موسوعة الأخلاق والسلوك

خامسًا: صُوَرُ الرِّفْقِ


1- الرِّفْقُ بالنَّفسِ في أداءِ ما فُرِض عليه:
المسلِمُ لا يُحمِّلُ نفسَه من العبادةِ ما لا تطيقُه؛ فالإسلامُ دينُ يُسرٍ وسهولةٍ، فالمتَّبعُ له يوغِلُ فيه برِفقٍ؛ قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ الدِّينَ يُسرٌ، ولن يُشادَّ الدِّينَ أحَدٌ إلَّا غلبه، فسَدِّدوا وقارِبوا وأبشِروا، واستعينوا بالغَدوةِ والرَّوحةِ وشيءٍ من الدُّلجةِ ) .
وعن عائشةَ رَضِيَ الله عنها: ((أنَّ الحولاءَ بنتَ تُوَيتِ بنِ حَبيبِ بنِ أسَدِ بنِ عَبدِ العُزَّى مرَّت بها وعندها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقُلتُ: هذه الحولاءُ بنتُ تُوَيتٍ، وزعموا أنَّها لا تنامُ اللَّيلَ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا تنامُ اللَّيلَ! خذوا من العَمَلِ ما تطيقون، فواللهِ لا يسأمُ اللهُ حتَّى تسأَموا ) .
قال ابنُ القَيِّمِ: (نهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن التَّشديدِ في الدِّينِ بالزِّيادةِ على المشروعِ، وأخبر صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ تشديدَ العبدِ على نفسِه هو السَّببُ لتشديدِ اللهِ عليه إمَّا بالقَدَرِ وإمَّا بالشَّرعِ؛ فالتَّشديدُ بالشَّرعِ: كما يشَدِّدُ على نفسِه بالنَّذرِ الثَّقيلِ، فيَلزَمُه الوفاءُ به، وبالقَدَرِ كفِعلِ أهلِ الوَسواسِ؛ فإنَّهم شَدَّدوا على أنفُسِهم، فشَدَّد عليهم القَدَرُ، حتى استحكم ذلك، وصار صفةً لازمةً لهم) .
ويُروى أنَّ رجلًا رأى أبا ذرٍّ رضي اللهُ تعالى عنه وهو يتبوَّأُ مكانًا، فقال له: ما تريدُ يا أبا ذرٍّ؟ فقال: (أطلُبُ موضِعًا أنامُ فيه، نفسي هذه مطيَّتي إن لم أرفُقْ بها لم تُبَلِّغْني) .
وقال ابنُ الجَوزيِّ: (لا ينبغي للإنسانِ أن يحمِلَ على بدَنِه ما لا يطيقُ؛ فإنَّ البَدَنَ كالرَّاحلةِ، إن لم يُرفَقْ بها، لم تَصِلْ بالرَّاكبِ) .
2- الرِّفْقُ مع النَّاسِ عامَّةً:
ويكونُ بلِينِ الجانِبِ وعَدَمِ الغِلظةِ والجَفاءِ، والتَّعامُلِ بالسَّماحةِ واللَّطفِ؛ قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((وكونوا عبادَ اللهِ إخوانًا)) .
قال النَّوويُّ: (ومعنى "كونوا عبادَ اللهِ إخوانًا"، أي: تعامَلوا وتعاشَروا معاملةَ الإخوةِ ومعاشرتَهم في المودَّةِ والرِّفْقِ والشَّفَقةِ والملاطفةِ والتَّعاوُنِ في الخيرِ، ونحوِ ذلك، مع صفاءِ القلوبِ والنَّصيحةِ بكُلِّ حالٍ) .
3- الرِّفْقُ بالرَّعيَّةِ:
الرَّاعي سواءٌ كان حاكمًا أو رئيسًا أو مسؤولًا، عليه أن يرفُقَ برعيَّتِه، فيقضيَ حاجتَهم، ويؤدِّيَ مصالحَهم برفقٍ؛ قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اللَّهُمَّ مَن وَلِيَ من أمرِ أمَّتي شيئًا فشَقَّ عليهم، فاشقُقْ عليه، ومَن وَلِيَ مِن أمرِ أمَّتي شيئًا فرَفَق بهم، فارفُقْ بهـ)) .
وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ شَرَّ الرِّعاءِ الحُطَمةُ ) .
(وقد ضرب الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هذا الحديثِ مَثلًا لكُلِّ راعٍ عنيفٍ، قاسٍ شديدٍ، لا رحمةَ في قلبِه على رعيَّتِه من النَّاسِ، سواءٌ أكان وليَّ أسرةٍ، أو صاحِبَ سُلطانٍ، صَغُرت دائرةُ رعيَّتِه أو كبُرَت، فشَرُّ الرُّعاةِ من النَّاسِ على النَّاسِ هو الحُطَمةُ الذي لا رِفقَ عندَه، ولا رحمةَ في قَلبِه تُلينُ سياستَه وقيادتَه، فهو يقسو ويشتدُّ على رعيَّتِه، ويوسِعُهم عَسفًا وتحطيمًا، ويدفَعُهم دائمًا إلى المآزِقِ والمُحرِجاتِ، ولا يعامِلُهم بالرِّفْقِ والحِكمةِ في الإدارةِ والسِّياسةِ) .
قال ابنُ عُثَيمين: (أمَّا ولاةُ الأمورِ فيَجِبُ عليهم الرِّفْقُ بالرَّعيَّةِ، والإحسانُ إليهم، واتِّباعُ مصالحِهم، وتوليةُ من هو أهلٌ للولايةِ، ودفعُ الشَّرِّ عنهم، وغيرُ ذلك من مصالحِهم؛ لأنَّهم مسؤولون عنهم أمامَ اللهِ عزَّ وجَلَّ) .
وقال ابنُ خَلدونَ (إنَّ المَلِكَ إذا كان قاهِرًا باطِشًا بالعُقوباتِ مُنَقّبًا عن عَوراتِ النَّاسِ وتعديدِ ذُنوبِهم، شَمِلَهم الخوفُ والذُّلُّ، ولاذوا منه بالكَذِبِ والمَكْرِ والخديعةِ؛ فتخَلَّقوا بها، وفَسَدت بصائِرُهم وأخلاقُهم، وربَّما خذلوه في مواطِنِ الحروبِ والمدافعاتِ، ففسدت الحمايةُ بفسادِ النِّيَّاتِ، وربَّما أجمعوا على قتلِه لذلك فتَفسُدُ الدَّولةُ، ويخربُ السِّياجُ، وإن دام أمرُه عليهم وقهرُه فسَدت العَصَبيَّةُ لِما قُلناه أوَّلًا، وفسد السِّياجُ من أصلِه بالعَجزِ عن الحمايةِ، وإذا كان رفيقًا بهم متجاوِزًا عن سيِّئاتِهم استناموا إليه ولاذوا به وأُشرِبوا محبَّتَه واستماتوا دونَه في محاربةِ أعدائِه؛ فاستقام الأمرُ من كُلِّ جانبٍ) .
4- الرِّفْقُ في الدَّعوةِ والنُّصحِ والموعظةِ والأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ:
قال سُفيانُ الثَّوريُّ: (لا يأمُرُ بالمعروفِ ولا ينهى عن المُنكَرِ إلَّا من كان فيه ثلاثُ خِصالٍ: رفيقٌ بما يأمُرُ رفيقٌ بما ينهى، عدلٌ بما يأمُرُ عَدلٌ بما ينهى، عالمٌ بما يأمرُ عالمٌ بما ينهى) .
وقال أبو العبَّاسِ بنُ قُدامةَ: (وأمَّا الرِّفْقُ في الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ فمتعيِّنٌ؛ قال اللهُ تعالى: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا [طه: 44] ) .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (القيامُ بالواجباتِ من الدَّعوةِ الواجبةِ وغيرِها يحتاجُ إلى شروطٍ يقامُ بها... فالفقهُ قبل الأمرِ ليَعرِفَ المعروفَ ويُنكِرَ المُنكَرَ، والرِّفْقُ عِندَ الأمرِ ليَسلُكَ أقرَبَ الطُّرُقِ إلى تحصيلِ المقصودِ، والحِلمُ بعدَ الأمرِ ليَصبِرَ على أذى المأمورِ والمنهيِّ؛ فإنَّه كثيرًا ما يحصُلُ له الأذى بذلك؛ ولهذا قال تعالى: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان: 17] ) .
وقال أحمدُ بنُ حنبَلٍ: (يأمُرُ بالرِّفْقِ والخُضوعِ، فإن أسمَعوه ما يكرَهُ لا يَغضَبُ؛ فيكونَ يريدُ ينتَصِرُ لنفسِهـ) .
وقال أبو حامدٍ الغَزاليُّ: (ويدُلُّ على وُجوبِ الرِّفْقِ ما استدَلَّ به المأمونُ إذ وعظه واعظٌ وعَنَّف له في القولِ، فقال: يا رجُلُ، ارفُقْ؛ فقد بعث اللهُ مَن هو خيرٌ منك إلى من هو شَرٌّ منِّي، وأمره بالرِّفْقِ، فقال تعالى: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه: 44] ؛ فليكُنْ اقتداءُ المحتَسِبِ في الرِّفْقِ بالأنبياءِ صلواتُ اللهِ عليهم) .
والدَّاعيةُ عليه أن يرفُقَ في دعوتِه، فيُشفِقَ على النَّاسِ، ولا يَشُقَّ عليهم ولا يُنفِّرَهم من الدِّينِ بأسلوبِه الغليظِ والعنيفِ (وأولى النَّاسِ بالتَّخلُّقِ بخُلُقِ الرِّفْقِ الدُّعاةُ إلى اللهِ والمعلِّمون؛ فالدَّعوةُ إلى اللهِ لا تؤثِّرُ ما لم تقترنْ بخُلُقِ الرِّفْقِ في دعوةِ الخَلقِ إلى الحَقِّ، وتعليمُ النَّاسِ لا يؤتي ثمراتِه الطَّيِّباتِ ما لم يقترِنْ بخُلُقِ الرِّفْقِ الذي يملِكُ القُلوبَ بالمحبَّةِ) . قال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] .
فيدعو بالحِكمةِ والموعِظةِ الحَسَنةِ، ويتلطَّفُ مع العاصي بكلامٍ لَيِّنٍ وبرفقٍ، ولا يعينُ الشَّيطانَ عليه.
 (وكان أصحابُ ابنِ مسعودٍ إذا مرُّوا بقومٍ يرون منهم ما يكرهون، يقولون: مهلًا رحمكم اللَّهُ، مهلًا رحمَكم اللَّهُ!) .
وقال ابنُ حزمٍ: (الائتِساءُ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في وعظِه أهلَ الجَهلِ والمعاصي والرَّذائِلِ واجِبٌ؛ فمَن وَعَظ بالجفاءِ والاكفهرارِ فقد أخطأ وتعدَّى طريقتَه، وصار في أكثرِ الأمورِ مُغريًا للموعوظِ بالتَّمادي على أمرِه لَجاجًا وحَرَدًا ومغايظةً للواعِظِ الجافي، فيكونُ في وعظِه مسيئًا لا محسِنًا.
ومن وَعَظ ببِشرٍ وتبسُّمٍ ولِينٍ، وكأنَّه مشيرٌ برأيٍ ومخبرٍ عن غيرِ الموعوظِ بما يُستقبَحُ من الموعوظ، فذلك أبلَغُ وأنجَعُ في الموعظةِ...) .
5- الرِّفْقُ بالمُستفتي:
قال النَّوويُّ في آدابِ الفتوى: (إذا كان المُستفتي بعيدَ الفَهمِ فليرفُقْ به، ويصبِرْ على تفهُّمِ سؤالِه، وتفهيمِ جوابِه؛ فإنَّ ثوابَه جزيلٌ) .
6- رِفقُ العالمِ بالمتعَلِّمِ والمتعَلِّمِ بالعالِمِ:
قال النَّوويُّ: (يُستحَبُّ للمُعَلِّمِ أن يَرفُقَ بالطَّالبِ، ويحسِنَ إليه ما أمكَنهـ) .
وقال الآجُريُّ: (من كان يقرأُ القُرآنَ على غيرِه ويتلقَّنُ، فينبغي له أن يحسِنَ الأدَبَ في جلوسِه بَيْنَ يديه، ويتواضَعَ في جلوسِه، ويكونَ مُقبِلًا عليه، فإن ضَجِر عليه احتمَلَه، وإن زَجَره احتمَلَه ورَفَق به، واعتَقَد له الهيبةَ، والاستحياءَ منهـ) .
وعن أبي سَلمةَ بنِ عبدِ الرَّحمنِ قال: (لو رفَقْتُ بابنِ عبَّاسٍ لاستخرَجْتُ منه عِلمًا كثيرًا). قال الشَّعبيُّ: (كان أبو سَلمةَ يماري ابنَ عبَّاسٍ؛ فحُرِم بذلك عِلمًا كثيرًا) .
وكان في نافعٍ مولى ابن عُمَرَ حِدَّةٌ، فكان مالِكُ بنُ أنسٍ يلاطِفُه ويداريه .
وعن حَجَّاجٍ قال: (كان عَمرُو بنُ قَيسٍ المُلائيُّ إذا بلغه الحديثُ عن الرَّجلِ، فأراد أن يسمَعَه، أتاه حتى يجلِسَ بَيْنَ يديه ويخفِضَ جناحَه، ويقولَ: عَلِّمني -رحِمَك اللهُ- ممَّا علَّمك اللَّهُ) .
7- الرِّفْقُ بالصِّغارِ والأحداثِ:
 فـ (رحمةُ الولدِ الصَّغيرِ ومعانقتُه وتقبيلُه والرِّفْقُ به من الأعمالِ التي يرضاها اللهُ ويجازي عليها؛ ألا ترى قولَه عليه السَّلامُ للأقرَعِ بنِ حابِسٍ حينَ ذَكَر عِندَ النَّبيِّ أنَّ له عَشَرةً من الوَلَدِ ما قَبَّل منهم أحدًا: «مَن لا يَرحَمْ لا يُرحَمْ» ؛ فدَلَّ أنَّ تقبيلَ الولدِ الصَّغيرِ وحملَه والتَّحفِّيَ به ممَّا يُستحَقُّ به رحمةُ اللَّهِ، ألا ترى حملَ النَّبيِّ عليه السَّلامُ أُمامةَ ابنةَ أبى العاصِ على عنُقِه في الصَّلاةِ ، والصَّلاةُ أفضَلُ الأعمالِ عِندَ اللَّهِ، وقد أمَر عليه السَّلامُ بلُزومِ الخشوعِ فيها والإقبالِ عليها، ولم يكُنْ حَملُه لها ممَّا يضادُّ الخشوعَ المأمورَ به فيها، وكَرِه أن يَشُقَّ عليها لو تركها ولم يحمِلْها في الصَّلاةِ.
وفي فِعلِه عليه السَّلامُ ذلك أعظَمُ الأُسوةِ لنا؛ فينبغي الاقتداءُ به في رحمتِه صِغارَ الوَلَدِ وكِبارَهم، والرِّفْقِ بهم) .
وقال عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ بنِ حَنبَلٍ: سمِعتُ أبي يقولُ: (الأحداثُ يُرفَقُ بهم) .
(وقبيحٌ جِدًّا أن يَغفُلَ المربُّون عن الرِّفْقِ بالصِّغارِ والتَّلطُّفِ بهم في الوقتِ الذي توجِّهُ فيه السُّنَّةُ بجَمعٍ من الأحاديثِ النَّبويَّةِ إلى الرِّفْقِ بالحيوانِ ورحمتِه!) .
8- الرِّفْقُ بالخادِمِ والمملوكِ:
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ للهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((للمملوكِ طعامُه وكِسوتُه، ولا يُكَلَّفُ من العَمَلِ إلَّا ما يُطيقُ)) .
قال الشِّنقيطيُّ: (فأوجب على مالكيهم الرِّفْقَ والإحسانَ إليهم، وأن يُطعِموهم ممَّا يَطعَمون، ويَكسوهم ممَّا يَلبَسون، ولا يُكَلِّفوهم من العَمَلِ ما لا يُطيقون، وإن كلَّفوهم أعانوهم؛ كما هو معروفٌ في السُّنَّةِ الواردةِ عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مع الإيصاءِ عليهم في القرآنِ) .
عن أبي مسعودٍ البَدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((كُنتُ أضرِبُ غُلامًا لي بالسَّوطِ، فسَمِعتُ صوتًا مِن خَلفي: اعلَمْ أبا مسعودٍ. فلم أفهَمِ الصَّوتَ من الغَضَبِ، قال: فلمَّا دنا منِّي إذا هو رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! فإذا هو يقولُ: اعلَمْ أبا مسعودٍ، اعلَمْ أبا مسعودٍ. قال: فألقَيتُ السَّوطَ مِن يدي، فقال: اعلَمْ أبا مسعودٍ أنَّ اللَّهَ أقدَرُ عليك منك على هذا الغُلامِ. قال: فقُلتُ: لا أضرِبُ مملوكًا بعدَه أبدً)) .
(فيه الحثُّ على الرِّفْقِ بالمملوكِ) .
ويُروى أنَّ أبا هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه رأى رجلًا راكبًا وغلامُه يمشي خَلْفَه، فقال: (يا عبدَ اللَّهِ، اتَّقِ اللَّهَ؛ إنَّما هو أخوك، رُوحُك مثلُ رُوحِه، احمِلْهـ)، فحمَلَه .
9- الرِّفْقُ في طَلَبِ الحُقوقِ ودَفعِها:
عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ الله عنهما: أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((رَحِم اللهُ رجلًا سَمحًا إذا قضى، وإذا اقتضى)) .
قال العِزُّ بنُ عبدِ السَّلامِ: (الرِّفْقُ في الطَّلبِ والدَّفعِ من الإحسانِ المطلوبِ شَرعًا؛ لِما فيه من البِرِّ وتأليفِ القلوبِ) .
10- الرِّفْقُ أثناءَ السَّفَرِ:
قال النَّوويُّ في آدابِ السَّفَرِ: (ينبغي له أن يستعمِلَ الرِّفْقَ وحُسنَ الخُلُقِ مع الغلامِ والجِمالِ والرَّقيقِ والسَّائِلِ وغيرِهم، ويتجَنَّبَ المخاصمةَ والمخاشنةَ، ومزاحمةَ النَّاسِ في الطُّرُقِ وموارِدِ الماءِ إذا أمكنه ذلك، وأن يصونَ لسانَه من الشَّتمِ والغِيبةِ ولَعنةِ الدَّوابِّ وجميعِ الألفاظِ القبيحةِ، ويَرفُقَ بالسَّائِلِ والضَّعيفِ، ولا ينهَرَ أحدًا منهم ولا يوبِّخَه على خروجِه بلا زادٍ وراحلةٍ، بل يواسِيه بما تيسَّر، فإن لم يفعَلْ رَدَّه ردًّا جميلًا. ودلائِلُ هذه المسائِلِ مشهورةٌ في القرآنِ والأحاديثِ الصَّحيحةِ وإجماعِ المسلِمين) .
11- الرِّفْقُ بالغريمِ:
عن عائشةَ رَضِيَ الله عنها قالت: ((سمِعَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صوتَ خُصومٍ بالبابِ عاليةٍ أصواتُهما، وإذا أحدُهما يستوضِعُ الآخَرَ، ويسترفِقُه في شيءٍ، وهو يقولُ: واللهِ لا أفعَلُ. فخرج عليهما رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: أين المتألِّي على اللهِ لا يفعَلُ المعروفَ؟! فقال: أنا يا رسولَ اللَّهِ، وله أيُّ ذلك أحَبَّ)) .
قال ابنُ حَجَرٍ: (في هذا الحديثِ: الحَضُّ على الرِّفْقِ بالغريمِ، والإحسانِ إليه بالوضعِ عنهـ) .
12- الرِّفْقُ بالميِّتِ:
قال عطاءٌ: (حضَرْنا مع ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما جنازةَ ميمونةَ بسَرِفَ، فقال ابنُ عبَّاسٍ: هذه زوجةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فإذا رفَعْتُم نَعْشَها فلا تُزَعزِعوها، ولا تُزَلزِلوها، وارفُقوا ...) الحديث .
قال ابنُ حَجَرٍ: (قولُه: "وارفُقوا" إشارةٌ إلى أنَّ مرادَه السَّيرُ الوَسَطُ المعتَدِلُ، ويستفادُ منه أنَّ حُرمةَ المُؤمِنِ بعدَ موتِه باقيةٌ كما كانت في حياتِهـ) .
13- الرِّفْقُ بالحيوانِ:
فمِن الرِّفْقِ بالحيوانِ أن تدفعَ عنه أنواعَ الأذى، كالعَطَشِ والجوعِ والمَرَضِ، والحِملِ الثَّقيلِ؛ فعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عنه: أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((بينا رجُلٌ يمشي، فاشتَدَّ عليه العَطَشُ، فنَزَل بِئرًا، فشَرِب منها، ثمَّ خرج فإذا هو بكَلبٍ يلهَثُ يأكُلُ الثَّرَى من العطَشِ، فقال: لقد بلغَ هذا مِثلُ الذي بلَغ بي، فملأَ خُفَّه، ثمَّ أمسَكَه بفيه، ثمَّ رَقِيَ، فسقى الكَلبَ؛ فشَكَر اللهُ له، فغَفَر له، قالوا: يا رسولَ اللهِ، وإنَّ لنا في البهائِمِ أجرًا؟ قال: في كُلِّ كَبِدٍ رَطْبةٍ أجرٌ))) .
وعن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ قال: ((مرَّ ابنُ عُمَرَ بفتيانٍ من قُرَيشٍ قد نصَبوا طيرًا وهم يرمونه، وقد جعلوا لصاحِبِ الطَّيرِ كُلَّ خاطئةٍ من نَبْلِهم، فلمَّا رأوا ابنَ عُمَرَ تفرَّقوا، فقال ابنُ عُمَرَ: من فعَل هذا؟! لعَن اللهُ مَن فَعَل هذا! إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعَن من اتخَذ شيئًا فيه الرُّوحُ غَرَضًا ) .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا سافَرْتُم في الِخصبِ فأعطوا الإبِلَ حَظَّها من الأرضِ، وإذا سافَرْتُم في السَّنةِ فأسرِعوا عليها السَّيرَ ...)) الحديث .
قال النَّوويُّ: ((معنى الحديثِ: الحَثُّ على الرِّفْقِ بالدَّوابِّ ومراعاةُ مصلحتِها، فإن سافروا في الخِصبِ قلَّلوا السَّيرَ، وتركوها ترعى في بعضِ النَّهارِ وفي أثناءِ السَّيرِ، فتأخُذُ حَظَّها من الأرضِ بما ترعاه منها، وإن سافروا في القَحطِ عَجَّلوا السَّيرَ؛ ليصِلوا المقصِدَ وفيها بقيَّةٌ من قوَّتِها، ولا يُقَلِّلوا السَّيرَ فيَلحَقَها الضَّرَرُ؛ لأنَّها لا تجِدُ ما ترعى فتَضعُفُ ...)) .
ومن الرِّفْقِ بها تَرْكُ وَسمِ الحيواناتِ في الوَجهِ، وضَربِها على الوَجهِ؛ فعن جابرٍ رَضِيَ الله عنه قال: ((نهى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الضَّربِ في الوَجهِ، وعن الوَسمِ في الوَجهِ)) .
ومن الرِّفْقِ بالحيوانِ الرِّفْقُ به حتى عِندَ إزهاقِ رُوحِه؛ فعن شَدَّادِ بنِ أَوسٍ رَضِيَ الله عنه قال: ثِنْتانِ حَفِظْتُهما عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ قال: ((إنَّ اللهَ كَتَب الإحسانَ على كُلِّ شيءٍ، فإذا قتَلْتُم فأحسِنوا القِتْلةَ، وإذا ذبَحتُم فأحسِنوا الذَّبحَ، ولْيُحِدَّ أحَدُكم شَفْرَتَه، فلْيُرِحْ ذَبيحتَهـ)) .

انظر أيضا:

  1. (1) المشادَّةُ في الشَّيءِ: التشَدُّدُ فيه والمغالبةُ. يُنظَر: ((تاج العروس)) للزبيدي (8/242).
  2. (2) الغَدوةُ: البُكرةُ ما بَيْنَ صلاةِ الغَداةِ وطُلوعِ الشَّمسِ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (15/116). الرَّوحةُ: الوَقتُ لِما بَيْنَ زوالِ الشَّمسِ إلى اللَّيلِ. يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن الحجر (1/126).
  3. (3) الدُّلجةُ: سَيرُ السَّحَرِ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (2/272).
  4. (4) رواه البخاري (39) واللفظ له، ومسلم (2816).
  5. (5) سَئِم الشَّيءَ وسَئِم منه سآمةً: مَلَّ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (12/280).
  6. (6) رواه البخاري (43)، مسلم (785) واللفظ له.
  7. (7) ((إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان)) لابن القيم (1/132).
  8. (8) يُنظَر: ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (1/ 164، 165).
  9. (9) ((صيد الخاطر)) (ص: 458).
  10. (10) رواه البخاري (6076)، ومسلم (2558).
  11. (11) ((شرح النووي على مسلم)) (16/ 116).
  12. (12) رواه مسلم (1828) من حديثِ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها.
  13. (13) الحُطَمةُ هو الرَّاعي الذي لا يمكِّنُ رعيَّتَه من المراتعِ الخَصيبةِ، ويَقبِضُها ولا يَدَعُها تنتَشِرُ في المرعى. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (12/139).
  14. (14) رواه مسلم (1830) مطوَّلًا من حديثِ عائذِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنه.
  15. (15) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (2/341) بتصرف يسير.
  16. (16) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (3/627).
  17. (17) ((المقدمة)) (2/561).
  18. (18) ((الورع)) لأحمد بن حنبل - رواية المروزي (ص: 166).
  19. (19) ((مختصر منهاج القاصدين)) (ص: 130).
  20. (20) ((مجموع الفتاوى)) (15/ 167).
  21. (21) ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب الحنبلي (2/ 256).
  22. (22) ((إحياء علوم الدين)) (2/ 334).
  23. (23) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (2/340).
  24. (24) ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب الحنبلي (2/ 256).
  25. (25) ((رسائل ابن حزم)) (1/ 383، 384).
  26. (26) ((المجموع شرح المهذب)) (1/ 48).
  27. (27) ((المجموع شرح المهذب)) (1/ 27).
  28. (28) ((أخلاق حملة القرآن)) (ص: 94).
  29. (29) يُنظَر: ((أخلاق حملة القرآن)) للآجري (ص: 96)، ((جامع بيان العلم وفضلهـ)) لابن عبد البر (1/ 521)، ((الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع)) للخطيب البغدادي (1/ 209).
  30. (30) يُنظَر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (5/ 98).
  31. (31) يُنظَر: ((الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع)) للخطيب البغدادي (1/ 210).
  32. (32) أخرجه البخاري (5997)، ومسلم (2318) من حديثِ أبي هُرَيرةَ.
  33. (33) ينظر: ما أخرجه البخاري (516)، ومسلم (543).
  34. (34) ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (9/ 211، 212).
  35. (35) ((مسائل الإمام أحمد - رواية ابنه عبد اللهـ)) (ص: 448).
  36. (36) ((عقوبة التلاميذ البدنية)) لعدنان باحارث (89).
  37. (37) رواه مسلم (1662).
  38. (38) ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/30).
  39. (39) أخرجه مسلم (1659).
  40. (40) ((شرح النووي على مسلم)) (11/ 130).
  41. (41) ((سنن الصالحين وسنن العابدين)) لأبي الوليد الباجي (ص: 355).
  42. (42) أخرجه البخاري (2076) بلفظ: ((رَحِم اللهُ رجُلًا سَمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى)).
  43. (43) ((شجرة المعارف والأحوال)) (ص: 190).
  44. (44) ((المجموع شرح المهذب)) (4/ 394).
  45. (45) أخرجه البخاري (2705) ومسلم (1557).
  46. (46) ((فتح الباري)) (5/ 308).
  47. (47) أخرجه البخاري (5067)، ومسلم (1465).
  48. (48) ((فتح الباري)) (9/ 113).
  49. (49) رواه البخاري (2363) واللفظ له، ومسلم (2244).
  50. (50) الغَرَضُ: هَدَفٌ يُرمى فيه. يُنظَر: ((تاج العروس)) للزبيدي (18/451).
  51. (51) رواه مسلم (1958).
  52. (52) رواه مسلم (1926).
  53. (53) ((شرح النووي على مسلم)) (13/ 69).
  54. (54) يقال: وَسَمَه يَسِمُه وَسمًا، وسِمةً: إذا أثَّر فيه بكَيٍّ. يُنظَر: ((تاج العروس)) للزبيدي (34/ 45).
  55. (55) رواه مسلم (2116).
  56. (56) رواه مسلم (1955).