موسوعة الأخلاق والسلوك

سادسًا: مظاهِرُ وصُوَرُ السَّترِ


1- سَترُ المُسلِمِ نَفسَه: فعلى المُسلِمِ أن يستُرَ نَفسَه، فلا يَشهَرَ خطاياه أمامَ الخَلقِ، ولا يذكُرَ زلَّاتِه أمامَ النَّاسِ؛ فعن أبي هُرَيرةَ رضِي اللهُ عنه قال: سمعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((كُلُّ أمَّتي مُعافًى إلَّا المُجاهِرينَ، وإنَّ مِن المُجاهَرةِ أن يعمَلَ الرَّجلُ باللَّيلِ عملًا، ثُمَّ يُصبِحَ وقد ستَره اللهُ عليه، فيقولَ: يا فلانُ، عمِلْتُ البارِحةَ كذا وكذا، وقد بات يستُرُه ربُّه، ويُصبِحُ يكشِفُ سِترَ اللهِ عنه)) [4597] رواه البخاري (6069) واللفظ له، ومسلم (2990). .
وعن إبراهيمَ بنِ هانِئٍ قال: كنْتُ عندَ أحمَدَ بنِ حَنبَلٍ وعندَه الشَّقيقيُّ وهو يُذاكِرُه آدابَ عبدِ اللهِ بنِ المُبارَكِ، فقال: سمعْتُ عبدَ اللهِ بنَ المُبارَكِ يقولُ: (مَن تهاوَن بالسَّترِ أطلَق لِسانَه في عُيوبِ نَفسِه، فكُفِي النَّاسُ شرَّه)، قال: فنفَر أحمَدُ مِن مكانِه، قال: (سبحانَ اللهِ! ويُتهاوَنُ بالسَّترِ!) [4598] ((شعب الإيمان)) للبيهقي (12/ 170، 171). .
وقال ابنُ المُلقِّنِ: (في سَترِ المُؤمِنِ على نَفسِه منافِعُ؛ منها: أنَّه إذا اختفى بالذَّنبِ عن العِبادِ لم يستخفُّوا به ولم يستذِلُّوه؛ لأنَّ المعاصِيَ تُذِلُّ أهلَها، ومنها: أنَّه إن كان ذنبًا يوجِبُ الحدَّ سقطَت عنه المُطالَبةُ في الدُّنيا، أي: بالنِّسبةِ إلى الباطِنِ، أمَّا إذا ثبَت عليه فإنَّه يُحَدُّ وإن قال: تُبْتُ. وفي المُجاهَرةِ بالمعاصي الاستِخفافُ بحقِّ اللهِ وحقِّ رسولِه، وضَربٌ مِن العِنادِ لهما) [4599] ((التوضيح)) (28/417). .
2- سَترُ المُسلِمِ لإخوانِه المُسلِمينَ:
وكما يستُرُ المُسلِمُ نَفسَه، عليه أن يستُرَ إخوانَه المُسلِمينَ إذا رأى منهم عيبًا أو خطأً؛ قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن ستَر مُسلِمًا ستَره اللهُ في الدُّنيا والآخِرةِ)) [4600] رواه مسلم (2699) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
3- سَترُ الميِّتِ:
إذا غسَّل المُسلِمُ ميِّتًا فرأى فيه شيئًا مَعيبًا، فعليه أن يَستُرَه، ويكتُمَ أمرَه، قال ابنُ عُثَيمينَ: (الذي يُرى مِن الميِّتِ مِن المكروهاتِ نوعانِ: النَّوعُ الأوَّلُ: ما يتعلَّقُ بحالِه. النَّوعُ الثَّاني: ما يتعلَّقُ بجَسدِه. الأوَّلُ لو رأى مَثلًا أنَّ الميِّتَ تغيَّر وَجهُه واسوَدَّ وقبُح، فلا يحِلُّ له أن يقولَ للنَّاسِ: إنِّي رأَيتُ هذا الرَّجلَ على هذه الصِّفةِ؛ لأنَّ هذا كَشفٌ لعُيوبِه، والرَّجلُ قدِم على ربِّه، وسوف يُجازيه بما يستحِقُّ مِن عَدلٍ أو فَضلٍ؛ إن كان عمِل خيرًا فاللهُ يجزيه الحَسنةَ بعَشرةِ أمثالِها، وإن كان غَيرَ ذلك فجزاءُ سيِّئةٍ سيِّئةٌ مِثلُها. الثَّاني: ما يتعلَّقُ بجَسدِه؛ كأن يرى بجَسدِه عيبًا؛ كأن يرى بَرَصًا أو سوادًا خَلقيًّا أو غَيرَ ذلك ممَّا يكرَهُ الإنسانُ أن يطَّلِعَ عليه غَيرُه، فهذا أيضًا لا يجوزُ له أن يكشِفَه للنَّاسِ، ويقولَ: رأَيتُ فيه كذا وكذا؛ ولهذا قال العُلَماءُ -رحِمهم اللهُ-: يجِبُ على الغاسِلِ أن يستُرَ ما رآه إن لم يكُنْ حَسنًا) [4601] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) (4/529). .
ومِن سَترِ الميِّتِ تغطيةُ وَجهِه؛ قال ابنُ عبدِ البَرِّ: (وأمَّا تغطيةُ وَجهِ الميِّتِ قَبلَ الغُسلِ وفي حين الغُسلِ بخِرقةٍ؛ فلأنَّ الميِّتَ ربَّما تغيَّر وَجهُه بالسَّوادِ ونَحوِه، وذلك لداءٍ أو لغَلبةِ دمٍ، فينظُرُ الجُهَّالُ إليه فيُنكِرونَه، ويتأوَّلونَ فيه) [4602] ((الاستذكار)) (3/ 9). .
4- سَترُ السُّلطانِ على العاصي، وهذا مندوبٌ لوليِّ الأمرِ، إذا رفَع العاصي أمرَه إليه ممَّا فيه حدٌّ أو تعزيرٌ في شيءٍ مِن حُقوقِ اللهِ تعالى مُعلِنًا توبتَه.
عن أنسٍ رضِي اللهُ عنه، قال: ((جاء رجُلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رسولَ اللهِ، أصبْتُ حدًّا فأقِمْه عليَّ، قال: وحضَرَت الصَّلاةُ، فصلَّى معَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلما قضى الصَّلاةَ قال: يا رسولَ اللهِ، إنِّي أصبْتُ حدًّا، فأقِمْ فيَّ كتابَ اللهِ، قال: هل حضرْتَ الصَّلاةَ معَنا؟ قال: نعَم، قال: قد غُفِرَ لك))||hamish||4603||/hamish||.
قال النَّوَويُّ: (هذا الحدُّ معناه معصيةٌ مِن المعاصي الموجِبةِ للتَّعزيرِ، وهي هنا مِن الصَّغائِرِ؛ لأنَّها كفَّرَتها الصَّلاةُ، ولو كانت كبيرةً موجِبةً لحدٍّ أو غَيرَ موجِبةٍ له لم تَسقُطْ بالصَّلاةِ؛ فقد أجمَع العُلَماءُ على أنَّ المعاصيَ الموجِبةَ للحُدودِ لا تسقُطُ حُدودُها بالصَّلاةِ) [4604] ((شرح النووي على مسلم)) (17/81). .
5-سَترُ الأسرارِ التي يُؤتَمنُ عليها؛ فعلى المُسلِمِ أن يستُرَ أسرارَ إخوانِه التي علِم بها، وألَّا يُفشيَها لأحدٍ كائنًا من كان، حتَّى وإن لم يُطلَبْ منه ذلك؛ لأنَّ إفشاءَ السِّرِّ خيانةٌ للأمانةِ؛ قال تعالى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا [الإسراء: 34] ، وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا حدَّث الرَّجلُ بالحديثِ ثُمَّ التفَتَ، فهي أمانةٌ)) [4605] أخرجه أبو داود (4868) واللفظ له، والترمذي (1959)، وأحمد (14474) من حديثِ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما. حسَّنه الترمذي، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4868)، وحسَّنه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4868). .
6-سَترُ الأسرارِ الزَّوجيَّةِ وحِفظُها؛ حيثُ يجِبُ على كُلِّ واحِدٍ مِن الزَّوجَينِ أن يستُرَ سرَّ الآخَرِ؛ سواءٌ كان ذلك تفاصيلَ ما يقعُ حالَ الجِماعِ وقَبلَه مِن مُقدِّماتِه، أو غَيرَ ذلك مِن الأسرارِ البيتيَّةِ؛ لقولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ مِن أشَرِّ النَّاسِ عندَ اللهِ منزِلةً يومَ القِيامةِ: الرَّجلَ يُفضي إلى امرأتِه، وتُفضي إليه، ثُمَّ ينشُرُ سِرَّها)) [4606] أخرجه مسلم (1437). .

انظر أيضا: