسائِلِ المادِّيَّةِ التي من شأنِها أن تُرى وتُبانَ، بينما التَّثَبُّتُ يكونُ من جهةِ الأمورِ المَعنويَّةِ، كالسَّماعِ)
.
الفَرْقُ بَيْنَ التَّثَبُّتِ والنَّظَرِ:النَّظَرُ: تقليبُ البَصَرِ أو البصيرةِ لإدراكِ الشَّيءِ ورؤيتِه، وقد يرادُ به التَّأمُّلُ والفَحصُ، وعلى هذا فالنَّظَرُ وسيلةٌ من وسائِلِ التَّثَبُّتِ وتحقيقِه
.
الفَرْقُ بَيْنَ التَّثَبُّتِ والتَّحَرِّي:التَّحَرِّي: طَلَبُ الشَّيءِ بغالِبِ الرَّأيِ عِندَ تعذُّرِ الوقوفِ على حقيقتِه، وهو غيرُ الشَّكِّ والظَّنِّ؛ فالشَّكُّ: أن يستويَ طَرَفُ العِلمِ بالشَّيءِ والجَهلِ به، والظَّنُّ: أن يترجَّحَ أحَدُهما بغيرِ دليلٍ، والتَّحَرِّي: أن يترجَّحَ أحَدُهما بغالِبِ الرَّأيِ، وهو دليلٌ يُتوصَّلُ به إلى طَرَفِ العِلمِ وإن كان لا يُتوصَّلُ به إلى ما يوجِبُ حقيقةَ العِلمِ، ومن أجْلِه سُمِّيَ تحرِّيًا
.
ويظهَرُ من التَّعريفِ أنَّ التَّثَبُّتَ أقوى في الوقوفِ على الحقيقةِ من التَّحَرِّي؛ فالتَّحَرِّي دَرَجةٌ أدنى من التَّثَبُّتِ.