موسوعة الآداب الشرعية

ثانيًا: مَحَبَّةُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم


يَجِبُ على المُسلمِ أن يُحِبَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأن يَكونَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحَبَّ إليه مِن نَفسِه وأهلِه ومالِه والنَّاسِ أجمَعينَ، وألَّا يُقَدِّمَ مَحَبَّةَ أحَدٍ مِنَ الخَلقِ على مَحَبَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [363] قال الكرمانيُّ: (اعلَمْ أنَّ مَحَبَّةَ الرَّسولِ إرادةُ فِعلِ طاعَتِه، وتَركُ مُخالفتِه، وهي مِن واجِباتِ الإسلامِ). ((الكواكب الدراري)) (1/ 98). .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
-قال تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 24] .
هذه الآيةُ الكريمةُ أعظَمُ دليلٍ على وُجوبِ محبَّةِ اللهِ ورَسولِه، وعلى تقديمِها على محبَّةِ كُلِّ شَيءٍ، وعلى الوعيدِ الشَّديدِ والمَقْتِ الأكيدِ، على من كان شَيءٌ مِن هذه المذكوراتِ أحَبَّ إليه مِن اللهِ ورَسولِه، وجهادٍ في سبيلِه، وعلامةُ ذلك أنَّه إذا عُرِضَ عليه أمرانِ؛ أحدُهما يُحبُّه اللهُ ورَسولُه، وليس لِنَفسِه فيه هوًى، والآخَرُ تُحبُّه نَفسُه وتَشتَهيه، ولكِنَّه يُفَوِّتُ عليه محبوبًا لله ورَسولِه، أو يَنقُصُه؛ فإنَّه إن قدَّمَ ما تهواه نفسُه على ما يُحبُّه الله، دلَّ ذلك على أنَّه ظالِمٌ، تارِكٌ لِما يجِبُ عليه [364] ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 332). .
قال عِياضٌ: (كفى بهذا حَضًّا وتَنبيهًا ودَلالةً وحُجَّةً على التِزامِ مَحَبَّتِه ووُجوبِ فَرضِها، وعِظَمِ خَطَرِها، واستِحقاقِه لها صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ إذ قَرَّعَ اللَّهُ تعالى مَن كان مالُه وأهلُه ووَلَدُه أحَبَّ إليه مِنَ اللهِ ورَسولِه، وأوعَدَهم بقَولِه تعالى: فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ فَسَّقَهم بتَمامِ الآيةِ، وأعلَمَهم أنَّهم مِمَّن ضَلَّ ولم يَهدِه اللهُ) [365] ((الشفا بتعريف حقوق المصطفى)) (2/ 18). .
وقال الزَّمَخشَريُّ: (وهذه آيةٌ شَديدةٌ لا تَرى أشَدَّ مِنها) [366] ((الكشاف)) (2/ 257). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((فوالذي نَفسي بيَدِه لا يُؤمِنُ أحَدُكُم حتَّى أكونَ أحَبَّ إليه مِن والِدِه ووَلَدِه)) [367] أخرجه البخاري (14). .
2- عن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ((لا يُؤمِنُ أحَدُكُم حتَّى أكونَ أحَبَّ إليه مِن والِدِه ووَلَدِه والنَّاسِ أجمَعينَ)) [368] أخرجه البخاري (15) واللفظ له، ومسلم (44). .
(هذا مِن جَوامِعِ الكَلِمِ الَّذي أوتيَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّه قَد جَمَعَ في هذه الألفاظِ اليسيرةِ مَعانيَ كثيرةً؛ لأنَّ أقسامَ المَحَبَّةِ ثَلاثةٌ: مَحَبَّةُ إجلالٍ وعَظَمةٍ، كمَحَبَّةِ الوالِدِ؛ ومَحَبَّةُ شَفَقةٍ ورَحمةٍ، كمَحَبَّةِ الولَدِ؛ ومَحَبَّةُ استِحسانٍ ومُشاكَلةٍ، كمَحَبَّةِ سائِرِ النَّاسِ؛ فحَصَرَ صُنوفَ المَحَبَّةِ. ومَعنى الحَديثِ -واللهُ أعلَمُ-: أنَّ مَنِ استَكمَلَ الإيمانَ عَلِمَ أنَّ حَقَّ الرَّسولِ وفَضلَه آكَدُ عليه مِن حَقِّ أبيه وابنِه والنَّاسِ أجمَعينَ؛ لأنَّ بالرَّسولِ استَنقَذَ اللَّهُ أمَّتَه مِنَ النَّارِ، وهداهم مِنَ الضَّلالِ) [369] ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (1/ 66). ويُنظر: ((إكمال المعلم بفوائد مسلم)) لعياض (1/ 280). .
3- عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يَجِدُ أحَدٌ حَلاوةَ الإيمانِ حتَّى يُحِبَّ المَرءَ لا يُحِبُّه إلَّا للَّهِ، وحتَّى أن يُقذَفَ في النَّارِ أحَبُّ إليه مِن أن يَرجِعَ إلى الكُفرِ بَعدَ إذ أنقَذَه اللَّهُ، وحتَّى يَكونَ اللَّهُ ورَسولُه أحَبَّ إليه مِمَّا سِواهما)) [370] أخرجه البخاري (6041) واللفظ له، ومسلم (43). .
قال ابنُ تيميَّةَ: (أخبَرَ أنَّه لا يَجِدُ أحَدٌ حَلاوةَ الإيمانِ إلَّا بهذه المَحَبَّاتِ الثَّلاثِ؛ أحَدُها: أن يَكونَ اللَّهُ ورَسولُه أحَبَّ إليه ممَّن سِواهما، وهذا مِن أصولِ الإيمانِ المَفروضةِ التي لا يَكونُ العَبدُ مُؤمِنًا بدونِها. الثَّاني: أن يُحِبَّ العَبدَ لا يُحِبُّه إلَّا للَّهِ، وهذا مِن لوازِمِ الأوَّلِ. والثَّالثُ: أن يَكونَ إلقاؤُه في النَّارِ أحَبَّ إليه مِنَ الرُّجوعِ إلى الكُفرِ) [371] ((مجموع الفتاوى)) (10/ 751). .
4- عن عَبدِ اللَّهِ بنِ هشامٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كُنَّا مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو آخِذٌ بيَدِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، فقال له عُمَرُ: يا رَسولَ اللهِ، لأنت أحَبُّ إليَّ مِن كُلِّ شيءٍ إلَّا مِن نَفسي! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا، والذي نَفسي بيَدِه حتَّى أكونَ أحَبَّ إليك مِن نَفسِك! فقال له عُمَرُ: فإنَّه الآنَ واللَّهِ لأنت أحَبُّ إليَّ مِن نَفسي! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: الآنَ يا عُمَرُ)) [372] أخرجه البخاري (6632). .
ج- من الإجماعِ
-قال القُرطبيُّ في قَولِه تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا الآيةَ [التوبة: 24] : (في الآيةِ دَليلٌ على وُجوبِ حُبِّ اللَّهِ ورَسولِه، ولا خِلافَ في ذلك بينَ الأمَّةِ، وأنَّ ذلك مُقَدَّمٌ على كُلِّ مَحبوبٍ) [373] ((الجامع لأحكام القرآن)) (8/ 95). .
- قال أبو العَبَّاسِ بنُ قُدامةَ: (اعلَمْ أنَّ الأمَّةَ مُجمِعةٌ على أنَّ الحُبَّ للَّهِ ولرَسولِه فَرضٌ) [374] ((مختصر منهاج القاصدين)) (ص: 338). .
مِن فضائِلِ مَحَبَّةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
-عن عَبدِ اللَّهِ بنِ الصَّامِتِ، قال: قال أبو ذَرٍّ: ((قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، الرَّجُلُ يُحِبُّ القَومَ لا يَستَطيعُ أن يَعمَلَ بأعمالِهم! قال: أنتَ يا أبا ذَرٍّ مَعَ مَن أحبَبتَ! قال: قُلتُ: فإنِّي أُحِبُّ اللَّهَ ورَسولَه. يُعيدُها مَرَّةً أو مَرَّتينِ)) [375] أخرجه أبو داود (5126)، وأحمد (21379) واللفظ له صحَّحه ابنُ حبان (556)، والألباني في ((صحيح الموارد)) (2123)، وصحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط على شرط مسلم في تخريج ((مسند أحمد)) (21379). .
- قال عَبدُ اللَّهِ بنُ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((جاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: يا رَسولَ اللهِ، كيف تَقولُ في رَجُلٍ أحَبَّ قَومًا ولم يَلحَقْ بهم؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: المَرءُ مَعَ مَن أحَبَّ)) [376] أخرجه البخاري (6169) واللفظ له، ومسلم (2640). .
- عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رجلًا سأل النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن السَّاعةِ، فقال: متى السَّاعةُ؟ قال: ((وماذا أعدَدتَ لها؟ قال: لا شيءَ إلَّا أنِّي أحِبُّ اللهَ ورسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّ!، فقال: أنت مع من أحبَبْتَ! قال أنسٌ: فما فَرِحْنا بشيءٍ فَرَحَنا بقولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أنت مع مَن أحبَبْتَ. قال أنسٌ: فأنا أحِبُّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبا بكرٍ وعُمَرَ، وأرجو أن أكونَ معهم بحُبِّي إيَّاهم، وإن لم أعمَلْ بمِثلِ أعمالِهم)) [377] أخرجه البخاري (3688) واللفظ له، ومسلم (2639). .
قال النَّوويُّ: (فيه فَضلُ حُبِّ اللهِ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والصَّالحين وأهلِ الخيرِ الأحياءِ والأمواتِ، ومِن فَضلِ مَحَبَّةِ اللهِ ورَسولِه امتِثالُ أمرِهما واجتِنابُ نَهيِهما والتَّأدُّبُ بالآدابِ الشَّرعيَّةِ) [378] ((شرح مسلم)) (16/ 186). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (وهذا الحَديثُ حَقٌّ؛ فإنَّ كونَ المُحِبِّ مَعَ المَحبوبِ أمرٌ فِطريٌّ لا يَكونُ غيرَ ذلك، وكونُه مَعَه هو على مَحَبَّتِه إيَّاه؛ فإن كانتِ المَحَبَّةُ مُتَوسِّطةً أو قَريبًا مِن ذلك كان مَعَه بحَسبِ ذلك، وإن كانتِ المَحَبَّةُ كامِلةً كان مَعَه كذلك، والمَحَبَّةُ الكامِلةُ تَجِبُ مَعَها الموافَقةُ للمَحبوبِ في مَحابِّه إذا كان المُحِبُّ قادِرًا عليها، فحيثُ تَخَلَّفتِ الموافَقةُ مَعَ القُدرةِ يَكونُ قَد نَقَصَ مِنَ المَحَبَّةِ بقَدرِ ذلك وإن كانت مَوجودةً، وحُبُّ الشَّيءِ وإرادَتُه يَستَلزِمُ بُغضَ ضِدِّه وكراهَتَه مَعَ العِلمِ بالتَّضادِّ؛ ولهذا قال تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 22] ، والمُوادَّةُ مِن أعمالِ القُلوبِ؛ فإنَّ الإيمانَ باللهِ يَستَلزِمُ مَودَّتَه ومَودَّةَ رَسولِه، وذلك يُناقِضُ مُوادَّةَ مَن حادَّ اللَّهَ ورَسولَه) [379] ((مجموع الفتاوى)) (10/ 752، 753). .
فَوائِدُ ومَسائِلُ:
1- قال ابنُ رَجَبٍ الحَنبَليُّ: (مَحَبَّةُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على دَرَجَتينِ:
إحداهما: فَرضٌ، وهي المَحَبَّةُ التي تَقتَضي قَبولَ ما جاءَ به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن عِندِ اللهِ، وتَلَقِّيَه بالمَحَبَّةِ والرِّضا والتَّعظيمِ والتَّسليمِ، وعَدَمَ طَلَبِ الهدى مِن غيرِ طَريقِه بالكُلِّيَّةِ، ثُمَّ حُسنَ الاتِّباعِ له فيما بَلَّغَه عن رَبِّه؛ مِن تَصديقِه في كُلِّ ما أخبَرَ به، وطاعَتِه فيما أمَرَ به مِنَ الواجِباتِ، والانتِهاءِ عَمَّا نهى عنه مِنَ المُحَرَّماتِ، ونُصرةِ دينِه والجِهادِ لِمَن خالفَه بحَسَبِ القُدرةِ. فهذا القَدرُ لا بُدَّ مِنه، ولا يَتِمُّ الإيمانُ بدونِه.
والدَّرَجةُ الثَّانيةُ: فَضلٌ، وهي المَحَبَّةُ التي تَقتَضي حُسنَ التَّأسِّي به، وتَحقيقَ الاقتِداءِ بسُنَّتِه في أخلاقِه وآدابِه ونَوافِلِه وتطَوُّعاتِه، وأكلِه وشُربه ولباسِه، وحُسنِ مُعاشَرَتِه لأزواجِه، وغيرِ ذلك مِن آدابِه الكامِلةِ وأخلاقِه الطَّاهرةِ، والاعتِناءَ بمَعرِفةِ سيرَتِه وأيَّامِه، واهتِزازَ القَلبِ عِندَ ذِكرِه، وكثرةَ الصَّلاةِ عليه؛ لِما سَكنَ في القَلبِ مِن مَحَبَّتِه وتَوقيرِه، ومَحَبَّةَ استِماعِ كلامِه، وإيثارَه على كلامِ غيرِه مِنَ المَخلوقينَ. ومِن أعظَمِ ذلك الاقتِداءُ به في زُهدِه في الدُّنيا والاجتِزاءِ باليسيرِ مِنها ورَغبَتِه في الآخِرةِ.
قال سَهلٌ التُّستَريُّ: مِن عَلاماتِ حُبِّ اللهِ: حُبُّ القُرآنِ، وعَلامةُ حُبِّ اللهِ وحُبِّ القُرآنِ حُبُّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعَلامةُ حُبِّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حُبُّ السُّنَّةِ، وعَلامةُ حُبِّ السُّنَّةِ حُبُّ الآخِرةِ، ومِن عَلامةِ حُبِّ الآخِرةِ بُغضُ الدُّنيا، وعَلامةُ بُغضِ الدُّنيا ألَّا يَأخُذَ مِنها إلَّا زادًا يُبَلِّغُه إلى الآخِرةِ) [380] ((مجموع رسائل ابن رجب)) (3/ 324). .
2- قال النَّوويُّ: (قال القاضي عياضٌ رَحِمَه اللهُ: ومِن مَحَبَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نُصرةُ سُنَّتِه والذَّبُّ عن شَريعَتِه وتَمَنِّي حُضورِ حياتِه، فيَبذُلُ مالَه ونَفسَه دونَه. قال: وإذا تَبيَّنَ ما ذَكَرناه تَبيَّنَ أنَّ حَقيقةَ الإيمانِ لا يَتِمُّ إلَّا بذلك، ولا يَصِحُّ الإيمانُ إلَّا بتَحقيقِ إعلاءِ قَدرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومَنزِلتِه على كُلِّ والِدٍ ووَلَدٍ، ومُحسِنٍ ومُفضَّلٍ، ومَن لم يَعتَقِدْ هذا واعتَقَدَ سِواه فليس بمُؤمِنٍ) [381] ((شرح مسلم)) (2/ 16). ويُنظر: ((إكمال المعلم بفوائد مسلم)) لعياض (1/ 280، 281). .
3- قال ابنُ حَجَرٍ: (مِن عَلامةِ الحُبِّ المَذكورِ أن يُعرَضَ على المَرءِ أنْ لو خُيِّرَ بينَ فَقدِ غَرَضٍ مِن أغراضِه أو فَقدِ رُؤيةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ لو كانت مُمكِنةً، فإن كان فَقْدُها أن لو كانت مُمكِنةً أشَدَّ عليه مِن فَقدِ شيءٍ مِن أغراضِه فقَدِ اتَّصَف بالأحبِّيَّةِ المَذكورةِ، ومَن لا فلا، وليس ذلك مَحصورًا في الوُجودِ والفَقدِ، بَل يَأتي مِثلُه في نُصرةِ سُنَّتِه والذَّبِّ عن شَريعَتِه وقَمعِ مُخالفيها، ويَدخُلُ فيه بابُ الأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عنِ المُنكَرِ) [382] ((فتح الباري)) (1/ 59). .
صُوَرٌ مِن مَحَبَّةِ الصَّحابةِ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
1- عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه في قِصَّةِ إسلامِ أبي قُحافةَ، قال: ((فلمَّا مَدَّ يَدَه يُبايِعُه بَكى أبو بَكرٍ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما يُبكيك؟ قال: لأن تَكونَ يَدُ عَمِّك مَكانَ يَدِه ويُسلِمَ ويُقِرَّ اللَّهُ عَينَك أحَبُّ إليَّ مِن أن يَكونَ)) [383] أخرجه عمر بن شبة في ((كتاب مكة))، وأبو يعلى، وأبو بشر سمويه في ((الفوائد)) كما في ((الإصابة)) لابن حجر (4/116). صَحَّحَ إسنادَه ابنُ حَجَرٍ في ((الإصابة)) (4/116). .
2-عن عُروةَ، عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((هاجَرَ إلى الحَبَشةِ ناسٌ مِنَ المُسلمينَ، وتجَهَّز أبو بَكرٍ مُهاجِرًا، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: على رِسلِك [384] على رِسلِك: على هِينَتِك وعلى مَهلِك مِن غَيرِ عَجَلةٍ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (11/ 593)، ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (4/ 154). ، فإنِّي أرجو أن يُؤذَنَ لي، فقال أبو بَكرٍ: أوَتَرجوه بأبي أنتَ؟! قال: نَعَم. فحَبَسَ أبو بَكرٍ نَفسَه على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لصُحبَتِه، وعَلَف راحِلتَينِ كانتا عِندَه وَرَقَ السَّمُرِ [385] وَرَقَ السَّمُرِ: هو الخَبطُ، وهو ما يُخبَطُ بالعَصا فيَسقُطُ مِن ورَقِ الشَّجَرِ. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (6/ 217). أربَعةَ أشهرٍ. قال عُروةُ: قالت عائِشةُ: فبَينَما نَحنُ يَومًا جُلوسٌ في بَيتِ أبي بَكرٍ في نَحرِ الظَّهيرةِ [386] الظَّهيرةُ: شِدَّةُ الحَرِّ، ونَحرُها: أوَّلُها. ونَحرُ كُلٍّ شَيءٍ: أوَّلُه. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (2/ 273). قال قائِلٌ لأبي بَكرٍ: هذا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُتَقَنِّعًا في ساعةٍ لم يَكُنْ يَأتينا فيها، فقال أبو بَكرٍ: فِداءٌ له أبي وأُمِّي، واللهِ ما جاءَ به في هذه السَّاعةِ إلَّا أمرٌ. قالت: فجاءَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فاستَأذَنَ، فأذِنَ له فدَخَل، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأبي بَكرٍ: أخرِجْ مَن عِندَك. فقال أبو بَكرٍ: إنَّما هم أهلُك بأبي أنتَ يا رَسولَ اللهِ! قال: فإنِّي قد أُذِنَ لي في الخُروجِ. فقال أبو بَكرٍ: الصَّحابةَ بأبي أنتَ يا رَسولَ اللهِ؟! قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: نَعَم. قال أبو بَكرٍ: فخُذْ بأبي أنتَ يا رَسولَ اللهِ إحدى راحِلتَيَّ هاتَينِ. قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: بالثَّمَنِ...)) الحَديثَ [387] أخرجه البخاري (5807). .
وفي رِوايةٍ: ((كان لا يُخطِئُ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَأتيَ بَيتَ أبي بَكرٍ أحَدَ طَرَفيِ النَّهارِ، إمَّا بُكرةً وإمَّا عَشيَّةً، حتَّى إذا كان اليَومُ الذي أُذِنَ فيه لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الهجرةِ، والخُروجِ مِن مَكَّةَ مِن بَينِ ظَهرَي قَومِه، أتانا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالهاجِرةِ [388] الهاجِرةُ: انتِصافُ النَّهارِ وشِدَّةُ الحَرِّ. قيل: والهاجِرةُ والهَجيرُ مِنَ الهَجرِ؛ لأنَّها ساعةٌ يُهجَرُ فيها السَّيرُ، أو لأنَّها تَهجُرُ النَّاسَ على المَجازِ. يُنظر: ((جمهرة اللغة)) لابن دريد (1/ 468)، ((أعلام الحديث)) للخطابي (1/ 462)، ((المفردات)) للراغب (ص: 834)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (2/ 52)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين الحلبي (4/ 241). في ساعةٍ كان لا يَأتي فيها.
قالت: فلمَّا رَآه أبو بَكرٍ قال: ما جاءَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هذه السَّاعةَ إلَّا لأمرٍ حَدَث. قالت: فلمَّا دَخَل تَأخَّرَ له أبو بَكرٍ عن سَريرِه، فجَلسَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وليسَ عِندَ أبي بَكرٍ إلَّا أنا وأُختي أسماءُ بنتُ أبي بَكرٍ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أخرِجْ عنِّي مَن عِندَك، فقال: يا رَسولَ اللهِ، إنَّما هما ابنَتايَ! وما ذاكَ فِداك أبي وأُمِّي؟! فقال: إنَّ اللَّهَ قد أذِنَ لي في الخُروجِ والهجرةِ. قالت: فقال أبو بَكرٍ: الصُّحبةَ يا رَسولَ اللهِ، قال: الصُّحبة.
قالت: فواللَّهِ ما شَعَرتُ قَطُّ قَبلَ ذلك اليَومِ أنَّ أحَدًا يَبكي مِنَ الفرَحِ، حتَّى رَأيتُ أبا بَكرٍ يَبكي يَومَئِذٍ))
[389] أخرجه ابن هشام في ((السيرة)) (1/484). قال الألباني في ((فقه السيرة)) (160): إسنادُه صحيحٌ، وأخرجه البخاريُّ مَعَ شَيءٍ مِنَ الاختِصارِ. .
3- عن أبي إسحاقَ، قال: سَمِعتُ البَراءَ بنَ عازِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهما يَقولُ: جاءَ أبو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه إلى أبي في مَنزِلِه، فاشتَرى مِنه رَحلًا [390] الرَّحلُ: سَرجُ البَعيرِ، وهو الكورُ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (11/ 599). ، فقال لعازِبٍ: ابعَثِ ابنَك يَحمِلُه مَعي، قال: فحَمَلتُه مَعَه، وخَرَجَ أبي يَنتَقِدُ ثَمَنَه، فقال له أبي: يا أبا بَكرٍ، حَدِّثْني كَيف صَنَعتُما حينَ سَرَيتَ [391] حينَ سَرَيتُ مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أي: حينَ خَرَجتُما مِنَ الغارِ في الهِجرةِ. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (6/ 62). مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: نَعَم ((أسرَينا ليلتَنا ومِنَ الغَدِ حتَّى قامَ قائِمُ الظَّهيرةِ [392] الظَّهيرةُ: أشَدُّ الحَرِّ وسَطَ النَّهارِ، وقائِمُها: وَقتُ استِواءِ الشَّمسِ في وسَطِ السَّماءِ، قيل: سُمِّي قائِمًا لأنَّ الظِّلَّ لا يَظهَرُ حينَئِذٍ فكَأنَّه واقِفٌ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (11/ 599)، ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (6/ 62). وخَلا الطَّريقُ لا يَمُرُّ فيه أحَدٌ، فرُفِعَت لنا صَخرةٌ طَويلةٌ لها ظِلٌّ، لم تَأتِ عليه الشَّمسُ، فنَزَلنا عِندَه، وسَوَّيتُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَكانًا بيَدي يَنامُ عليه، وبَسَطتُ فيه فَروةً، وقُلتُ: نَمْ يا رَسولَ اللهِ، وأنا أنفُضُ لك ما حَولَك [393] وأنا أنفُضُ لك ما حَولَك: أي: مِنَ الغُبارِ ونَحوِه حتَّى لا يُثيرَه الرِّيحُ، أو أحرُسُك وأطوفُ هَل أرى طَلبًا، يُقالُ: نَفضتُ المَكانَ واستَنفضتُه وتنفَّضتُه: إذا نَظَرتَ جَميعَ ما فيه. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (6/ 62). ، فنامَ وخَرَجتُ أنفُضُ ما حَولَه، فإذا أنا براعٍ مُقبلٍ بغَنَمِه إلى الصَّخرةِ، يُريدُ مِنها مِثلَ الذي أرَدنا، فقُلتُ له: لمَن أنتَ يا غُلامُ، فقال: لرَجُلٍ مِن أهلِ المَدينةِ [394] أطلقَ المَدينةَ عَليها للصِّفةِ لا للعَلَميَّةِ، فليسَتِ المَدينةُ النَّبَويَّةُ مُرادةً هنا. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (6/ 62). أو مَكَّةَ، قُلتُ: أفي غَنَمِك لبَنٌ؟ قال: نَعَم، قُلتُ: أفتُحلَبُ، قال: نَعَم، فأخَذَ شاةً، فقُلتُ: انفُضِ الضَّرعَ [395] الضَّرعُ: أي: ثَديُ الشَّاةِ. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (6/ 63). مِنَ التُّرابِ والشَّعرِ والقَذى، قال: فرَأيتُ البَراءَ يَضرِبُ إحدى يَدَيه على الأُخرى يَنفُضُ، فحَلبَ في قَعبٍ [396] القَعبُ: قَدحٌ مِن خَشَبٍ مُقَعَّر. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (6/ 63). كُثبةً [397] الكُثبةُ: القَليلُ مِنَ اللَّبَنِ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثيرِ (11/ 599). مِن لبَنٍ، ومَعي إداوةٌ [398] إداوةٌ: إناءٌ مِن جِلدِ فيها ماءٌ. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (6/ 63). حَمَلتُها للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَرتَوي [399] يَرتَوي: يَستَقي، فهو حَملُها للوُضوءِ والشُّربِ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثيرِ (11/ 599)، ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (6/ 63). مِنها، يَشرَبُ ويَتَوضَّأُ، فأتَيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فكَرِهتُ أن أوقِظَه، فوافقتُه حينَ استَيقَظَ، فصَبَبتُ مِنَ الماءِ على اللَّبَنِ حتَّى بَرَدَ أسفَلُه، فقُلتُ: اشرَبْ يا رَسولَ اللهِ، قال: فشَرِبَ حتَّى رَضيتُ [400] فشَرِبَ حتَّى رَضِيتُ: أي: طابَت نَفسي لكَثرةِ ما شَرِبَ. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (6/ 63). ، ثُمَّ قال: ألم يَأنِ للرَّحيلِ [401] ألم يَأنِ: أي: ألم يَقرُبْ ويَجِئْ وقتُ الرَّواحِ؟ يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثيرِ (11/ 599). ؟ قُلتُ: بَلى، قال: فارتَحَلنا بَعدَما مالتِ الشَّمسُ، واتَّبَعَنا سُراقةُ بنُ مالكٍ، فقُلتُ: أُتينا يا رَسولَ اللهِ، فقال: لا تَحزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعنا...)) الحَديث [402] أخرجه البخاري (3615) واللَّفظُ له، ومسلم (2009). .
وفي رِوايةٍ: ((فصَبَبتُ على القدَحِ حتَّى بَرَد أسفَلُه، ثُمَّ أتَيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فوافيتُه وقدِ استَيقَظَ، فقُلتُ: اشرَبْ يا رَسولَ اللهِ، فشَرِبَ حتَّى رَضيتُ...
قال: فارتَحَلنا، والقَومُ يَطلُبونا، فلم يُدرِكْنا أحَدٌ مِنهم إلَّا سُراقةُ بنُ مالكِ بنِ جُعشُمٍ على فرَسٍ له، فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، هذا الطَّلبُ قد لحِقَنا. فقال: لا تَحزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعنا، حتَّى إذا دَنا مِنَّا فكان بَينَنا وبَينَه قَدرُ رُمحٍ أو رُمحَينِ أو ثَلاثةٍ، قال: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، هذا الطَّلبُ قد لحِقَنا. وبَكَيتُ، قال: لمَ تَبكي؟ قال: قُلتُ: أما واللَّهِ ما على نَفسي أبكي، ولكِن أبكي عليك. قال: فدَعا عليه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: اللهُمَّ اكفِناه بما شِئتَ...))
الحَديث [403] أخرجها أحمَد (3). صَحَّحَ إسنادَها أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (1/22). .
4-عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((خَطَب النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: إنَّ اللهَ خيَّر عبدًا بَينَ الدُّنيا وبَينَ ما عندَه، فاختار ما عِندَ اللهِ. فبكى أبو بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه! فقُلتُ في نفسي: ما يُبكي هذا الشَّيخَ إن يكُنِ اللهُ خيَّر عبدًا بَينَ الدُّنيا وبَينَ ما عِندَه، فاختار ما عندَ اللهِ؟! فكان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو العَبدَ، وكان أبو بكرٍ أعلَمَنا. قال: يا أبا بَكرٍ لا تَبْكِ، إنَّ أمَنَّ النَّاسِ علَيَّ في صُحبتِه ومالِه أبو بكرٍ، ولو كنتُ متَّخِذًا خليلًا من أمَّتي لاتَّخذتُ أبا بكرٍ، ولكِنْ أُخوَّةُ الإسلامِ ومَوَدَّتُه، لا يَبْقَيَنَّ في المسجِدِ بابٌ إلَّا سُدَّ، إلَّا بابَ أبي بكرٍ)) [404] أخرجه البخاري (466) واللَّفظُ له، ومسلم (2382). .
5- عن عَمرِو بنِ مَيمونٍ في الحَديثِ الطَّويلِ في قِصَّةِ مَقتَلِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه قال لابنِه عَبدِ اللَّهِ: (انطَلِقْ إلى عائِشةَ أُمِّ المُؤمِنينَ، فقُلْ: يَقرَأُ عليك عُمَرُ السَّلامَ، ولا تَقُلْ أميرَ المُؤمِنينَ؛ فإنِّي لستُ اليَومَ للمُؤمِنينَ أميرًا، وقُلْ: يَستَأذِنُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ أن يُدفَنَ مَعَ صاحِبَيه، فسَلَّمَ واستَأذَنَ، ثُمَّ دَخَل عليها، فوجَدَها قاعِدةً تَبكي، فقال: يَقرَأُ عليكِ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ السَّلامَ، ويَستَأذِنُ أن يُدفَنَ مَعَ صاحِبَيه، فقالت: كُنتُ أُريدُه لنَفسي، ولأوثِرَنَّ به اليَومَ على نَفسي، فلمَّا أقبَل قيل: هذا عَبدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ قد جاءَ، قال: ارفعوني، فأسنَدَه رَجُلٌ إليه، فقال: ما لدَيك؟ قال: الذي تُحِبُّ يا أميرَ المُؤمِنينَ، أذِنَت، قال: الحَمدُ للَّهِ، ما كان مِن شَيءٍ أهَمَّ إليَّ مِن ذلك) [405] أخرجه البخاري (3700). .
6- عن مُعاذِ بنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((لمَّا بَعَثَه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى اليَمَنِ خَرَجَ مَعَه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يوصيه، ومُعاذٌ راكِبٌ ورَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَمشي تَحتَ راحِلتِه، فلمَّا فرَغَ قال: يا مُعاذُ، إنَّك عَسى ألَّا تَلقاني بَعدَ عامي هذا، ولعَلَّك أن تَمُرَّ بمَسجِدي هذا وقَبري! فبَكى مُعاذٌ جَشَعًا [406] أي: جَزَعًا لفِراقِه. يُنظر: ((الغريبين)) للهروي (1/ 342، 343). لفِراقِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ التَفتَ فأقبَل بوَجهِه نَحوَ المَدينةِ، فقال: إنَّ أَولى النَّاسِ بي المُتَّقونَ مَن كانوا وحَيثُ كانوا)) [407] أخرجه أحمَد (22052) واللَّفظُ له، وابن حبان (647)، والطبراني (20/121) (242). صَحَّحه ابنُ حبان، والألباني في ((صحيح الجامع)) (2012)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (2/170). .
7- عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (خَرَجتُ مَعَ جَريرِ بنِ عَبدِ اللهِ البَجَليِّ في سَفرٍ، فكان يخدُمُني، فقُلتُ له: لا تَفعَلْ، فقال: إنِّي قد رَأيتُ الأنصارَ تَصنَعُ برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شَيئًا، آليتُ [408] آليتُ: أي: أقسَمتُ، مِنَ الأليَّةِ، وهيَ اليَمينُ. يُنظر: ((دليل الفالحين)) لابن علان (3/ 195). ألَّا أصحَبَ أحَدًا مِنهم إلَّا خَدَمتُه)، وكان جَريرٌ أكبَرَ مِن أنَسٍ [409] أخرجه مسلم (2513). .
وفي لفظٍ: قال جَريرٌ رَضِيَ اللهُ عنه: (إنِّي رَأيتُ الأنصارَ يَصنَعونَ شَيئًا لا أجِدُ أحَدًا مِنهم إلَّا أكرَمتُه) [410] أخرجه البخاري (2888). .
8- عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((لمَّا كان يَومُ أُحُدٍ انهَزَمَ ناسٌ مِنَ النَّاسِ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأبو طَلحةَ بَينَ يَدَيِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُجوِّبٌ عليه بحَجَفةٍ [411] الحَجَفةُ: تُرسٌ صَغيرٌ، ومُجَوِّبٌ عَليه بحَجَفتِه، أي: مُتَرِّسٌ عليه بها يَقيه الرَّميَ. يُنظر: ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) لابن هبيرة (5/ 227)، ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (3/ 685). ، قال: وكان أبو طَلحةَ رَجُلًا راميًا شَديدَ النَّزعِ [412] النَّزعُ: مَدُّ القَوسِ، وشِدَّتُه: كِنايةٌ عنِ استيفاءِ السَّهمِ جَميعِه في جَذبِه. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (8/ 241). ، وكَسَرَ يَومئِذٍ قَوسَينِ أو ثَلاثًا، قال: فكان الرَّجُلُ يَمُرُّ مَعَه الجَعبةُ [413] الجَعبةُ: التي تَكونُ فيها السِّهامُ، تُتَّخَذُ مِنَ الجُلودِ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (8/ 241). مِنَ النَّبلِ، فيَقولُ: انثُرْها لأبي طَلحةَ، قال: ويُشرِفُ [414] الإشراف: الاطلاع على الشيء. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (8/ 241). نَبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَنظُرُ إلى القَومِ، فيَقولُ أبو طَلحةَ: يا نَبيَّ اللهِ، بأبي أنتَ وأُمِّي، لا تُشرِفْ لا يُصِبْك سَهمٌ مِن سِهامِ القَومِ، نَحري دونَ نَحرِك)) [415] أخرجه البخاري (3811)، ومسلم (1811) واللفظ له. .
قال ابنُ هُبَيرةَ: (في هذا الحَديثِ ما يَدُلُّ على أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثَبَتَ يَومَ أُحُدٍ حينَ ولَّى مَن ولَّى ثُمَّ عَفا اللَّهُ عنهم، وأنَّ أبا طَلحةَ ثَبَتَ مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَفديه بنَفسِه، وكان يَرى مِن فِقهِه أنَّه لو لم يَجِدْ له مِنَ الوِقايةِ إلَّا نَحرَه لفَداه به) [416] ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) (5/ 226). ، و(هذا مِن مَناقِبِ أبي طَلحةَ الفاخِرةِ) [417] ((شرح مسلم)) للنووي (12/ 189). .
9- عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((ما كان شَخصٌ أحَبَّ إليهم مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكانوا إذا رَأوه لم يَقوموا؛ لِما يَعلمونَ مِن كَراهيَتِه لذلك)) [418] أخرجه الترمذي (2754)، وأحمد (12345) واللفظ له. صَحَّحه البَغويُّ في ((شرح السنة)) (6/357)، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (2/91)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2754)، والوادعي على شرط مسلم في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (52)، وقال الترمذيُّ: حَسَنٌ صحيحٌ غَريبٌ مِن هذا الوَجهِ، وصَحَّحَ إسنادَه ابنُ تيميَّةَ في ((الإخنائية)) (364)، ومُحَمَّد ابن عبد الهادي في ((الصارم المنكي)) (140)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (12345)، وقال ابن القيم في ((تهذيب السنن)) (14/126): إسنادُه على شَرط مُسلمٍ. .
10- عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يَقدَمُ عليكُم غَدًا أقوامٌ هم أرَقُّ قُلوبًا للإسلامِ مِنكُم. قال: فقدِمَ الأشعَريُّونَ فيهم أبو موسى الأشعَريُّ، فلمَّا دَنَوا مِنَ المَدينةِ جَعَلوا يرتجِزون، يَقولونَ:
غَدًا نَلقى الأحِبَّه
مُحَمَّدًا وحِزبَه
فلمَّا أن قَدِموا تَصافَحوا، فكانوا هم أوَّلَ مَن أحدَثَ المُصافَحةَ))
[419] أخرجه أحمد (12026) واللفظ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (8294)، وابن حبان (7193). صحَّحه ابنُ حبان، وابن عساكر في ((معجم الشيوخ)) (2/1182)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (12026)، وصَحَّحَ إسنادَه الألبانيُّ على شَرطِ مُسلم في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (2/62). .

انظر أيضا: