موسوعة الآداب الشرعية

فوائِدُ ومَسائِلُ مُتَفرِّقةٌ:


1- الزَّوجةُ والخازِنُ والمَملوكُ شُرَكاءُ لصاحِبِ المالِ في أجرِ ما أذِنَ لهم بإنفاقِه
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا أنفقَتِ المَرأةُ مِن طَعامِ بَيتِها غَيرَ مُفسِدةٍ، كان لها أجرُها بما أنفَقَت، ولزَوجِها أجرُه بما كَسَبَ، وللخازِنِ مِثلُ ذلك، لا يَنقُصُ بَعضُهم أجرَ بَعضٍ شَيئًا)). [120] أخرجه البخاري (1425)، ومسلم (1024).
وفي رِوايةٍ: ((إذا أنفقَتِ المَرأةُ مِن بَيتِ زَوجِها غَيرَ مُفسِدةٍ، كان لها أجرُها، وله مِثلُه بما اكتَسَبَ، ولها بما أنفَقَت، وللخازِنِ مِثلُ ذلك، مِن غَيرِ أن يَنتَقِصَ مِن أُجورِهم شَيئًا)). [121] أخرجها مسلم (1024).
وعن أبي موسى رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((الخازِنُ المُسلِمُ الأمينُ، الذي يُنفِذُ -ورُبَّما قال: يُعطي- ما أُمِرَ به كامِلًا موفَّرًا طَيِّبًا به نَفسُه، فيَدفعُه إلى الذي أُمِرَ له به: أحَدُ المُتَصَدِّقينَ)). [122] أخرجه البخاري (1438) واللفظ له، ومسلم (1023).
وعن عُمَيرٍ مَولى آبي اللَّحمِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كُنتُ مَملوكًا، فسَألتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أأتَصَدَّقُ من مالِ مَواليَّ بشَيءٍ؟ قال: نَعَم، والأجرُ بَينَكُما نِصفانِ)). [123] أخرجه مسلم (1025).
وفي رِوايةٍ: ((أمَرَني مَولايَ أن أُقدِّدَ لحمًا [124] أُقدِّدُ لحمًا -بتَشديدِ الدَّالِ- مِنَ القَدِّ، وهو الشَّقُّ طولًا. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (4/ 1358). ، فجاءَني مِسكينٌ، فأطعَمتُه مِنه، فعَلِمَ بذلك مَولايَ فضَرَبَني، فأتَيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فذَكَرتُ ذلك له، فدَعاه فقال: لمَ ضَرَبتَه؟ فقال: يُعطي طَعامي بغَيرِ أن آمُرَه، فقال: الأجرُ بَينَكُما)). [125] أخرجها مسلم (1025).
وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَصُمِ المَرأةُ وبَعلُها شاهِدٌ إلَّا بإذنِه، ولا تَأذَنْ في بَيتِه وهو شاهدٌ إلَّا بإذنِه، وما أنفَقَت مِن كَسبِه مِن غَيرِ أمرِه، فإنَّ نِصفَ أجرِه لهـ)). [126] أخرجه البخاري (5195)، ومسلم (1026) واللفظ له.
قال النَّوويُّ: (مَعنى هذه الأحاديثِ أنَّ المُشارِكَ في الطَّاعةِ مُشارِكٌ في الأجرِ، ومَعنى المُشارَكةِ أنَّ له أجرًا كَما لصاحِبِه أجرٌ، وليسَ مَعناه أن يُزاحِمَه في أجرِه، والمُرادُ المُشارَكةُ في أصلِ الثَّوابِ، فيَكونُ لهذا ثَوابٌ ولهذا ثَوابٌ وإن كان أحَدُهما أكثَرَ، ولا يَلزَمُ أن يَكونَ مِقدارُ ثَوابِهما سَواءً، بَل قد يَكونُ ثَوابُ هذا أكثَرَ، وقد يَكونُ عَكسُه، فإذا أعطى المالكُ لخازِنِه أوِ امرَأتِه أو غَيرِهما مِائةَ دِرهَمٍ أو نَحوَها ليوصِلَها إلى مُستَحِقِّ الصَّدَقةِ على بابِ دارِه أو نَحوِه فأجرُ المالكِ أكثَرُ، وإن أعطاه رُمَّانةً أو رَغيفًا ونَحوَهما مِمَّا ليسَ له كَثيرُ قيمةٍ ليَذهَبَ به إلى مُحتاجٍ في مَسافةٍ بَعيدةٍ، بحَيثُ يُقابَلُ مَشيُ الذَّاهِبِ إليه بأُجرةٍ تَزيدُ على الرُّمَّانةِ والرَّغيفِ، فأجرُ الوكيلِ أكثَرُ، وقد يَكونُ عَمَلُه قَدرَ الرَّغيفِ مَثَلًا، فيَكونُ مِقدارُ الأجرِ سَواءً.
وأمَّا قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «الأجرُ بَينَكُما نِصفانِ» فمَعناه قِسمانِ، وإن كان أحَدُهما أكثَرَ.
وأشارَ القاضي إلى أنَّه يَحتَمِلُ أيضًا أن يَكونَ سَواءً؛ لأنَّ الأجرَ فَضلٌ مِنَ اللهِ تعالى يُؤتيه مَن يَشاءُ، ولا يُدرَكُ بقياسٍ، ولا هو بحَسَبِ الأعمالِ، بَل ذلك فَضلُ اللَّهِ يُؤتيه مَن يَشاءُ [127] ينظر: ((إكمال المعلم)) للقاضي عياض (3/ 551). ، والمُختارُ الأوَّلُ.
وقَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «الأجرُ بَينَكُما» ليسَ مَعناه أنَّ الأجرَ الذي لأحَدِهما يَزدَحِمانِ فيه، بَل مَعناه أنَّ هذه النَّفقةَ والصَّدَقةَ التي أخرجها الخازِنُ أوِ المَرأةُ أوِ المَملوكُ ونَحوُهم بإذنِ المالكِ يَتَرَتَّبُ على جُملتِها ثَوابٌ على قَدرِ المالِ والعَمَلِ، فيَكونُ ذلك مَقسومًا بَينَهما: لهذا نُصيبٌ بمالِه، ولهذا نَصيبٌ بعَمَلِه، فلا يُزاحِمُ صاحِبُ المالِ العامِلَ في نَصيبِ عَمَلِه، ولا يُزاحِمُ العامِلُ صاحِبَ المالِ في نَصيبِ مالِه.
واعلَمْ أنَّه لا بُدَّ للعامِلِ -وهو الخازِنُ- وللزَّوجةِ والمَملوكِ مِن إذنِ المالِكِ في ذلك، فإن لم يَكُنْ إذنٌ أصلًا فلا أجرَ لأحَدٍ مِن هَؤُلاءِ الثَّلاثةِ، بَل عليهم وِزرٌ بتَصَرُّفِهم في مالِ غَيرِهم بغَيرِ إذنِه.
والإذنُ ضَربانِ: أحَدُهما: الإذنُ الصَّريحُ في النَّفقةِ والصَّدَقةِ، والثَّاني: الإذنُ المَفهومُ مِنِ اطِّرادِ العُرفِ والعادةِ، كَإعطاءِ السَّائِلِ كِسرةً ونَحوَها مِمَّا جَرَتِ العادةُ به واطَّرَدَ العُرفُ فيه، وعُلِمَ بالعُرفِ رِضاءُ الزَّوجِ والمالِكِ به، فإذنُه في ذلك حاصِلٌ وإن لم يَتَكَلَّمْ، وهذا إذا علِمَ رِضاه لاطِّرادِ العُرفِ، وعلِم أنَّ نَفسَه كَنُفوسِ غالِبِ النَّاسِ في السَّماحةِ بذلك والرِّضا به، فإنِ اضطَرَبَ العُرفُ وشَكَّ في رِضاه أو كان شَخصًا يَشُحُّ بذلك، وعلِم مِن حالِه ذلك أو شَكَّ فيه لم يَجُزْ للمَرأةِ وغَيرِها التَّصَدُّقُ مِن مالِه إلَّا بصَريحِ إذنِه.
وأمَّا قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((وما أنفَقَت مِن كَسبِه مِن غَيرِ أمرِه فإنَّ نِصفَ أجرِه لهـ)) فمَعناه: مِن غَيرِ أمرِه الصَّريحِ في ذلك القَدرِ المُعَيَّنِ، ويَكونُ مَعَها إذنٌ عامٌّ سابقٌ مُتَناوِلٌ لهذا القَدرِ وغَيرِه، وذلك الإذنُ الذي قد بَيَّنَّاه سابقًا إمَّا بالصَّريحِ وإمَّا بالعُرفِ، ولا بُدَّ مِن هذا التَّأويلِ؛ لأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جَعَل الأجرَ مُناصَفةً. وفي رِوايةِ أبي داودَ: «فلها نِصفُ أجرِه» [128] أخرجها أبو داود (1687) من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحها الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (1687)، وصَحَّحَ إسنادَها شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (1687) ، ومَعلومٌ أنَّها إذا أنفَقَت مِن غَيرِ إذنٍ صَريحٍ ولا مَعروفٍ مِنَ العُرفِ، فلا أجرَ لها، بَل عليها وِزرٌ، فتَعيَّنَ تَأويلُه.
واعلَمْ أنَّ هذا كُلَّه مَفروضٌ في قَدرٍ يَسيرٍ يُعلَمُ رِضا المالِكِ به في العادةِ، فإن زاد على المُتَعارَفِ لم يَجُزْ، وهذا مَعنى قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا أنفَقَتِ المَرأةُ مِن طَعامِ بَيتِها غَيرَ مُفسِدةٍ))، فأشارَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى أنَّه قَدرٌ يُعلَمُ رِضا الزَّوجِ به في العادةِ، ونَبَّهَ بالطَّعامِ أيضًا على ذلك؛ لأنَّه يُسمَحُ به في العادةِ، بخِلافِ الدَّراهِمِ والدَّنانيرِ في حَقِّ أكثَرِ النَّاسِ، وفي كَثيرٍ مِنَ الأحوالِ.
واعلَمْ أنَّ المُرادَ بنَفقةِ المَرأةِ والعَبدِ والخازِنِ النَّفقةُ على عِيالِ صاحِبِ المالِ وغِلمانِه ومَصالحِه وقاصِديه مِن ضَيفٍ وابنِ سَبيلٍ ونَحوِهما، وكذلك صَدَقَتُهمُ المَأذونُ فيها بالصَّريحِ أوِ العُرفِ. واللَّهُ أعلمُ.
وقَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الخازِنُ المُسلِمُ الأمينُ...)) إلى آخِرِه: هذه الأوصافُ شُروطٌ لحُصولِ هذا الثَّوابِ، فيَنبَغي أن يُعتَنى بها، ويُحافَظَ عليها.
وقَولُ عُمَيرٍ: «كُنتُ مَملوكًا فسَألتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أأتَصَدَّقُ من مالِ مَواليَّ بشَيءٍ؟ قال: نَعَم، الأجرُ بَينَكُما نِصفانِ» هذا مَحمولٌ على ما سَبَقَ أنَّه استَأذَنَ في الصَّدَقةِ بقَدرٍ يُعلمُ رِضا سَيِّدِه به.
وقَولُه: «أمَرَني مَولايَ أن أُقدِّدَ لحمًا، فجاءَني مِسكينٌ، فأطعَمتُه مِنه، فعَلِمَ بذلك مَولايَ فضَرَبَني، فأتَيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فذَكَرتُ ذلك له، فدَعاه فقال: لمَ ضَرَبتَه؟ فقال: يُعطي طَعامي بغَيرِ أن آمُرَه، فقال: الأجرُ بَينَكُما» هذا مَحمولٌ على أنَّ عُمَيرًا تصَدَّق بشَيءٍ يَظُنُّ أنَّ مَولاه يَرضى به، ولم يَرضَ به مَولاه، فلعُمَيرٍ أجرٌ لأنَّه فعَل شَيئًا يَعتَقِدُ طاعةً بنيَّةِ الطَّاعةِ، ولمَولاه أجرٌ لأنَّ مالَه تَلِفَ عليه.
ومَعنى «الأجرُ بَينَكُما» أي: لكُلٍّ مِنكُما أجرٌ، وليسَ المُرادُ أنَّ أجرَ نَفسِ المالِ يَتَقاسَمانِه، وقد سَبَقَ بَيانُ هذا قَريبًا، فهذا الذي ذَكَرتُه مِن تَأويلِه هو المُعتَمَدُ) [129] ((شرح مسلم)) (7/ 111-114). .
وعن عَطاءٍ، عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، في المَرأةِ تَصَدَّقُ من بَيتِ زَوجِها؟ قال: (لا، إلَّا مِن قُوتِها، والأجرُ بَينَهما، ولا يَحِلُّ لها أن تَصَدَّقَ من مالِ زَوجِها إلَّا بإذنِهـ) [130] أخرجه أبو داود (1688)، والبيهقي (7929) واللَّفظُ لهما، وعبد الرزاق (16618). صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (1688)، وصَحَّحَ إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (1688)، وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (6/121): إسنادُه لا بَأسَ به. .                
قال البَغَويُّ: (العَمَلُ على هذا عِندَ عامَّةِ أهلِ العِلمِ أنَّ المَرأةَ ليسَ لها أن تَتَصَدَّقَ بشَيءٍ مِن مالِ الزَّوجِ دونَ إذنِه، وكذلك الخادِمُ، ويَأثَمانِ إن فَعَلا ذلك، وحَديثُ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها [131] يَعني حَديثَ: ((إذا أنفقَتِ المَرأةُ مِن بَيتِ زَوجِها غَيرَ مُفسِدةٍ، كان لها أجرُها، وله مِثلُه بما اكتَسَبَ، ولها بما أنفَقَت، وللخازِنِ مِثلُ ذلك)). أخرجه البخاري (1425)، ومسلم (1024) واللَّفظُ له. قال ابنُ العَرَبيِّ: (يَحتَمِلُ عِندي أن يَكونَ مَحمولًا على العادةِ، وأنَّها إذا عَلِمَت مِنه أنَّه لا يَكرَه العَطاءَ والصَّدَقةَ فعَلَت مِن ذلك ما لم يُجحِفْ، وعلى ذلك عادةُ النَّاسِ... وهذا مَعنى: «غَيرَ مُفسِدةٍ»). ((عارضة الأحوذي)) (3/177، 178). خارِجٌ على عادةِ أهلِ الحِجازِ، أنَّهم يُطلِقونَ الأمرَ للأهلِ والخادِمِ في الإنفاقِ والتَّصَدُّقِ مِمَّا يَكونُ في البَيتِ إذا حَضَرَهمُ السَّائِلُ، أو نَزَل بهمُ الضَّيفُ، فحَضَّهم على لُزومِ تلك العادةِ، كَما قال لأسماءَ: «لا توعي فيُوعَى عليك» [132] أخرجه البخاري (2590) واللفظ له، ومسلم (1029). ، وعلى هذا يُخَرَّجُ ما رُويَ عن عُمَيرٍ مَولى آبي اللَّحمِ، قال: «كُنتُ مَملوكًا، فسَألتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أتَصَدَّقُ مِن مالِ مَواليَّ بشَيءٍ؟ قال: نَعَم، والأجرُ بَينَكُما نِصفانِ»...
وفي الجُملةِ، ليسَ لأحَدِهما أن يَتَناوَلَ مِن مالِ الآخَرِ ما يَقَعُ به الضِّنَّةُ دونَ إذنِهـ) [133] ((شرح السنة)) (6/ 205، 206). .
2- جَمعُ المالِ بنيَّةِ إعفافِ النَّفسِ والأهلِ والإنفاقِ في الخَيراتِ
قال ابنُ الجَوزيِّ: (فأمَّا كَسبُ المالِ فإنَّ مَنِ اقتَصَرَ على كَسبِ البُلغةِ [134] البُلغةُ: ما يُتَبَلَّغُ به مِنَ العَيشِ. وتَبَلَّغَ بكَذا، أي: اكتَفى به. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (4/ 1317). مِن حِلِّها، فذلك أمرٌ لا بُدَّ مِنه، وأمَّا مَن قَصَدَ جَمعَه والاستِكثارَ مِنه مِنَ الحَلالِ نَظَرنا في مَقصودِه؛ فإن قَصَدَ نَفسَ المُفاخَرةِ والمُباهاةِ فبئسَ المَقصودُ، وإن قَصَدَ إعفافَ نَفسِه وعائِلتِه وادَّخَرَ لحَوادِثِ زَمانِه وزَمانِهم، وقَصَدَ التَّوسِعةَ على الإخوانِ، وإغناءَ الفُقَراءِ، وفِعلَ المَصالحِ؛ أُثيبَ على قَصدِه، وكان جَمعُه بهذه النِّيَّةِ أفضَلَ مِن كَثيرٍ مِنَ الطَّاعاتِ، وقد كان نيَّاتُ خَلقٍ كَثيرٍ مِنَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم أجمَعينَ في جَمعِ المالِ سَليمةً لحُسنِ مَقاصِدِهم لجَمعِه، فحَرَصوا عليه وسَألوا زيادَتَهـ) [135] ((تلبيس إبليس)) (ص: 160). .
3- فَضلُ الإنفاقِ على الأهلِ والأولادِ
عنِ المِقدامِ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه سَمِعَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((ما أطعَمتَ نَفسَك فهو صَدَقةٌ، وما أطعَمتَ ولدَك وزَوجَتَك وخادِمَك فهو صَدَقةٌ)) [136] أخرجه أحمد (17179)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (9141)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (195) واللفظ له. صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح الأدب المفرد)) (143)، وحَسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (17179)، وصَحَّحَ إسنادَه ابن كثير في ((التفسير)) (2/ 264)، وجَوَّدَه المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 106). .
وعن سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال له: ((... إنَّك أن تَذَرَ ورَثَتَك أغنياءَ خَيرٌ مِن أن تَذَرَهم عالةً [137] عالةً: أي: فُقَراءَ، جَمعُ عائِلٍ، وهو الفقيرُ. يُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (1/ 686). يَتَكَفَّفونَ [138] يَتَكَفَّفونَ، أي: يَتَعَرَّضونَ للمَسألةِ بأكُفِّهم. يُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (1/ 686). النَّاسَ، وإنَّك لن تُنفِقَ نَفقةً تَبتَغي بها وَجهَ اللهِ إلَّا أُجِرتَ بها، حتَّى ما تَجعَلُ في في [139] أي: في فَمِ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 169). امرَأتِك)). [140] أخرجه البخاري (1295) واللَّفظُ له، ومسلم (1628).
وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((دينارٌ أنفَقتَه في سَبيلِ اللهِ، ودينارٌ أنَفَقتَه في رَقَبةٍ، ودينارٌ تَصَدَّقتَ به على مِسكينٍ، ودينارٌ أنفَقتَه على أهلِك، أعظَمُها أجرًا الذي أنفَقتَه على أهلِك)). [141] أخرجه مسلم (995).
عن أبي قِلابةَ، عن أبي أسماءَ، عن ثَوبانَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أفضَلُ دينارٍ يُنفِقُه الرَّجُلُ دينارٌ يُنفِقُه على عِيالِه، ودينارٌ يُنفِقُه الرَّجُلُ على دابَّتِه في سَبيلِ اللهِ، ودينارٌ يُنفِقُه على أصحابِه في سَبيلِ اللهِ))، قال أبو قِلابةَ: وبَدَأ بالعيالِ، ثُمَّ قال أبو قِلابةَ: وأيُّ رَجُلٍ أعظَمُ أجرًا مِن رَجُلٍ يُنفِقُ على عِيالٍ صِغارٍ يُعفُّهم أو يَنفَعُهمُ اللَّهُ به، ويُغنيهم؟! [142] أخرجه مسلم (994).
قال ابنُ تَيميَّةَ: (مَن أحَبَّ أن يَلحَقَ بدَرَجةِ الأبرارِ، ويَتَشَبَّهَ بالأخيارِ، فليَنوِ في كُلِّ يَومٍ تَطلُعُ فيه الشَّمسُ نَفعَ الخَلقِ فيما يَسَّر اللَّهُ مِن مَصالحِهم على يَدَيه، وليُطِعِ اللَّهَ في أخذِ ما حَلَّ، وتَركِ ما حَرُمَ، وليَتَورَّعْ عنِ الشُّبُهاتِ ما استَطاعَ، فإنَّ طَلَبَ الحَلالِ والنَّفقةَ على العِيالِ بابٌ عَظيمٌ لا يَعدِلُه شَيءٌ مِن أعمالِ البرِّ...
وقال ابنُ المُبارَكِ لأصحابِه وهو في الغَزوِ: هَل تَعلَمونَ عَمَلًا أفضَلَ مِن هذا؟ قالوا: لا نَعلمُه، قال: بَلى أنا أعلَمُه، رَجُلٌ مُتَعَفِّفٌ مُحتَرِفٌ أبو عِيالٍ، قامَ مِنَ اللَّيلِ، فوجَدَ صِبيانَه مُكَشَّفينَ فغَطَّاهم، وثارَ إلى صَلاتِهـ) [143] ((الإيمان الأوسط)) (ص: 609، 610). .
4- فائِدةٌ في عَدَمِ انتِظارِ المَحمَدةِ مِنَ المُنفَقِ عليهم
يَنبَغي تَركُ انتِظارِ المَحمَدةِ مِنَ المُنفَقِ عليهم؛ ليَبقى الأجرُ مَوفورًا كامِلًا، ثُمَّ إنَّ هذا مِن أسبابِ دَفعِ الهَمِّ والغَمِّ إذا قوبِلَ المَرءُ بالجُحودِ والنُّكرانِ.
قال السَّعديُّ: (مِن أنفَعِ الأمورِ لطَردِ الهَمِّ: أن توطِّنَ نفسَك على ألَّا تَطلُبَ الشُّكرَ إلَّا من اللهِ، فإذا أحسَنْتَ إلى مَن له حَقٌّ عليك أو مَن ليس له حقٌّ، فاعلَمْ أنَّ هذا معامَلةٌ منك مع اللهِ؛ فلا تُبالِ بشُكرِ من أنعَمْتَ عليه، كما قال تعالى في حَقِّ خواصِّ خَلْقِه: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا [الإنسان: 9] .
ويتأكَّدُ هذا في معاملةِ الأهلِ والأولادِ، ومَن قَوِيَ اتِّصالُك بهم، فمتى وطَّنْتَ نفسَك على إلقاءِ الشُّكرِ عنهم فقد أرَحْتَ واسترَحْتَ) [144] ((الوسائل المفيدة للحياة السعيدة)) (ص: 31). .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (... والمحسِنُ إليهم وإلى غيرِهم عليه أن يبتغيَ بذلك وَجهَ اللهِ، ولا يَطلُبَ من مخلوقٍ لا في الدُّنيا ولا في الآخرةِ، كما قال تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل: 17 - 21] ، وقال: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا [الإنسان: 8 - 9] .
ومَن طَلَب من الفُقَراءِ الدُّعاءَ أو الثَّناءَ خرَج من هذه الآيةِ؛ فإنَّ في الحديثِ الذي في سُنَنِ أبي داودَ: ((من صَنَع إليكم معروفًا فكافِئوه، فإنْ لم تجِدوا ما تُكافِئونه فادْعوا له حتَّى تَرَوا أنَّكم قد كافأتموهـ)) [145] أخرجه أبو داود (1672) واللفظ له، والنسائي (2567)، وأحمد (5365) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما. صحَّحه النوويُّ في ((المجموع)) (6/245)، وابن حجر كما في ((الفتوحات الربانية)) لابن علان (5/250)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (1672)، والوادعي على شرط الشيخين في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (744). ؛ ولهذا كانت عائشةُ إذا أرسَلَت إلى قومٍ بهَديَّةٍ تقولُ للرَّسولِ: «اسمَعْ ما دَعَوا به لنا حتَّى ندعوَ لهم بمِثلِ ما دعَوا، ويبقى أجرُنا على اللهِ» [146] لم أقِفْ عليه بتمامِ لَفظِه فيما لدينا من كتُبٍ مُسنَدةٍ. ورُوِيَ بلفظِ: عن عُبَيدِ بنِ أبي الجَعدِ، عن عائشةَ، قالت: ((أُهدِيَت لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شاةٌ، فقال: اقسِميها، قال: وكانت عائشةُ إذا رجَعَت الخادمُ قالت: ما قالوا لكِ؟ تقولُ ما يقولون، يقول: بارَك اللهُ فيكم، فتقولُ عائشةُ: وفيهم بارك اللهُ، تَرُدُّ عليهم مِثلَ ما قالوا، ويبقى أجرُنا لنا)). أخرجه النسائيُّ في ((السنن الكبرى)) (10062). جوَّد إسنادَه الألبانيُّ في تخريج ((الكلم الطيب)) (239). .
وقال بعضُ السَّلَفِ: «إذا أعطَيتَ المِسكينَ فقال: بارَك اللهُ عليك، فقُلْ: بارَكَ اللهُ عليك». أراد: أنَّه إذا أثابك بالدُّعاءِ فادْعُ له بمِثلِ ذلك الدُّعاءِ؛ حتى لا تكونَ اعتَضْتَ منه شيئًا) [147] ((مجموع الفتاوى)) (11/ 111، 112). .
وقال أبو الوَليدِ الباجيُّ يوصي ولَدَيه: (ومَن أسدى منكما إلى أخيه معروفًا أو مُكارَمةً أو مُواصَلةً، فلا ينتَظِرْ مُقارَضةً [148] قارَضَه مُقارَضةً: جازاه خيرًا أو شرًّا، ويقالُ: قارَضْتُه الزِّيارةَ، أي: زُرْتُه ليزورَني. يُنظَر: ((المعجم الوسيط)) (2/ 727). عليها، ولا يَذكُرْ ما أتى منها؛ فإنَّ ذلك ممَّا يوجِبُ الضَّغائنَ، ويُسَبِّبُ التَّباغُضَ، ويُقَبِّحُ المعروفَ، ويحَقِّرُ الكبيرَ، ويدُلُّ على المَقتِ والضَّعةِ ودَناءةِ الهِمَّةِ) [149] ((النصيحة الولدية)) (ص: 26). .
وقال لهما أيضًا: (وإيَّاكما أن تحَدِّثا أنفُسَكما أن تنتَظِرا مقارَضةً ممَّن أحسَنْتُما إليه وأنعَمْتُما عليه؛ فإنَّ انتِظارَ المقارَضةِ تمسَحُ الصَّنيعةَ، وتُعيدُ الأفعالَ الرَّفيعةَ وَضيعةً، وتَقلِبُ الشُّكرَ ذَمًّا، والحَمدَ مَقتًا) [150] ((النصيحة الولدية)) (ص: 29). .
5- عَدَمُ تَركِ الإنفاقِ والمعروفِ لجُحودِ جاحِدٍ
يُروى عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه: (لا يُزَهِّدَنَّك في المعروفِ مَن لا يَشكُرُك عليه؛ فقد شَكَرك عليه من لم يَستمتِعْ منك بشيءٍ، وقد يُدرَكُ مِن شُكرِ الشَّاكِرِ أكثَرُ ممَّا أضاع منه الكافِرُ) [151] ((الفاضل)) للمبرد (ص: 94، 95). .
وقال أبو فِراسٍ الحَمدانيُّ:
وما نِعمةٌ مكفورةٌ قد صنَعْتُها
إلى غيرِ ذي شُكرٍ بمانِعَتي أُخرى
سآتي جميلًا ما حَيِيتُ فإنَّني
إذا لم أُفِدْ شُكرًا أَفَدْتُ به أجرَا [152] ((ديوان أبي فراس الحمداني)) (ص: 121). .
6- قال البُخاريُّ: (لا صَدَقةَ إلَّا عن ظَهرِ غِنًى. ومَن تَصَدَّقُ وهو مُحتاجٌ، أو أهلُه مُحتاجٌ، أو عليه دَينٌ، فالدَّينُ أحَقُّ أن يُقضى مِنَ الصَّدَقةِ والعِتقِ والهِبةِ، وهو رَدٌّ عليه، ليسَ له أن يُتلِفَ أموالَ النَّاسِ، وقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن أخَذَ أموالَ النَّاسِ يُريدُ إتلافَها أتلَفَه اللَّهُ)) [153] أخرجه البخاري (2387) باختلافٍ يسيرٍ، ولفظُه: عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((مَن أخَذَ أموالَ النَّاسِ يُريدُ أداءَها أدَّى اللهُ عنه، ومَن أخَذَ يُريدُ إتلافَها أتلَفَه اللهُ)). ، إلَّا أن يَكونَ مَعروفًا بالصَّبرِ، فيُؤثِرَ على نَفسِه ولو كان به خَصاصةٌ، كفِعلِ أبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه حينَ تَصَدَّق بمالِه [154] لفظُه: عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ يَقولُ: ((أمَرَنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومًا أن نَتَصَدَّقَ، فوافقَ ذلك مالًا عِندي، فقُلتُ: اليَومَ أسبقُ أبا بَكرٍ إن سَبَقتُه يَومًا، فجِئتُ بنِصفِ مالي، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما أبقَيتَ لأهلِك؟ قُلتُ: مِثلَه، قال: وأتى أبو بَكرٍ بكُلِّ ما عِندَه، فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما أبقَيتَ لأهلِك؟ قال: أبقَيتُ لهمُ اللَّهَ ورَسولَه، فقُلتُ: لا أُسابِقُك إلى شَيءٍ أبَدًا)). أخرجه أبو داود (1678) واللَّفظُ له، والترمذي (3675). حَسَّنه الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (1678)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (988)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (1678). وذَهَب إلى تَصحيحِه الحاكِمُ في ((المستدرك)) (1530) وقال: على شَرطِ مُسلمٍ، والنووي في ((المَجموع)) (6/236)، وقال الترمذيُّ: حَسَنٌ صحيحٌ. ، وكذلك آثَرَ الأنصارُ المُهاجِرينَ، ونَهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن إضاعةِ المالِ [155] لفظُه: عن ورادٍ، قال: كَتَبَ المُغيرةُ إلى مُعاويةَ: سَلامٌ عليك. أمَّا بَعدُ، فإنِّي سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ ثَلاثًا، ونَهى عن ثَلاثٍ: حَرَّمَ عُقوقَ الوالدِ، ووأدَ البَناتِ، ولا وهاتِ، ونَهى عن ثَلاثٍ: قيل وقال، وكَثرةِ السُّؤالِ، وإضاعةِ المالِ)).  أخرجه البخاري (6473)، ومسلم (593) واللَّفظُ له. ، فليسَ له أن يُضيعَ أموالَ النَّاسِ بعِلَّةِ الصَّدَقةِ. وقال كَعبُ بنُ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ مِن تَوبَتي أن أنخَلعَ مِن مالي صَدَقةً إلى اللهِ وإلى رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: أمسِكْ عليك بَعضَ مالِك فهو خَيرٌ لك، قُلتُ: فإنِّي أُمسِكُ سَهمي الذي بخَيبَرَ)) [156] أخرجه البخاري (2757) واللَّفظُ له، ومسلم (2769). [157] ((صحيح البخاري)) (2/ 112). .
7- قال الخَطَّابيُّ في قَولِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لكُم ثَلاثًا: قيل وقال، وإضاعةَ المالِ، وكَثرةَ السُّؤالِ)): (وأمَّا قَولُه: ((وإضاعةَ المالِ)) فهيَ على وُجوهٍ، جِماعُها الإسرافُ في النَّفقةِ، ووَضعُه في غَيرِ مَوضِعِه، وصَرفُه عن وَجهِ الحاجةِ إلى غَيرِه، كالإسرافِ في النَّفقةِ على البناءِ، ومُجاوزةِ حَدِّ الاقتِصادِ فيه، وكذلك اللِّباسُ والفُرُشُ، وتَمويهُ الأبنيةِ بالذَّهَبِ، وتَطريزُ الثِّيابِ، وتَذهيبُ سُقوفِ البَيتِ؛ فإنَّ ذلك على ما فيه مِنَ التَّزَيُّنِ والتَّصَنُّعِ إذا استُعمِل مَرَّةً لم يُمكِنْ بَعدَ ذلك تَخليصُه وإعادَتُه إلى أصلِه حتَّى يَكونَ مالًا قائِمًا.
ومِن إضاعةِ المالِ: تَسليمُه إلى مَن ليسَ برَشيدٍ، وفيه إثباتُ الحَجرِ على المُفسِدِ لمالِه.
ويَدخُلُ في إضاعةِ المالِ احتِمالُ الغَبنِ في البياعاتِ ونَحوِها مِنَ المُعامَلاتِ.
ومِن إضاعةِ المالِ: سوءُ القيامِ على ما تَملِكُه مِنَ المالِ، كالرَّقيقِ والدَّوابِّ ونَحوِها، التي إذا لم تَتَعَهَّدْها ضاعَت، ويَدخُلُ في النَّهيِ عن إضاعةِ المال قِسمةُ ما لا يَنتَفِعُ به الشَّريكُ القاسِمُ إذا تَفرَّدَ نصيبُه، كاللُّؤلُؤةِ والسَّيفِ والحَمامِ والطَّاحونةِ ونَحوِها مِنَ الأشياءِ؛ فإنَّ القِسمةَ في جَميعِها باطِلةٌ؛ لأنَّها إضاعةٌ للمالِ، غَيرُ مُفيدةٍ نَفعًا، ولا مُثمِرةٍ خَيرًا.
وفيه وجهٌ آخَرُ، ومَذهَبٌ ثانٍ: وهو أن يَتَخَلَّى الرَّجُلُ مِن مِلكِه وهو مُحتاجٌ إليه، وهو أن يُنفِقَه، أو يَتَصَدَّقَ به، أو يُطعِمَه النَّاسَ، يُريدُ به المَعروفَ، ولعَلَّه قد يَكونُ عليه الدَّينُ يَلزَمُه أن يَخرُجَ إلى أصحابِه مِنه، فهذا قد ضَيَّعَ مالَه، وأموالَ أصحابِ الحُقوقِ التي عليه.
فأمَّا صَنيعُ أبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه في التَّخَلِّي مِن مالِه كُلِّه، فإنَّه لا يَدخُلُ في هذا؛ لأنَّا قدِ استَثنَينا فيما قُلناه مَوضِعَ بَقاءِ الحاجةِ مِن صاحِبِه إليه، وكان أبو بَكرٍ غَنيًّا عَمَّا أخرجه مِن يَدِه، غَيرَ مُحتاجٍ إليه؛ لقوَّةِ صَبرِه، وحُسنِ توكُّلِه، ومَن في الأُمَّةِ مِثلُه حتَّى يُقرَنَ به، أو يُقاسَ عليه؟! وإنَّما أنفقَه على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في وَقتِ خَلَّةِ الدِّينِ وحاجةِ المُسلمينَ، في زَمانٍ لا مالَ لهم غَيرُ مالِه، ولا خَليلَ يَقومُ لهم في مِثلِ مَقامِهـ) [158] ((أعلام الحديث)) (2/ 808-810). وقال ابنُ الجَوزيِّ: (وكَم قد رَأينا مَن شَخصٍ قَويَت عَزيمَتُه على طَلَبِ الآخِرةِ، فأخرَجَ ما في يَدِه، ثُمَّ ضَعُفت، فعادَ يَكتَسِبُ مِن أقبَحِ وَجهٍ!). ((صيد الخاطر)) (ص: 222). .
8- عنِ الشَّعبيِّ، قال: (ما تَرَكَ عَبدٌ مالًا هو فيه أعظَمُ أجرًا مِن مالٍ يَترُكُه لوَلَدِه يَتَعَفَّفُ به عنِ النَّاسِ) [159] ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (4/ 313). .
9- عن حَمَّادٍ، قال: (رَأيتُ أيُّوبَ لا يَنصَرِفُ مِن سوقِه إلَّا مَعَه شَيءٌ يَحمِلُه لعيالِه، حتَّى رَأيتُ قارورةَ الدُّهنِ بيَدِه يَحمِلُها، فقُلتُ له في ذلك، فقال: إنِّي سَمِعتُ الحَسَنَ يَقولُ: إنَّ المُؤمِنَ أخَذَ عنِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ أدَبًا حَسَنًا، فإذا أوسَعَ عليه أوسَعَ، وإذا أمسَكَ عليه أمسَكَ) [160] ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (3/ 9). .


انظر أيضا: