موسوعة الأخلاق والسلوك

سابعًا: مظاهِرُ وصُوَرُ الوَرَعِ


الوَرَعُ له صُوَرٌ ومظاهِرُ عِدَّةٌ، وقد ذَكَر ابنُ أبي الدُّنيا مظاهِرَ للوَرَعِ؛ منها:
1- الوَرَعُ في النَّظَرِ:
قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه: ((لا تُتبِعِ النَّظرةَ النَّظرةَ؛ فإنَّ لك الأولى، وليست لك الآخِرةُ)) .
عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (إذا مرَّت بك امرأةٌ فغَمِّضْ عينيك حتى تجاوِزَك) .
عن داودَ الطَّائيِّ قال: (كانوا يَكرَهون فُضولَ النَّظَرِ) .
قال عمرُو بنُ مُرَّةَ: (ما أحِبُّ أني بصيرٌ؛ كُنتُ نظَرْتُ نَظرةً وأنا شابٌّ!) .
وقال وكيعٌ: خرَجْنا مع سفيانَ الثَّوريِّ في يومِ عيدٍ، فقال: (إنَّ أوَّلَ ما نبدَأُ به في يومِنا غَضُّ أبصارِنا) .
2- الوَرَعُ في السَّمعِ:
عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ومن استَمَع إلى حديثِ قومٍ وهم له كارِهونَ -أو يَفِرُّون منه- صُبَّ في أذُنِه الآنُكُ يومَ القيامةِ)) .
 قال ابنُ عُثَيمين: (قال العُلَماءُ: الآنُكُ هو الرَّصاصُ المذابُ، والعياذُ باللهِ... وسواءٌ كانوا يكرهون أن يسمَعَ لغَرَضٍ صحيحٍ أو لغيرِ غَرَضٍ؛ لأنَّ بعضَ النَّاسِ يكرَهُ أن يسمَعَه غيرُه ولو كان الكلامُ ما فيه خطأٌ ولا فيه سَبٌّ، ولكن لا يريدُ أنَّ أحدًا يسمَعُه، وهذا يقعُ فيه بعضُ النَّاسِ، تجِدُه مثلًا إذا رأى اثنينِ يتكلَّمان يأخذُ المصحَفَ ويجلس قريبًا منهما، ثمَّ يبدأُ يطالِعُ المصحَفَ كأنَّه يقرأُ، وهو يستَمِعُ إليهما وهما يكرهان ذلك، هذا الرَّجُلُ يُصَبُّ في أذنيه الآنُكُ يومَ القيامةِ، فيُعذَّبُ هذا العذابَ، والعياذُ باللهِ) .
 وقال الوليدُ بنُ عُتبةَ بنِ أبي سُفيانَ: (كنتُ أسايرُ أبي ورجُلٌ يقَعُ في رجلٍ، فالتفَتَ إليَّ أبي فقال: يا بُنَيَّ نَزِّهْ سَمعَك عن استماعِ الخَنَا كما تُنَزِّهُ لسانَك عن الكلامِ به؛ فإنَّ المستَمِعَ شريكُ القائِلِ، ولقد نظر إلى أخبَثِ ما في وعائِه فأفرَغَه في وعائِك، ولو رُدَّت كَلِمةُ جاهِلٍ في فيه لسَعِدَ رادُّها كما شَقِيَ قائِلُها) .
3- الوَرَعُ في الشَّمِّ:
فعن محمَّدِ بنِ سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ قال: (قَدِم على عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه مِسكٌ وعنبَرٌ من البحرينِ، فقال عُمَرُ: واللهِ لوَدِدْتُ أني أجِدُ امرأةً حَسَنةً تَزِنُ لي هذا الطِّيبَ؛ حتى أفرِّقَه بَيْنَ المُسلِمين! فقالت له امرأتُه عاتِكةُ بنتُ زَيدِ بنِ عَمرِو بنِ نُفَيلٍ: أنا جَيِّدةُ الوَزنِ، فهُلَمَّ أزِنُ لك! قال: لا. قالت: ولمَ؟ قال: إني أخشى أن تأخُذيه هكذا -وأدخَل أصابِعَه في صُدغَيه- وتمسَحين عُنُقَك؛ فأصيبَ فَضلًا عن المُسلِمين!) .
وعن عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ رحمه اللهُ (أنَّه أُتِيَ بغنائِمِ مِسكٍ، فأخَذ بأنفِه، فقالوا: يا أميرَ المُؤمِنين: تأخُذُ بأنفِك لهذا! قال: إنما يُنتَفَعُ من هذا بريحِه؛ فأكرَهُ أن أجِدَ ريحَه دونَ المُسلِمين!) .
4- الوَرَعُ في اللِّسانِ:
فعن عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه اطَّلع على أبي بَكرٍ وهو يمُدُّ لِسانَه قال: ما تصنَعُ يا خليفةَ رسولِ اللهِ؟ قال: إنَّ هذا الذي أوردني الموارِدَ !
وعن الحَسَنِ بنِ حَيٍّ قال: (فتَّشتُ عن الوَرَعِ فلم أجِدْه في شيءٍ أقَلَّ منه في اللِّسانِ) .
وعن الفُضَيلِ بنِ عِياضٍ قال: (أشَدُّ الوَرَعِ في اللِّسانِ) .
وعن يونُسَ بنِ عُبَيدٍ قال: (إنَّك لتَعرِفُ وَرَعَ الرَّجُلِ في كلامِه) .
وسُئِل عبدُ اللهِ بنُ المبارَكِ: (أيُّ الوَرَعِ أشَدُّ؟ قال: اللِّسانُ) .
5- الوَرَعُ في البَطنِ:
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أيها النَّاس إنَّ اللهَ طيِّبٌ لا يَقبَلُ إلَّا طيِّبًا، وإنَّ اللهَ أمرَ المؤمنين بما أمَرَ به المرسَلينَ، فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون: 51] ، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة: 172] ، ثمَّ ذَكَر الرَّجُلَ يُطيلُ السَّفَرَ أشعثَ أغبرَ، يمدُّ يديه إلى السَّماءِ: يا ربِّ، يا ربِّ، ومطعمُه حرامٌ، ومَشرَبُه حرامٌ، ومَلبَسُه حرامٌ، وغُذِيَ بالحرامِ؛ فأنَّى يُستجابُ لذلك؟!)) .
وعن طريفٍ أبي تميمةَ قال: شَهِدتُ صَفوانَ وجُندَبًا وأصحابَهُ وهو يُوصيهم، فقالوا: هل سَمِعتَ مِن رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شيئًا؟ قال أي: جُندَبٌ: سَمِعتُه يقولُ: ((مَن سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ به يَومَ القيامةِ، قال: ومَن يُشاقِق يَشقُقِ اللهُ عليه يَومَ القِيامةِ، فقالوا: أوصِنا، فقال: إنَّ أوَّلَ ما يُنتِنُ مِنَ الإنسانِ بَطنُه، فمَنِ استَطاعَ أن لا يَأكُلَ إلَّا طَيِّبًا فليَفعَل، ومَنِ استَطاعَ أن لا يُحالَ بينَهُ وبينَ الجَنَّةِ بمِلءِ كَفِّه مِن دَمٍ أهراقَه فَلْيَفعَلْ)) .
وعن أبي صالحٍ الحنفيِّ قال: (دخَلتُ على أمِّ كُلثومٍ فقالت: ائتوا أبا صالحٍ بطعامٍ، فأتوني بمرقةٍ فيها حبوبٌ، فقُلتُ: أتطعِموني هذا وأنتم أُمَراءُ؟! قالت: كيف لو رأيتَ أميرَ المُؤمِنين عَليًّا، وأُتِيَ بأُترُجٍّ ، فأخَذ الحسَنُ أو الحُسَينُ منها أُتـرُجَّةً لصَبيٍّ لهم، فانتَزَعها من يدِه، وقَسَّمها بَيْنَ المُسلِمين!) .
6- الوَرَعُ في الفتوى:
كان الصَّحابةُ ومَن بَعدَهم من التَّابعين رَضِيَ اللهُ عنهم يتورَّعون أشَدَّ الوَرَعِ عن الفتوى، فكانوا يدفَعون الفتوى عن أنفُسِهم، ولا يُقدِمون عليها.
فعن البراءِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (لقد رأيتُ ثلاثَمائةٍ من أهلِ بَدرٍ، ما منهم من أحَدٍ إلَّا وهو يحِبُّ أن يَكفيَه صاحِبُه الفتوى) .
وقال ابنُ أبي ليلى: (أدركتُ مِئةً وعشرين من الأنصارِ من أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يُسأَلُ أحَدُهم المسألةَ، فيَرُدُّها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجِعَ إلى الأوَّلِ، وما منهم من أحَدٍ يحَدِّثُ بحديثٍ أو يُسأَلُ عن شيءٍ إلَّا وَدَّ أنَّ أخاه كفاه) .
وكان ابنُ سِيرينَ إذا سئِل عن شيءٍ من الحلالِ والحرامِ تغيَّرَ لونُه وتبَدَّلَ، حتى كأنَّه ليس بالذي كان .
وقال عطاءُ بنُ السَّائِبِ: (أدركتُ أقوامًا إن كان أحَدُهم ليُسأَلُ عن الشَّيءِ فيتكَلَّمُ وإنَّه ليُرعَدُ) .
(ورُوِيَ عن مالكٍ أنَّه كان إذا سئِل عن مسألةٍ كأنَّه بَيْنَ الجنَّةِ والنَّارِ) .
وقال أبو حُصَينٍ عُثمانُ بنُ عاصِمٍ: (إنَّ أحدَهم ليُفتي في المسألةِ، ولو ورَدَت على عُمَرَ بنِ الخطَّابِ لجَمَع لها أهلَ بَدرٍ!) .
وكان مالِكٌ إذا سُئِل عن المسألةِ قال للسَّائِلِ: (انصَرِفْ حتى أنظُرَ فيها. فينصَرِفُ ويُرَدِّدُ فيها، فقيل له في ذلك، فبكى وقال: إني أخاف أن يكونَ لي من المسائِلِ يومٌ، وأيُّ يومٍ؟!) .
وكان أحمدُ بنُ حنبَلٍ يقولُ: (ربَّما مكثتُ في المسألةِ ثلاثَ سِنينَ قَبلَ أن أعتَقِدَ منها شيئًا!) .
7- الوَرَعُ عن الأكلِ بالدِّينِ:
قال الغزاليُّ: (كان المتوَرِّعون يُوكِلون في الشِّراءِ من لا يُعرَفُ أنَّه وكيلُهم حتَّى لا يتسامحوا في المبيعِ خِيفةً من أن يكونَ ذلك أكلًا بالدِّينِ؛ فإنَّ ذلك مخطَرٌ، والتَّقيُّ خَفِيٌّ لا كالعِلْمِ والنَّسَبِ والفَقرِ؛ فينبغي أن يُجتَنَبَ الأخذُ بالدِّينِ ما أمكَنَ) .

انظر أيضا:

  1. (1) رواه أبو داود (2149)، والترمذي (2777)، وأحمد (22991) من حديثِ بريدةَ بنِ حُصَيبٍ رَضِيَ الله عنه.  صحَّحه الحاكم في ((المستدرك)) (2788) وقال: (على شرطِ مُسلمٍ)، وحسَّنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2149)، وحسَّنه لغيرِه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (2149)، وقال الترمذي: (حسَنٌ غريبٌ).
  2. (2) رواه ابنُ أبي الدنيا في ((الورع)) (72).
  3. (3) ((الزهد)) لأحمد بن حنبل (ص: 143)، ((الورع)) لابن أبي الدنيا (ص: 62)، ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (7/361).
  4. (4) ((الورع)) لابن أبي الدنيا (ص: 62).
  5. (5) ((الورع)) لابن أبي الدنيا (ص: 63).
  6. (6) رواه البخاري (7042) مطولًا.
  7. (7) ((شرح رياض الصالحين)) (6/ 172).
  8. (8) ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (2/ 18).
  9. (9) رواه أحمد في ((الزهد)) (623)، وابن شبَّة في ((تاريخ المدينة)) (2/703).
  10. (10) ((الورع)) لابن أبي الدنيا (ص: 74).
  11. (11) رواه أبو يعلى (5)، وابن السني في ((عمل اليوم والليلة)) (7)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (4947) واللفظ له صحَّح إسناده على شرط البخاري الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (2/71)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/305): (رجاله رجال الصحيح غير موسى بن محمد بن حيان وقد وثقه ابن حبان‏‏).
  12. (12) ((الورع)) لابن أبي الدنيا (ص: 77)، ((مكارم الأخلاق)) للخرائطي (ص: 136).
  13. (13) ((الورع)) لابن أبي الدنيا (ص: 77).
  14. (14) ((الورع)) لأحمد بن حنبل (ص: 77)، ((الورع)) لابن أبي الدنيا (ص: 77).
  15. (15) ((الورع)) لابن أبي الدنيا (ص: 77).
  16. (16) رواه مسلم (1015).
  17. (17) رواه البخاري (7152) واللفظ له، ومسلم (2987)
  18. (18) هو نوعٌ من الفاكهةِ. يُنظَر: ((المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود)) لمحمود السبكي (9/ 205).
  19. (19) رواه ابنُ أبي الدنيا في ((الورع)) (131).
  20. (20) رواه الخطيب في ((تاريخ بغداد)) (8/281).
  21. (21) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (2/61).
  22. (22) ينظر ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (2/264)، ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (2/353).
  23. (23) ((المعرفة والتاريخ)) للفسوي (2/817)، ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (2/353).
  24. (24) ((مجموع رسائل ابن رجب)) (1/23).
  25. (25) يُنظَر: ((المدخل إلى السنن)) للبيهقي (ص: 434)، ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (38/411).
  26. (26) ((الموافقات)) للشاطبي (5/323).
  27. (27) ((مناقب الإمام أحمد)) لابن الجوزي (ص: 359).
  28. (28) ((إحياء علوم الدين)) (2/ 154).