موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّامِنُ: أقسامُ المُجتَمَعِ الدَّرْزيِّ


ينقَسِمُ المُجتَمَعُ الدَّرْزيُّ مِنَ النَّاحيةِ الدِّينيَّةِ إلى قِسمَينِ:
(روحانيٌّ، وجُثمانيٌ؛ فأمَّا الرُّوحانيُّ فهو الذي بيدِه أسرارُ الطَّائِفةِ، ويُقَسَّمُ إلى ثَلاثةِ أقسامٍ: رُؤَساءُ، وعُقَلاءُ، وأجاويدُ.
والجُثمانيُّ: هو الذي لا يبحَثُ في الرُّوحيَّاتِ، بل يبحَثُ في الدُّنيويَّاتِ، ويُقَسَّمُ إلى قِسمَينِ: أُمَراءُ وجُهَّالٌ.
فالرُّؤَساءُ بيدِهم مَفاتيحُ الأسرارِ العامَّةِ، والعُقَّالُ بيَدِهم مَفاتيحُ الأسرارِ الدَّاخِليَّةِ، والأجاويدُ بيَدِهم مَفاتيحُ الأسرارِ الخارِجيَّةِ، والأُمَراءُ الجُثمانيُّونَ بيَدِهم مَفاتيحُ الأسرارِ الخاصَّةِ، وزُعَماءُ الجُهَّالِ بيَدِهم قَبضةُ السَّيفِ والزَّعامةُ) [3547] ((الدروز والثورة السورية)) لثابت (ص: 32، 33). .
والعُقَّالُ ينقَسِمونَ بدَورِهم إلى دَرَجاتٍ ثَلاثةٍ: (مِنهمُ الطَّبَقةُ التي تُعرَفُ بالمُنَزَّهينَ، وأصحابُ هذه الطَّبَقةِ في أشَدِّ العِبادةِ والورَعِ؛ فمِنهم مَن لا يتَزَوَّجُ حتَّى يموتَ، ومِنهم مَن يصومُ كُلَّ يومٍ إلى المَساءِ، ومِنهم مَن لا يأكُلُ اللَّحمَ في جَميعِ حَياتِه.
والطَّبَقةُ الأُخرى: هي الشُّرَّاحُ، ويُرَخَّصُ لهؤلاء بالاطِّلاعِ على ما كتَبَه الأميرُ عَبدُ اللَّهِ التَّنوخيُّ أحَدُ مَشايِخهم، وهو الذي بَنى المَساجِدَ وجَدَّدَ الجَوامِعَ، وكان على ما قيلَ يُريدُ أن يرجِعَ بالدُّروزِ إلى مَذهَبِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ) [3548] ((خطط الشام)) لكرد علي (6/ 266، 267). .
(ويجتَمِعُ العُقَّالُ في أماكِنِ العِبادةِ التي تُعرَفُ بالخَلَواتِ «جَمعُ خَلوةٍ» بسَماعِ ما يُتلى عليهم مِنَ الكِتابِ المُقدَّسِ، وبَعدَ تِلاوةِ المُقدِّماتِ يخرُجُ مِنَ الخَلوةِ الطَّبَقةُ الدُّنيا مِنَ العُقَّالِ، ثُمَّ بَعدَ تِلاوةِ بَعضِ الرَّسائِلِ البَسيطةِ التي ليس بها تَأويلاتٌ تَخرُجُ الطَّبَقةُ الثَّانيةُ بحَيثُ لا يبقى إلَّا رِجالُ الدَّرَجةِ الأولى الذين لهم وحدَهمُ الحَقُّ في سَماعِ الأسرارِ العُليا للعَقيدةِ.
أمَّا الجُهَّالُ فلا يُسمَحُ لهم بحُضورِ هذه الخَلَواتِ أو بسَماعِ شَيءٍ مِنَ الكُتُبِ المُقدَّسةِ إلَّا في يومِ عيدِهم، وهو يوافِقُ عيدَ الأضحى عِندَ المُسلمينَ) [3549] ((طائفة الدروز)) لمحمد كامل حسين (ص: 31). .
(والعُقَّالُ يعمَلونَ لهم مَناسِكَ يبنونَها بَعيدًا عنِ البُلدانِ التي هم بها نَحوَ مَسافةِ نِصفِ ساعةٍ، وغالبًا يكونُ بناؤُها على مُرتَفَعٍ، ويتَفرَّدونَ فيها أكثَرَ الأيَّامِ لَيلًا ونَهارًا، ويُسَمُّونَ هذه المَناسِكَ خَلَواتِ البَياضةِ، هي على سَطحِ جَبَلٍ فوقَ قَريةِ حاصبيا -في لُبنانَ-، تَزيدُ على سِتِّينَ خَلوةً) [3550] ((الدروز والثورة السورية)) لكريم ثابت (ص: 51). .
(وأمَّا الجاهلُ في نَظَرِهم كالحارِسِ الذي يحرُسُ بَيتًا في الخارِجِ ويجهَلُ مَعرِفةَ أسرارِه الدَّاخِليَّةِ، وهَكذا يعيشُ الجاهلُ مِنهم دَرْزيًّا ولا يعلَمُ مِنَ الدَّرْزيَّةِ سِوى شَيءٍ يسيرٍ جِدًّا، كالاعتِقادِ بأُلوهيَّةِ الحاكِمِ، وإمامةِ حَمزةَ والأربَعةِ حُدودٍ، والتَّقَمُّصِ، والعَلامةِ السِّرِّيَّةِ التي يجعَلونَها لمَعرِفةِ بَعضِهمُ البَعض) [3551] ((الدروز والثورة السورية)) لكريم ثابت (ص: 33 – 55). .
ولا يُسمَحُ لطَبَقةِ الجُهَّالِ بالانتِقالِ إلى طَبَقةِ العُقَّالِ إلَّا بَعدَ امتِحانٍ عَسيرٍ شاقٍّ يقومُ على تَرويضِ النَّفسِ وإخضاعِ شَهَواتِها مُدَّةً طَويلةً، وقد يستَمِرُّ الامتِحانُ أكثَرَ مِن سَنةٍ حتَّى يثِقَ الشُّيوخُ بأحَقِّيَّةِ الطَّالِبِ أن ينتَقِلَ مِن طَبَقةِ الجُهَّالِ إلى طَبَقةِ العُقَّالِ.
والعُقَّالُ في المُجتَمَعِ الدَّرْزيِّ يُعرَفونَ بعَمائِمِهم ولُبسِ القَباءِ الأزرَقِ الغامِقِ، ويُطلِقونَ لحاهم [3552] هذا على الغالِبِ، وأمَّا تَركُ الشَّاربِ فهو عند الجَميعِ. على أنَّ الذين يُسنَدُ إليهم وظائِفُ حُكوميَّةٌ يُباحُ لهم تَركُ هذه المَلابسِ وارتِداءُ الزِّيِّ الذي يطلُبُه مَنصِبُه الرَّسميُّ.
والنِّساءُ في المُجتَمَعِ الدَّرْزيِّ ينقَسِمنَ أيضًا إلى عاقِلاتٍ وجاهِلاتٍ، مِثلَ الرِّجالِ تَمامًا، والنِّساءُ العاقِلاتُ يلبَسنَ النِّقابَ وثَوبًا اسمُه "صاية" [3553] يُنظر: ((طائفة الدروز)) لمحمد كامل حسين (ص: 32). .
وإذا وُجِدَت هناك عاقِلةٌ زَوجةٌ لأحَدِ الجُهَّالِ فلا يجوزُ لها أن تُخاطِبَه بشَيءٍ مِن أُمورِ الدِّيانةِ، ولا تُطلِعَه على شَيءٍ مِنها، وتُخفي كُتُبَها عنه ضِمنَ صُندوقٍ مَقفولٍ [3554] يُنظر: ((الدروز والثورة السورية)) لثابت (ص: 55). .
قال مُحَمَّد كامِل حُسَين: (وللدُّروزِ رُؤَساءُ دينيُّون في كُلِّ مَكانٍ، على رَأسِهم شَيخٌ يُلَقَّبُ بشَيخ العَقلِ، ويتَولَّى مَنصِبَه بالانتِخابِ أو بالاتِّفاقِ بَينَ الزُّعَماءِ وكِبارِ رِجالِ الطَّائِفةِ، ولشَيخِ العَصرِ أعوانٌ في كُلِّ قَريةٍ أو بَلَدٍ هم شُيوخُ عَقلٍ مَحَلِّيُّونَ.
وشُيوخُ العَقلِ في لُبنانَ ينقَسِمونَ إلى حِزبَينِ سياسيَّينِ هما الشُّيوخُ الجانبلاطيَّةُ والشُّيوخُ اليَزبكيَّةُ، بَينَما ينقَسِمُ الدُّروزُ عامَّةً في لُبنانَ مَدَنيًّا إلى أُمَراءَ ومشائخَ وعامَّةٍ؛ فالأُمَراءُ هم آلُ أرسَلانَ، والمشائِخُ همُ الجانبلاطيَّةُ واليزبكيَّةُ) [3555] ((طائفة الدروز)) (ص: 31، 32). ويُنظر: ((عقيدة الدروز)) للخطيب (ص: 223). .
هذا بالنِّسبةِ إلى التَّقسيمِ الدِّينيِّ، أمَّا مِنَ النَّاحيةِ الاجتِماعيَّةِ فالنِّظامُ السَّائِدُ في المُجتَمَعِ الدَّرْزيِّ هو النِّظامُ الإقطاعيُّ الدِّينيُّ الذي كانوا عليه مُنذُ عِدَّةِ قُرونٍ؛ فالقُرى خاضِعةٌ لشَيخِ القَريةِ الذي يختارُه الأميرُ، وشُيوخُ القُرى خاضِعونَ للأُمَراءِ الذين يتَوارَثونَ الإمارةَ؛ ولذلك يأبى الدُّروزُ مُنذُ عُصورِهمُ الأولى أن يَخضَعوا إلَّا لمَشايِخِهم فقَط، ولا يعتَرِفونَ بسُلطةِ أحَدٍ سِوى أُمَرائِهم [3556] يُنظر: ((أضواء على العقيدة الدرزية)) للفوزان (ص: 75). .
ويُقيمُ عُقَّالُ الدُّروزِ عادةً في مَناطِقَ نائيةٍ تُسَمَّى (الخَلَواتِ)، وعن هذه الخَلَواتِ ذَكَر صاحِبُ مُذَكِّرةِ (أيُّها الدَّرْزيُّ عَودة إلى عَرينِك)، عن كيفيَّةِ قيامِها وطَريقةِ الوعظِ فيها، فقال: (قَبلَ عامِ 1762م لم يكُنْ للدُّروزِ خَلَواتٌ -أو كانت ولكن ليست ظاهرةً- ولا شُيوخُ عَقلٍ، بل كانوا تَحتَ جَناحِ الإسلامِ مُباشَرةً، وبَقي شُيوخُ العَقلِ يتَخَبَّطونَ في خَلَواتِهم بَينَ الرَّسائِل والشُّروحِ، إلى أن تَسَلَّمَ الرِّياسةَ الرُّوحيَّةَ في جَبَلِ حَورانَ الشَّيخُ إبراهيمُ البَجري، فقَرَّرَ قِراءةَ الكِتابَينِ الأوَّلينَ (أي ميثاقُ وليِّ الزَّمانِ، وكَشفُ الحَقائِقِ) مَعَ شَيءٍ مِنَ الكِتابِ الثَّالثِ (أي مُناجاةُ وَليِّ الحَقِّ) على كُلِّ دَرزيٍّ تَتَوفَّرُ فيه الشُّروطُ الدِّينيَّةُ.
ثُمَّ قَسَّمَ الشَّيخُ إبراهيمُ الكِتابَ الثَّانيَ والثَّالثَ إلى ثَمانيةِ أقسامٍ، وعَيَّن لكُلِّ لَيلةٍ مِن لَيالي الأُسبوعِ قِسمًا مِنها، وضَمَّ لها أقسامًا مَعلومةً مِن رَسائِلَ أُخرى، ودَعا هذا كُلَّه دَورًا.
فدَورٌ مَساءَ الخَميسِ مَثَلًا، الميثاقُ والكَشفُ والتَّنزيهُ وشِعرُ النَّفسِ، ودَورٌ مَساءَ الجُمُعةِ الميثاقُ والدَّامِغةُ والرِّضا وشِعرُ النَّفسِ... وهَكذا لكُلِّ لَيلةٍ دَورُها الخاصُّ، مَعَ مُلاحَظةِ أنَّ الاجتِماعَ الرَّسميَّ هو مَساءَ الخَميسِ، والقِراءةُ في الجُمُعةِ وسِواها جَماعيَّةٌ.
وهناك بَعضُ فُصولٍ مِنَ الرَّسائِلِ رَأى الشَّيخُ إبراهيمُ وُجوبَ قِراءَتِها كُلَّ صَباحٍ، وقد دَعا هذا التَّرتيبَ فَرضًا، وما زالَ عليه النَّاسُ في جَبَلِ حَورانَ وسِواه حتَّى يومِنا هذا، وإن رَأينا تَعديلًا في بَعضِ المَناطِقِ فهو لا يعدو إبدالَ فصلٍ بفصلٍ مِن رِسالةٍ واحِدةٍ أو رِسالَتَينِ مُتَغايِرَتَينِ.
وقد ثابَرَ القَومُ على هذا المِنهاجِ واعتَبَروه واجِبًا على كُلِّ دَرْزيٍّ تَتَوفَّرُ فيه الشُّروطُ الدِّينيَّةُ...
إنَّ الشَّيخَ إبراهيمَ أمَرَ أن يُقامَ في كُلِّ قَريةٍ دَرْزيَّةٍ خَلوةٌ كبيرةٌ تَتَّسِعُ لأكبَرِ عَدَدٍ مِن سُكَّانِ القَريةِ، وأطلَقَ على هذا البناءِ اسمَ (مَجلِس حَمزةَ)، وهو يتَألَّفُ مِن غُرفةٍ كبيرةٍ تَتَوسَّطُها مِصطَبةٌ -طاوِلةٌ ثابتةٌ- بارتِفاعِ سَبعينَ سنتم تَقريبًا، يعلوها سِتارٌ مِنَ القماشِ السَّميكِ بارتِفاعِ مِترٍ ونِصفٍ تَقريبًا، كأنَّها تُقسِّمُ الغُرفةَ قِسمَينِ وتَحجُبُ بَينَهما.
يجلسُ الرِّجالُ في قِسمٍ، والنِّساءُ في القِسمِ الآخَرِ، ولكُلِّ قِسمٍ بابٌ ونافِذةٌ في مَكانٍ واحِدٍ.
أمَّا السَّبَبُ في إقامةِ هذا الحاجِزِ فهو:
1- فَصلُ النِّساءِ عنِ الرِّجالِ والحَيلولةُ دونَ رُؤيةِ بَعضِهما.
2- إيصالُ صَوتِ الرِّجالِ إلى النِّساءِ اللَّواتي جِئنَ لاستِماعِ الحِكمةِ.
أمَّا تَرتيبُ الشُّيوخِ في المَجلسِ فهو على النَّحوِ التَّالي:
يجلسُ الإمامُ -شَيخُ عَقلِ القَريةِ- في صَدرِ المَجلسِ قَريبًا مِنَ الزَّاويةِ، ويولِّي ظَهرَه للقاطِعِ – المِصطَبةِ-، ثُمَّ يجلسُ الشُّيوخُ عن يمينِه وشِمالِه بصُفوفٍ غَيرِ مُنتَظِمةٍ، تارِكينَ أمامَه فُسحةً صَغيرةً مُستَعِدِّينَ لأداءِ الطُّقوسِ.
أمَّا كيفيَّةُ تَرتيبِ الطُّقوسِ فهي كما يلي:
1- الوَعظُ: وهو قِصَصٌ وحِكاياتٌ صوفيَّةٌ، كقِصَصِ مالِكِ بنِ دينارٍ وذي النُّونِ المِصريِّ وإبراهيمَ بنِ أدهَمَ، وسِواها مِنَ القِصَصِ التي نَراها في كِتابِ (رَوضُ الرِّياضينَ). أمَّا إذا كانت هذه اللَّيلةُ لَيلةَ العيدِ الكبيرِ، ضَمُّوا للوعظِ قِصَّةَ (الثَّوابِ والعِقابِ) وهما تُصَوِّرانِ ما يُلاقيه الكافِرُ والمُرتَدُّ مِن أهوالِ مجرويَّةِ القيامةِ. وهذه الجَلسةُ مُتاحةٌ للجَميعِ يحضُرُها المُدَخِّنُ والسِّكِّيرُ حتَّى ولو كان ليس دَرْزيًّا.
2- الشَّرحُ: المَرحَلةُ الأولى: ويجوزُ حُضورُه لكُلِّ دَرزيٍّ، ونَرى الحاضِرينَ فيه كثيرينَ في لَيالي الجُمعةِ ولَيالي العَشرِ مِن ذي الحِجَّةِ، يفتَتِحُه الإمامُ قائِلًا: علينا أن نُمسِّيَ الحُدودَ (أي نَقولُ لهم: مَسَّاكمُ اللَّهُ بالخَيرِ)، وقد يقولُ هذه الكلمةَ شَخصٌ آخَرُ؛ إذ هي لكلِّ شَخصٍ مِنَ الحاضِرينَ.
وتَمسيةُ الحُدودِ هي تَحيَّةٌ وسَلامٌ وتَسبيحٌ على كُلِّ حَدٍّ مِنَ الحُدودِ الثَّمانيةِ: (العَقلُ، النَّفسُ، الكَلِمةُ، السَّابقُ، التَّالي، الحدُّ، الفتحُ، الخَيالُ). وهذه صيغةُ التَّمسيةِ، يُقدِّمونَها أوَّلًا للعَقلِ قائِلينَ:
ألفُ المِسا مَسَّاك
يا عَقلُ مَن مَولاك
يا نورُ صافٍ مَحضٌ
سُبحانَ مَن صَفَّاك
يا لابِسَ الأخضَرِ
يا زينةَ المَحضَرِ
قَلبي يميلُ إليك
عَيني تُريدُ رُؤياك
قَلبي يميلُ إليك
صَلَّى الإلهُ عليك
صَلَّى عليك اللَّهُ
يا نورَ عَرشِ اللَّهِ
صَلَّى عليك ربِّي
نَحنُ دَخيلُ حِماك
ثُمَّ يتَّجِهونَ للنَّفسِ فيمَسُّونَه بنَفسِ هذه الأبياتِ مَعَ إبدالِ كَلِمةِ الأخضَرِ المَوجودةِ في صَدرِ البَيتِ الثَّالثِ بالأحمَرِ، ثُمَّ يتَّجِهونَ للكَلِمةِ بنَفسِ الأبياتِ ويَضَعونَ بَدَلَ الأخضَرِ كَلِمةَ أصفرَ، ثُمَّ يخُصُّونَ السَّابقَ باللَّونِ الأبيضَ، والتَّاليَ باللَّونِ الأسودِ، بنَفسِ الأبياتِ والتَّرتيبِ. أمَّا الحَدُّ والفتحُ والخَيالُ فتُقدَّمُ لهمُ التَّسميةُ دونَ ذِكرِ البَيتِ الثَّالثِ؛ إذِ الثَّلاثةُ الباقونَ ليس لهم كِسوةٌ خاصَّةٌ.
وقد تُرَنَّمَ بَعضُ الخَلَواتِ بهذه التَّرنيمةِ أيضًا:
صَلُّوا على القائِلِ
صاحِبِ الجودِ والفضائِلِ
صَلُّوا على وليِّ الهَدايا
صاحِبِ النِّعَمِ والكفايا
صِلِّ وسَلِّمْ يا رَبِّ عليه
وأسعِـــــــــــدْنا برِضاه
صَلُّوا على السَّيِّدِ الهادي الإمامِ الأعلى، نورِ القيامِ، المُنتَظَرِ لنَجاةِ الأنامِ، الهادي إلى طاعةِ المَولى العَليِّ حاكِمِ الحُكَّامِ، إمامِ الرُّضاةِ المُظَفَّرِ المُصطَفى، صَلِّ يا رَبِّ وسَلِّمْ على سَيِّدِنا وحَبيبِ قُلوبِنا ورَجانا (حَمزةَ بنِ عَليٍّ).
وبَعدَ الانتِهاءِ مِن هذه التَّحيَّةِ الأدَبيَّةِ، يطلُبُ الإمامُ مِن أحَدِ الشُّيوخِ أن يعِظَ النَّاسَ، وهذا يتلو بَعضَ أخبارِ الصَّالحينَ مِنَ الصُّوفيِّينَ، ويطلُبُ مِن آخَرَ أن يُنشِدَ بَعضَ الأناشيدِ الدِّينيَّةِ، ويختِمُ المَجلسَ بنشيدةٍ جَماعيَّةٍ.
المَرحَلةُ الثَّانيةُ: يقِفُ الشَّيخُ -الإمامُ- فيقِفونَ جَميعًا رِجالًا ونِساءً قائِلينَ بصَوتٍ واحِدٍ: يا سَميعُ، احتِرامًا للأميرِ السَّيِّدِ عَبدِ اللَّهِ التَّنوخيِّ، ثُمَّ يجلِسونَ، وفي هذه اللَّحظةِ ينصَرِفُ الجُهَّالُ، كالقاتِلِ والزَّاني والسِّكِّيرِ وشارِبِ التَّبغِ... وسِواهم مِنَ المَحرومينَ الذين لا يستَحِقُّونَ سَماعَ الشَّرحِ.
على أنَّ بَعضَ هؤلاء الجُهَّالِ يقِفُ مُتَأدِّبًا واضِعًا كفَّيه تَحتَ إبطَيه ويُكلِّمُ المَشايِخَ بأدَبٍ وتَواضُعٍ قائِلًا: اللَّهُ يمسِّيكم بالخَيرِ حَضَراتِ المَشايِخِ، فيُجيبونَ: اللَّهُ يمسِّيك بألفِ خَيرٍ، ثُمَّ يقولُ بذُلٍّ وانكِسارٍ: نَطلُبُ الحِلمَ وصَفاءَ الخاطِرِ مِنَ اللَّهِ ومِنكم، العَبدُ يُخطِئُ والسَّيِّدُ يعفو.
وهنا يتَّجِهُ المَشايِخُ إلى بَعضِهم قائِلينَ: احلُموا علينا وعليه يا مَشايِخُ، وفي هذه اللَّحظةِ يأتي دَورُ الإمامِ وله أن يفوهَ بإحدى كلمَتَينِ: إمَّا أن يسمَحَ عن ذاك المُستَشفعِ قائِلًا: تفضَّلْ اقعُدْ، وهذه مَعناها: السَّماحُ بحُضورِ المَرحَلةِ الثَّانيةِ فقَط. وإمَّا أن يقولَ: ما قُدَّامَنا وقُدَّامَكم إلَّا الخَيرُ، وهذه مَعناها الإصرارُ على إبعادِه وعَدَمِ السَّماحِ له بالجُلوسِ، وهنا يخرُجُ المُستَشفِعُ خَجِلًا كَسيرَ النَّفسِ.
وبَعدَ خُروجِه تَبدَأُ المَرحَلةُ الثَّانيةُ فيقرَأُ الإمامُ أو يُكلِّفُ أحَدَ الشُّيوخِ بتِلاوةِ شَرحِ إحدى الرَّسائِلِ المُقَرَّرةِ، وبَعدَ الانتِهاءِ مِنَ القِراءةِ يقِفونَ جَميعًا قائِلينَ: يا سَميعُ.
وفي هذه الفترةِ يخرُجُ الذين لا يجوزُ لهم حُضورُ المَرحَلةِ الثَّالثةِ، وإذا طَلَبَ أحَدُ هؤلاء السَّماحَ يبقى واقِفًا مُتَأدِّبًا مُكرِّرًا الكَلِماتِ السَّابقةَ، وليس له إلَّا أحَدُ الجَوابينِ السَّابقَينِ، وقد يوكِّلُ أحَدَ الشُّيوخِ، فيقِفُ هذا مَوقِفَ المُذنِبِ التَّائِبِ، ويتَكلَّمُ بالنِّيابةِ عنِ المُستَشفِعِ وبنَفسِ الجُمَلِ، وهنا إمَّا أن يُجابَ أو يُرفَضَ.
المَرحَلةُ الثَّالثةُ: ثُمَّ يتَوجَّهُ الإمامُ للمَشايِخِ قائِلًا: تَفضَّلوا احلُموا، وهنا تَبدَأُ قِراءةُ الدَّورِ قِراءةً جَماعيَّةً، وكُلُّهم يحفَظُ الدَّورَ الواجِبَ تِلاوتُه، فيبدؤون بالميثاقِ، ثُمَّ بالرَّسائِلِ المُقَرَّرةِ لتلك اللَّيلةِ، ويجعَلونَ شِعرَ النَّفسِ خِتامًا، ويسجُدونَ عِندَ كَلِمةِ (هو الحاكِمُ المَولى بناسوتِه يُرى..) ويرفعونَ أيديَهم مُبتَهِلينَ، ثُمَّ ينصَرِفونَ مُرَدِّدينَ بَعضَ الأدعيةِ.
هذه الخَلَواتُ يشبِهُ بَعضُها بَعضًا، وإنِ اختَلَف بناؤُها باختِلافِ القُرى أو تَخَلُّفِها، وفي مُقدِّمَتِها مِن حَيثُ التَّاريخُ خَلَواتُ الزَّنبَقيَّةِ، قُربَ كَفرِ نبرخَ بلُبنانَ، وإنْ فاقَتْها الآنَ خَلَواتُ البَياضةِ (حاصبيا لُبنانَ) وحَلَّت مَحَلَّ الصَّدارةِ.
أمَّا الشُّيوخُ الذين يقومونَ بإدارةِ تلك الخَلَواتِ فيتَفاوتونَ ليس بالعِلمِ أوِ الخِدمةِ العامَّةِ، بل بشَهاداتِ السُّلوكِ والمُثابَرةِ على الخَلَواتِ والزُّهدِ الذي قد يصِلُ لدَرَجةِ رُهبانِ البَراهمةِ؛ ذلك لأنَّهم يخالونَ العُكوفَ على دِراسةِ الرَّسائِلِ كُلَّ شَيءٍ في العالَمِ؛ ولذا ضاقَ أُفُقُهم، وأصبَحوا يستَشهِدونَ بما يتَلهَّى به الأطفالُ كمَلحَمةِ حَسَّانَ التَّبعيِّ.
أولئك الشُّيوخُ طَبَقاتٌ:
1- طالِبو الدُّخولِ بالمَشيخةِ (البَرَّاني) أي الذين يُعِدُّونَ أنفُسَهم ليُصبحوا شُيوخًا.
2- شُيوخُ المَجالسِ السِّرِّيَّةِ (الجُوَّاني).
3- شُيوخ العَقلِ.
أمَّا الأزارقةُ -لابسو الأزرَقِ- فهم أضيَقُ أُفُقًا مِن سِواهم) [3557] ((أيها الدرزي عودة إلى عرينك)) (ص: 97 - 100). .

انظر أيضا: