موسوعة الأخلاق والسلوك

ج- قِصصٌ ونماذِجُ مِن النَّصيحةِ عندَ السَّلفِ


- دخَل عَطاءُ بنُ أبي رَباحٍ على هِشامِ بنِ عبدِ الملِكِ، فقال له هِشامٌ: (مرحبًا مرحبًا هاهنا هاهنا! فرفَعه حتَّى مسَّت رُكبتُه رُكبتَه، وعندَه أشرافُ النَّاسِ يتحدَّثونَ، فسكَتوا، فقال هِشامٌ: ما حاجتُك يا أبا مُحمَّدٍ؟ قال: يا أميرَ المُؤمِنينَ، أهلُ الحَرمَينِ أهلُ اللهِ وجيرانُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم، تقسِمُ فيهم أَعطياتِهم وأرزاقَهم، قال: نعَم، يا غلامُ اكتُبْ لأهلِ المدينةِ وأهلِ مكَّةَ بعَطائِهم وأرزاقِهم لسَنةٍ، ثُمَّ قال: هل مِن حاجةٍ غَيرِها يا أبا مُحمَّدٍ؟ قال: نعَم يا أميرَ المُؤمِنينَ، أهلُ الحِجازِ وأهلُ نَجدٍ أصلُ العربِ وقادةُ الإسلامِ، تُرَدُّ فيهم فُضولُ صَدقاتِهم، قال: نعَم، اكتُبْ يا غلامُ بأن تُرَدَّ فيهم صَدقاتُهم، هل مِن حاجةٍ غَيرِها يا أبا مُحمَّدٍ؟ قال: نعَم يا أميرَ المُؤمِنينَ، أهلُ الثُّغورِ يرمونَ مِن وراءِ بَيضتِكم، ويُقاتِلونَ عَدوَّكم، قد أجرَيتُم لهم أرزاقًا تُدِرُّها عليهم؛ فإنَّهم إن هلَكوا غُزيتُم، قال: نعَم، اكتُبْ أرزاقَهم إليهم يا غلامُ، هل مِن حاجةٍ غَيرِها يا أبا مُحمَّدٍ؟ قال: نعَم يا أميرَ المُؤمِنينَ، أهلُ ذِمَّتِكم لا تُجبَى صِغارُهم، ولا يُتعتَعُ كِبارُهم، ولا يُكلَّفونَ ما يُطيقونَ؛ فإنَّ ما تجبونَه مَعونةٌ لكم على عدوِّكم، قال: نعَم، اكتُبْ يا غلامُ بألَّا يُحمَّلوا إلَّا ما يُطيقونَ، هل مِن حاجةٍ غَيرِها؟ قال: نعَم يا أميرَ المُؤمِنينَ، اتَّقِ اللهَ في نَفسِك؛ فإنَّك خُلِقْتَ وحدَك، وتموتُ وحدَك، وتُحشَرُ وحدَك، وتُحاسَبُ وحدَك، لا واللهِ ما معَك ممَّن ترى، قال: وأكبَّ هِشامٌ، وقام عَطاءٌ! فلمَّا كان عندَ البابِ إذا رجُلٌ قد تَبِعه بكيسٍ، وقال: إنَّ أميرَ المُؤمِنينَ أمَر لك بهذا، فقال: لا أسألُكم عليه أجرًا، إن أجريَ إلَّا على ربِّ العالَمينَ! ثُمَّ خرَج عَطاءٌ، ولا واللهِ ما شرِب عندَهم حَسوةً مِن ماءٍ فما فَوقَها!) [9210] ((المتفق والمفترق)) للخطيب البغدادي (2/ 1061)، ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (40/368). .
- وعن هارونَ بنِ عبدِ اللهِ الحمَّالِ قال: (جاءني أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ باللَّيل ِفدقَّ عليَّ البابَ، فقلْتُ: مَن هذا؟ فقال: أنا أحمَدُ، فبادَرْتُ أن خرَجْتُ إليه، فمسَّاني ومسَّيتُه، قلْتُ: حاجةً يا أبا عبدِ اللهِ؟ قال: نعَم، شغَلْتَ اليومَ قلبي، قلْتُ: بماذا يا أبا عبدِ اللهِ؟ قال: جُزْتُ عليك اليومَ وأنت قاعِدٌ تُحدِّثُ النَّاسَ في الفَيءِ، والنَّاسُ في الشَّمسِ بأيديهم الأقلامُ والدَّفاتِرُ، لا تفعَلْ مرَّةً أخرى، إذا قعَدْتَ فاقعُدْ معَ النَّاسِ!) [9211] ((تاريخ بغداد)) للخطيب البغدادي (14/22). .
- وكتَب مالِكُ بنُ أنسٍ إلى بعضِ الخُلفاءِ كتابًا يعِظُه، فيه: (أمَّا بَعدُ، فإنِّي كتبْتُ إليك كتابًا لم آلُ فيه رُشدًا، ولم أدَّخِرْ فيه نُصحًا، فيه تحميدُ اللهِ وأدبُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فتدبَّرْ ذلك بعَقلِك، ورُدَّ فيه بَصرَك، وأوعِه سَمعَك، واعقِلْه بعَقلِك، وأحضِرْه فَهمَك، ولا تُغيِّبنَّ عنه ذِهنَك؛ فإنَّ فيه الفَضلَ في الدُّنيا، وحُسنَ ثوابِ اللهِ تعالى في الآخِرةِ.
ذكِّرْ نَفسَك غَمَراتِ الموتِ، وما هو نازِلٌ بك منه، وما أنت موقوفٌ عليه بَعدَ الموتِ...، فاحذَرْ على نَفسِك حَذرًا غَيرَ تغريرٍ، وبادِرْ لنَفسِك قَبلَ أن تُسبَقَ إليها، وما تخافُ الحَسرةَ فيه عند نُزولِ الموتِ، وخاصِمْ نَفسَك للهِ تعالى على مَهلٍ وأنت تقدِرُ بإذنِ اللهِ تعالى على جرِّ المنفعةِ إليها، وصَرفِ الحُجَّةِ عنها، قَبلَ أن يوليَك اللهُ حِسابَها، ثُمَّ لا تقدِرَ على صَرفِ المكروهِ عنها، ولا جرِّ المنفعةِ إليها.
اجعَلِ للهِ مِن نَفسِك نَصيبَها باللَّيلِ والنَّهارِ، إنَّ عُمرَك ينقُصُ معَ ساعاتِ اللَّيلِ وأنت قائِمٌ على الأرضِ وهو يُسارُ بك، فكلمَّا مضَت ساعةٌ مِن أجَلِك، والحَفظةُ لا يغفَلونَ عن الدِّقِّ والجِلِّ مِن عمَلِك، حتَّى تملَأَ صحيفتَك التي كتَب اللهُ عليك، فعليك بخَلاصِ نَفسِك إن كنْتَ لها مُحبًّا، فاحذَرْ وما قد حذَّرك اللهُ منه تعالى؛ فإنَّه يقولُ: ويُحذِّرُكم اللهُ نَفسَه، ولا تحقِرِ الذَّنبَ الصَّغيرَ معَ ما علِمْتَ مِن قولِ اللهِ تعالى: فمَن يعمَلْ مِثقالَ ذرَّةٍ خيرًا يرَه، ومَن يعمَلْ مِثقالَ ذرَّةٍ شرًّا يَرَه، وقال: ما يلفِظُ مِن قولٍ إلَّا لديه رقيبٌ عتيدٌ، وحافِظْ على فرائِضِ اللهِ، واجتنِبْ سخَطَ اللهِ، واحذَرْ دعوةَ المظلومِ، واتَّقِ يومًا ترجِعُ فيه إلى اللهِ، والسَّلامُ) [9212] ((ترتيب المدارك وتقريب المسالك)) للقاضي عياض (2/ 106). .
- عن أبي الحَسنِ المَدائِنيِّ قال: خطَب زيادٌ ذاتَ يومٍ على مِنبَرِ الكوفةِ، فقال: (أيُّها النَّاسُ، إنِّي بِتُّ ليلتي هذه مُهتمًّا بخِلالٍ ثلاثٍ: بذي العِلمِ، وبذي الشَّرفِ، وبذي السِّنِّ، رأَيتُ أن أتقدَّمَ إليكم فيهنَّ بالنَّصيحةِ، رأَيتُ إعظامَ ذَوي الشَّرفِ، وإجلالَ ذَوي العِلمِ، وتوقيرَ ذَوي الأسنانِ، واللهِ لا أوتى برجُلٍ ردَّ على ذي عِلمٍ ليضعَ بذلك منه إلَّا عاقَبْتُه، ولا أوتى برجُلٍ ردَّ على ذي شَرفٍ ليضعَ بذلك مِن شَرفِه إلَّا عاقَبْتُه، ولا أوتى برجُلٍ ردَّ على ذي شَيبةٍ ليضعَه بذلك إلَّا عاقَبْتُه، إنَّما النَّاسُ بأعلامِهم وعُلَمائِهم وذَوي أسنانِهم) [9213] أخرجه ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (1/ 234). .
- وقال مِسعَرُ بنُ كِدامٍ يقولُ لابنِه كِدامٍ:
إنِّي نحَلْتُك يا كِدامُ نصيحتي
فاسمَعْ مقالَ أبٍ عليك شَفيقِ
أمَّا المُزاحةُ والمِراءُ فدَعْهما
خُلقانِ لا أرضاهما لصديقِ
إنِّي بلَوتُهما فلم أحمَدْهما
لمُجاوِرٍ جارًا ولا لشقيقِ
والجَهلُ يُزري بالفتى في قَومِه
وعُروقُه في النَّاسِ أيُّ عُروقِ [9214] ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (1/ 438، 439)، ((الموشى)) للوشاء (ص: 15)، ((روضة العقلاء)) لابن حبان (ص: 78، 79). .

انظر أيضا: