موسوعة الآداب الشرعية

ثاني عشرَ: عَدَمُ كِتابةِ أو نَشرِ ما لا يَحِلُّ على مَواقِعِ التَّواصُلِ وغَيرِها


يَحرُمُ نَشرُ ما لا يَحِلُّ نَشرُه على مَواقِعِ التَّواصُلِ وغَيرِها -مِن صُوَرٍ مُحَرَّمةٍ، أو مَقاطِعِ فيديو مُخِلَّةٍ، أو بِدَعٍ وضَلالاتٍ وشُبُهاتٍ مَكتوبةٍ أو مَسموعةٍ أو مَرئيَّةٍ-؛ فإنَّ هذا يَجمَعُ إلى ذَنبِ النَّاشِرِ ذُنوبَ كُلِّ مَن يَرى المَنشورَ؛ فالدَّالُّ على الشَّرِّ كَفاعِلِه، ورُبَّما بَقيَتِ المَوادُّ المَنشورةُ بَعد موتِ صاحِبِها فتَستَمِرُّ ذُنوبُه!
وقد قال حَبيبٌ أبو مُحَمَّدٍ: (إنَّ مِن سَعادةِ المَرءِ إذا ماتَ ماتَت مَعَه ذُنوبُهـ) [5] ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (6/ 153) و (8/ 296). .
وقال الرَّافِعيُّ: (الآمِنُ في الدُّنيا مَن لَم تَكُنْ وراءَه جَريمةٌ لا تَزالُ تَجري وراءَه، والسَّعيدُ في الآخِرةِ مَن لَم تَكُنْ لَه جَريمةٌ تُطارِدُه وهو في السَّمَواتِ) [6] ((وحي القلم)) (2/ 127). .
وقال أبو طالِبٍ المَكِّيُّ: (رُبَّما سَنَّ العاصي بالذَّنبِ سُنَّةً أُتبِعَ عليها فتَبقى سَيِّئاتُ ذَنبِه عليه ما دامَ يُعمَلُ به، وقد قيلَ: طوبى لمَن إذا ماتَ ماتَت ذُنوبُه مَعَه، ولَم يُؤاخَذْ بها بَعدَه، وطوبى لمَن لَم يَعْدُ ذَنبُه غَيرَه.
وقال بَعضُهم: لا تُذنِبْ، فإن كان لا بُدَّ فلا تَحمِلْ غَيرَكَ على الذَّنبِ فتَكسِبَ ذَنَبَينِ.
وقد جَعَلَ اللهُ تعالى هذا المَعنى وصفًا مِن أوصافِ المُنافِقينَ في قَولِه تعالى: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ [التوبة: 67] ، فمَن حَمَلَ أخاه على ذَنبٍ مَعَه فقد أمَرَ بالمُنكَرِ ونَهى عنِ المَعروفِ.
وقال بَعضُ السَّلَفِ: ما انتَهَكَ المَرءُ مِن أخيه حُرمةً أعظَمَ مِن أن يُساعِدَه على مَعصيَتِه ثُمَّ يُهَوِّنَها عليه.
وقد يَعيشُ العَبدُ أربَعينَ سَنةً ثُمَّ يَموتُ فتَبقى ذُنوبُه بَعدَه مِائةَ سَنةٍ يُعاقَبُ عليها في قَبرِه، إذا كان قد سَنَّها سَنًّا واتُّبِعَ عليها، إلى أن تَندَرِسَ أو يَموتَ مَن كان يَعمَلُ بها، ثُمَّ تَسقُطَ عنه ويَستَريحَ مِنها) [7] ((قوت القلوب)) (1/ 309، 310). .
وقال أيضًا: (فطوبى لمَن إذا ماتَ ماتَت ذُنوبُه مَعَه، والوَيلُ الطَّويلُ لمَن يَموتُ وتَبقى ذُنوبُه بَعدَه مِائةَ سَنةٍ ومِائَتَي سَنةٍ يُعَذَّبُ بها في قَبرِه، ويُسأَلُ عنها إلى آخِرِ انقِراضِها؛ قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ [يس: 12] ، ما قدَّموا: ما عَمِلوا، وآثارَهم: ما سَنُّوه بَعدَهم فعُمِلَ به. وقال في وَصفِه: يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة: 13] ، قيلَ: بما قدَّمَ مِن عَمَلٍ، وما أخَّرَ مِن سُنَّةٍ عُمِلَ بها بَعدَهـ) [8] ((قوت القلوب)) (2/ 442). .
وقال ابنُ باديسَ في قَولِه تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس: 12] : (لمَّا أعلَمَ الخَلقَ بأنَّهم يَحيَونَ بَعدَ المَوتِ أعلَمَهم بأنَّ أعمالَهمُ المُباشِرةَ وغَيرَ المُباشِرةِ مَكتوبةٌ عليهم؛ لأنَّ حَياتَهم بَعدَ المَوتِ لنَيلِ جَزاءِ ما كُتِبَ عليهم مِن أعمالِهم.
المَعنى: يُعلِمُ اللَّهُ تعالى عِبادَه بأنَّه يَكتُبُ كُلَّ أعمالِهمُ التي يَعمَلونَها ويُباشِرونَها بأنفُسِهم، ويَكتُبُ كذلك ما يَعمَلُه غَيرُهم، إذا كان مُتَسَبَّبًا عن أعمالِهم وأثَرًا لَها.
ومِثلُ هذه الآيةِ -في الدَّلالةِ على أنَّ العَبدَ مُؤاخَذٌ بما عَمِلَ مُباشَرةً، وما عَمِلَه غَيرُه، وكان مِن آثارِ عَمَلِه- قَولُه تعالى: يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة: 13] ، فالذي أخَّرَه هو أثَرُه المَذكورُ في هذه الآيةِ.
وفي (صحيحِ مسلمٍ) مِن طَريقِ جَريرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: «جاءَ ناسٌ مِنَ الأعرابِ إلى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّمَ، عليهمُ الصُّوفُ، فرَأى سوءَ حالِهم قد أصابَتهم حاجةٌ، فحَثَّ النَّاسَ على الصَّدَقةِ فأبطؤوا عنه؛ حتَّى رُئيَ ذلك في وَجهِه. قال: ثُمَّ إنَّ رَجُلًا مِنَ الأنصارِ جاءَ بصُرَّةٍ مِن وَرِقٍ، ثُمَّ جاءَ آخَرُ، ثُمَّ تَتابَعوا حتَّى عُرِف السُّرورُ في وَجهِه، فقال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّمَ: مَن سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حَسَنةً فعُمِل بها بَعدَه كُتِبَ لَه مِثلُ أجرِ مَن عَمِلَ بها، ولا يَنقُصُ مِن أُجورِهم شَيءٌ. ومَن سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً سَيِّئةً فعُمِل بها بَعدَه، كُتِبَ عليه مِثلُ وِزرِ مَن عَمِلَ بها ولا يَنقُصُ مِن أوزارِهم شَيءٌ» [9] أخرجه مسلم (1017). .
وفيه مِن طَريقِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّمَ قال: «مَن دَعا إلى هُدًى كان لَه مِنَ الأجرِ مِثلُ أُجورِ مَن تَبِعَه لا يَنقُصُ ذلك مِن أُجورِهم شَيئًا، ومَن دَعا إلى ضَلالةٍ كان عليه مِنَ الإثمِ مِثلُ آثامِ مَن تَبِعَه لا يَنقُصُ ذلك مِن آثامِهم شَيئًا» [10] أخرجه مسلم (2674). .
فتَأيَّدَ بهَذَينِ الحَديثَينِ فهمُ المَعنى المُتَقدِّمِ مِنَ الآيةِ، وهو أنَّ العَبدَ لَه وعليه مِن آثارِ أعمالِه مِمَّا لم يُباشِرْه بنَفسِه مِثلُ ما لَه وما عليه مِن أعمالِه التي يُباشِرُها.
وبَيَّنَ الحَديثُ الأوَّلُ: أنَّ ما تَسَبَّبَ عن عَمَلِ المَرءِ يُعَدُّ أثَرًا لعَمَلِه عِندَما يُعمَلُ به في حَياتِه مِثلَما يُعمَلُ به بَعدَ مَماتِه؛ إذِ الذي جاءَ بالصُّرَّةِ أوَّلًا قد تَسَبَّبَ في مَجيئِه مَجيءُ مَن بَعدَه على إثرِه، والحَديثُ سيقَ في شَأنِهم؛ فتَكونُ حالَتُهم أوَّلَ ما يَشمَلُ.
كَما بَيَّنَ الحَديثُ الثَّاني: أنَّ أثَرَ القَولِ كَأثَرِ الفِعلِ؛ إذِ الكُلُّ عَمَلٌ.
وبَيَّن الحَديثانِ: أنَّ نَيلَ المَرءِ جَزاءَ عَمَلِه الذي لم يُباشِرْه لا يَنقُصُ مِن جَزاءِ العامِلِ المُباشِرِ شَيئًا...
فعلى العاقِلِ -وقد عَلِمَ أنَّه مُحاسَبٌ على أفعالِه وعلى آثارِ أقوالِه- ألَّا يَفعَلَ فِعلًا ولا يَقولَ قَولًا حتَّى يَنظُرَ في عَواقِبِه؛ فقد تَكونُ تلك العَواقِبُ أضَرَّ عليه مِن أصلِ القَولِ وأصلِ الفِعلِ؛ فقد يَقولُ القَولَ مَرَّةً، ويَفعَلُ الفِعلَ مَرَّةً، ثُمَّ يَقتَدي به فيه آلافٌ عَديدةٌ في أزمِنةٍ مُتَطاوِلةٍ.
حَقًّا إنَّ هذا لشَيءٌ تَنخَلِعُ مِنه القُلوبُ، وتَرتَعِدُ مِنه الفرائِصُ، وصَدَق القائِلُ مِنَ السَّلَفِ رَضِيَ اللهُ عنهم: السَّعيدُ مَن إذا ماتَ ماتَت مَعَه سَيِّئاتُهـ) [11] يُنظر: ((مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير)) (ص: 306-308). .
و(العاقِلُ إنَّما يَكتُبُ بقَلَمِه ما يَنفعُ ولا يَضُرُّ، فهو لا يُسَجِّلُ لَغوَ الحَديثِ، ولا العَمَلَ الخَسيسَ، ولا يَكتَسِبُ به المَآثِمَ، ولا يَستَحِلُّ به المَحارِمَ، ولا يُسَجِّلُ به ما يوقِعُ في المَعاصي، ويُحَرِّضُ على المَلاهي، ويُرَغِّبُ في الشَّقاءِ، ويَجلِبُ الفِتنةَ، ويَتَسَبَّبُ في الأذى، ويَدعو إلى ظُلمِ العِبادِ، فما أحسَنَ القَلَمَ الذي يُقتَصَرُ في كِتابَتِه على الكَلامِ الجَميلِ، وما يَدعو إلى طاعةِ المَلِكِ الجَليلِ!
ولِلَّهِ دَرُّ القائِلِ:
وما مِن كاتِبٍ إلَّا سيَفنى
ويُبقي الدَّهرُ ما كَتَبَت يَداهُ
فلا تَكتُبْ بكَفِّكَ غَيرَ شَيءٍ
يَسُرُّكَ في القيامةِ أن تَراهُ) [12] ((صيد الأفكار)) للمهدي (1/ 112). ويُنظر: ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (2/ 78). .

انظر أيضا: