سادسًا: النُّصحُ وتَركُ الغِشِّ
يَجِبُ على الرَّئيسِ أن يَكونَ ناصِحًا لمرؤوسيه، غَيرَ غاشٍّ لهم
[51] قال الفُضَيلُ بنُ عِياضٍ: (لم يُدرِكْ عِندَنا مَن أدرَكَ بكَثرةِ صيامٍ ولا صَلاةٍ، وإنَّما أدرَكَ بسَخاءِ الأنفُسِ، وسَلامةِ الصَّدرِ، والنُّصحِ للأُمَّةِ). يُنظر: ((طبقات الصوفية)) للسلمي (ص: 24)، ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (8/ 103)، ((شعب الإيمان)) للبيهقي (13/ 316). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:1-عن مَعقِلِ بنِ يَسارٍ المُزَنيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: إنِّي سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((ما مِن عَبدٍ يَستَرعيه اللَّهُ رَعيَّةً، يَموتُ يَوم يَموتُ وهو غاشٌّ لرَعيَّتِه، إلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عليه الجَنَّةَ)) [52] أخرجه البخاري (7151)، ومسلم (142) واللفظ له. .
وفي رِوايةٍ:
((ما مِن أميرٍ يَلي أمرَ المُسلِمينَ، ثُمَّ لا يَجهَدُ لَهم ويَنصَحُ، إلَّا لَم يَدخُلْ مَعَهمُ الجَنَّةَ)) [53] أخرجها مسلم (142). .
ومَعنى الحَديثِ بَيِّنٌ في التَّحذيرِ مِن غِشِّ المُسلِمينَ لمَن قَلَّدَه اللَّهُ تعالى شَيئًا مِن أمرِهم، واستَرعاه عليهم ونَصَبَه لمَصلَحَتِهم في دينِهم أو دُنياهم، فإذا خانَ فيما اؤتُمِنَ عليه فلَم يَنصَحْ فيما قُلِّدَه، أو ضَيَّعَ حُقوقَهم، أو تَرَكَ سيرةَ العَدلِ فيهم، فقد غَشَّهم
[54] يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (1/ 446)، ((شرح مسلم)) للنووي (2/ 166). ، والغِشُّ: ضِدُّ النَّصيحةِ. وحاصِلُه: راجِعٌ إلى الزَّجرِ عن أن يُضَيِّعَ ما أُمِرَ بحِفظِه، وأن يُقَصِّرَ في ذلك مَعَ التَّمَكُّنِ مِن فِعلِ ما يَتَعَيَّنُ عليه
[55] ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (1/ 354). .
وفي رِوايةٍ:
((ما مِن عَبدٍ استَرعاه اللَّهُ رَعيَّةً فلَم يَحُطْها [56] يُقالُ: حاطَه يَحوطُه حَوطًا وحِياطةً: إذا حَفِظَه وصانَه وذَبَّ عنه وتَوفَّرَ على مَصالِحِه. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (1/ 461). بنَصيحةٍ، إلَّا لَم يَجِدْ رائِحةَ الجَنَّةِ)) [57] أخرجها البخاري (7150). .
قال البَيضاويُّ: (يَستَرعيه اللَّهُ: أي: يَجعَلُه راعيًا، بأن يَنصِبَه للقيامِ بمَصالِحِهم، ويُعطيَه زِمامَ أُمورِهم، والرَّاعي: الحافِظُ المُؤتَمَنُ على ما يَليه، مِنَ الرِّعايةِ، وهيَ الحِفظُ.
«فلَم يَحُطْها» أي: يَحفَظْها، يُقالُ: حاطَه يَحوطُه حَوطًا وحِيطةً وحِياطةً: إذا كَلَأه ورَعاه، والمُرادُ بالنَّصيحةِ: إرادةُ الخَيرِ والصَّلاحِ، ومِنه سُمِّي الخَيَّاطُ ناصِحًا؛ لأنَّه يُصلِحُ)
[58] ((تحفة الأبرار)) (2/ 550). .
2-عن تَميمٍ الدَّاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((الدِّينُ النَّصيحةُ، قُلنا: لمَن؟ قال: للَّهِ ولِكِتابِه ولِرَسولِه ولأئِمَّةِ المُسلِمينَ وعامَّتِهم)) [59] أخرجه مسلم (55). .
3-عن جَريرِ بنِ عَبدِ اللهِ البَجَليِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((بايَعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على إقامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، والنُّصحِ لكُلِّ مُسلِمٍ)) [60] أخرجه البخاري (57)، ومسلم (56). .
4-عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((مَن أحَبَّ أن يُزَحزَحَ عنِ النَّارِ، ويُدخَلَ الجَنَّةَ، فلتَأتِه مَنيَّتُه وهو يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ، وليَأتِ إلى النَّاسِ الذي يُحِبُّ أن يُؤتى إليهـ)) [61] أخرجه مسلم (1844). .
5-عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((والذي نَفسُ مُحَمَّدٍ بيَدِه لا يُؤمِنُ أحَدُكُم حتَّى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنَفسِه مِنَ الخَيرِ)) [62] أخرجه النسائي (5017) واللفظ له، وأحمد (14082). صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحهـ)) (235)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (5017)، وصحَّح إسنادَه على شرط الشيخين شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (14082). والحَديثُ أصلُه في صَحيح البخاري (13)، ومسلم (45) مُختَصَرًا، ولَفظُ البخاريِّ: عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((لا يُؤمِنُ أحَدُكُم حتَّى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنَفسِهـ)). .
فائِدةٌ: يَنبَغي للرَّئيسِ إذا أرادَ نَصيحةَ أحَدٍ أن يَستُرَه، ويَجعَلَ نُصحَه في سِرٍّ لا مَلَأٍ.
قال سُليمانُ الخَوَّاصُ: (مَن وعَظَ أخاه فيما بَينَه وبَينَه فهيَ نَصيحةٌ، ومَن وعَظَه على رؤوسِ النَّاسِ فإنَّما فضَحَهـ)
[63] رواه ابنُ أبي الدنيا في ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) (61). .
وقال ابنُ المُقَفَّعِ: (مِمَّا يُعتَبَرُ به صَلاحُ الصَّالحِ وحُسنُ نَظَرِه للنَّاسِ أن يَكونَ إذا استَعتَبَ المُذنِبَ سَتورًا لا يُشيعُ ولا يُذيعُ، وإذا استُشيرَ سَمحًا بالنَّصيحةِ مُجتَهِدًا للرَّأي، وإذا استَشارَ مَطَّرِحًا للحَياءِ مُنفِذًا للحَزمِ مُعتَرِفًا للحَقِّ)
[64] ((الأدب الصغير)) (ص: 39). .
وقال ابنُ حِبَّانَ: (الواجِبُ على العاقِلِ لُزومُ النَّصيحةِ للمُسلمينَ كافَّةً، وتَركُ الخيانةِ لهم بالإضمارِ والقَولِ والفِعلِ مَعًا؛ إذِ المُصطَفى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَشتَرِطُ على مَن بايَعَه مِن أصحابِه النُّصحَ لكُلِّ مُسلمٍ مَعَ إقامةِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ، وخَيرُ الإخوانِ أشَدُّهم مُبالغةً في النَّصيحةِ، كما أنَّ خَيرَ الأعمالِ أحمَدُها عاقِبةً، وأحسنُها إخلاصًا، وضَربُ النَّاصِحِ خَيرٌ مِن تَحيَّةِ الشَّانِئِ...
والنَّصيحةُ تَجِبُ على النَّاسِ كافَّةً، ولكِن إبداؤُها لا يَجِبُ إلَّا سِرًّا؛ لأنَّ مَن وعَظَ أخاه عَلانيةً فقد شانَه، ومَن وعَظَه سِرًّا فقد زانَه، فإبلاغُ المَجهودِ للمُسلمِ فيما يَزينُ أخاه أحرى مِنَ القَصدِ فيما يَشينُه...
عن سُفيانَ، قال: قلْتُ لمِسعَرٍ: تُحِبُّ أن يُخبِرَك رجُلٌ بعُيوبِك؟ قال: أمَّا أن يجيءَ إنسانٌ فيُوبِّخَني بها فلا، وأمَّا أن يجيءَ ناصِحٌ فنعَم.
وعن ابنِ المُبارَك، قال: كان الرَّجلُ إذا رأى مِن أخيه ما يكرَهُ أمَره في سِترٍ، ونَهاه في سِترٍ، فيُؤجَرُ في سِترِه، ويُؤجَرُ في نَهيِه، فأمَّا اليومَ فإذا رأى أحدٌ مِن أحدٍ ما يكرَهُ استغضَب أخاه، وهتَك سِترَه!
وعن سُفيانَ، قال: جاءَ طَلحةُ إلى عَبدِ الجَبَّارِ بنِ وائِلٍ وعِندَه قَومٌ، فسارَّه بشيءٍ ثُمَّ انصَرَف، فقال: أتَدرونَ ما قال لي؟ قال: رَأيتُك التَفَتَّ أمسِ وأنتَ تُصَلِّي!
والنَّصيحةُ إذا كانت على نَعتِ ما وصَفْنا تُقيمُ الأُلفةَ وتُؤَدِّي حَقَّ الأخوَّةِ، وعَلامةُ النَّاصِحِ إذا أرادَ زينةَ المَنصوحِ له أن يَنصَحَه سِرًّا، وعَلامةُ مَن أرادَ شَينةً أن يَنصَحَه عَلانيةً)
[65] يُنظر: ((روضة العقلاء)) (ص: 194-197). .
وقال أبو طالبٍ المَكِّيُّ: (يَنبَغي أن يَنصَحَ له فيما بَينَه وبَينَه، ولا يوبِّخَه بَينَ المَلأِ، ولا يُطلعَ على غَيبِه أحَدًا؛ فقد قيل: إنَّ نَصائِحَ المُؤمِنينَ في آذانِهم.
ومِن أخلاقِ السَّلَفِ: كان الرَّجُلُ إذا كَرِهَ مِن أخيه خُلُقًا عاتَبَه فيما بَينَه وبَينَه أو كاتَبَه في صَحيفةٍ، وهذا لعَمْرِي فَرقٌ بَينَ النَّصيحةِ والفضيحةِ؛ فما كان في السِّرِّ فهو نَصيحةٌ، وما كان على العَلانيةِ فهو فضيحةٌ، وقَلَّما تَصِحُّ فيه النِّيَّةُ لوَجهِ اللهِ تعالى؛ لأنَّ فيه شَناعةً، وكذلك الفَرقُ بَينَ العِتابِ والتَّوبيخِ، فالعِتابُ ما كان في خَلوةٍ، والتَّوبيخُ لا يَكونُ إلَّا في جَماعةٍ؛ ولذلك يُعاتِبُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ رَجُلًا مِنَ المُؤمِنينَ يَومَ القيامةِ تَحتَ كَنَفِه، ويُسبِلُ عليه سِترَه، فيوقِفُه على ذُنوبه سِرًّا، وأمَّا أهلُ التَّوبيخِ فيُنادَونَ على رؤوسِ الأشهادِ، فلا يَخفى على أهلِ المَوقِفِ فضيحَتُهم، فيَزدادُ ذلك في عَذابِهم)
[66] ((قوت القلوب)) (2/ 370، 371). وينظر: ((موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين)) (5/ 1/ 221). .
وقال الغَزاليُّ: (يَنبَغي أن يَكونَ ذلك في سِرٍّ لا يَطَّلعُ عليه أحَدٌ، فما كان على المَلأِ فهو تَوبيخٌ وفضيحةٌ، وما كان في السِّرِّ فهو شَفَقةٌ ونَصيحةٌ؛ إذ قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «المُؤمِنُ مِرآةُ المُؤمِنِ»
[67] أخرجه أبو داود (4918)، والبزار (8109)، والبيهقي (16759) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه حَسَّنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4918)، وحَسَّن إسنادَه العراقي في ((تخريج الإحياء)) (2/227)، وابن حجر في ((بلوغ المرام)) (451)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي دواد)) (4918) ، أي: يَرى مِنه ما لا يَرى مِن نَفسِه، فيَستَفيدُ المَرءُ بأخيه مَعرِفةَ عُيوبِ نَفسِه، ولوِ انفرَدَ لم يَستَفِدْ، كما يَستَفيدُ بالمِرآةِ الوُقوفَ على عُيوبِ صورَتِه الظَّاهرةِ.
وقال الشَّافِعيُّ: مَن وعَظَ أخاه سِرًّا فقد نَصَحَه وزانَه، ومَن وعَظَه عَلانيةً فقد فضَحَه وشانَه.
وقيل لمِسعَرٍ: أتُحِبُّ مَن يُخبرُك بعُيوبِك؟ فقال: إن نَصَحَني فيما بَيني وبَينَه فنَعَمْ، وإن قَرَّعني بَينَ المَلأِ فلا.
وقد صَدَقَ؛ فإنَّ النُّصحَ على المَلأِ فضيحةٌ)
[68] ((إحياء علوم الدين)) (2/ 182). .