خَلقَ اللهُ تَعالى الخَلقَ لغايةٍ عَظيمةٍ، وهيَ تَوحيدُه سُبحانَه وتَعالى وعِبادَتُه، ولأجلِ ذلك أرسَلَ إلى النَّاسِ الرُّسُلَ يَدعونَهم إلى عِبادةِ اللهِ وحدَه، فما زالَ اللَّهُ تَعالى يُرسِلُ رُسُلَه وأنبياءَه مِن لَدُنْ آدَمَ عليه السَّلامُ إلى عَهدِ نَبيِّنا مُحَمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد دَعا النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم النَّاسَ إلى التَّوحيدِ واجتَهَدَ في دَعوتِهم بكُلِّ الطُّرُقِ، وكان يُرسِلُ الرُّسُلَ إلى البُلدانِ يَدعونَ النَّاسَ لعِبادةِ اللهِ وحدَه، ولمَّا أرسَلَ مُعاذَ بنَ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنه إلى اليَمَنِ خَرَجَ مَعَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يوصيه، وكان مُعاذٌ راكِبًا، أي: على دابَّتِه، ورَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَمشي تَحتَ راحِلَتِه، أي: تَحتَ دابَّةِ مُعاذٍ تَواضُعًا للَّهِ وتَلَطُّفًا للمُؤمِنينَ، فلَمَّا فرَغَ، أي: لمَّا فرَغَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن وصيَّتِه لمُعاذٍ، قال له: يا مُعاذُ، إنَّك عَسى ألَّا تَلقاني بَعدَ عامي هذا! أي: أنَّك قد تَأتي ولا تَجِدُني، وهذا فيه إشارةٌ إلى أنَّ مُعاذًا رَضِيَ اللهُ عنه لَن يَجتَمِعَ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعدَ ذلك، وكَذلك وقَعَ؛ فإنَّه أقامَ باليَمَنِ حَتَّى كانت حَجَّةُ الوداعِ، ثُمَّ كانت وفاتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعدَ واحِدٍ وثَمانينَ يَومًا مِن يَومِ الحَجِّ. ولَعَلَّك أن تَمُرَّ بمَسجِدي وقَبري، أي: وإنَّما تَمُرُّ على مَسجِدي وعَلى قَبري، فبَكى مُعاذُ بنُ جَبَلٍ جَشَعًا لفِراقِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! والجَشَعُ: الجَزَعُ لفِراقِ الإلفِ. وإنَّما بَكى مُعاذٌ لغايةِ الحِرصِ على صُحبةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ التَفَت، أي: رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن مُعاذٍ فأقبَلَ بوَجهِه نَحوَ المَدينةِ، أي: توجَّه بوَجهِه ناحيةَ المَدينةِ، فقال: إنَّ أولى النَّاسِ بي، أي: بشَفاعَتي، أو أقرَبَ النَّاسِ إلى مَنزِلَتي: المُتَّقونَ -وذلك لأنَّ أكرَمَ النَّاسِ عِندَ اللهِ أتقاهم؛ فالعِبرةُ لَيسَت بالأنسابِ وإنَّما بالتَّقوى والعَمَلِ الصَّالحِ- مَن كانوا، أي: كائِنًا مَن كان، عَرَبيًّا أو عَجَميًّا أبيَضَ أو أسوَدَ شَريفًا أو وضيعًا، وحَيثُ كانوا، أي: سَواءٌ كانوا بمَكَّةَ أوِ المَدينةِ أوِ اليَمَنِ أو في أيِّ بَلَدٍ مِنَ البُلدانِ؛ فمَدارُ القُربِ على القُربِ بالأعمالِ لا على قُربِ الأجسادِ. وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّ فِراقَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمُعاذٍ لا يُؤَثِّرُ في الصِّلةِ والمَحَبَّةِ ما دامَتِ التَّقوى في الصَّدرِ، فالمُتَّقونَ أقرَبُ النَّاسِ إليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ففيه تَسليةٌ لمُعاذٍ رَضِيَ اللهُ عنه.
وفي الحَديثِ مَشروعيَّةُ بَعثِ الدُّعاةِ والعُلَماءِ للنَّاسِ لتَعليمِهم أمرَ دينِهم.
وفيه مَشروعيَّةُ وصيَّةِ الإمامِ لمَن يُرسِلُهم للبُلدانِ.
وفيه تَواضُعُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وفيه مَشروعيَّةُ تشييعِ الأصحابِ عِندَ التَّوديعِ.
وفيه عَلَمٌ مِن أعلامِ نُبُوَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وفيه فَضلُ مُعاذِ بنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنه.
وفيه مَحَبَّةُ مُعاذٍ رَضِيَ اللهُ عنه للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وفيه بَيانُ أنَّ أولى النَّاسِ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم همُ المُتَّقونَ.
وفيه الحَثُّ على التَّقوى .