موسوعة الفرق

المَبحَثُ الأوَّلُ: الحاكِمُ بأمرِ اللَّهِ وعَلاقَتُه بعَقيدةِ الدُّروزِ


لا بُدَّ في التَّعريفِ بالمَذهَبِ الدَّرْزيِّ، مِن إلقاءِ الضَّوءِ على شَخصيَّةِ ذلك الرَّجُلِ الذي يدَّعي أتباعُه الدُّروزُ أنَّ اللَّاهوتَ ظَهَرَ في صورَتِه النَّاسوتيَّةِ!
فهذا الرَّجُلُ هو أبو عَليٍّ المَنصورُ بنُ العَزيزِ باللَّهِ بنِ المُعِزِّ لدينِ اللَّهِ الفاطِميِّ، والذي لُقِّبَ بـ (الحاكِم بأمرِ اللَّهِ). وقد وُلدَ سَنةَ 375هـ.
وتَولَّى المُلْكَ بَعدَ مَوتِ أبيه مُباشَرةً سَنةَ 386هـ، وكان سادِسَ المُلوكِ العُبَيديِّينَ.
ولأخذِ فِكرةٍ واضِحةٍ عن حَياةِ هذا الحاكِمِ، يُمكِنُ تَقسيمُها إلى ثَلاثةِ أقسامٍ أو أدوارٍ، مُتَمايِزةٍ عن بَعضِها [3221] يُنظر: ((دائرة المعارف الإسلامية)) لمجموعة من الباحثين (7/ 266 – 270)، والتي قسَّمت حياةَ الحاكِمِ إلى ثلاثةِ أدوارٍ. ويُنظر أيضًا: تقسيم الدكتور حسن إبراهيم حسن في ((تاريخ الإسلام السياسي والديني)) (3/153) لحياةِ الحاكِمِ إلى أربعةِ أقسامٍ: الأوَّلُ من 386 هـ - 390، الثَّاني من 390 – 395 هـ، والثَّالثُ من 396 – 401 هـ، والرَّابعُ من 401 – 411 هـ. .
فالدَّورُ الأوَّلُ هو دَورُ حَداثَتِه، ويبدَأُ مَن تولِّيه المُلكَ في الحاديةَ عَشرةَ مِن عُمُرِه، وينتَهي بمَقتَلِ برجوانَ [3222] أحدُ الأوصياءِ الثَّلاثةِ الذين عُهِد إليهم رعايةُ الحاكِمِ حتى بلوغِه. في سنةِ 390هـ.
والدَّورُ الثَّاني يبدَأُ مِن تاريخِ ذلك الحادِثِ حتَّى سَنةِ 408هـ، وهي السَّنةُ التي ادَّعى فيها الأُلوهيَّةَ على يدِ حَمزةَ بنِ عَليٍّ.
والدَّورُ الثَّالثُ يبدَأُ مِن سَنةِ 408هـ حتَّى اختِفائِه ومَقتَلِه سَنةَ 411هـ.
الدَّورُ الأوَّلُ من سَنةِ 386 – 390هـ:
ولي الحاكِمُ بأمرِ اللَّهِ الخِلافةَ حَدَثًا دونَ الثَّانيةَ عَشرةَ، في نَفسِ اليومِ الذي ماتَ فيه والدُه (العَزيزُ)، وكانت أُمُّه أمَّ ولَدٍ [3223] وهي المملوكةُ التي تبقى في الرِّقِّ، ويكونُ لها أولادٌ من مالِكِها، وبعدَ مَوتِه تُعتَقُ لوجودِ وَلَدٍ لها. يُقالُ: إنَّها كانت جاريةً روميَّةً نَصرانيَّةً، وإنَّه كان لها أيَّامَ العَزيزِ نُفوذٌ عَظيمٌ في الدَّولةِ، وكان لهذا النُّفوذِ أثَرُه في سياسةِ التَّسامُحِ التي اتَّبَعَها العَزيزُ نَحوَ النَّصارى، وفي تَقويةِ جانِبِهم ونُفوذِهم، وتَمَكُّنِهم مِن بَعضِ المَناصِبِ.
وأوصى العَزيزُ قَبلَ مَوتِه بولَدِه ثَلاثةً مِن أكابرِ رِجالِ الدَّولةِ، وهم: برجوانُ الصِّقِلِّيُّ خادِمُه وكبيرُ خَزائِنِه، والحَسَنُ بنُ عَمَّارٍ زَعيمُ كُتامةَ، أقوى القَبائِلِ المَغرِبيَّةِ وعِمادُ الدَّولةِ الفاطِميَّةِ مُنذُ نَشأتِها، ومُحَمَّدُ بنُ النُّعمانِ قاضي القُضاةِ، وكانتِ الوِصايةُ الفِعليَّةُ إلى الأوَّلِ والثَّاني، ولم يلبَثْ أن نَشَبَ الخِلافُ بَينَ الرَّجُلَينِ واشتَدَّتِ المُنافسةُ بَينَهما. فقامَ ابنُ عَمَّارٍ بتَدبيرِ الشُّؤونِ بادِئَ ذي بَدءٍ، ولُقِّبَ بأمينِ الدَّولةِ، وظَهرَ بمَظهَرِ الطَّاغيةِ المُطلَقِ، وأغلَقَ بابَه إلَّا على الخاصَّةِ والأكابرِ مِن شيعَتِه. ثُمَّ وثَبَت جَماعةٌ كبيرةٌ مِنَ الزُّعَماءِ والجُندِ بتَحريضِ برجوانَ وتَدبيرِه، وهاجَمَتِ الكُتاميِّينَ في ظاهرِ القاهرةِ وأثخَنَت فيهم، فتَوارى ابنُ عَمَّارٍ حينًا، واضطُرَّ أن يترُكَ المَيدانَ حُرًّا لمُنافِسِه، وعِندَئِذٍ قَبَضَ برجوانُ على زِمامِ الأُمورِ، وأصبَحَ له مُطلَقُ السُّلطانِ.
وكان برجوانُ يحجُبُ الحاكِمَ عنِ الاتِّصالِ برِجالِ الدَّولةِ وشُؤونِها، ويدفعُه إلى اللَّهوِ واللَّعِبِ، ولم يلبَثْ أن فطِنَ الحاكِمُ إلى مَوقِفِ برجوانَ واستِئثارِه بالسُّلطةِ، واستِبدادِه بالشُّؤونِ، وكان قد أشرَف في ذلك الوقتِ على الخامِسةَ عَشرةَ مِن عُمرِه، وأصبَحَ فتًى يافِعًا شَديدَ اليقَظةِ والطُّموحِ، وبَدَأ يثورُ لسُلطَتِه المَسلوبةِ، وحَكمَ على برجوانَ بالمَوتِ، فاستَدعى الحُسَينَ بنَ جَوهَرٍ الصِّقِلِّيَّ، وعَهِد إليه بتلك المُهمَّةِ. ومُنذُ ذلك الحينِ تَناولَ الحاكِمُ إدارةَ الدَّولةِ، ونَظَّم له مَجلِسًا لَيليًّا يحضُرُه أكابرُ رِجالِ الدَّولةِ، وتُبحَثُ فيه الشُّؤونُ العامَّةُ [3224] يُنظر: ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) لعنان (ص: 41 - 50). .
الدَّورُ الثَّاني من سنةِ 390 – 408هـ:
بَعدَ مَقتَلِ برجوانَ دَبَّرَ الحاكِمُ مَقتَلَ الوصيِّ الآخَرِ عليه، وهو الحَسَنُ بنُ عَمَّارٍ زَعيمُ قَبيلةِ كُتامةَ المَغرِبيَّةِ.
وفي سَنةِ 393هـ قَتَلَ الحاكِمُ وزيرَه فهدَ بنَ إبراهيمَ النَّصرانيَّ، بَعدَ أن قَضى في مَنصِبِه زُهاءَ سِتَّةِ أعوامٍ، وأقامَ الحاكِمُ مَكانَه عَليَّ بنَ عُمَرَ العَدَّاسَ، ولَكِن لم تَمضِ أشهُرٌ قَلائِلُ حتَّى سَخِط عليه وقَتله أيضًا، وقَتل مَعَه الخادِمَ ريدانَ الصِّقِلِّيَّ، ثُمَّ قَتَلَ عَدَدًا كبيرًا مِنَ الغِلمانِ والخاصَّةِ سَنةَ 394هـ، ثُمَّ أتبَعَ ذلك بمَقتَلةٍ أُخرى كان مِن ضَحاياها الحُسَينُ بنُ النُّعمانِ الذي شَغَلَ مَنصِبَ القَضاءِ مُنذُ سَنةِ 389هـ، فقُتِلَ وأُحرِقَت جُثَّتُه، كما قُتِلَ عَدَدٌ آخَرُ مِنَ الخاصَّةِ والعامَّةِ وأُحرِقوا [3225] يُنظر: ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) لعنان (ص: 54). .
قال سِبطُ ابنِ الجَوزيِّ عنِ الحاكِمِ: (كانت أخلاقُه مُتَضادَّةً؛ بَينَ شَجاعةٍ وإقدامٍ، وجُبنٍ وإحجامٍ، ومَحَبَّةٍ للعِلمِ وانتِقامٍ مِنَ العُلَماءِ، ومَيلٍ إلى الصَّلاحِ وقَتلِ الصُّلَحاءِ، وكان الغالِبُ عليه السَّخاءَ، ورُبَّما بَخِلَ بما لم يبخَلْ به أحَدٌ قَطُّ، وأقامَ يلبَسُ الصُّوفَ سَبعَ سِنينَ، وامتَنَعَ مِن دُخولِ الحَمَّامِ، وأقامَ سِنينَ يجلسُ في الشَّمعِ لَيلًا ونَهارًا، ثُمَّ عنَّ له أن يجلِسَ في الظُّلمةِ، فجَلَسَ فيها مُدَّةً، وقَتَلَ مِنَ العُلَماءِ والكُتَّابِ والأماثِلِ ما لا يُحصى، وكَتَب على المَساجِدِ والجَوامِعِ سَبَّ أبي بَكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ، وعائِشةَ وطَلحةَ والزُّبَيرِ، ومُعاويةَ وعَمرِو بنِ العاصِ -رَضي اللَّهُ عنهم- في سَنةِ خَمسٍ وتِسعينَ وثَلاثِمائةٍ، ثُمَّ مَحاه في سَنةِ سَبعٍ وتِسعينَ، وأمَرَ بقَتلِ الكِلابِ، وبَيعِ الفقاعِ [3226] شرابٌ يُتَّخَذُ من الشَّعيرِ، يعلوه الزَّبَدُ والفُقاعاتُ، ويُشبِهُ البيرةَ في الوَقتِ الحاضِرِ. ، ثُمَّ نَهى عنه، ورَفعَ المُكوسَ عنِ البلادِ وعمَّا يُباعُ فيها، ونَهى عنِ النُّجومِ وكان ينظُرُ فيها، ونَفى المُنَجِّمينَ وكان يرصُدُها، ويخدُمُ زُحَلَ وطالِعَه المِرِّيخَ [3227] لا يخفى ما في ذلك من مخالفةٍ للشَّرعِ؛ فإنَّ النُّجومَ والمطالِعَ لا يُنسَبُ إليها فِعلُ أحدٍ؛ فقد كان سفَّاكًا للدِّماءِ بفِعلِه القبيحِ، ونفسِه المجرِمةِ؛ فليس للنُّجومِ تأثيرٌ على النَّاسِ في الحظوظِ والسَّعادةِ والشَّقاءِ. ؛ ولهذا كان يسفِكُ الدِّماءَ، وبَنى جامِعَ القاهرةِ، وبَنى جامِعَ راشِدةَ على النِّيلِ في مِصرَ، ومَساجِدَ كثيرةً، ونَقل إليها المَصاحِفَ المُفضَّضةَ، والسُّتورَ الحَريرَ، وقَناديلَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ، ومَنَعَ مِن صَلاةِ التَّراويحِ عَشرَ سِنينَ، ثُمَّ أباحَها، وقَطَعَ الكُرومَ، ومَنَعَ مِن بَيعِ العِنَبِ، ولم يبقَ في وِلايتِه كَرمًا، وأراقَ خَمسةَ آلافِ جَرَّةٍ مِن عَسَلٍ في البَحرِ؛ خَوفًا مِن أن يُعمَلَ نَبيذًا، ومَنع النِّساءَ مِنَ الخُروجِ مِن بُيوتهنَّ لَيلًا ونَهارًا!) [3228] ((مرآة الزمان في تواريخ الأعيان)) (18/ 282- 283). ويُنظر أيضًا: ((النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة)) لابن تغرى بردي (ص: 176 - 177). .
ورَوى ابنُ خَلِّكانَ عنِ الحافِظِ أبي طاهِرٍ السِّلَفيِّ [3229] هو الحافِظُ أحمَدُ بنُ محمَّدِ بنِ سِلَفةَ (بكَسرِ السِّينِ وفَتحِ اللَّامِ) الأصبهانيُّ، صَدرُ الدِّينِ، أبو طاهِرٍ السِّلَفيُّ: حافظٌ مُكثِرٌ، من أهلِ أصبهانَ. رحل في طَلَبِ الحديثِ، وكتَب تعاليقَ وأماليَ كثيرةً، وبنى له الأميرُ العادلُ وزيرُ الظَّافِرِ العُبَيديِّ مدرسةً في الإسكندريَّةِ سنةَ 546هـ فأقام إلى أن توفِّيَ فيها سنةَ 576هـ. يُنظر: ((الأعلام)) للزركلي (1/215). : (أنَّ الحاكِمَ كان جالسًا في مَجلسِه العامِّ وهو حَفلٌ بأعيانِ دَولَتِه، فقَرَأ بَعضُ الحاضِرينَ قَولَه تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: 65] ، والقارِئُ في أثناءِ ذلك يُشيرُ إلى الحاكِمِ! فلَمَّا فرَغَ مِنَ القِراءةِ قَرَأ شَخصٌ آخَرُ يُعرَفُ بابن المُشَجَّرِ، وكان رجلًا صالحًا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج: 16- 73] .
فلَمَّا أنهى قِراءَتَه تَغَيَّر وَجهُ الحاكِمِ، ثُمَّ أمَرَ لابنِ المُشَجَّرِ المَذكورِ بمِائةِ دينارٍ، ولم يُطلِقْ للآخَرِ شيئًا، ثُمَّ إنَّ بَعضَ أصحابِ ابنِ المُشَجَّرِ قال له: أنتَ تَعرِفُ الحاكِمَ وكثرةَ استحالاتِه، وما نَأمَنُ أن يحقِدَ عليك، وأنَّه لا يُؤاخِذُك في هذا الوقتِ، ثُمَّ يُؤاخِذُك بَعدَ هذا فتَتَأذَّى مَعَه، ومِنَ المَصلَحةِ عِندي أن تَغيبَ عنه، فتَجَهَّزَ ابنُ المُشَجَّرِ للحَجِّ، ورَكبَ في البَحرِ فغَرِقَ، فرَآه صاحِبُه في النَّومِ، فسَأله عن حالِه، فقال: «ما أقصَرَ الرُّبَّانُ مَعنا، أرسى بنا على بابِ الجَنَّةِ!». رَحِمَه اللَّهُ تعالى، وذلك ببَرَكةِ جَميلِ نيَّتِه وحُسنِ قَصدِه) [3230] ((وفيات الأعيان)) (5/ 295). .
وقال السُّيوطيُّ: (إنَّ الحاكِمَ أمَرَ الرَّعيَّةَ إذا ذَكرَه الخَطيبُ على المِنبَرِ أن يقوموا على أقدامِهم صُفوفًا إعظامًا لذِكرِه، واحتِرامًا لاسمِه، فكان يُفعَلُ ذلك في سائِرِ مَمالِكِه حتَّى في الحَرَمَينِ الشَّريفينِ! وكان أهلُ مِصرَ على الخُصوصِ إذا قاموا خَرُّوا سُجَّدًا، حتَّى إنَّه يسجُدُ بسُجودِهم في الأسواقِ الرَّعاعُ وغَيرُهم، وكان جَبَّارًا عنيدًا، وشَيطانًا مَريدًا، كثيرَ التَّلَوُّنِ في أقوالِه وأفعالِه) [3231] ((حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة)) (1/ 601- 602). .
ومِن أفعالِه أنَّه (كان يعمَلُ الحِسبةَ بنَفسِه، يدورُ في الأسواقِ على حِمارٍ له، وكان لا يركبُ إلَّا حِمارًا، فمَن وجَدَه قد غَشَّ في مَعيشَتِه أمَر عَبدًا أسودَ مَعَه -يُقالُ له: مَسعودٌ- أن يفعَلَ به الفاحِشةَ العُظمى جِهارًا! وهذا أمرٌ مُنكَرٌ مَلعونٌ لم يُسبَقْ إليه) [3232] ((البداية والنهاية)) لابن كثير (15/ 583). .
وقد بَنى بَينَ الفُسطاطِ والقاهرةِ مَسجِدًا عَظيمًا على ثَلاثةِ مَشاهِدَ [3233] المشاهِدُ: هي القبورُ التي يُبنى عليها، وتُقصَدُ للتَّبرُّكِ، بل إنَّ كثيرًا منها ليس فيه أحدٌ مقبورٌ. كانت هناك، وجَعل فيه سَدَنةً وخَدَمًا يوقِدونَ فيه السُّرُجَ اللَّيلَ كُلَّه، وكان يُريدُ أن ينقُلَ إليه جَسَدَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، غَيرَ أنَّ اللَّهَ سُبحانَه دَفعَ ذلك، وأظهَرَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ أهلَ المَدينةِ عليه [3234] يُنظر: ((الروض المعطار في خبر الأقطار)) للحميري (ص: 450). .
وكان يحتالُ بكُلِّ حيلةٍ لإقناعِ النَّاسِ بقُدرَتِه وعِلمِه (ومِن ذلك أنَّه أرسَلَ مَرَّةً وراءَ بَعضِ الأشقياءِ وعَلَّمَهم أن يَسرِقوا مِن مَخازِنِ مِصرَ في إحدى اللَّيالي أشياءَ مَعلومةً فأطاعوا أمرَه، وكان قَبلَ ذلك قد أمرَ النَّاسَ بتَركِ بُيوتِهم ودَكاكينِهم مَفتوحةً طَوالَ اللَّيلِ بدَعوى أنَّ السَّرِقةَ لا تَجوزُ في أيَّامِه، وتَعهَّد لكُلِّ مَن يُسرَقُ له شَيءٌ برَدِّه ومَعرِفةِ السَّارِقِ. فلَمَّا دارَ الذين استَأجَرَهم للسَّرِقةِ وأخَذوا ما أخَذوه، تقدَّم إليه أصحابُ الحاجيَّاتِ يشكونَ إليه الأمرَ، فقال: اذهَبوا إلى أبي الهَولِ الذي صَنَعتُه يُخبرُكم بما تُريدونَ، وكان قد صَنَعَ تمثالًا مِنَ النُّحاسِ على صورةِ أبي الهَولِ، ووضع مِن داخِلِه رجلًا يعرِفُ أسماءَ السَّارِقينَ، والذين سُرِقَتِ الأشياءُ مِن دَكاكينِهم، فإذا جاءَ الرَّجُلُ منهم وقَصَّ حِكايتَه أجابَه الرَّجُلُ مِن داخِل الصَّنَمِ أنِ اذهَبْ إلى بَيتِ فُلانٍ تَجِدْ حاجَتَك، وصَحَّت أقاويلُه، فهالَ النَّاسَ الأمرُ واعتَقدوا في الخَليفةِ أشكالًا وألوانًا) [3235] ((الدروز والثورة السورية)) لكريم ثابت (ص: 17). .
ونَقَلَ مُحَمَّد عَبد اللَّه عنان عن كِتابِ (أخبار الدُّوَلِ المُنقَطِعة) عنِ الحاكِمِ وخُطَّتِه الدَّمَويَّةِ ما يأتي: (كان مُؤاخِذًا بيسيرِ الذَّنبِ، حادًّا لا يملكُ نَفسَه عِندَ الغَضَبِ، فأفنى أُمَمًا وأبادَ أجيالًا، وأقامَ هَيبةً عَظيمةً وناموسًا، وكان يفعَلُ عِندَ قَتلِه الشَّخصَ أفعالًا مُتَناقِضةً وأعمالًا مُتَبايِنةً. وكان يقتُلُ خاصَّتَه وأقرَبَ النَّاسِ إليه؛ فرُبَّما أمَر بإحراقِ بَعضِهم، ورُبَّما أمَر بحَملِ بَعضِهم وتَكفينِه ودَفنِه وبَنى تُربةً عليه، وألزَمَ كافَّةَ الخَواصِّ مُلازَمةَ قَبرِه والمبيتَ عِندَه، وأشياءَ مِن هذا الجِنسِ يُمَوِّهُ بها على عُقولِ أصحابِه السَّخيفةِ، فيعتَقِدونَ أنَّ له في ذلك أغراضًا صَحيحةً استَأثَرَ بعِلمِها، وتفرَّد عنهم بمَعرِفتِها!) [3236] ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) (ص: 59). .
وللحاكِمِ قِصَّةٌ مَعَ خادِمِه (غَين) وكاتِبِه (أبي القاسِمِ الجَرجَرائيِّ) [3237] عَليُّ بنُ أحمَدَ الجَرجَرائيُّ، وزيرٌ، وتَنقَّل في الأعمالِ أيَّامَ الحاكِمِ، حتَّى قَطَعَ يدَيه سَنةَ 404ه، ثُمَّ ولي بَعدَ ذلك ديوانَ النَّفقاتِ سَنةَ 406ه ولُقِّبَ سَنةَ 407ه نَجيبَ الدَّولةِ، توُفِّي سَنةَ 436هـ. ، وكان (غَين) مِنَ الخَدَمِ الصَّقالبةِ الذين يُؤثِرُهمُ الحاكِمُ بعَطفِه وثِقَتِه، فعَيَّنَه في سَنةِ 402هـ للشُّرطةِ والحِسبةِ، ولَقَّبه بقائِدِ القوَّادِ، وعَهِدَ إليه بتَنفيذِ المَراسيمِ الدِّينيَّةِ والاجتِماعيَّةِ، وعَهِدَ بالكِتابةِ إلى أبي القاسِمِ الجَرجَرائيِّ، وكان الحاكِمُ قد سَخِطَ على غَينٍ قَبلَ ذلك ببضعةِ أعوامٍ وأمرَ بقَطعِ يدِه، فصارَ أقطَعَ اليدِ، ثُمَّ سَخِطَ عليه كَرَّةً أُخرى وأمَر بقَطعِ يدِه الثَّانيةِ، فقُطِعَت وحُمِلَت إلى الحاكِمِ في طَبَقٍ، فبَعَثَ إليه الأطِبَّاءَ للعِنايةِ به ووصَله بمالٍ وتُحَفٍ كثيرةٍ، ولَكِنْ لم تَمضِ أيَّامٌ قَلائِلُ على ذلك حتَّى أمَر بقَطعِ لسانِه، فقُطِعَ وحُمِلَ إلى الحاكِمِ أيضًا، وماتَ غَينٌ مِن جِراحِه!
وأمَّا أبو القاسِمِ الجَرْجَرائيُّ فقد أمَرَ الحاكِمُ بقَطعِ يدَيه لوِشايةٍ صَدَرَت في حَقِّه، ولَكِنَّه أبقى على حَياتِه، وعاشَ أقطَعَ اليدَينِ، وفي سَنةِ 405ه قَتَلَ الحاكِمُ قاضيَ القُضاةِ مالِكَ بنَ سَعيدٍ الفارقيَّ [3238] مِن قُضاةِ الدِّيارِ المِصريَّةِ، ولَّاه الحاكِمُ القَضاءَ سَنةَ 398 ه، ثُمَّ أُضيفَ إليه النَّظَرُ في المَظالمِ سَنةَ 401ه، وعَلَت مَنزِلَتُه عِندَ الحاكِمِ، واستَمَرَّ في القَضاءِ حتَّى 405ه حينَ ضَربَ الحاكِمُ عُنُقَه. ، وقَتل الوزيرَ الحُسَينَ بنَ طاهرٍ الوزَّانَ [3239]كان يتَولَّى بَيتَ المالِ في أوائِلِ مُلكِ الحاكِمِ، ثُمَّ ولَّاه الوِزارةَ سَنةَ 403 ه، وبَينَما كان مَعَ الحاكِمِ خارِجَ القاهرةِ ضَرَبَ عُنُقَه ودَفنَه في مَكانِه، وكان ذلك سَنةَ 405هـ. ، وعَبدَ الرَّحيمِ بنَ أبي السَّيِّدِ الكاتِبَ، وأخاه الحُسَيَن مُتَولِّيَ الوَساطةِ والسِّفارةِ، وقَلَّدَ الوَساطةَ فَضلَ بنَ جَعفَرِ بنِ الفُراتِ، ثُمَّ قَتَله لأيَّامٍ قَلائِلَ مِن تَعيينِه!
وهكذا استَمَرَّ الحاكِمُ في الفتكِ بالزُّعَماءِ ورِجال الدَّولةِ والكُتَّابِ والعُلَماءِ حتَّى أبادَ مُعظَمَهم، هذا عَدا مَن قَتَلَ مِنَ العامَّةِ خِلالَ تلك الأعوامِ الرَّهيبةِ، وهم أُلوفٌ عَديدةٌ. ويُقدِّرُ البَعضُ ضَحايا الحاكِمِ بثَمانيةَ عَشَرَ ألفَ شَخصٍ مِن مُختَلِفِ الطَّبَقاتِ [3240] يُنظر: ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) لمحمد عبد اللهِ عنان (ص: 57 - 58). !
وروى المُسبِّحيُّ [3241] هو مُحَمَّدُ بنُ عُبَيدِ اللهِ المَسبَحيُّ، مُؤَرِّخٌ وعالمٌ بالأدَبِ، وُلدَ بمِصرَ سَنةَ 366ه، اتَّصَلَ بخِدمةِ الحاكِمِ، وحَظِيَ عِندَه وولَّاه ديوانَ التَّرتيبِ، له كِتابٌ كبيرٌ في (تاريخ المغاربة ومصر) ويُعرَف بـ ((مختار المُسَبِّحي))، وكتبٌ كثيرةٌ أُخرى، توفِّيَ سنةَ 420هـ. صديقُ الحاكِمِ ومُؤَرِّخُه فيما بَعدُ أنَّ الحاكِمَ أمَرَ سَنةَ 395هـ بعَمَل شَونةٍ كبيرةٍ مِمَّا يلي الجَبَلَ مُلِئَت بالسَّنطِ والبوصِ والحَلفا [3242] الشَّونةُ: المَخزَنُ الكبيرُ، والسَّنطُ: نَوعٌ مِن الخَشَبِ يُستَعمَلُ في البناءِ، والحَلفا: نَباتٌ طَويلُ الورَقِ تُصنَعُ مِنه القُفَفُ وينبُتُ بالمُستَنقَعاتِ. ، فارتاعَ النَّاسُ، وظَنَّ كُلُّ مَن له صِلةٌ بخِدمةِ الحاكِمِ مِن رِجالِ القَصرِ أوِ الدَّواوينِ أنَّها أُعِدَّت لإعدامِهم، وسَرَت في ذلك إشاعاتٌ مُخيفةٌ؛ فاجتَمَعَ سائِرُ الكُتَّابِ وأصحابُ الدَّواوينِ والمُتَصَرِّفونَ مِنَ المُسلِمينَ والنَّصارى في أحَدِ مَيادينِ القاهرةِ، ولم يزالوا يُقَبِّلونَ الأرضَ حتَّى وصَلوا القَصرَ، فوقَفوا على بابِه يَضِجُّونَ ويتَضَرَّعونَ ويسألونَ العَفوَ عنهم، ثُمَّ دَخَلوا القَصرَ ورَفعوا إلى أميرِ المُؤمِنينَ عن يدِ قائِدِ القوَّادِ الحُسَينِ بنِ جَوهَرٍ رُقعةً يلتَمِسونَ فيها العَفوَ، فأجابَهمُ الحاكِمُ على لسانِ الحُسَينِ إلى ما طَلَبوا، وأُمِروا بالانصِرافِ والبُكورِ لتَلَقِّي سِجِلِّ العَفو [3243] ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) لعنان (ص: 55). !
ويبدو أنَّ القَتلَ كان في نَظَرِ الحاكِمِ خُطَّةً مُقَرَّرةً، ولم تَكُنْ فَورةَ أهواءٍ فقَط، واللَّهُ تعالى أعلَمُ، وقد لَزِمَ الحاكِمُ هذه الخُطَّةَ طَوالَ حَياتِه، وفي هذا المَعنى قال الكوثَريُّ: (مَن عَلمَ أنَّ مُدَّةَ الحاكِمِ هذا مِن سَنةِ 386هـ إلى سَنةِ 411هـ، يرى الاعتِذارَ عنه بأنَّه كان مَجنونًا كلامًا لا يُلتَفتُ إليه؛ لأنَّ مِنَ المُحالِ في جاري العادةِ أن يُستَبقى حاكِمٌ وهو مَجنونٌ مُدَّةَ خَمسٍ وعِشرينَ سَنةً!) [3244] ((من عبر التاريخ)) (ص: 9). .
وقال المُستَشرِق مِيللر في الحاكِمِ: (ليس لَدَينا إلَّا أن نَعتَقِدَ أنَّه إمَّا باطِنيٌّ مُتَعَصِّبٌ، تَوهَّمَ في نَفسِه الإغراقَ والأُلوهيَّةَ، وإمَّا أميرٌ ذَكيٌّ بارِعٌ في تاريخِ أُسرَتِه ومَذهَبِها. اعتَقدَ أنَّه يستَطيعُ أن يسموَ فوقَ البَشَرِ وأن يحتَقِرَهم ويُصَنِّفَهم كالشَّمعِ طَوعَ إرادَتِه، ورُبَّما كان يجمَعُ في طَبيعَتِه المُتَناقِضةِ بَينَ شَيءٍ مِن هذا وشَيءٍ مِن ذاك) [3245] يُنظر: ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) لعنان (ص: 96). .
ولَقد كانت مُعامَلةُ الذِّمِّيِّينَ مِن أهَمِّ ظَواهرِ عَصرِ الحاكِمِ بأمرِ اللَّهِ؛ إذ كانت على ما يبدو سياسةً مُقَرَّرةً، ولم تَحمِلْ في مَجموعِها طابَعَ التَّناقُضِ؛ ففي سَنةِ 395هـ أصدرَ الحاكِمُ أمرَه للنَّصارى واليهودِ بلُبسِ الغيارِ (يعني أن يلبَسوا ثَوبًا يُخالِفُ لَونُه بَقيَّةَ ثيابِهم، كأن يلبَسوا إزارًا بلَونٍ يُخالِفُ لَونَ الرِّداءِ)، وشَدِّ الزُّنَّارِ، ولُبسِ العَمائِمِ السُّودِ. وفي سَنةِ 399هـ أمَرَ بهَدمِ كنائِسِ القاهرةِ ونَهبِ ما فيها، وصَدر مَرسومٌ خاصٌّ بهَدمِ كنيسةِ القيامةِ في بَيتِ المَقدِسِ. وفي العامِ التَّالي صَدر مَرسومٌ جَديدٌ بالتَّشديدِ على اليهودِ والنَّصارى في لُبسِ الغيارِ وتَقليدِ الزُّنَّارِ، وأُلغِيَتِ الأعيادُ النَّصرانيَّةُ كعيدِ الصَّليبِ والغطاسِ، وعيدِ الشَّهيدِ [3246] الذي ألغاه الحاكِمُ هو السَّماحُ لهم بجَعلِ هذه الأعيادِ الخاصَّةِ بهم أعيادًا شَعبيَّةً يُظهِرونَ فيها التَّحَدِّيَ للشُّعورِ الإسلاميِّ العامِّ مِن إظهارٍ وشُربٍ للخَمرِ ورَفعٍ للصُّلبانِ... إلخ، والتي كان يسمَحُ بها الحاكِمُ ومَن سَبَقَه في الدَّولةِ العُبَيديَّةِ. . ثُمَّ خَفَّت هذه المُعامَلةُ للذِّمِّيِّينَ في أواخِرِ عَصرِه؛ إذ أصدَرَ عِدَّةَ سِجِلَّاتٍ بإلغاءِ ما أصدَرَه مِن قَبلُ في حَقِّهم. وذلك حينَما ظَهَرَ دُعاةُ تَأليهِه يدعونَ إلى دينٍ جَديدٍ وعَقائِدَ جَديدةٍ [3247] يُنظر: ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) لعنان (ص: 78 – 71، 92). . فكان لا بُدَّ مِن تَغييرِ هذه المُعامَلةِ؛ مُحاولةً منه لاستِمالَتِهم إلى ما تَصبو إليه نَفسُه.
أمَّا مَوقِفُ الحاكِمِ مِن أحكامِ وأركانِ الإسلامِ فقد أصدَرَ سَنةَ 400هـ سِجِلًّا بإلغاءِ الزَّكاةِ [3248] هذا يؤيِّدُ ما ذكره الدكتور محمد كامل حسين معتمدًا على رسائِلِ الدُّروزِ أنَّ بدايةَ ادِّعاءِ الحاكِمِ الألوهيَّةَ كانت سنةَ 400هـ. ، وسَمَحَ بصَلاةِ الضُّحى والتَّراويحِ بَعدَ أن مَنَعَهما مِن قَبلُ. وقيلَ: إنَّه حاولَ تَعديلَ بَعضِ الأحكامِ الجَوهَريَّةِ، كالصَّلاةِ والصَّومِ والحَجِّ، وقيلَ: إنَّه شَرَعَ في إلغائِها، أو إنَّه ألغاها بالفِعلِ!
وألغى صَلاةَ الجُمعةِ (التي يُصَلِّيها) في رَمَضانَ، وألغى صَلاتَه في العيدَينِ، وألغى الحَجَّ، وفي سَنةِ 395هـ أمَر بسَبِّ أبي بَكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ وعائِشةَ ومُعاويةَ وغَيرِهم مِنَ الصَّحابةِ رَضي اللَّه عنهم، وكُتِبَ ذلك على أبوابِ المَساجِدِ، ولا سيَّما جامِعِ عَمرٍو في ظاهرِه وباطِنِه، وعلى أبوابِ الحَوانيتِ والمَقابرِ، ولُوِّنَ بالأصباغِ والذَّهَبِ، وأرغَمَ النَّاسَ على المُجاهَرةِ به ونَقشِه في سائِرِ الأماكِنِ [3249] يُنظر: ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) لعنان (ص: 76 - 78). !
وقد أمَرَ نائِبَه على دِمَشقَ أن يَضرِبَ رجلًا مَغرِبيًّا، ويُطافَ به على حِمارٍ، ونوديَ عليه: هذا جَزاءُ مَن أحَبَّ أبا بَكرٍ وعُمَرَ، ثُمَّ أمَرَ به، فضُرِبت عُنُقُه [3250] يُنظر: ((الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري)) لآدم متز (1 / 132). !
ولَكِنَّه في سَنةِ 397هـ أمَرَ بمَحوِ كُلِّ ما كُتِبَ على المَساجِدِ والدُّورِ وغَيرِها، وفي سَنةِ 401هـ قُرِئَ بجامِعِ عَمرٍو سِجِلٌّ بالنَّهيِ عن مُعارَضةِ أميرِ المُؤمِنينَ (الحاكِم) فيما يفعَلُ أو يُصدِرُ فيه مِنَ الأُمورِ والأحكامِ، وتَركِ الخَوضِ فيما لا يعني. وكانتِ النُّفوسُ قدِ اضطَرَبَت مِن جَرَّاءِ هذه الأوامِرِ والقُيودِ، وأمرَ في نَفسِ السِّجِلِّ بإعادةِ (حَيَّ على خَيرِ العَمَلِ) في الأذانِ، وإسقاطِ (الصَّلاةُ خَيرٌ مِنَ النَّومِ)، والنَّهيِ عن صَلاةِ التَّراويحِ والضُّحى [3251] يُنظر: ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) لعنان (ص: 66). !
وجَنَحَ الحاكِمُ في إحدى الفتَراتِ إلى الظُّهورِ بصورةٍ مُخالفةٍ للمَألوفِ، فأطلَقَ شَعرَه حتَّى تَدَلَّى على أكتافِه، وأطلَقَ أظافِرَه، واستَعاضَ عنِ الثِّيابِ البَيضاءِ بثيابٍ سودٍ، فكان يرتَدي جُبَّةً مِنَ الصُّوفِ الأسودِ العاديِّ [3252] وهذا يدُلُّ على ما يتَمَسَّكُ به أجاويدُ طائِفةِ الدُّروزِ حتَّى اليومِ مِن لُبسِ الثِّيابِ السَّوداءِ مِن القُماشِ المَعروفِ بـ (كلمنظا) وهو قُماشٌ قُطنيٌّ رَخيصٌ مَتينٌ. ، وقد لا يُغَيِّرُها مُدَّةً طَويلةً حتَّى يعلوَها العَرَقُ والرَّثاثةُ، وقد يرتَدي أحيانًا جُبَّةً مُرَقَّعةً مِن سائِرِ الألوانِ!
وأضرَبَ عن جَميعِ المَلاذِّ الحِسِّيَّةِ والنَّفسيَّةِ، واقتَصَرَ في طَعامِه على أبسَطِ ما تَقتَضيه الحَياةُ مِنَ القوتِ المُتَواضِعِ.
وفي سَنةِ 405هـ ازدادَ الحاكِم شَغَفًا بالطَّوافِ في اللَّيل، فكان يركبُ مِرارًا في اليومِ، بالنَّهارِ واللَّيلِ، وغالبًا ما كان يقصِدُ إلى الـمُقَطَّمِ [3253] بضَمِّ أوَّلِه، وفتحِ ثانيه، وهو الجَبَلُ المُشرِفُ على القَرافةِ (مَقبَرةُ الفُسطاطِ والقاهرةِ) وهو جَبَلٌ يمتَدُّ مِن أسوانَ وبلادِ الحَبَشةِ على شاطِئِ النِّيلِ الشَّرقيِّ، حتَّى يكونَ مُنقَطَعُه طَرَفَ القاهرةِ، ويُسَمَّى في كُلِّ مَوضِعٍ باسمٍ، وعليه مَساجِدُ وصَوامِعُ للنَّصارى، لَكِن لا نَبتَ فيه ولا ماءَ. يُنظر: ((معجم البلدان)) لياقوت (5/ 176). ؛ حَيثُ أنشَأ له منزلًا مُنفرِدًا يخلو فيه إلى نَفسِه، ويهيمُ في عَوالمِه وتَصَوُّراتِه، ومَرصَدًا خاصًّا يرصُدُ منه النُّجومَ ويستَطلِعُها.
وكان يُؤثِرُ رُكوبَ الحَميرِ، ولا سيَّما الشَّهباءِ منها، ويخرُجُ دونَ مَوكِبٍ ولا زينةٍ ومَعَه نَفرٌ قَليلٌ مِنَ الرِّكابيَّةِ، وكان يبدَأُ كعادَتِه بالتَّجوالِ في شَوارِعِ القاهرةِ، ويُحادِثُ الكافَّةَ، ويستَمِعُ إلى ظُلاماتِ المُتَظَلِّمينَ.
وقد سُطِّرَت أحاديثُ ونَوادِرُ كثيرةٌ عنِ المَناظِرِ التي كانت تَقتَرِنُ بهذا الطَّوافِ، وعَمَّا كان ينزِعُ إليه الحاكِمُ أحيانًا مِنَ الأهواءِ العنيفةِ خِلالَ طَوافِه [3254] يُنظر: ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) لعنان (62 - 63، 87، 111)، ((الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري)) لآدم متز (2 / 168). !
هذا بَعضُ ما أورَدَه المُؤَرِّخونَ عنِ الحاكِمِ، وليس هو مُجَرَّدَ سَردٍ تاريخيٍّ لحَياتِه، ولَكِنَّه مِن صُلبِ عَقيدةِ الدُّروزِ؛ حَيثُ سيتَبَيَّنُ أنَّ لتلك الوقائِعِ التَّاريخيَّةِ لحَياةِ الحاكِمِ أكبَرَ الأثَرِ في عَقيدةِ هذه الطَّائِفةِ؛ لأنَّهم أوَّلوا جَميعَ تلك الأعمالِ الشَّاذَّةِ على أنَّها دَليلٌ على أُلوهيَّتِه ورُبوبيَّتِه، وأنَّها ليست على ظاهرِها!
الدَّورُ الثَّالِثُ: من سنةِ 408 – 411هـ
في رِسالةِ (مَباسِمُ البِشاراتِ) التي كتَبَها الكَرمانيُّ أحَدُ أكابِرِ الدُّعاةِ الإسماعيليِّينَ في ذلك الوقتِ، والتي جاءَت بَعدَ اضطِرابِ الأحوالِ في مِصرَ حينَما وفدَ إليها الكَرْمانيُّ سَنةَ 408هـ: إشارةٌ واضِحةٌ إلى حالةِ الدَّعوةِ الإسماعيليَّةِ آنَذاك؛ فقد جاءَ فيها: (بأنَّ عُهودَ الدَّعوةِ التي كانت قَبلَ ذلك قد دَرَست، وأنَّ مَجالِسَ الحِكمةِ التَّأويليَّةِ أُبطِلَت، وتَقَلَّبَتِ الأحوالُ بالنَّاسِ؛ فالعالي قدِ اتَّضَعَ، والسَّافِلُ قدِ ارتَفعَ، والذين آمَنوا بالدَّعوةِ الفاطِميَّةِ اضطَرَبَت أحوالُهم، وكُلُّ واحِدٍ يرمي صاحِبَه بالإلحادِ، وبَعضُهم غالى في رَأيِه، والبَعضُ الآخَرُ خَرَجَ عن عَقيدتِه...) [3255] أورد مصطفى غالب الرِّسالةَ بأكمَلِها في كتابه: ((الحركات الباطنية في الإسلام)) (ص: 205- 233). .
فالصُّورةُ التي صَوَّرَها الكَرمانيُّ لهذا الاضطِرابِ الذي ظَهَرَ في المُجتَمَعِ كان بسَبَبِ ظُهورِ دَعوةٍ جَديدةٍ تَقولُ: بأنَّ الحاكِمَ بأمرِ اللَّهِ ما هو إلَّا ناسوتٌ للإلهِ! ولَعَلَّ الدُّعاةَ الذين نادَوا بهذه الدَّعوةِ الجَديدةِ ظَلُّوا يعمَلونَ لها مُدَّةً طَويلةً في الخَفاءِ، ويَعُدُّونَ عُدَّتَهم للظُّهورِ بها في الوقتِ المُلائِمِ [3256] يُنظر: ((طائفة الدروز)) لمحمد كامل حسين (ص: 75). .
ولَعَلَّ سُلوكَ الحاكِمِ المُضطَرِبَ إنَّما كان بتَأثيرِ فِكرةِ الأُلوهيَّةِ (فالحاكِمُ تَولَّى مَقاليدَ الحُكمِ وهو صَغيرُ السِّنِّ، وقد أُحيطَ بهالةٍ خاصَّةٍ مِمَّا أسبَغَته العَقيدةُ الإسماعيليَّةُ على أئِمَّتِها، فتَأثَّرَ بهذه العَقائِدِ إلى جانِبِ أنَّه رَأى حاشيتَه ورَعيَّتَه يسجُدونَ له كُلَّما مَرَّ بهم، فشاعَ طُموحُه -وهو في مِثل هذا السِّنِّ الصَّغيرِ- أن يكونَ إلهًا مِثلَ المُلوكِ الأقدَمينَ مِنَ الفراعِنةِ، واختَمَرَت هذه الفِكرةُ في نَفسِه، ولَكِنَّه لم يُعلِنْها للنَّاسِ، ولَعَلَّه أسَرَّ بها إلى بَعضِ الدُّعاةِ حَولَه، فتسابقوا إلى إشباعِ نَزوتِه وتَنميتِها مَعَ مُرورِ الزَّمَنِ) [3257] ((أضواء على العقيدة الدرزية)) لأحمد الفوزان (ص: 23). .
(ورُبَّما أوحى بَعضُ الدُّعاةِ إليه بكُلِّ ما قامَ به مِن أعمالٍ، ولَكِن ليس لَدَينا مِن كُتُبِ التَّاريخِ ما يُؤَيِّدُ أيَّ افتِراضٍ، والشَّيءُ المُؤَكَّدُ أنَّ هذه السِّياسةَ التي اتَّبَعَها الحاكِمُ كانت مُقَرَّرةً؛ ليُفهَمَ مِن أفعالِه أنَّه هو الخالقُ، وأنَّه هو المُحيي والمُميتُ، والرَّازِقُ والوهَّابُ، إلى غَيرِ ذلك مِن أسماءِ اللَّهِ الحُسنى، وصِفاتِه العُلى. فها هو الحاكِمُ بأمرِ اللَّهِ يُسرِفُ في القَتلِ ليُقالَ: إنَّه مُميتٌ، ويرزُقُ النَّاسَ ويهَبُهم ليُقالَ: إنَّه رَزَّاقٌ وهَّابٌ، ويعفو عَمَّن يستَحِقُّ القَتلَ ليُقالَ: إنَّه مُحيي!) [3258] ((طائفة الدروز)) لمحمد كامل حسين (ص: 44). .
ويُؤَيِّدُ هذا ما ورَدَ في (رِسالةِ السِّيرةِ المُستَقيمةِ) التي ألَّفها حَمزةُ بنُ عَليٍّ، وجاءَ فيها: (ولَكِنِّي أذكُرُ لكم في هذه السِّيرةِ وُجوهًا قَليلةَ العَدَدِ كثيرةَ المَنفعةِ لِمَن تَفكَّر فيها؛ فأوَّلُ ما أختَصِرُ في القَولِ ما فعَله المَولى سُبحانَه مَعَ برجوانَ وابنِ عَمَّارٍ، وهو يومَئِذٍ ظاهرٌ لا يراه العامَّةُ إلَّا على قَدرِ عُقولِهم، ويقولونَ: صَبيُّ السِّنِّ يعني الحاكِمَ، ومِلكُ المَشارِقةِ كافَّةً مَعَ برجوانَ، ولابنِ عَمَّارٍ مِلكِ المَغارِبةِ. فأمَرَ مَولانا بقَتلِهم، فقُتِلوا قَتلَ الكِلابِ، ولم يخشَ مِن تَشويشِ العَساكِرِ والاضطِرابِ، وأمَّا أمرُ مُلوكِ الأرضِ فما يستجرئُ أحَدٌ منهم على مِثلِ ذلك، ثُمَّ أمَرَ بقَتلِ مُلوكِ كُتامةَ وجَبابرتِها بلا خَوفٍ مِن نَسلِهم وأصلابِهم، ويمشي أنصافَ اللَّيالي في أوساطِ ذَراريِّهم وأولادِهم بلا سَيفٍ ولا سِكِّينٍ.
شاهَدتُموه في وقتِ أبي ركوةَ الوليدِ بنِ هشامٍ المَلعونِ وقد أضرَمَ نارَه، وكانت قُلوبُ العَساكِرِ تَجزَعُ في مَضاجِعِهم مِمَّا رَأوه مِن كسرِ الجُيوشِ، وقَتلِ الرِّجالِ، وكان المَولى جَلَّت قُدرَتُه يخرُجُ أنصافَ اللَّيالي إلى صَحراءِ الجُبِّ، ويلتَقي به حَسَّانُ بنُ عليانَ الكَلبيُّ في خَمسمِائةِ فارِسٍ، ويقِفُ مَعَهم بلا سِلاحٍ ولا عُدَّةٍ، حتَّى يسألَ كُلَّ واحِدٍ منهم عن صاحِبِه، ثُمَّ إنَّه يدخُلُ في ظاهرِ الأمرِ إلى صَحراءِ الجُبِّ، وليس مَعَه غَيرُ الرِّكابيَّةِ والمُؤَذِّنينَ... إلى أن قال: إنَّكم تَرَونَ مِن أُمورٍ تحدُثُ بما شاهَدتُموه مِنَ المَولى ما لا يجوزُ أن تكونَ أفعالَ أحَدٍ مِنَ البَشَرِ، لا ناطِقٍ، ولا أساسٍ، ولا إمامٍ، ولا حُجَّةٍ، فلم تَزدادوا بذلك إلَّا عَمًى وقِلَّةَ بَصيرةٍ) [3259] ((رسالة السيرة المستقيمة)) ضمن ((رسائل الحكمة)) لحمزة بن علي (1/ 125). .
وقد بَدَأ ظُهورُ المَذهَبِ الجَديدِ حينَما قامَ الدَّرْزيُّ (وهو أحَدُ دُعاةِ المَذهَبِ في أوَّلِ ظُهورِه)، وأعلَنَ الدَّعوةَ سَنةَ 407هـ، ثُمَّ قامَ سَنةَ 408هـ ومَعَه خَمسُمِائةٍ مِن أصحابِه وأتباعِه بالحَجِّ إلى قَصرِ الحاكِمِ، فهاجَمَهمُ النَّاسُ والجُندُ [3260] يُنظر: ((أضواء على العقيدة الدرزية)) للوزان (ص: 16). .
والمُؤَرِّخونَ يذكُرونَ ثَلاثةً مِنَ الدُّعاةِ الكِبارِ الذين أسَّسوا هذا المَذهَبَ، وهم: حَمزةُ بنُ عَليِّ بنِ أحمَد الزَّوزَنيُّ (الذي أصبَحَ إمامَ المَذهَبِ فيما بَعدُ)، ومُحَمَّدُ بنُ إسماعيلَ الدَّرْزيُّ، والحَسنُ بنُ حَيدرةَ الفَرغانيُّ.
ويُرَجِّحُ بَعضُ الباحِثينَ المُعاصِرينَ أنَّهم كانوا جَميعًا مِن حاشيةِ الحاكِمِ الذين لم يُفارِقوه مُدَّةَ الوِصايةِ عليه، وخاصَّةً حَمزةَ بنَ عَليٍّ، الذي استَأثَرَ بكُلِّ شَيءٍ، وبالتَّمجيدِ كُلِّه [3261] يُنظر: ((طائفة الدروز)) لمحمد كامل حسين (ص: 75). .
وقد وقَعَ الخِلافُ بَينَ حَمزةَ والدَّرْزيِّ مُنذُ ذلك الحينِ لتَسرُّعِ الدَّرْزيِّ في الكشفِ عنِ المَذهَبِ الجَديدِ، وقد عَمَدَ حَمزةُ إلى إظهارِ دَعوى أُلوهيَّةِ الحاكِمِ سَنةَ 408هـ، والتي يعتَبرُها الدُّروزُ أُولى سِني تَقويمِهم، وبَعدَ هذه الدَّعوى اضطَرَبَتِ الأحوالُ في مِصرَ، وهاجَمَتِ النَّاسُ هؤلاء الدُّعاةَ في كُلِّ مَكانٍ؛ مِمَّا دَفعَ الدَّرْزيَّ إلى الاحتِماءِ في قَصرِ الحاكِمِ، والهَرَب فيما بَعدُ إلى الشَّامِ. واضطُرَّ حَمزةُ بَعدَ الذي حَدثَ أن يغيبَ عنِ الأنظارِ في سَنةِ 409هـ، والتي يعتَبرُها سَنةَ غَيبةٍ.
مِن كُلِّ ذلك يتَّضِحُ أنَّ الحاكِمَ كان يقِفُ مِن هذه الدَّعوةِ مَوقِفَ التَّأييدِ والرِّعايةِ، ويشُدُّ أزْرَهم ويمُدُّهم بالمالِ والنُّصحِ، ويَسهَرُ على حِمايتِهم مِنَ النَّاسِ، ومِمَّا قاله حَمزةُ بنُ عَليٍّ مُؤَكِّدًا على حِمايةِ الحاكِمِ له ولأتباعِه، عِندَما هاجَمَهمُ النَّاسُ والجُندُ في المَسجِدِ الذي كان يحتَمي فيه: (وقدِ اجتَمَعَت عِندَ المَسجِدِ سائِرُ الأتراكِ بالجواشنِ والزَّردِ، والخوذِ والتَّجافيفِ، ومِن جَميعِ العَساكِرِ والرَّعيَّةِ زائِدًا عن عِشرينَ ألفَ رِجلٍ، وقد نَصَبوا على القِتالِ بالنِّفطِ والنَّارِ، ورُماةِ النُّشَّابِ والحجارِ، والتَّسَلُّقِ إلى الحيطانِ بالسَّلالمِ يومًا كاملًا، وجَميعُ مَن كان مَعي في ذلك اليومِ اثنا عَشَرَ نَفسًا، منهم خَمسةُ شُيوخٍ كِبارٍ، وصِبيانٌ صِغارٌ لم يُقاتِلوا، فقَتَلْنا مِنَ المُشرِكينَ [3262] يقصِدُ المسلِمينَ. ثَلاثَ أنفُسِ، وجَرَحْنا منهم خَلقًا عَظيمًا لا يُحصى، حتَّى طالَ على الفِئةِ القَليلةِ الموحِّدةِ القِتالُ، وكادَتِ الأرواحُ تَتَلاشى وتَبلُغُ التَّراق، وخافوا كثرةَ الأضدادِ والمراق، وغَلَبةَ المُنافِقينَ والفُسَّاق، فنادَيتُهم: مَعاشِرَ الموحِّدينَ: اليومَ أكمَلتُ لكم دينَكم بالجِهادِ، وأتمَمتُ عليكم نِعمَتَه والسَّدادَ، وأرضى لكمُ التَّسليمَ لأمرِه بالجِهادِ، وما يُصيبُنا إلَّا ما كتَبَ اللَّهُ علينا هو مَولانا وعليه فليتَوكَّلِ المُؤمِنونَ.
مَعاشِرَ الموحِّدينَ، قاتِلوا أئِمَّةَ الكُفرِ إنَّهم لا أيمانَ لهم لَعَلَّهم ينتَهونَ، قاتِلوا أقوامًا نَكَثوا أيمانَهم -يعني عَهدَهم- وهَمُّوا بإخراجِ الرَّسولِ -وهو قائِمُ الزَّمانِ- وهم بدؤوكم أوَّلَ مَرَّةٍ -يعني دَفعةَ الجامِعِ- فلا تَخشَوهم؛ فمَولانا جَلَّ ذِكرُه أحَقُّ أن تَخشَوه إن كُنتُم مُؤمِنينَ، قاتِلوهم يُعَذِّبْهمُ اللَّهُ بأيديكم ويُخزيهم وينصُرْكم عليهم ويَشفِ صُدورَ قَومٍ مُؤمِنينَ.
فما استتمَّيتُ كلامي لهم حتَّى صارَ مَولانا جلَّ ذِكرُه وتَجَلَّى للعالَمينَ بقُدرَتِه سُبحانَه، فصَعِقَت مَن في السَّمَواتِ والأرضِ، فانقَلَبوا المُنافِقينَ على أعقابِهم خائِبينَ، فلمَولانا الحَمدُ والشُّكرُ أبَدَ الآبدينَ) [3263] ((رسالة الغاية والنصيحة)) ضمن ((رسائل الحكمة)) لحمزة بن علي (1/ 95- 96). .
ومِنَ الواضِحِ أنَّ الحاكِمَ كان يُشرِفُ على تَوجيهِ الدَّعوةِ، ويشتَرِكُ في تَنظيمِها وتَغذيتِها بطَريقةٍ فِعليَّةٍ، وهذا ما ذَكرَه حَمزةُ في رَسائِله؛ فقد ذَكرَ حَمزةُ في رِسالةِ (الشَّمعة): (تَمَّت رِسالةُ الشَّمعةِ ومُثُلُها وحُدودُها في التَّوحيدِ على المَسلَكِ الثَّالثِ، ورُفِعَت إلى الحَضرةِ اللَّاهوتيَّةِ وأُطلِقَت. والحَمدُ لمَولانا وحدَه) [3264] ((رسالة الشمعة)) ضمن ((رسائل الحكمة)) (1/ 281). .
وقال أيضًا: (فتَأييدُ مَولانا سُبحانَه واصِلٌ إليَّ، ورَحمتُه وأفضالُه ظاهرةٌ وباطِنةٌ عليَّ، وجَميعُ أصحابي المُستَجيبينَ عَزيزينَ مُكرَّمينَ، وفي الشُّرطةِ والوِلايةِ، وعِندَ أصحابِ السَّيَّاراتِ، مقضيُّون الحَوائِج دونَ سائِرِ العالَمينَ. ورُسُلي واصِلةٌ بالرَّسائِل والوثائِقِ إلى الحَضرةِ اللَّاهوتيَّةِ التي لا تَخفى عنها خافيةٌ، لا في السِّرِّ ولا في الإعلانيةِ، وقد أوعَدَني مَولانا جَلَّت قُدرَتُه في ظاهرِ الأمرِ مُضافًا إلى مَواعيدِه الحَقيقةِ التَّأييديَّةِ، وهو مُنجِزٌ مَواعيدَه وقتَ يشاءُ كيف يشاءُ بلا تَقديرٍ عليه) [3265] ((رسالة الصيحة الكائنة)) ضمن ((رسائل الحكمة)) (1/ 205). .
غَيرَ أنَّ مُطارَدةَ دُعاةِ الحاكِمِ وتَمزيقَهم بهذه القَسوةِ مِن قِبَلِ النَّاسِ، دونَ اكتِراثٍ لِما أولاهم به مِن رِعايةٍ ظاهرةٍ، قد أثارَ في نَفسِه غَضَبًا على الجُندِ والنَّاسِ؛ لأنَّهم تجرَّؤوا على ذلك، وعَوَّل على الانتِقامِ لنَفسِه وللدُّعاةِ.
فظلَّت الفُسطاطُ بضعةَ أسابيعَ مَسرَحًا لمَناظِرَ مُرَوِّعةٍ مِنَ السَّفكِ والعَبَثِ والنَّهبِ، وأُحرِقَت مُعظَمُ شَوارِعِها ومَبانيها، وخَرِبَت مُعظَمُ أسواقِها ونُهِبَت، وسُبي كثيرٌ مِن نِسائِها، واعتُدي عليهنَّ، وانتَحَرَ كثيرٌ منهنَّ خَشيةَ العارِ، وتَتَبَّعَ المِصريُّونَ أزواجَهم وبَناتِهم وأُمَّهاتِهم وافتَدَوهنَّ مِنَ الخاطِفينَ [3266] ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) لعنان (ص: 119، 120). ويُنظر أيضًا: ((مرآة الزمان في تواريخ الأعيان)) لسبط ابن الجوزي (18/ 283- 285). .
وقد أكَّدَ حَمزةُ بنُ عَليٍّ تلك الحَوادِثَ، وأنَّها كانتِ انتِقامًا لِما حَصَلَ للدُّعاةِ مِن تَنكيلٍ وتَمزيقٍ، فقال: (لأنَّه سُبحانَه أنعَمَ عليكم ما لم يُنعِمْ على مَن في الأدوارِ، وأظهَرَ لكم مِن تَوحيدِه وعِبادَتِه ما لم يُظهِرْه في عَصرٍ مِنَ الأعصارِ، وأعَزَّكم في وقتِ عَبدِه الهادي ما لم يُعِزَّ أحَدًا في الأقطارِ، ولم يكُنْ لصاحِبِ الشُّرطةِ والوِلايةِ والسَّيَّاراتِ عليكم سَبيلٌ إلَّا بطَريقِ الخَيرِ، ثُمَّ إنَّ المُنافِقينَ قَتَلوا مِن إخوانِكم ثَلاثةَ أنفُسٍ، فأمر مَولانا جلَّ ذِكرُه بقَتلِ مِائةِ رَجُلٍ منهم، والذي قال في القُرآنِ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة: 45] لا غَيرُ، فلم تَشكُروه على ذلك، ولم تَعبُدوه حَقَّ ما يجِبُ عليكم مِن عِبادَتِه، ولم تَكُنْ نيَّاتُكم خالصةً لوحدانيَّتِه) [3267] ((الرسالة الموسومة بالرضا والتسليم)) ضمن ((رسائل الحكمة)) (1/ 178- 179). .
وقد حاولَ عَدَدٌ مِنَ الكُتَّابِ المُعاصِرينَ، الذين كتَبوا عنِ الحاكِمِ وعنِ الدُّروزِ، أن ينفوا عنِ الحاكِمِ كُلَّ هذه الأُمورِ ويُصَوِّروها كأنَّها افتِراءاتٌ مِنَ المُؤَرِّخينَ، أو يجعَلوا لها تَبريراتٍ غَيرَ مَعقولةٍ؛ فحاولَ بَعضُهم أن يُصَوِّرَ الأمرَ على أنَّه اختِلافاتٌ سياسيَّةٌ بَينَ الحاكِمِ وخُصومِه، فلَمَّا عادَتِ السُّلطةُ إلى مَنِ اضطَهَدَهم كان يُهمُّهم أن يُبرِزوه مَعتوهًا أو مَجنونًا أو مُدَّعيًا للأُلوهيَّةِ؛ ليصرِفوا النَّاسَ عنِ البَحثِ عنِ القَتَلةِ الذين قَتَلوا الحاكِمَ [3268] يُنظر: ((التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية)) لأحمد شلبي (ص: 116 – 122). .
وقد حاولَ الدَّرْزيُّ عَبدُ اللَّهِ النَّجَّارُ [3269] سياسيٌّ لُبنانيٌّ مِن طائِفةِ الدُّروزِ، تَقَلَّدَ عِدَّةَ مَناصِبَ رَفيعةٍ في الدَّولةِ اللُّبنانيَّةِ، وألَّف كِتابًا عن الدُّروزِ أسماه (مَذهَبَ الدُّروزِ والتَّوحيدِ) حاولَ فيه أن يُبَيِّنَ ويُظهِرُ عَقيدةَ طائِفتِه للنَّاسِ والجُهَّالِ مِن طائِفتِه، ولَكِنَّ الدُّروزَ وخاصَّةً مَشيخةَ العَقلِ هاجموه بشِدَّةٍ، وأتلَفوا كِتابَه، حتَّى طُبعَ مَرَّةً ثانيةً في مِصرَ، ولَكِنَّهم عادوا وحاولوا جمعَ ما يستَطيعونَ مِنه وإتلافَه، وأصدَروا كِتابًا للرَّدِّ عليه اسمُه (أضواءٌ على مسلَكِ التَّوحيدِ) للدكتور سامي مكارم، ولم يكتفوا بذلك، بل قُتِلَ غِيلةً عامَ 1978م. في كِتابه (مَذهَبُ الدُّروزِ والتَّوحيدُ) نَفيَ صِلةِ الحاكِمِ بحَمزةَ بنِ عَليٍّ وغَيرِه مِنَ الدُّعاةِ، مَعَ أنَّ بَعضَ الدُّروزِ قد رَدَّ عليه، فقال: (نَرى المُؤَلِّفَ الكريمَ يسعى إلى التَّفرِقةِ والفَصلِ بَينَ حَمزةَ بنِ عَليٍّ والحاكِمِ بأمرِ اللَّهِ، وإنكارِ صِلةِ الحاكِمِ بالمَذهَبِ وانتِسابِه إليه. وفي ذلك ما فيه، عِلاوةً على نيَّةِ تَقويضِ أساسِ المُعتَقَدِ العِرفانيِّ، والمَذهَبِ التَّوحيديِّ «أي الدَّرْزيَّةِ»، كما هو مَشهورٌ ومَعلومٌ، قد أخَذَ وغَرَف المُحتَوى الأخيرَ لمَنهَجِه ولعَقيدَتِه ودَعَوتِه مِن مَجالِسِ الحِكمةِ التي كانت تُعقَدُ في حَضرةِ مَولانا الحاكِمِ وتَوجيهِه، وفي دارِ الحِكمةِ التي أسَّسَها على غِرارِ أكاديميَّةِ أفلاطونَ عليه السَّلامُ) [3270] يُنظر: ((أضواء على مسلك التوحيد)) لسامي مكارم (ص: 72، 73). .
وهناك رِسالةٌ مِن رَسائِلِ حَمزةَ عُنوانُها (الرِّسالةُ المُنفَذةُ إلى القاضي أحمَدَ بنِ العَوَّامِ) [3271] أحمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَبدِ اللهِ بنِ أبي العَوَّامِ السَّعديُّ. قاضي مِصرَ وبَرقةَ وصِقِلِّيةَ والشَّامِ والحَرَمينِ، مِن فُقَهاءِ الحَنابلةِ، مِصريٌّ، ولي القَضاءَ في أيَّامِ الحاكِمِ بمِصرَ سَنةَ 405ه، وفي أيَّامِه غابَ الحاكِمُ (أو قُتِل)، توفِّيَ سنةَ 418هـ. يُنظر: ((الأعلام للزركلي)) (1/ 104). ويُنظر أيضًا: ((رسائل الحكمة)) لحمزة بن علي (1/227). تُثبتُ أنَّ حَمزة أصبَحَ في مَكانةٍ استَطاعَ منها أن يُخاطِبَ قاضيَ القُضاةِ بمِثلِ هذا الخِطابِ [3272] يُنظر: ((طائفة الدروز)) لمحمد كامل حسين (ص: 81). ، وتَدُلُّ على مَدى المَكانةِ التي بَلَغَها حَمزةُ في ذلك التَّاريخِ [3273] يُنظر: ((مذاهب الإسلاميين)) لعبد الرحمن بدوي (2/600). . ولو لم يكُنْ وراءَ حَمزةَ مَن يحميه ويدفعُ عنه الأذى ما كان يجرُؤُ على كِتابةِ مِثلِ هذا الخِطابِ.
قال حَمزةُ في هذه الرِّسالةِ: (تَوكَّلتُ على أميرِ المُؤمِنينَ جلَّ ذِكرُه، وبه أستَعينُ في جَميعِ الأُمورِ، مُعِلُّ عِلَّةِ العِلَلِ، صِفاتُ العِلَّةِ بسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ. مِن عَبدِ أميرِ المُؤمِنينَ ومَملوكِه حَمزةَ بنِ عَليِّ بنِ أحمَدَ هادي المُستَجيبينَ، المُنتَقِمِ مِنَ المُشرِكينَ بسَيفِ أميرِ المُؤمِنينَ وشِدَّةِ سُلطانِه، ولا مَعبودَ سِواه، إلى أحمَدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ العَوَّامِ، المُلَقَّبِ بقاضي القُضاةِ، أمَّا بَعدُ:
فقد تَقدَّمَت لَنا إليك رِسالةٌ نَسألُك عن مَعرِفتِك بنَفسِك، فقَصَّرتَ عنِ الإجابةِ؛ قِلَّةَ عِلمٍ مِنك بالحَقِّ وإهجانًا به، وكيف يجوزُ لك أنَّ تَدعيَ هذا الاسمَ الجَليلَ -وهو قاضي القُضاةِ- وليس لك عِلمٌ بحَقائِقِ القَضايا والأحكامِ؟ فقد صَحَّ بأنَّك مُدَّعٍ لِما أنتَ فيه، فيجِبُ عليك أن تَعلَمَ نَفسَك وتَدريَها، فإن كُنتَ قد جَهِلتَها فأنتَ فِرعَونُ الزَّمانِ، وفِعلُك لاحِقٌ بعُثمانَ بنِ عَفَّانَ، فيجِبُ عليك أن تُقلِعَ عَمَّا أنتَ فيه، وتَتَّبعَ سِيرَ أصحابِك المُتَقدِّمينَ أبي بَكرٍ وعُمَرَ، وتُزيلَ تَلثيمةَ البَياضِ عن رَأسِك والعِمامةِ والطَّيلَسانِ، وتَلبَسُ دَنيَّةً سَوداءَ بشَقائِقَ صُفرٍ طِوالٍ مُدَلَّاةً على صَدرِك، وتَلبَسَ درَّاعةً بلا جَيبٍ، بَل تَكونُ مَشقوقةَ الصَّدرِ، وتَكونُ مُرَقَّعةً بالأحمَرِ والأصفرِ والأديمِ الأسودِ الطَّائِفيِّ، وتَكونُ قَصيرةً عليك لتَلحَقَ في الشَّكلِ بعُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، ويكونُ لَك دِرَّةٌ على فخذِك لتُقيمَ بها الحُدودَ على مَن تجِبُ عليه وأنتَ جالسٌ في الجامِعِ، ويكونُ لك في كُلِّ سوقٍ صاحِبٌ يتَزَيَّنُ بزيِّك وبيدِه دِرَّةٌ يُقيمُ بها في سوقِه الحُدودَ على مَن وجَبَت عليه مِثلَ الزَّاني والسَّارِقِ والقاذِفِ وشارِبِ الخَمرِ، مِمَّن هو من أهلِ مِلَّتِك، وتَكونُ تَتَولَّى الخُطبةَ بنَفسِك، وتَطلُعُ على المِنبَرِ بلا سَيفٍ تَتَقَلَّدُ به، ويكونُ مَمرُّك ومَجيئُك مِن دارِك إلى الجامِعِ، وأنتَ ماشٍ حافيًا لتَكونَ في ذلك لاحِقًا بأصحابِك المُتَقدِّمينَ أبي بَكرٍ وعُمَرَ.
وإيَّاك ثُمَّ إيَّاك أن تَنظُرَ لموحِّدٍ في حُكمٍ لا أنتَ ولا عادِلتُك في شَهادةِ نِكاحٍ ولا طَلاقٍ ولا وثيقةٍ، ولا عِتقٍ ولا وصيَّةٍ، ومَن جَلَسَ بَينَ يدَيك على حُكمٍ فتَسألُ عنه إن يكونُ موحِّدًا فتُرسِلُه إليَّ مَعَ رَجَّالَتِك لأحكُمَ أنا عليه بحُكمِ الشَّريعةِ الرُّوحانيَّةِ التي أطلَقَها أميرُ المُؤمِنينَ سَلامُه علينا؛ فانظُرْ لنَفسِك فقد أعذَرتُك مَرَّةً بَعدَ أُخرى وأنذَرتُك) [3274] ((الرسالة المـُنفَذة إلى القاضي)) ضمن ((رسائل الحكمة)) (1/227، 228). .
وفي رِسالةِ حَمزةَ بنِ عَليِّ بنِ أحمَدَ المَوسومةِ بـ(كِتابٌ فيه حَقائِقُ ما يظهَرُ قُدَّامَ مَولانا جلَّ ذِكرُه مِنَ الهَزلِ) يتَبَيَّنُ مَدى تَأثُّرِ العَقيدةِ الدَّرْزيَّةِ بأفعالِ وأقوالِ الحاكِمِ، والتي يعتَبرونَها دليلًا على أُلوهيَّتِه؛ حَيثُ تَلَمَّسَ لها حَمزةُ تَأويلاتٍ باطِنيَّةً، واتَّخَذَ منها دَلالاتٍ على صِدقِ أُلوهيَّةِ الحاكِمِ، وأنَّ كُلَّ ما أتى به الحاكِمُ هو رَمزٌ وإشارةٌ، وله تَأويلٌ باطِنيٌّ لا يفقَهُه النَّاسُ [3275] يُنظر: ((طائفة الدروز)) لمحمد كامل حسين (ص: 44). .
ولهذه الرِّسالةِ أهَمِّيَّةٌ خاصَّةٌ فيما يتَعَلَّقُ بتَأييدِ الأخبارِ المَرويَّةِ في كُتُبِ المُؤَرِّخينَ عن أفعالِ الحاكِمِ الغَريبةِ؛ إذ فيها تَأييدٌ لها وتَوكيدٌ، ودَليلٌ قاطِعٌ على أنَّ هؤلاء المُؤَرِّخينَ لم يفتَروا شَيئًا ولم ينقُلوا إشاعاتٍ كاذِبةً [3276] يُنظر: ((مذاهب الإسلاميين)) لبدوي (2 / 757). .
ومِمَّا جاءَ في هذه الرِّسالةِ الطَّويلةِ: (الحَمدُ لمَولانا وحدَه، وشِدَّةُ سُلطانِه، تَوكَّلتُ على مَولانا الباري العَلَّامِ العَليِّ الأعلى، حاكِمِ الحُكَّامِ، مَن لا يدخُلُ في الخَواطِرِ والأوهامِ، جلَّ ذِكرُه عن وصفِ الواصِفينَ وإدراكِ الأنامِ. بسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ، صِفاتُ عَبدِه الإمامِ، الحَمدُ والشُّكرُ لمَولانا جلَّ ذِكرُه، وبه أستَعينُ في الدِّينِ والدُّنيا وإليه المَعادُ، الذي يحيي ويُميتُ، وهو الحَيُّ الذي لا يموتُ، الذي هو في السَّماءِ عالٍ، وفي الأرضِ مُتَعالٍ، حاكِمًا، عليه تَوكَّلتُ، وبه أستَعينُ، وإليه المَصيرُ، وهو المُعينُ، وصَلَواتُ مَولانا جلَّ ذِكرُه وسَلامُه على الذي اصطَفاه مِن خَلقِه واختارَه مِن عَبيدِه، وجَعَلهمُ الوارِثينَ لديارِ أعدائِهم بقوَّتِه وسُلطانِه، الحاكِمُ، القادِرُ، العَزيزُ القاهرُ، وهو على كُلِّ شَيءٍ قديرٌ.
أمَّا بَعدُ، مَعاشِرَ الإخوانِ الموحِّدينَ، أعانَكمُ المَولى على طاعَتِه، إنَّه وصَلَ إليَّ مِن بَعضِ الإخوانِ الموحِّدينَ -كثَّرَ المَولى عَدَدهم وزَكَّى أعمالهم، وحَسَّنَ نيَّاتِهم- رُقعةً يَذكُرونَ فيها ما يتَكلَّمُ به المارِقونَ مِنَ الدِّينِ، الجاحِدونَ لحَقائِقِ التَّنزيهِ، ويُطلِقونَ ألسِنَتَهم بما يُشاكِلُ أفعالَه الرَّديَّةَ، وما تَميلُ إليه أديانُهمُ الدَّنيَّةُ فيما يظهَرُ لهم مِن أفعالِ مَولانا جلَّ ذِكرُه ونُطقِه، وما يجري قُدَّامَه مِنَ الأفعالِ التي فيها حِكمةٌ بالغةٌ شَتَّى فيما تُغني النُّذُرُ، وتَمييزُ العالمِ الغَبيِّ الذين مِن أعمالهمُ الهَزلُ، وأقوالٍ فيها صُعوبةٌ وعَدلٌ، ولم يَعرِفوا بأنَّ أفعالَ مَولانا جلَّ ذِكرُه كُلُّها حِكمةٌ بالغةٌ، جِدًّا كانت أم هَزلًا، يُخرِجُ حِكمةً ويُظهِرُها بَعدَ حينٍ، ولَو تَدَبَّروا ما سَمِعوه مِنَ الأخبارِ المَأثورةِ عن جَعفَرِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَليِّ بنِ عَبدِ مَنافِ بنِ عَبدِ المُطَّلِبِ: «إيَّاكمُ الشِّركَ باللَّهِ والجُحودَ له، بما يختَلِجُ في قُلوبكم مِنَ الشَّكِّ في أفعالِه كيفما كانت، ولا تُنكِروا على الإمامِ فِعلَه، ولو رَأيتُموه راكِبًا قَصَبةً، وقد عَقدَ ذَيلَه خَلفَ ثَوبِه، وهو يلعَبُ مَعَ الصِّبيانِ بالكِعابِ، فإنَّ تَحتَ ذلك حِكمةً بالغةً للعالمِ، وتَمييزًا للمَظلومِ مِنَ الظَّالمِ».
فإذا كان هذا القَولُ في جَعفرِ بنِ مُحَمَّدٍ، وجَعفرٌ وآباؤُه وأجدادُه كُلُّهم عَبيدٌ لمَولانا جلَّ ذِكرُه، فكيف أفعالُ مَن لا تُدرِكُه الأوهامُ والخَواطِرُ بالكُلِّيَّةِ، وحِكمَتُه اللَّاهوتيَّةُ التي هي مِن رموزاتٍ وإشاراتٍ لبُطلانِ النَّواميسِ، وهَلاكِ الجَواميسِ، وتَمييزِ الطَّواويسِ، فلمَولانا الحَمدُ على ما أنعَمَ به علينا بَعدَ استِحقاقٍ نَستَحِقُّه عِندَه، وله الشُّكرُ على ما أظهَر لنا مِن قُدرَتِه خُصوصًا دونَ سائِرِ العالَمينَ إنعامًا وتفضُّلًا، ونَسألُه العَفوَ والمَغفِرةَ بما يجري مِنَّا مِن قَبائِحِ الأعمالِ وسوءِ المَقالِ، ونعوذُ به مِنَ الشِّركِ والضَّلالِ، إنَّه وليُّ ذلك والقادِرُ عليه، وهو العَليُّ المُتَعالِ، ولو نَظَروا إلى أفعالِ مَولانا جَلَّت قُدرَتُه بالعَينِ الحَقيقيَّةِ، وتدَبَّروا إشاراتِه بالنُّورِ الشَّعشَعانيِّ، لبانَت لهمُ الأُلوهيَّةُ والقُدرةُ الأزَليَّةُ...
فأوَّلُ ما أظهَرَ مِن حِكمةٍ ما لم يُعرَفْ له في كُلِّ عَصرٍ وزَمانٍ، ودَهرٍ وأوانٍ، وهو ما يُنكِرُه العامَّةُ مِن أفعالِ المُلوكِ: مِن تَربيةِ الشَّعرِ، ولباسِ الصُّوفِ، ورُكوبِ الحِمارِ بسُروجٍ غَيرِ مُحَلَّاةٍ لا ذَهَبَ ولا فِضَّةَ.
والثَّلاثُ خِصالٍ مَعنًى واحِدٌ في الحَقيقةِ؛ لأنَّ الشَّعرَ دَليلٌ على ظَواهرِ التَّنزيلِ، والصُّوفُ دَليلٌ على ظَواهرِ التَّأويلِ، والحَميرُ دَليلٌ على النُّطَقاءِ (الأنبياءِ) بقَولِه لمُحَمَّدٍ: (يا بُنَيَّ أقِمِ الصَّلاةَ وآتِ الزَّكاةَ، وأْمُرْ بالمَعروفِ، وانْهَ عنِ المُنكَرِ إنَّ ذلك مِن عَزمِ الأُمورِ، ولا تُصَعِّرْ خَدَّك للنَّاسِ ولا تَمشِ في الأرضِ مَرَحًا إنَّك لَن تَخرِقَ الأرضَ ولَن تَبلُغَ الجِبالَ طولًا كُلُّ ذلك كان عِندَ رَبِّك شيئًا محذورًا، وانقُضْ مِن مَشيِك واغضُضْ مِن صَوتِك، إنَّ أنكَرَ الأصواتِ لصَوتُ الحَميرِ) [3277] أورد هذه الآياتِ بالتَّحريفِ والخَطَأِ وإضافةِ ما ليس منها، والصَّوابُ كما قال اللهُ تعالى في سورةِ لقمانَ: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان: 17 – 19]. .
والعامَّةُ يرَونَ أنَّ هذه الآيةَ حِكايةٌ عن لُقمانَ الحَكيمِ لولَدِه، فكذَبوا وحَرَّفوا القَولَ، إنَّما هو قَولُ السَّابقِ، وهو سَلمانُ.
فقال لمُحَمَّدٍ: (أقِمِ الصَّلاةَ) إشارةً إلى تَوحيدِ مَولانا جلَّ ذِكرُه، (وآتِ الزَّكاةَ) يعني طَهِّرْ قَلبَك لمَولانا جلَّ ذِكرُه ولحُدودِه ودُعاتِه. (وأْمُرْ بالمَعروفِ) وهو تَوحيدُ مَولانا جلَّ ذِكرُه، (وانْهَ عنِ المُنكرِ) يعني شَريعَتَه وما جاءَ به مِنَ النَّاموسِ والتَّكليفِ، (إنَّ ذلك مِن عَزمِ الأُمورِ) يعني الحَقائِقَ وما فيها مِن نَجاةِ الأرواحِ مِن نُطقِ النَّاطِقِ، (ولا تُصَعِّرْ خَدَّك للنَّاسِ) وخَدُّه وَجهُ السَّابقِ، وتَصعيرُه سَترُه فضيلَتَه، (ولا تَمشِ في الأرضِ مَرَحًا) والمَرَحَ هو التَّقصيرُ واللَّعِبُ في الدِّينِ، والأرضُ هاهنا هو الجَناحُ الأيمَنُ، والأيمَنُ الدَّاعي إلى التَّوحيدِ المَحضِ، (إنَّك لَن تَخرِقَ الأرضَ) يعني بذلك لَن تَقدِرَ عليك تَبطيل دَعوةِ التَّوحيدِ، (ولَن تَبلُغَ الجِبالَ طولًا) والجِبالُ همُ الحُجَجُ الثَّلاثةُ الحرمُ، ورابعُهم: السَّابقُ الذي يعبُدُه العالمُ دونَ الثَّلاثةِ.
وأجَلُّهمُ الحُجَّةُ العُظمى، واسمُه في الحَقيقةِ: ذو مِعةٍ؛ لأنَّ قَلبَه وعى التَّوحيدَ والقُدرةَ من مَولانا جلَّ ذِكرُه بلا واسِطةٍ بَشَريَّةٍ، (وانقُضْ مِن مَشيِك) [3278] حُرِّفَت الآيةُ الكريمةُ، وهي قولُ اللهِ تعالى: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ. يعني اخفِضْ مَن دَعوتِك في الظَّاهرِ، الذي يمشي في العالَمِ مِثلَ دَبيبِ النَّملةِ السَّوداءِ على المسحِ الأسودِ في اللَّيلةِ الظَّلماءِ، وهو الشِّركُ بذاتِه، مِثلَ النَّارِ إذا وقَعَت في التِّبنِ لا يُشعَرُ بضَوئِها إلَّا بَعدَ هَلاكِه، كذلك مَحَبَّةُ الشَّريعةِ والإصغاءُ إلى زُخرُفِه، والتَّعَلُّقُ بناموسِه، يعمَلُ في الأعضاءِ ويجري في العُروقِ، كما قال بلِسانِه وقوَّةِ بَلَسِه وسُلطانِه، ولَطافتِه تَجري في العُروقِ مَجاريَ الدَّمِ حتَّى يتَمَكَّنَ في القَلبِ ويُغويَ سائِرَ العالَمينَ.
وقال النَّاطِقُ [3279] يعني مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. : (مازَجَ حُبِّي دِماءَ أُمَّتي ولُحومَهم، فهم يُؤثِرونَني على الآباءِ والأُمَّهاتِ)، فرَأينا الخَبرَينِ واحِدًا مَعناهما. وقد قال في القرآنِ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس: 1] ورَبُّ النَّاسِ هاهنا هو التَّالي، وهو في عَصرِ مُحَمَّدٍ: المِقدادُ [3280] هو المِقدادُ بنُ عَمرٍو، ويُعرَفُ بابنِ الأسوَدِ، صَحابيٌّ، مِن الأبطالِ، وهو أحَدُ السَّبعةِ الذين كانوا أوَّلَ مَن أظهَرَ الإسلامَ، وهو أوَّلُ مَن قاتَلَ على فرَسٍ في سَبيلِ اللهِ، شَهِدَ بَدرًا وغَيرَها، وسَكنَ المَدينةَ وتوُفِّي فيها سَنةَ 33هـ. ، مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ [الناس: 2-4] يعني زُخرُفَ النَّاطِقِ، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [الناس: 5] ، يعني الدُّعاةَ والمَأذونينَ والمُكاسِرينَ، حتَّى يرُدَّهم عن تَوحيدِ مَولانا الحاكِمِ بذاتِه، المُنفرِدِ عن مُبدِعاتِه، جلَّ ذِكرُه. والذَّاتُ هو لاهوتُه الحَقيقيُّ، الذي لا يُدرَكُ ولا يُحَسُّ، سُبحانَه وتعالى. وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ [لقمان: 19] يعني بذلك اخفِضْ وانقُصْ واستُرْ نُطقَك بالشَّريعةِ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان: 19] يعني الدَّعوةَ الظَّاهرةَ، لَصَوْتُ الْحَمِيرِ: يعني بذلك: أشَرُّ كلامٍ وأفحَشُه نُطقُ الشَّرائِعِ المَذمومةِ في كُلِّ عَصرٍ وزَمانٍ؛ فمنهم تَظهَرُ الشَّكليَّةُ والضِّدِّيَّةُ والجِنسيَّةُ.
فأظهَرَ مَولانا جلَّ ذِكرُه لُبسَ الصُّوفِ، وتَربيةَ الشَّعرِ، وهو دَليلٌ على ما ظَهَرَ مِن استِعمالِ النَّاموسِ الظَّاهرِ، وتَعَلُّقِ أهلِ التَّأويلِ بعَليِّ بنِ أبي طالبٍ وعِبادَتِه.
ورُكوبُ الحَميرِ دَليلٌ على إظهارِ الحَقيقةِ على شَرائِعِ النُّطَقاءِ، وأمَّا السُّروجُ بلا ذَهَبٍ ولا فِضَّةٍ فدَليلٌ على بُطلانِ الشَّريعَتَينِ: النَّاطِقِ، والأساسِ [3281] يعني عَليَّ بنَ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه. .
واستِعمالُ حُلِيِّ الحَديدِ على السُّروجِ دَليلٌ على إظهارِ السَّيفِ على سائِرِ أصحابِ الشَّرائِعِ وبطلانِهم. واستِعمالُ الصَّحراءِ في ظاهِرِ الأمرِ، وخُروجُ مَولانا جلَّ ذِكرُه في ذلك اليومِ مِنَ السِّردابِ إلى البُستانِ، إلى العالَمِ دونَ سائِرِ الأبوابِ.
والسِّردابُ والبُستانُ الذي يخرُجُ مَولانا جلَّ ذِكرُه منهما ليس لأحَدٍ إليهما وُصولٌ، ولا له بهما معرِفةٌ، إلَّا أن يكونَ كمَن يخدُمُهما أو خَواصِّهما. وهو دَليلٌ على ابتِداءِ ظُهورِ مَولانا سُبحانَه بالوحدانيَّةِ ومُباشَرَتِه بالصَّمَدانيَّةِ بالحَدَّينِ اللَّذَينِ كانا خَفيَّينِ عن سائِرِ العالَمينَ، إلَّا لمَن يَعرِفُهما بالرُّموزِ والإشاراتِ، وهما الإرادةُ والمَشيئةُ، كما قال: إنَّما أمرُهُ إذا أرادَ شَيئًا أن يقولَ له كُنْ فيكونُ * فسُبحانَ الذي بيدِه مَلَكوتُ كُلِّ شَيءٍ وإليه تُرجَعونَ [يس: 82-83] والإرادةُ هي ذو معةٍ، والمَشيئةُ تاليةٌ، كما قال: وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الإنسان: 30] ، فليس يعرِفُهما إلَّا الموحِّدونَ لمَولانا جلَّ ذِكرُه...
ثُمَّ إنَّه علينا سَلامُه ورَحمَتُه يخرُجُ إلى الصِّناعةِ [3282] يقصِدُ دارَ الصِّناعةِ. ويدخُلُ مِن بابِها، ويخرُجُ مِنَ الآخَرِ. والصِّناعةُ دَليلٌ على صاحِبِ الشَّريعةِ، والصِّناعةُ مَمنوعةٌ مِن دُخولِ العالَمِ فيها والخُروجِ لإضافةِ الشَّريعةِ، فدُخولُ مَولانا جلَّ ذِكرُه فيها مِن بابٍ وخُروجُه مِن بابٍ، دَليلٌ على تَحريمِ الشَّريعةِ وتَعطيلِها.
ثُمَّ إنَّه علينا سَلامُه ورَحمَتُه يدورُ حَولَ البُستانِ المَعروفِ بالحِجازيِّ، وهو دَليلٌ على الكَلِمةِ الأزَليَّةِ، والدَّوارُ حَولَه بُلوغٌ إلى الكشفِ بلا سُترةٍ تحوطُ بالدِّينِ، ثُمَّ إنَّه جَلَّ وعَزَّ سُلطانُه يبلُغُ إلى القُصورِ، وهما قَصرانِ عَظيمانِ خَرابانِ، دَليلٌ على بُطلانِ الشَّريعةِ وخَرابِها.
ثُمَّ إنَّه علينا سَلامُه ورَحمَتُه يدخُلُ مِن بابِ البُستانِ المَعروفِ بالمُختَصِّ، وهو دَليلٌ على التَّالي؛ إذ كان التَّالي مختصًّا بعِلمِه الأساسيِّ والتَّأويلِ. وأكثَرُ العالمِ يميلونَ إليه، وهو هَيوليُّ العالمِ الجرمانيِّ.
ومِنَ الشِّيعةِ مَن يعتَقِدُ ويعبُدُ التَّاليَ، ومِنَ الشِّيعةِ مَن يقولُ بأنَّ التَّالي مَولانا، وهذا هو الكُفرُ والشِّركُ. وإنَّما هو التَّالي الذي عَجَزَ النَّاسُ عن مَعرِفتِه، وهو الجَنَّةُ المَعروفةُ بالمُختَصِّ، مُتَّصِلةً بالجَنَّةِ المَعروفةِ بالعصَّارِ. والعصَّارُ دَليلٌ على النَّاطِقِ؛ لأنَّه يعصِرُ عِلمَ التَّالي فيُخرِجُ منه الحَقيقةَ والتَّوحيدَ، فيكتُمُه عنِ العالَمِ الغَبيِّ ويُظهِرُ لهمُ الثُّفلَ، وهو الكسبُ الذي لا ينتَفِعُ به غَيرُ البَهائِمِ.
كذلك البُستانُ المَعروفُ بالعصَّارِ، وهو خَرابٌ مِنَ الفواكِه والأشجارِ والرَّياحينِ والأثمارِ، وبُستانُ المُختَصِّ عامِرٌ بالفاكِهةِ والأزهارِ، والرَّياحينِ والأشجارِ، ومنه يخرُجُ الماءُ إلى الحَوضِ الذي تَشرَبُ منه البَهائِمُ. والماءُ هو العِلمُ، والحَوضُ هو المادَّةُ الجاريةُ مِنَ التَّالي، والدَّوابُّ همُ النُّطَقاءُ والأُسُسُ. كذلك العِلمُ يخرُجُ مِنَ التَّالي إلى الأساسِ في كُلِّ عَصرٍ وزَمانٍ، والسَّابقُ مُمِدُّ النَّاطِقِ، ومِنَ الفاتِقِ إلى الرَّاتِقِ، ومِنَ السَّابقِ إلى الطَّالِبِ الطَّارِقِ.
وهذانِ البُستانانِ بَينَ المَسجِدَينِ المَعروفينِ بمَسجِدِ تِبرٍ [3283] مَسجِدٌ قُربَ القاهرةِ بجانِبِ مِنطَقةِ (المَطَريَّةِ)، ويُنسَبُ إلى تِبرِ الإخشيديِّ، الذي ثارَ على كافورٍ الإخشيديِّ، ودُفِنَ في هذا المَسجِدِ. ، ومسجدِ ريدانَ [3284] الرَّاجِحُ أنَّ نِسبةَ هذا المَسجِدِ إلى ريدانَ الوزيرِ الذي ولَّاه الحاكِمُ الوِزارةَ. ؛ فمَسجِدُ ريدانَ مُحاذي بُستانِ العصَّارِ، ومَسجِدُ تِبرٍ مُحاذي بُستانِ المُختَصِّ.
ومَسجِدُ تِبرٍ دَليلٌ على النَّاطِقِ، والتِّبرُ دَليلٌ على الذَّهَبِ، والذَّهَبُ دَليلٌ على إذهابِ شَريعَتِه، وهذا المَسجِدُ لم تُصَلَّ فيه صَلاةُ جَماعةٍ قَطُّ، دَليلٌ على أنْ ليس للنَّاطِقِ ولا لمَن تَبعَه اتِّصالٌ بالتَّوحيدِ.
ومَسجِدُ ريدانَ دَليلٌ على حُجَّةِ الكشفِ القائِمِ بالسَّيفِ والعُنفِ، الدَّاعي إلى التَّوحيدِ المُنكَرِ عِندَ سائِرِ العالَمينَ، كما نَطَقَ عَبدُ مَولانا جلَّ ذِكرُه في القُرآنِ على لسانِ النَّاطِقِ السَّادِسِ (يومَ يدَعُ الدَّاعِ إلى شَيءٍ نُكُرٍ)، وهو عِبادةُ مَولانا جلَّ ذِكرُه وتَوحيدُه، الذي أنكرَه سائِرُ النُّطَقاءِ والأُسُسِ أئِمَّةِ الكُفرِ، كما قال عَبدُ مَولانا جلَّ ذِكرُه في كِتابه (قاتِلوا أئِمَّةَ الكُفرِ، إنَّهم لا أيمانَ لهم، لَعَلَّهم ينتَهونَ).
أرادَ لا أيمانَ لهم بمَعرِفةِ مَولانا جلَّ ذِكرُه، والإيمانُ هو التَّسديقُ (التَّصديقُ) [3285]كِتابةُ الدُّروزِ الكَلِمةَ التَّصديقَ بالسِّينِ بَدَلًا مِن الصَّادِ في كُلِّ كُتُبِهم مُرتَبطٌ عِندَهم بحِسابِ (الجُمَّلِ) المُستَعمَلِ عِندَهم وعِندَ بَعضِ المُتَصَوِّفةِ لأغراضٍ تَخدُمُ مُعتَقدَهم الدَّرْزيَّ. يُنظر: ((أيها الدرزي عودة إلى عرينك)) (ص: 50، 51). .
وتَوحيدُ مَولانا جلَّ ذِكرُه صَعبٌ مُستَصعَبٌ، لا يحمِلُه نَبيٌّ مُرسَلٌ، ولا وصيٌّ مُكمَّلٌ، ولا إمامٌ مُعَدَّلٌ، ولا مَلَكٌ مُفضَّلٌ. بل يحمِلُه قَلبٌ صافٍ لَبيبٌ، أو موحِّدٌ راغِبٌ مِنَ الأديانِ والطَّرائِقِ، وعَبدٌ مولى الأساسِ والنَّاطِقِ، ومُبدِعُ التَّالي والسَّابقِ الحاكِمُ على جَميعِ النُّطَقاءِ والشَّرائِعِ، المُنفرِدُ عن جَميعِ المَخلوقاتِ والبَدائِعِ.
ولكُلِّ شَيءٍ ضِدٌّ بَينَ يدَيه، فبإزاءِ الباطِلِ، الذي هو جَنَّةُ العُصاةِ، وهو دَليلٌ على النَّاطِقِ حتَّى يُرفعَ، وهو مَسجِدُ ريدانَ، وهو ذو مِعةٍ، وبإزاءِ الحَقِّ الذي هو جَنَّةُ المُختَصِّ وهو التَّالي باطِلٌ يطلُبُ فسادَه، وهو مَسجِدُ تِبرٍ، وهو النَّاطِقُ، والمَولى جلَّ ذِكرُه ينصُرُ أولياءَه، ويُهلِكُ أعداءَه، ويُتِمُّ نورُه ولو كرِهَ المُشرِكونَ المُتَعَلِّقونَ بعَليِّ بنِ عَبدِ مَنافٍ، والكافِرونَ المُتَعَلِّقونَ بالنَّاطِقِ وعَدَمِه.
وريدانُ خَمسةُ أحرُفٍ، دَليلٌ على خَمسةِ حُدودٍ: النَّفسانيِّينَ، والنُّورانيِّينَ، والرُّوحانيِّينَ، والجرمانيِّينَ، والجُسمانيِّينَ. وهو ذو معةٍ العَقلُ الكُلِّيُّ النَّفسانيُّ، وذو مصةٍ، النَّفسُ الرُّوحانيُّ والجَناحُ الرَّبَّانيُّ، والأيمَنُ البابُ الأعظَمُ، وهو السَّابقُ والتَّالي، مَعدِنُ العُلومِ، ومنه ابتِناؤُها.
وريدانُ كلمَتانِ: (ري) و (دان)، و (ري) الأشياءُ، وهم الحُجَجُ والدُّعاةُ والمأذونينَ والمكاسِرينَ، كما قال عبدُ مولانا جَلَّ ذِكرُه (وكلَّ شيءٍ أحصيناه في إمامٍ مُبِينٍ)، الأشياءُ الحَقيقيَّةُ، والذي الأزَليُّ، والتَّوحيدُ الأبَديُّ على يدِ ريدانَ، يومَ الدِّينِ، وهو عَبدُ مَولانا ومَولى الخَلقِ أجمَعينَ، جلَّ ذِكرُه، وعَزَّ اسمُه، ولا مَعبودَ سِواه، سُبحانَه جَلَّ وعَلا أن يكونَ دَيَّانٌ أو سُلطانٌ أو بُرهانٌ أوِ اللَّهُ أوِ الرَّحمَنُ؛ إذ كان الكُلُّ عَبيدَه في سائِرِ الأدوارِ، المُستَغفِرينَ له في اللَّيالي والأسحارِ، العابدينَ له طَوعًا وكَرهًا في العيانِ، سُبحانَه عن إدراكِ الأوهامِ والخَواطِرِ، أو يعرِفُ الإعلانَ والسَّرائِرَ، أو بباطِنٍ أو بظاهرٍ؛ إذ كان لا يُدرَكُ بَعضُ ناسوتِه، وقُدرةُ مَقامِ جَبَروتِه، وعِظَمُ جَلالِ لاهوتِه.
وما مِنَ المَساجِدِ مَسجِدٌ سَقَطَت قُبَّتُه، وهو المَسجِدُ بكمالِه، غَيرُ مَسجِدِ ريدانَ، فأمرَ مَولانا سُبحانَه وتعالى بإنشاءِ قُبَّتِه، وزاد في طولِه وعَرضِه وسُموِّه، دَليلٌ على هَدمِ الشَّريعةِ الظَّاهرةِ على يدِ عَبدِه السَّاكِنِ فيه [3286]كان حَمزةُ بنُ عَليٍّ يسكُنُ في هذا المَسجِدِ. . وإنشاءُ تَوحيدِ مَولانا جلَّ ذِكرُه فيه بالحَقيقةِ ظاهرًا مَكشوفًا، وابتِداءُ الشَّريعةِ الرُّوحانيَّةِ في بَسيطٍ روحانيٍّ تَوحيديٍّ لاهوتيٍّ حاكِميٍّ لا يعبُدونَ غَيرَه وحدَه، ولا يُشرِكونَ به أحَدًا في السِّرِّ والإعلانيةِ، سُبحانَه وتعالى عَمَّا يقولُ المُشرِكونَ عُلوًّا كبيرًا.
ثُمَّ إنَّ مَولانا علينا سَلامُه ورَحمَتُه، ظَهَرَ لَنا في النَّاسوتِ البَشَريَّةِ، ونُزولُه عنِ الحِمارِ إلى الأرضِ، ورُكوبُه مُحاذي بابِ المَسجِدِ، دَليلٌ على تَغييرِ الشَّريعةِ، وإثباتِ التَّوحيدِ، وإظهارِ الشَّريعةِ الرُّوحانيَّةِ على يدِ عَبدِه حَمزةَ بنِ عَليِّ بنِ أحمَدَ، ومَملوكِه وهادي المُستَجيبينَ المُنتَقِمِ مِنَ المُشرِكينَ بسَيفِ مَولانا وشِدَّةِ سُلطانِه، وحدَه لا شَريكَ له.
ووُقوفُه في ظاهرِ الأمرِ، وحاشاه مِنَ الوُقوفِ والسَّيرِ والجُلوسِ والنَّومِ واليقَظةِ، لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [البقرة: 255] ، يعني النُّطَقاءَ والأُسُسَ، مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: 255] ، يعني: من ذا الذي يقدِرُ على إطلاقِ داعٍ أو مأذونٍ إلَّا بمشيئتِه، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [البقرة: 255] ، يعني من آدمَ إلى محمدِ بنِ إسماعيلَ، وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ يعني حُجَّتَه، إِلَّا بِمَا شَاءَ وهو المشيئةُ أعظَمُ الدَّرَجاتِ، وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ والكرسيُّ هو التَّأييدُ الذي يَصِلُ إلى الحدودِ العاليةِ، وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا [البقرة: 255] ، وهما الجناحُ الأيمنُ والجناحُ الأيسَرُ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة: 255] ، العالي على كُلِّ مَن تقدَّمُ ذِكرُه ومَن تَأخَّرَ مِمَّن ينتَظِرُهمُ الشِّيعةُ المُشرِكونَ...
وأمَّا نُزولُه في ظاهرِ الأمرِ إلى مِصرَ، وما شاهَدناه، ففيها تَمَكَّن الشَّيطانُ الغَويُّ لَعنَه اللَّهُ مِن قُلوبِ العامَّةِ الحَشَويَّةِ [3287] هذا التَّعبيرُ يستَعمِلُه الشِّيعةُ وغَيرُهم ويقصِدونَ به ذِكرَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ الذين يُثبِتونَ لله تعالى الصِّفاتِ الذَّاتيَّةَ والفِعليَّةَ على حَقيقَتِها دونَ تَمثيلٍ أو تَعطيلٍ. والعُقولِ السَّخيفةِ الشَّرعيَّةِ مِمَّا يسمَعونَ مِن ألسُنِ الرِّكابيَّةِ قُدَّامَ مَولانا جلَّ ذِكرُه بما يستَقِرُّ في عُقولهمُ السَّخيفةِ مِن كلامِ الهَزلِ والمُزاحِ، ولم يعرِفوا أنَّ فيه حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ [القمر: 5].
فأوَّلُ مَسيرِه إلى المَشاهدِ الثَّلاثةِ، وليس فيها أذانٌ ولا إقامةٌ ولا صَلاةٌ جَماعيَّةٌ، إلَّا في الأوسَطِ الذي هو المَنهَجُ الأقومُ، والطَّريقُ الأسلَمُ التي مَن سَلكَها نَجا، ومَن تَخَلَّف عنها هَلَك وغَوى...
وأمَّا بئرُ الزِّئبَقِ، فهو دَليلٌ على النَّاطِقِ، مِن فوقِه واسِعٌ، ومِن أسفَلِه ضَيِّقٌ، كذلك الشَّريعةُ دُخولُها سَهلٌ واسِعٌ، والخُروجُ منها صَعبٌ ضَيِّقٌ، لَكِنَّ مَن يقفِزُ في هذا البئرِ ويعرِفُ سِرَّه ويقِفُ على مَعناه، ويُريدُ المَولى نَجاحَه خَرَجَ مِن بابِه، وهو دَليلٌ على أساسِه، والوُقوعُ في الشَّريعةِ لا بُدَّ منه حَتمًا لَزمًا لكُلِّ أحَدٍ، ويُخَلِّصُ المَولى مَن يشاءُ برَحمَتِه منها، كما قال النَّاطِقُ في القُرآنِ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم: 71] يعني السَّابقَ، حَتْمًا مَقْضِيًّا، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا [مريم: 72] من النَّاطِقِ وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ[مريم: 72] يعني أهلَ الظَّاهرِ فِيهَا جِثِيًّا [مريم: 72] يعني حيرانَ حزينًا دائمًا.
ومَن خَرَجَ مِن هذا البئرِ سالِمًا أخَذَ مِنَ الحُكَّامِ ما يستَنفِعُ به، كذلك مَن كان تَحتَ الشَّريعةِ وعَلِم التَّأويلَ ورُموزَه وتَخَلَّصَ مِن شَبَكتَيهما جَميعًا وعَلِمَ ما يُرادُ منه، وصَلَ إلى التَّوحيدِ، واستَنفعَ بدينِه ودُنياه...
وأمَّا بئرُ الحُفرةِ فهو دَليلٌ على الأساسِ، وهو أشَدُّ عَذابًا مِن بئرِ الزِّئبَقِ، وأتعَبُ خرجًا؛ لأنَّ مَنِ اعتَقدَ الظَّاهِرَ، وهي الشَّريعةُ، إذا بَلَغَ الباطِنَ اعتَقدَ أنَّه ليس فوقَ الأساسِ شَيءٌ، وأنَّه الغايةُ والمَعبودُ، فيبقى في العَذابِ الأبَديِّ، إلى أن يُريدَ المَولى مَنجاتَه، فيحتاجُ الدَّاعي أن يَتعَبَ مَعَه مِن قَبلِ أن يكسِرَه ويجبُرَه ويُخرِجَه مِمَّا هو عليه مِنَ الكُفرِ والشِّركِ.
وأمَّا لَعِبُ الرِّكابيَّةِ بالعِصيِّ والمَقارِعِ قُدَّامَ مَولانا جلَّ ذِكرُه فهو دَليلٌ على مُكاسَرةِ أهلِ الشِّركِ والعامَّةِ وتشويهِهم بَينَ العالمِ، وإظهارِ أديانِهمُ المغاشِمِ ويكشِفُ زَيفَهم باستجرائِهم على المُخاطَبةِ بحَضرَتِه...
وأمَّا ما ذَكرَه الرِّكابيَّةُ مِن ذِكرِ الفُروجِ والأحاليلِ، فهما دَليلانِ على النَّاطِقِ والأساسِ، وقَوله: (أرِني قَمَرَك) يعني اكشِفْ عن أساسِك، وهو مَوضِعٌ يخرُجُ منه القَذَرُ، دَليلٌ على الشِّركِ، فإذا كشَف عن أساسِه وأخرَجَ قُبُلَه، أي عِبادةَ أساسِه، نَجا مِنَ العَذاب والزَّيغِ في اعتِقادِه، ومَن شَكَّ هَلَك. كما أنَّ الإنسانَ إذا لم يبُلْ ولا يتَغَوَّطُ أخذه القُولَنجُ فيَهلِكُ.
والنَّارُ هاهَنا عَلَمُ الحَقيقةِ وتَأييدِه جلَّ ذِكرُه، فيُحرِقُ ما أتَت به الشَّريعَتانِ، كما أنَّهم يُحرِقونَ فُروجَ بَعضِهم بَعضًا في النَّارِ، دَليلٌ على احتِراقِ دَولَتِهما وانقِضاءِ مُدَّتِهما، وإظهارِ تَوحيدِ مَولانا جلَّ ذِكرُه بغَيرِ شاكٍّ فيه، لا يُشرِكُ به لا ناطِقٌ جُسمانيٌّ، ولا أساسٌ جرمانيٌّ، ولا سابقٌ رُوحانيٌّ، ولا تالٍ نَفسانيٌّ، ولا يبقى لمُنافِقٍ جَولةٌ، ولا لمُشرِكٍ دَولةٌ، ويكونُ أولو الأمرِ مِنكم وأهلُ الحِسابِ مِنكم والمُتَصَوِّفونَ في جَميعِ الدَّواوينِ مِنكم، والعُمَّالُ مِنكم، ويكونُ الموحِّدونَ لمَولانا جلَّ ذِكرُه في نَعيمٍ دائِمٍ وإحسانٍ غانِمٍ، ومُلكٍ قائِمٍ... فعليكم مَعاشِرَ الإخوانِ الموحِّدينَ لمَولانا جلَّ ذِكرُه، العابدينَ له وحدَه دونَ غَيرِه بالحِفظِ لإخوانِكم، والتَّسليمِ لمَولانا جلَّ ذِكرُه، والرِّضا بقَضائِه في السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ، تَنجوا مِن عَذابِ الدِّينِ وشِقوةِ الدُّنيا، بمِنَّةِ مَولانا وقوَّتِه) [3288] ((كتاب فيه حقائق ما يظهر قدام مولانا جل ذكره من الهزل))، ونص هذه الرِّسالةِ موجودٌ مع اختلافٍ يسيرٍ في ((رسائل الحكمة)) لحمزة (1/ 97- 110). وقد تَمَّ إثباتُ النَّصِّ الذي أورَدَه مُحَمَّد الخَطيب في ((عَقيدة الدُّروزِ)) (ص: 39) وما بَعدَها مَعَ إثباتِ بَعضِ تَعليقاتِه الإيضاحيَّةِ للنَّصِّ، وتَمَّ تَعديلُ بَعضِ النُّصوصِ مِن ((رسائل الحكمة)) المطبوعة. .
والإنسانُ العاقِلُ حينَ يقرَأُ هذه السَّخافاتِ والهَذَياناتِ لا يستَطيعُ إلَّا أن يرثي لحالِ هؤلاء الذين لا يزالُ حَمزةُ يلعَبُ بعُقولِهم، فيُؤمِنونَ بأقوالِه وسَخافاتِه! ويقِفُ حائِرًا أو حَزينًا أمامَ هذه الأقوالِ المُقدَّسةِ عِندَهم!

انظر أيضا: