موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّاني: تَطَوُّرُ المَذهَبِ الدَّرْزيِّ بَعدَ الحاكِمِ


كان الحاكِمُ شَغوفًا بالطَّوافِ في اللَّيلِ، ولا سيَّما في جَنباتِ جَبَلِ المُقَطَّمِ، وكان يتَوغَّلُ في الجَبَلِ، وفي لَيلةِ الاثنَينِ 27 شَوَّال سَنةَ 411هـ خَرَجَ الحاكِمُ كعادَتِه للطَّوافِ في الجَبَلِ، وليس مَعَه أحَدٌ إلَّا رِكابيٌّ وصَبيٌّ، ولَكِنَّ الحاكِمَ لم يعُدْ [3289] يُنظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (15/585). !
قيلَ: أرجَحُ الرِّواياتِ أنَّ أُختَه (سِتُّ المُلْكِ) قد دَبَّرَتِ اغتيالَه، (وأنَّه دَفعَها إلى تَدبيرِ اغتيالِه أمرانِ:
1- أنَّها لَمَّا رَأت أعمالَ الحاكِمِ الشَّنيعةَ خافت أن يُخَرِّبَ بَيتَ الخِلافةِ الفاطِميَّةِ على يدَيه، فقد كرِهَتْه قَبيلةُ كُتامةَ صاحِبةُ الفضلِ الأكبَرِ في قيامِ الدَّولةِ الفاطِميَّةِ في المَغرِبِ، والتي كانت لها مَكانةٌ عاليةٌ في مِصرَ بَعدَ فتحِها؛ بسَبَبِ إعدامِه لكثيرٍ مِن وُجَهائِها، وحَدِّه مِن نُفوذِها، كما كرِهَه أهلُ مِصرَ لتَصَرُّفاتِه الشَّاذَّةِ، وكَرِهَه الجُندُ أيضًا بسَبَبِ تَصَرُّفاتِه مَعَ قوَّادِهم ومَعَهم أنفُسِهم.
2- أنَّها خافت على نَفسِها مِن بَطشِه؛ إذِ اتَّهَمَها بسوءِ سُلوكِها مَعَ الرِّجالِ، وما أيسَرَ أن يُنَفِّذَ وعيدَه لها! لهذا آثَرَت أن تَقضيَ عليه قَبلَ أن يقضيَ عليها) [3290] ((مذاهب الإسلاميين)) لبدوي (2/609). .
وتُؤَكِّدُ الرِّواياتُ التَّاريخيَّةُ هَذَينِ الأمرَينِ، ومِمَّا أورَدَه المُؤَرِّخونَ ما نَقَله ابنُ تَغْري بِرْدِي عنِ ابنِ الصَّابئِ: (أنَّ الحاكِمَ لمَّا بَدَت عنه هذه الأُمورُ الشَّنيعةُ استَوحَشَ النَّاسُ منه، وكان له أُختٌ يُقالُ لها سِتُّ المُلكِ، مِن أعقَلِ النِّساءِ وأحزَمِهنَّ، فكانت تَنهاه وتَقولُ: يا أخي، احذَرْ أن يكونَ خَرابُ هذا البَيتِ على يدَيك! فكان يُسمِعُها غَليظَ الكلامِ ويتَهَدَّدُها بالقَتلِ، وبَعَثَ إليها يقولُ: رَفعَ إليَّ أصحابُ الأخبارِ أنَّك تُدخِلينَ الرِّجالَ إليك وتُمَكِّنينَهم مِن نَفسِك، وعَمِل على إنفاذِ القَوابِلِ لاستِبرائِها، فعَلِمَت أنَّها هالِكةٌ) [3291] ((النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة)) (4/ 186). .
وأضاف ابنُ الجَوزيِّ: (راسَلَت سِتُّ المُلكِ قائِدًا يُقالُ له: "ابن دَوَّاسٍ" -مِن شُيوخِ كُتامةَ-، كان شَديدَ الخَوفِ مِنَ الحاكِمِ أن يقتُلَه، فقالت: إنِّي أُريدُ أن ألقاك، إمَّا أن تَتَنَكَّرَ وتَأتيَني، وإمَّا أن أجيءَ أنا إليك فجاءَت إليه، فقَبَّلَ الأرضَ بَينَ يدَيها، وخَلَوا فقالت له: لَقد جِئتُك في أمرٍ أحرُسُ نَفسي ونَفسَك، فقال: أنا خادِمُك، فقالت: أنتَ تَعلَمُ ما يعتَقِدُه أخي فيك، وأنَّه مَتى تَمَكَّنَ مِنك لم يُبقِ عليك، وأنا كذلك، ونَحنُ مَعَه على خَطَرٍ عَظيمٍ، وقدِ انضاف إلى ذلك ما قد تَظاهَرَ به، وهَتْكُه النَّاموسَ الذي قد أقامَه آباؤُنا، وزيادةُ جُنونِه، وحَملُه نَفسَه على ما لا يصبرُ المُسلمونَ على مِثلِه، فأنا خائِفةٌ أن يثورَ النَّاسُ علينا فيقتُلوه ويقتُلونا وتَنقَضيَ هذه الدَّولةُ أقبَحَ القَضاءِ. قال: صَدَقتِ، فما الرَّأيُ؟ قالت: تَحلِفُ لي وأحلفُ لك على كِتمانِ ما جَرى بَينَنا مِنَ السِّرِّ وتعاضِدُني على ما فيه الرَّاحةُ مِن هذا الرَّجُلِ، فقال لها: السَّمعُ والطَّاعةُ، فتَحالَفا على قَتلِه وأنَّهما يُقيمانِ ولَدَه مَقامَه، وتَكونُ أنتَ صاحِبَ جَيشِه ومُديرَه، وأنا فلا غَرَضَ لي إلَّا سَلامةُ المُهجةِ، فأقطَعَته ما يحصُلُ مِائةَ ألفٍ، وقالت: اختَرْ لي عَبدَينِ مِن عَبيدِك تَثِقُ بهما على سِرِّك وتَعتَمِدُ عليهما في مُهِمِّك) [3292] ((المنتظم في تاريخ الملوك والأمم)) (7/298، 299). .
قال ابنُ كثيرٍ: (فجَهَّزَ مِن عِندِه عَبدَينِ أسودَينِ شَهمَينِ، وقال لهما: إذا كانتِ اللَّيلةُ الفُلانيَّةُ فكونا في جَبَلِ المُقَطَّمِ، ففي تلك اللَّيلةِ يكونُ الحاكِمُ هناك في اللَّيلِ لينظُرَ في النُّجومِ، وليس مَعَه أحَدٌ إلَّا رِكابيٌّ وصَبيٌّ، فاقتُلاه واقتُلاهما مَعَه، واتَّفقَ الحالُ على ذلك... وفي تلك اللَّيلةِ رَكِبَ وصَحِبَه صَبيٌّ ورِكابيٌّ، وصَعِدَ جَبَلَ المُقَطَّمِ فاستَقبَله ذانِك العَبدانِ فأنزَلاه عن مَركوبِه وقَطَعا يدَيه ورِجلَيه، وبَقَرا بَطنَه، فأتَيا به مَولاهما ابنَ دَوَّاسٍ، فحَمَله إلى أُختِه فدَفنَته في مَجلِسِ دارِها، واستَدعَتِ الأُمَراءَ والأكابِرَ والوزيرَ، وقد أطلَعَته على الجَليَّةِ، فبايعوا لولَدِ الحاكِمِ أبي الحَسَنِ عَليٍّ، ولُقِّب بالظَّاهرِ لإعزازِ دينِ اللَّهِ) [3293] ((البداية والنهاية)) (15/ 585). .
ولَكِنَّ ابنَ الأثيرِ قال إنَّه: (توجَّه إلى شَرقِيَّ حُلوانَ ومَعَه ركابيَّانِ فأعادَ أحَدَهما مَعَ جَماعةٍ مِنَ العَرَبِ إلى بَيتِ المالِ، وأمَرَ لهم بجائِزةٍ، ثُمَّ عادَ الرِّكابيُّ الآخَرُ، وذَكرَ أنَّه خَلَّفه عِندَ العَينِ والمقصَبةِ. وبَقي النَّاسُ على رَسمِهم يخرُجونَ كُلَّ يومٍ يلتَمِسونَ رُجوعَه إلى سَلخِ شَوَّالٍ، فلَمَّا كان ثالثَ ذي القَعدةِ خَرَجَ مُظَفَّرٌ الصَّقلبيُّ، صاحِبُ المِظَلَّةِ وغَيرُه مِن خَواصِّ الحاكِمِ، ومَعَهمُ القاضي، فبَلَغوا سلوانَ ودَخَلوا في الجَبَلِ، فبَصُروا بالحِمارِ الذي كان عليه راكِبًا، وقد ضُرِبَت يداه بسَيفٍ فأثَّرَ فيهما وعليه سَرجُه ولجامُه، فاتبَعوا الأثَرَ، فانتَهَوا به إلى البِركةِ التي شَرقيَّ حُلوانَ، فرَأوا ثيابَه، وهي سَبعُ قِطَعِ صوفٍ، وهي مُزَرَّرةٌ بحالِها لم تُحَلَّ، وفيها أثَرُ السَّكاكينِ، فعادوا ولم يشُكُّوا في قَتلِه) [3294] ((الكامل في التاريخ)) (9/314). .
وقال المَقريزيُّ: (قيلَ: إنَّ أُختَه قَتَلَتْه، وليس بصَحيحٍ) [3295] ((الخطط المقريزية)) (3/253). .
ورَوى أيضًا عنِ المُسَبِّحَيِّ: في مَحرَّمٍ سَنةَ خَمسَ عَشرةَ وأربَعِمائةٍ قُبضَ على رَجُلٍ مِن بَني حُسَينٍ ثارَ بالصَّعيدِ الأعلى فأقَرَّ بأنَّه قَتَلَ الحاكِمَ بأمرِ اللَّهِ في جُملةِ أربَعةِ أنفُسٍ تَفرَّقوا في البلادِ، وأظهَرَ قِطعةً مِن جِلدةِ رَأسِ الحاكِمِ، وقِطعةً مِنَ الفوطةِ التي كانت عليه، فقيلَ له: لمَ قَتَلتَه؟ فقال: غَيرةً للَّهِ وللإسلامِ، فقيلَ له: كيف قَتَلتَه؟ فأخرجَ سِكِّينًا ضَرب بها فُؤادَه، فقَتَلَ نَفسَه [3296] ((الخطط المقريزية)) (3/253). .
ولمَّا طُوِيَت صَفحةُ الحاكِمِ واستَقَرَّ في الأذهانِ مَصرَعُه، وصَفا جَوُّ الرِّيبةِ التي ثارَت حَولَ اختِفائِه، أخَذَ الظَّاهرُ -بوَحيِ عَمَّتِه (سِتُّ المُلكِ)- في نَقضِ سياسةِ أبيه تِباعًا، فألغى أحكامَ التَّحريمِ التي أصدَرَها الحاكِمُ، وطورِدَ الملاحِدةُ أصحابُ حَمزة والمُنادونَ بأُلوهيَّةِ الحاكِمِ في عَهدِه بمُنتَهى الشِّدَّةِ، وقُبِضَ على زُعَمائِهم وشيعَتِهم، وقُتِلَ كثيرونَ منهم، وصَدَرَتِ الأوامِرُ بتَتَبُّعِهم في سائِرِ الأنحاءِ، وهَرَبَ زَعيمُهم حَمزةُ بنُ عَليٍّ.
أمَّا الدُّروزُ فيقولونَ بغَيبةِ الحاكِمِ، وهذا يتَمَشَّى مَعَ اعتِقادِهم أنَّ الأُلوهيَّةَ قد حَلَّت في ناسوتِه، وكان لاختِفاءِ الحاكِمِ على هذا النَّحوِ فُرصةٌ لإذكاءِ دَعوتِهم وتَغذيتِها، واتَّخَذوا مِن هذا الاختِفاءِ وظُروفِه الغامِضةِ مُستَقًى جَديدًا لدَعوتِهم، فزَعَموا أنَّ الحاكِمَ لم يُقتَلْ ولم يمُتْ، ولَكِنَّه اختَفى أوِ ارتَفعَ إلى السَّماءِ، وسَيعودُ عِندَما تَحُلُّ السَّاعةُ فيملَأُ الأرضَ عدلًا، وأصبَحَ هذا الادِّعاءُ أصلًا مُقَرَّرًا مِن أُصولِ عَقيدَتِهم!
ويوجَدُ بَينَ رَسائِلِ الدُّروزِ رِسالةٌ عُنوانُها (السِّجِلُّ الذي وُجِدَ مُعَلَّقًا على المَشاهِدِ في غَيبةِ مَولانا الإمامِ الحاكِمِ)، وتاريخُها في شَهرِ ذي القَعدةِ سَنةَ 411هـ، أي بَعدَ اختِفاءِ الحاكِمِ بأيَّامٍ قَلائِلَ [3297] نصُّ هذه الرِّسالةِ موجودٌ ضِمنَ ((رسائل الحكمة)) لحمزة (1/27-34). وقد كُتِب في أوَّلِها: (كُتِبت هذه النُّسخةُ سَنةَ 411ه. كاتِبُها مَجهولٌ. وعَقيدَتُها لا تَمُتُّ إلى المَذهَبِ الدَّرزيِّ بصِلةٍ؛ فالحاكِمُ فيها ليس مَعبودًا، إنَّما هو وَليُّ اللهِ وخَليفتُه وأميرُ المُؤمِنينَ. تَدعو إلى إقامةِ أحكامِ الإسلامِ وفرائِضِه، وفيها أيضًا السَّماحُ بنَسخِها وقِراءَتِها، أُسلوبُها قُرآنيٌّ، وكذلك مُعظَمُ ألفاظِها. يرضى عنها المُسلمونَ ويُمكِنُ للدُّروزِ البَوحُ بها دونَ خَوفٍ) ((رسائل الحكمة)) (1/27). .
وتَبدَأُ الرِّسالةُ بـ: التَّوبةُ إلى اللَّهِ تعالى، وإلى وليِّه وحُجَّتِه على العالَمينَ، وخَليفتِه في أرضِه، وأمينِه على خَلقِه أميرِ المُؤمِنينَ... وأنَّه قد سَبَقَ إلى النَّاسِ مِنَ الوعدِ والوعظِ والوعيدِ مِن وليِّ أمرِهم، وإمامِ عَصرِهم، وخَلَفِ أنبيائِهم، وحُجَّةِ باريهم... [3298] ((نسخة السجل الذي وُجِد مُعَلَّقًا على المشاهِدِ في غيبةِ مولانا الإمامِ الحاكِمِ)) ضمن ((رسائل الحكمة)) (1/28). .
وقال الدُّكتورُ عَبدُ الرَّحمَن بدَوي عن هذا السِّجِلِّ: (نَحنُ نَعتَقِدُ أنَّ هذا السِّجِلَّ ليس مِن وضعِ حَمزةَ بنِ عَليٍّ؛ لأنَّه يُخالفُ كُلَّ العَقائِدِ التي دَعا إليها حَمزةُ؛ وذلك لأمرَينِ:
1 فهو يَنعَتُ الحاكِمَ بأنَّه «وليُّ أمرِكم، وإمامُ عَصرِكم، وخَلَفُ أنبيائِكم»، وأنَّه «وليُّ اللَّهِ» و«خَليفتُه في أرضِه» و«أميرُ المُؤمِنينَ»، وهذه الصِّفاتُ تَتَنافى مَعَ ما ذَهَبَ إليه حَمزةُ في رَسائِلِه، وخُصوصًا في «ميثاقُ وليِّ الزَّمانِ»؛ حَيثُ نَعَتَ الحاكِمَ بأنَّه «مَولانا الأحَدُ، الفَردُ الصَّمَدُ».
2 أنَّ هذا السِّجِلَّ يُمَجِّدُ في الحاكِمِ بأمرِ اللَّهِ أنَّه أحيا سُنَّةَ الإسلامِ والإيمانِ التي هي الدِّينُ عِندَ اللَّهِ، وبه شَرُفتُم وظَهَرتُم في عَصرِه على جَميعِ المَذاهبِ والأديانِ... فدَخَلوا في دينِ اللَّهِ أفواجًا، وبَنى الجَوامِعَ وشَيَّدَها، وعَمَّر المَساجِدَ وزَخرَفها، وأقامَ الصَّلاةَ في أوقاتِها، والزَّكاةَ في حَقِّها وواجِباتِها، وأقامَ الحَجَّ والجِهادَ، وعَمَّرَ بَيتَ اللَّهِ الحَرامَ، وأقامَ دَعائِمَ الإسلامِ.
فكيف يتَّفِقُ تَمجيدُ الحاكِمِ بسَبَبِ إحيائِه سُنَنَ الإسلامِ، والسَّهَرِ على أركانِه، مَعَ ما يذهَبُ إليه حَمزةُ بنُ عَليٍّ في «ميثاقُ وَليِّ الزَّمانِ» مِن أنَّ مَن يدخُلُ في ديانةِ التَّوحيدِ التي دَعا إليها، فعليه أن يتَبَرَّأَ مِن جَميعِ المَذاهبِ والمَقالاتِ والأديانِ والاعتِقاداتِ كُلِّها؟) [3299] ((مذاهب الإسلاميين)) (2/620، 621). .
فهذا السِّجِلُّ لا يُمكِنُ أن يكونَ مِن وضعِ حَمزةَ أو أحَدِ دُعاتِه؛ لأنَّه في الواقِعِ ينفي كُلَّ ما ذَهَبَ إليه الدُّروزَ في اعتِقاداتِهم بأنَّ الحاكِمَ هو الإلهُ، وليس الإمامَ أوِ الخَليفةَ، كما سَيأتي.
ويرى الدُّكتورُ عَبدُ الرَّحمَنِ بدوي أيضًا: (أنَّ صاحِبَ المَصلَحةِ في ذلك كان أصحابَ السَّلَطةِ والوُزَراءَ، أو مَن شابَهَهم، وذلك حتَّى يكونَ إعلانًا عامًّا للنَّاسِ، وطَمأنةً لهم، وتَخويفًا في نَفسِ الوقتِ، خُصوصًا وأنَّ النَّاسَ يَكرهونَ الحاكِمَ، وأنَّه قد يُحدِثُ بَعدَ وفاتِه اضطرابًا في الأمنِ واختلالًا في أحوالِ الدَّولةِ) [3300] ((مذاهب الإِسلاميين)) (2/623). .
وإلى جانِبِ هذا السِّجِلِّ هناك رِسالةٌ أُخرى كتَبَها أحَدُ أكابرِ الدُّعاةِ وأحَدُ الحُدودِ الخَمسةِ عِندَ الدُّروزِ، وهو المُقتَني بَهاءُ الدِّينِ، وعُنوانُها (رِسالةُ الغَيبةِ)، فقال فيها: (مَعشَرَ الموحِّدينَ، إذا كُنتُم تَتَحَقَّقونَ أنَّ مَولاكم لا تَخلو الدَّارُ منه، وقد عَدِمَتْه أبصارُكم... وإذا فسَدَتِ المَعِدةُ ضَرَّتِ البَصَرَ، فهَكذا إذا كانتِ المادَّةُ واصِلةً إلى النُّفوسِ الصَّحيحةِ، فينظُروا صورةَ النَّاسوتِ نَظَرًا صَحيحًا، وإذا كانتِ المادَّةُ من فِعلِ الأبالسةِ ومادَّةِ النُّطَقاءِ والأُسُسِ وشَرائِعِهم، فيَفسُدُ النَّظَرُ، وما ينظُرُ إلَّا بشر... ثُمَّ يقولُ: ألم تَعلَموا أنَّ مَولاكم يراكم مِن حَيثُ لا تَرَونَه؟ مَعشَرَ الإخوانِ، أحسِنوا ظَنَّكم بمَولاكم يكشِفْ لكم عن أبصارِكم ما قد غَطَّاها مِن سوءِ ظَنِّكم) [3301] ((رسالة الغيبة)) ضمن ((رسائل الحكمة)) (1/250- 256). .
(وقد مَضى إلى اليومِ عَشَرةُ قُرونٍ، ولا يزالُ الدُّروزُ يُؤمِنونَ برجعَتِه ويرقُبونَها! ولم يُحَدِّدْ لَنا الدُّعاةُ مَتى تَكونُ هذه الرَّجعةُ؟! ولَكِن يقولونَ: إنَّه مَتى حَلَّتِ السَّاعةُ يقومُ جُندُ الموحِّدينَ مِن ناحيةِ الصِّينِ، ويقصِدونَ إلى مَكَّةَ في كتائِبَ جَرَّارةٍ، وفي غَداةِ وُصولِهم يبدو لهمُ الحاكِمُ على الرُّكنِ اليمانيِّ مِنَ الكعبةِ، وهو يُشهرُ بيدِه سَيفًا مُذَهَّبًا، ثُمَّ يدفعُه إلى حَمزةَ بنِ عَليٍّ فيقتُلُ به الكَلبَ والخِنزيرَ، وهما عِندَهم رَمزُ النَّاطِقِ والأساسِ.
ثُمَّ يدفعُ حَمزةُ السَّيفَ إلى مُحَمَّدٍ (الكَلِمة) وهو أحَدُ الحُدودِ الخَمسةِ عِندَهم، وعِندَئِذٍ يهدِمُ الموحِّدونَ الكعبةَ، ويسحَقونَ المُسلمينَ والنَّصارى في جَميعِ أنحاءِ الأرضِ، ويملِكونَ العالَمَ إلى الأبَدِ، ويبسُطونَ سُلطانَهم على سائِرِ الأُمَمِ، ويفتَرِقُ النَّاسُ عِندَئِذٍ إلى أربَعِ فِرَقٍ؛ الأولى: الموحِّدونَ، والثَّانية: أهلُ الظَّاهِرِ، وهمُ المُسلمونَ واليهودُ، والثَّالثةُ: أهلُ الباطِنِ، وهمُ النَّصارى والشِّيعةُ، والرَّابعةُ: المُرتَدُّونَ، وهمُ الجُهَّالُ [3302] وهم القِسمُ الثَّاني مِن الدُّروزِ؛ حَيثُ ينقَسِمونَ إلى عُقَّالٍ وجُهَّالٍ، والعُقَّالُ بيَدِهم كُلُّ أسرارِ المَذهَبِ الدَّرزيِّ، والجُهَّالُ لا يعرِفونَ شَيئًا مِن هذا. ، ويعمِدُ حَمزةُ إلى أتباعِ كُلِّ طائِفةٍ غَيرِ الموحِّدينَ، فيدمَغُهم في الجَبينِ أوِ اليدِ بما يُمَيِّزُهم مِن غَيرِهم، ويفرِضُ عليهمُ الجِزيةَ وغَيرَها مِن فُروضِ الذِّلَّةِ والطَّاعةِ) [3303] ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) لعنان، نقلًا عن مخطوطٍ بدار الكتب المصرية عن طوائف لبنان تحت رقم 16 (ص: 147، 148). .
وفي رِسالةِ (الإعذارُ والإنذارُ) صَرَّحَ حَمزةُ بأنَّه الإمامُ، وأنَّه سَيغيبُ أيضًا، على أن يرجِعَ مَرَّةً أُخرى بَعدَ قَليلٍ، وصَرَّح بَهاءُ الدِّينِ المُقتَني أنَّه عِندَما غابَ المَعبودُ (أي الحاكِمُ)، امتَنَعَ قائِمُ الزَّمانِ (أي حَمزةُ) عنِ الوُجودِ، فمِن ذلك كُلِّه يُمكِنُ أن يُقالَ: إنَّ حَمزةَ خاف على نَفسِه بَعدَ اختِفاءِ الحاكِمِ، فاختَفى هو الآخَرُ.
وقد قامَ بأمرِ الدَّعوةِ في غَيبةِ حَمزةَ الدَّاعي بَهاءُ الدِّينِ أبو الحَسَنِ عَليُّ بنُ أحمَدَ السَّموقيُّ، المَعروفُ بالضَّيفِ؛ لأنَّ مَرتَبَتَه في الدَّعوةِ هي مَرتَبةُ الجَناحِ الأيسَرِ أوِ التَّالي، وهذه المَرتَبةُ يكونُ صاحِبُها لسانَ الدَّعوةِ، واستَمَرَّ بَهاءُ الدِّينِ الضَّيفُ يحمِلُ عِبءَ هذه الدَّعوةِ، ويكتُبُ رَسائِلَه إلى المُلوكِ والأُمَراءِ يدعوهم إلى الدُّخولِ في مَذهَبِه، كما كتَبَ إلى الذين خَرَجوا عنِ المَذهَبِ بَعدَ أن كانوا مِن دُعاتِه أمثالَ سِكينٍ [3304] أحَدُ دُعاةِ الدُّروزِ الأوائِل، وكان يُشبِهُ الحاكِمَ في بَعضِ مَلامِحِه، فلَمَّا قُتِلَ الحاكِمُ ادَّعى أنَّه هو بسَبَبِ هذا الشَّبَهِ الظَّاهريِّ بَينَهما، فاجتَمَعَ حَولَه بَعضُ المَفتونينَ، واستَطاعَ أن يدخُلَ القَصرَ على أنَّه الحاكِمُ، ولَكِنْ لم يلبَثْ أن عَرَف الحُرَّاسُ حَقيقَتَه فقُتِلَ، ويعتَبرُه الدُّروزُ مارقًا وخارِجًا عن مَذهَبِهم، وكان بَهاءُ الدِّينِ قد أصدَرَ كِتابًا بتَقليدِه قَبلَ تلك الحادِثةِ، ثُمَّ تَبَرَّأ مِنه بَعدَها وذَمَّه. يُنظر: ((الكامل في التاريخ)) لابن الأثير (8/ 39)، ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (28/ 213)، ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (15/ 187). .
وقد كثُرَتِ الآراءُ الجَديدةُ مِن مُعتَنِقي المَذهَبِ الجَديدِ؛ مِمَّا جَعَلَ بَهاءَ الدِّينِ يُهَدِّدُ أتباعَه باعتِزالِ الدَّعوةِ، وبالفِعلِ اعتَزَلها سَنةَ 434هـ، بَعدَ أن أقفَلَ بابَ الاجتِهادِ؛ حِرصًا على المَبادِئِ التي وضَعَها حَمزةُ والتَّميميُّ وبَهاءُ الدِّينِ نَفسُه؛ ولذلك لم يظهَرْ مُشَرِّعونَ بَعدَ بَهاءِ الدِّينِ، بَل أصبَحَ شُيوخُ الدُّروزِ يشرَحونَ رَسائِلَ حَمزةَ والتَّميميِّ وبَهاءِ الدِّينِ [3305] يُنظر: ((طائفة الدروز)) لمحمد كامل حسين (ص: 83، 84). .
تلك هي نَظَريَّةُ دُعاةِ الدُّروزِ ومَزاعِمُهم في غَيبةِ الحاكِمِ وفي رَجَعتِه، ولم يجِدْ أصحابُ هذه الدَّعوةِ مَلجَأً لها إلَّا واديَ التَّيمِ في الشَّامِ بَعدَ انهيارِ دَعوتِهم في مِصرَ، وحاولوا بشُروحِهم ومَزاعِمِهمُ الجَديدةِ أن يستَبقوا ولاءَ شيعَتِهم وأنصارِهم هنالك مِنَ القَبائِل التي استَمالها الدَّرْزيُّ عِندَما هَرَبَ مِن بَطشِ الجُندِ والنَّاسِ في مِصرَ، وما زالَت بَقيَّتُهم إلى يومِنا حَيثُ يعيشونَ في مُجتَمَعٍ مُغلَقٍ على نَفسِه بسِرِّيَّةٍ تامَّةٍ، فلا يسمَحونَ لأيِّ إنسانٍ أن يعتَنِقَ مَذهَبَهم أو أن يتَعَرَّفَ أحَدٌ على مَبادِئِه، فلا جَدوى عِندَهم أن تَعرِضَ على أيِّ فردٍ ليُصبِحَ دَرْزيًّا، فكُلُّ إنسانٍ يظَلُّ على ما هو عليه؛ لأنَّ الرُّوحَ الدَّرْزيَّةَ تَنتَقِلُ بَعدَ المَوتِ وتَتَقَمَّصُ في جَسَدٍ دَرزيٍّ آخَرَ.
وقد ظَهَرَ بَينَ الدُّروزِ في القَرنِ التَّاسِعِ الهجريِّ -أي بَعدَ قيامِ الدَّعوةِ الدَّرْزيَّةِ بأكثَرَ مِن أربَعةِ قُرونٍ ونِصفٍ- عالمٌ دَرزيٌّ اسمُه الأميرُ جَمالُ الدِّينِ عَبدُ اللَّهِ التَّنوخيُّ [3306] قيلَ عن التَّنوخيِّ: (هو المَعروفُ عِندَهم بالسَّيِّدِ، وقَبرُه ظاهرٌ في بَلدةِ (عبية)، في جَنوبِ عالية وسوقِ الغَربِ في جَبَلِ لُبنانَ). يُنظر: ((عقيدة الدروز)) للخطيب (ص: 82). ، والذي تَذكُرُ الرِّواياتُ أنَّه كان صالحًا فقيهًا حاولَ أن يُعيدَ الدُّروزَ إلى الإسلامِ مِن جَديدٍ، وذلك بدَعوتِهم لقِراءةِ القُرآنِ وبناءِ المَساجِدِ والقيامِ بأركانِ الإسلامِ، ولَكِن يبدو أنَّ ثَمَرةَ جُهودِه قدِ اندَثَرَت بَعدَ وفاتِه وعادَ الدُّروزُ إلى ما كانوا عليه.
وثَمَّ مَخطوطٌ عُنوانُه (رِسالةٌ في مَعرِفةِ سِرِّ ديانةِ الدُّروزِ) ومُؤَلِّفُه مَجهولٌ، ويبدو أنَّه كُتِبَ قَبلَ فترةٍ ليست بالطَّويلةِ، وذلك مِن خِلالِ أُسلوبِها ولهجَتِها، وهي تُبَيِّنُ بشَكلٍ واضِحٍ أهَمَّ مُعتَقَداتِ الدُّروزِ وتَطَوُّرَها بَعدَ مَقتَلِ الحاكِمِ، والرِّسالةُ كُتِبَت على طَريقةِ السُّؤالِ والجَوابِ، كما يأتي:
س: أدَرزيٌّ أنتَ؟
ج: نَعَم، بنِعمةِ مَولانا الحاكِمِ سُبحانَه.
س: ما هو الدَّرْزيُّ؟
ج: هو الذي كتَبَ الميثاقَ بَعدَ مَولانا الخالقِ.
س: ماذا فَرَضَ عليكم؟
ج: صِدقُ اللِّسانِ، وعِبادةُ الحاكِمِ، وباقي الشُّروطِ السَّبعةِ.
س: بماذا تَعرِفُ أنَّك دَرزيٌّ موحِّدٌ؟
ج: بأكلِ الحَلالِ، وتَركِ الحَرامِ.
س: ما هو الحَلالُ والحَرامُ؟
ج: الحَلالُ هو مالُ العقالِ، والفلَّاحينَ، وأمَّا الحَرامُ فمالُ الحُكَّامِ والمُرتَدِّينَ.
س: كيف ومَتى كان ظُهورُ مَولانا الحاكِمِ؟
ج: كان في السَّنةِ الأربَعمِائةِ مِنَ الهجرةِ الإسلاميَّةِ [3307] يُلاحَظُ هنا أنَّه تَرَك ما قَبلَها مِن مَولدِ الحاكِمِ سَنةَ 375ه إلى سَنةِ 400ه، فلم يعتَبرْ إلَّا وقتَ ظُهورِ أُلوهيَّتِه. .
س: وكيف ظَهَرَ وقال: إنَّه مِن نَسلِ مُحَمَّدٍ حتَّى أنَّه أخفى لاهوتَه، ولمَ أخفاه؟
ج: لأنَّ عِبادَتَه كانت قَليلةً، والذين يُحِبُّونَه لَيسوا كثيرينَ.
س: ومَتى ظَهَرَ وأشهَر لاهوتَه؟
ج: بَعدَ ثَماني سِنينَ بَعدَ الأربَعِمائةِ.
س: وكم سَنةً أقامَ لاهوتَه بالأشهادِ؟
ج: السَّنةُ الثَّامِنةُ بكمالِها، وغابَ التَّاسِعةَ؛ لأنَّها سَنةُ استِتارٍ، وظَهَرَ أوَّلَ العاشِرةِ والحاديةَ عَشرةَ، ثُمَّ اختَفى في الثَّانيةَ عَشرةَ، ولم يظهَرْ بَعدَها حتَّى يومِ الدِّينِ.
س: وما هو هذا يومُ الدِّينِ؟
ج: هو اليومُ الذي يظهَرُ فيه النَّاسوتُ، ويحكمُ فيه العالمُ بالسَّيفِ والعُنفِ.
س: ومَتى يكونُ ذلك؟
ج: إنَّ ذلك أمرٌ غَيرُ مَعلومٍ، ولَكِنَّ العَلائِمَ تَظهَرُ.
س: وما هي هذه العَلائِمُ؟
ج: إذا رَأيتَ المُلوكَ انقَلَبَت، والنَّصارى قَوِيَت على المُسلمينَ.
س: وفي أيِّ شَهرٍ يكونُ هذا؟
ج: هذا يكونُ في جُمادى أو رَجَبٍ على حِسابِ المُعاجِزينَ.
س: وكيف يكونُ حُكمُه على الطَّوائِفِ والمِلَلِ؟
ج: يظهَرُ عليهم بالسَّيفِ والعُنفِ ويُهلِكُ الجَميعَ.
س: وبَعدَ هَلاكِهم ماذا يكونُ؟
ج: يرجِعونَ بالوِلادةِ ثانيةً على حُكمِ التَّناسُخِ، ثُمَّ يحكُمُ بَينَهم كما يُريدُ.
س: كيف يكونونَ وهو يحكمُ بَينَهم؟
ج: يكونونَ أربَعَ فِرَقٍ: نَصارى، ويهود، ومُرتَدِّينَ، وموحِّدينَ.
س: لماذا إنكارُ الكُتُبِ سِوى القُرآنِ؟
ج: اعلَمْ أنَّه مِن حَيثُ لَزِمَنا الاستِتارُ بدينِ الإسلامِ [3308] وهذا يوضِّحُ أنَّ الإسلامَ قِناعٌ يتَّخِذونُه للتَّستُّرِ عَمَّا يعتَقِدونَ، وصَلاةُ الجِنازةِ بموجِبِ ذلك. وجَب علينا الإقرارُ بكِتابِ مُحَمَّدٍ، ولا خَلَلَ علينا بذلك، وصَلاةُ الجِنازةِ على المَوتى بموجِبِ الاستِتارِ لا غَيرُ؛ لأنَّ المَذهَبَ الطَّاهِرَ اقتَضى ذلك [3309] عَلَّقَ زُهَيرٌ الشَّاويشُ على صَلاةِ الجِنازةِ عِندَ الدُّروزِ فقال: (ومِن المُشاهدِ حتَّى اليومِ أنَّهم يقرَؤونَ الفاتِحةَ في صَلاةِ الجِنازةِ، وتَكونُ هذه القِراءةُ مِن مَجموعةٍ مِن مَشايِخِهم، ويقِفونَ حَولَ الصُّندوقِ الذي فيه المَيِّتُ، إمَّا في (الخَلوةِ) أو في (السَّاحةِ) قَبلَ المَقبَرةِ. وينقَسِمونَ إلى أربَعِ مَجموعاتٍ يُحيطونَ بالمَيِّتِ، ويتَولَّى أكبَرُ المَوجودينَ رُتبةَ الإشارةِ إلى إحدى المَجموعاتِ، فيَقرؤونَ فاتِحةَ الكِتاب بصَوتٍ مُرتَفِعٍ ونَغمةٍ تَختَلفُ عن المَعروفِ مِن تَجويدِ القُرآنِ، فإذا انتَهَت هذه المَجموعةُ أشارَ إلى مَجموعةٍ أُخرى، وهَكذا دَوالَيك، ويُلاحَظُ أنَّ هذه المَجموعاتِ يرأسُها شَخصٌ يلبَسُ عَباءةً ذاتَ خُطوطٍ مُلَوَّنةٍ، وأمَّا رَأسُ الجَميعِ فتُخالِفُ ألوانُ عَباءَتِه عَباءةَ الآخَرينَ، وأمَّا مَن كان في رُتبةِ (جويد) فيقتَصِرُ على الثِّيابِ السَّوداءِ العاديَّةِ، وهي قَميصٌ قَصيرٌ وسِروالٌ يرتَفِعُ عن الكعبَينِ، ونَعلٌ يكونُ غالبًا مِن الأنواعِ المَتينةِ الرَّخيصةِ فَضْفاضٌ، وأمَّا العَباءةُ التي يلبَسُها الأجاويدُ والمُتَقدِّمونَ فهي بلا أكمامٍ، وقد يربُطُها بحِزامٍ ولا تَصِلُ إلى رُكبَتِه، وهي ما يُسَمُّونَها (البِشت)، كما يُلاحِظُ النَّاظِرُ إلى إلزامِهم جَميعَ الأطفالِ والمُراهقينَ بغِطاءِ الرَّأسِ -ولَو بالطَّواقي- وأمَّا الكِبارُ فيلبَسونَ العَمائِمَ البَيضاءَ على الطَّرابيشِ الحَمراءِ. يُنظر: ((عقيدة الدروز)) للخطيب (ص: 84). .
س: من أينَ عَرَفْنا شَرَفَ قيامِ الحَقِّ مِن حَمزةَ بنِ عَليٍّ سَلامُه علينا؟
ج: مِن شَهادَتِه لنَفسِه؛ حَيثُ قال في رِسالةِ (التَّحذيرُ والتَّنبيهُ): (أنا أصلُ مُبدِعاتِ المَولى، وأنا سِراطُه والعارِفُ بأمرِه، وأنا الطُّورُ والكِتابُ المَسطورُ والبَيتُ المَعمورُ، أنا صاحِبُ البَعثِ والنُّشورِ، أنا النَّافِخُ في الصُّدورِ، وأنا الإمامُ المَتينُ، وأنا صاحِبُ النِّعَمِ، وأنا ناسِخُ الشَّرائِعِ ومُبطِلُها، وأنا مُهلِكُ العالَمينَ، وأنا مُبطِلُ الشَّهادَتَينِ، وأنا النَّارُ الموقَدةُ التي تَطَّلعُ على الأفئِدةِ) [3310] ((التحذير والتنبيه)) ضمن ((رسائل الحكمة)) (1/ 243). .
س: وما هو دينُ التَّوحيدِ الذي عليه الدُّروزُ والعقالُ مُستَدِلُّونَ؟
ج: هو الكُفرُ بكُلِّ المِلَلِ والطَّوائِفِ؛ لأنَّ بالذي كفَروا نُؤَمِنُ نَحنُ، كما قيلَ في (رِسالة الإعذارِ والإنذارِ) [3311] هذه الرسالة ضمن ((رسائل الحكمة)) (1/ 246- 249). .
س: فإذا عَرَف أحَدٌ دينَ مَولانا، وصَدَّقَ به [3312] وهذا الكلامُ مبنيٌّ على أنَّ هذا (الأحدَ) لم يكُنْ من أهلِ الدَّعوةِ في السَّابِقِ، أو من أهلِها في التَّناسُخِ. وانقادَ إلى دينِ التَّوحيدِ وعَمِلَ بحَسبِه، فهَل له خَلاصٌ؟
ج: كَلَّا؛ لأنَّه غَلَقَ البابَ، وتَمَّ الكلامُ، وإذا ماتَ يرجِعُ إلى مِلَّتِه ودينِه القديمِ.
س: مَتى خُلِقَت نُفوسُ العالَمِ كُلُّها؟
ج: بَعدَما خُلِقَ العَقلُ، الذي هو حَمزةُ بنُ عَليٍّ، ثُمَّ خُلِقَتِ الأرواحُ كُلُّها مِن نورِه، وهي مَعدودةٌ لا تَزيدُ ولا تَنقُصُ مَدى الزَّمانِ.
س: أيليقُ أن يُسَلَّمَ التَّوحيدُ للنِّساءِ؟
ج: نَعمْ؛ لأنَّ مَولانا كتَبَ عليهنَّ العَهدَ، وأطَعْنَ إلى دَعوةِ الحاكِمِ كما هو مَذكورٌ في رِسالةِ (ميثاقُ النِّساء) [3313] هذه الرسالة ضمن ((رسائل الحكمة)) (1/ 69- 72). ، وكذلك في رسالةِ (البناتُ).
س: وكيف تَقولُ في بَقيَّةِ المِلَلِ الذين يقولونَ: إنَّنا نَعبُدُ الرَّبَّ الذي خَلَقَ السَّماءَ والأرضَ؟
ج: إنَّهم، وإن قالوا كذا فلا يصِحُّ؛ لأنَّ العِبادةَ لا تَصِحُّ بلا مَعرِفةٍ، فإن قالوا: عَبَدْنا، ولم يعرِفوا أنَّ الرَّبَّ هو الحاكِمُ بذاتِه، فتَكونُ عِبادَتُهم باطِلةً.
س: مَن مِنَ الحُدودِ يصِفُ حِكمةَ المَولى سُبحانَه الذي عليه مَبنى دينِنا؟
ج: وصَف ذلك ثَلاثةٌ مِنَ الحُدودِ، وهم حَمزةُ، وإسماعيلُ، وبَهاءُ الدِّينِ.
س: كيف نَعرِفُ أخانا الموحِّدَ إذا رَأيناه في الطَّريقِ ومَرَّ بنا يقولُ: إنَّه فينا؟
ج: بَعدَ اجتِماعِنا فيه والسَّلامِ، تَقولُ له: في بَلَدِكم فلَّاحونَ يزرَعونَ الأهليلجَ، فإن قال: نَعَم، مَزروعٌ في قُلوبِ المُؤمِنينَ، فنَسألُه عن مَعرِفةِ الحُدودِ، فإن أجابَ، وإلَّا فهو الغَريبُ.
س: ما هي الحُدودُ؟
ج: هم أنبياءُ الحاكِم الخَمسةُ: حَمزةُ، وإسماعيلُ، ومُحَمَّدٌ الكَلِمةُ، وأبو الخَيرِ، وبَهاءُ الدِّينِ.
س: هَل للجُهَّالِ مِنَ الدُّروزِ خَلاصٌ أو مَرتَبةٌ عِندَ الحاكِمِ إذا ماتوا على ما هم عليه مِن غَيرِ عَقلٍ؟
ج: لا خَلاصَ لهم، بل يكونونَ عِندَ مَولانا الحاكِمِ في اللِّباسِ والمِعيارِ أبَدًا.
س: ما هي نُقطةُ البيكارِ؟
ج: هو حَمزةُ بنُ عَليٍّ.
س: ما هو القديمُ والأزَلُ؟
ج: إنَّ القديمَ هو حَمزةُ، والأزَلُ أخوه إسماعيلُ.
س: ما هي حُروفُ الصِّدقِ، وكم عَدَدُها؟
ج: مِائةٌ وأربَعةٌ وسِتُّونَ حَرفًا، وهي الدَّعوةُ والتَّقيُّ والمكاسِرون، وهمُ الأنبياءُ التي كانت لمَولانا الحاكِمِ.
س: ما هي حُروفُ الكَذِبِ؟
ج: سِتَّةٌ وعِشرونَ، وهي دَليلُ إبليسَ وأولادِه ورِفاقِه، وهم مُحَمَّدٌ، وعَليٌّ وأولاده الاثنا عَشَرَ، وهذا عَليٌّ إمامُ المتاولةِ [3314] قد تُقرَأُ (المُتَأوِّلةُ) بهَمزةٍ على الألفِ، وهذا ينطَبقُ على الإسماعيليَّةِ. وقد تُقرَأُ (المتاولةُ) بلا هَمزةٍ على الألفِ، وهذا تَعبيرٌ مُستَعمَلٌ، ويُقصَدُ به الشِّيعةُ الاثنا عَشريَّة. .
س: ما هو مَعنى رُكوبِ مَولانا الحَميرَ بلا سُروجٍ؟
ج: الحِمارُ مَقالُ النَّاطِقِ، ورُكوبُه دَليلٌ على هَدمِ شَريعَتِه وإبطالِها، وقد قال القُرآنُ تَصديقًا لهذا: (إنَّ أنكرَ الأصواتِ لصَوتُ الحَميرِ) يعني الأنبياءَ الذين جاؤوا بالشَّريعةِ الظَّاهرةِ.
س: ما مَعنى لُبسِ مَولانا الصُّوفَ الأسودَ؟
ج: إنَّ ذلك ليس بدَليلٍ على الحُزنِ، إنَّما على المَحَبَّةِ التي صارَت على عِبادةِ الموحِّدينَ بَعدَه [3315] عُقَّالُ الدُّروزِ إلى الآنَ يَلبَسون هذا اللِّباسَ الأسوَدَ. .
س: وما هو سَبَبُ ظُهورِه في كُلِّ شَريعةٍ؟
ج: أن يُؤَيِّدَ الموحِّدينَ ويثبُتوا في عِبادةِ الحاكِمِ ولا يُسَدِّقوا إلَّا منه.
س: وكيف تَرجِعُ النُّفوسُ إلى أجسادِها؟
ج: كُلَّما ماتَ إنسانٌ وُلِد آخَرُ، والدُّنيا هَكذا.
س: كيف يُستَدَلُّ على أنَّ دينَ الحاكِمِ حَقٌّ وغَيرَه باطِلٌ؟
ج: إنَّ هذا كلامُ كُفرٍ وعَدَمُ تَصديقٍ بالحاكِمِ؛ لأنَّ الموحِّدينَ قدِ اشتَرَطوا على أنفُسِهم في كُتُبِ الميثاقِ أنَّهم سَلَّموا كُلَّ أرواحِهم وأجسادِهم وشعرِهم، وسِرِّهم وصِهرِهم بيَدِ الحاكِمِ مِن غَيرِ مَحضٍ ولا جِدالٍ، فإذا هم في طاعَتِه، وإن قالوا غَيرَ هذا، فقَولُهم كُفرٌ، كما قال في رِسالةِ (الرِّضا والتَّسليم) [3316] موجودة ضمن ((رسائل الحكمة)) (1/ 175- 184). ولحَمزةَ عَبدِ مَولانا الحاكِمِ ومَلاكِه، وهذا الأمرُ ثابتٌ.
س: ما المُرادُ بالجِنِّ والمَلائِكةِ والأبالسةِ في كِتابِ حَمزةَ؟
ج: إنَّ المُرادَ بالجِنِّ والأبالسةِ النَّاسُ الذين لم يُطيعوا دَعوةَ مَولانا الحاكِمِ، وأمَّا الشَّياطينُ فأرواحٌ خَبيثةٌ لا أجسامٌ. أمَّا المُرادُ بالمَلائِكةِ المُقَرَّبينَ والمُستَجيبينَ لدَعوةِ الحاكِمِ بأمرِه، فهو الرَّبُّ المَعبودُ في كُلِّ الأدوارِ.
س: ومَن همُ الحُرمُ الأربَعةُ؟
ج: هم إسماعيلُ، ومُحَمَّدٌ، وسَلامةُ، وعَليٌّ، وهمُ الحِكمةُ، النَّفسُ، بَهاءُ الدِّينِ، ابنُ أبي الخَيرِ.
س: ولماذا تَسَمَّوا حُرمًا؟
ج: لأنَّ حَمزةَ هو بمَقامِ الرِّجالِ، وهم نِسوانٌ؛ لأنَّهم عِندَه بمَنزِلةِ النِّساءِ في طاعَتِهم له.
س: وما ذِكرُ الأحاليلِ والفُرُجِ؟
ج: أشارَ إلى حالةٍ ولا مَحَلَّةَ؛ لأنَّ الإحليلَ يقوى ويعمَلُ الحَرَكةَ على فرجِ المَرأةِ، وكذلك مَولانا جَعَلَ سُلطانَ لاهوتِه يغلبُ المُشرِكةَ كما رَأينا في رِسالةٍ يُقالُ لها (حَقائِقُ الهَزلِ) [3317] موجودة ضمن ((رسائل الحكمة)) (1/ 197- 110). .
س: ولماذا أوصانا حَمزةُ بنُ عَليٍّ بأن نُخفيَ الحِكمةَ ولا نَكشِفَها؟
ج: لأنَّ فيها أسرارَ مَولانا وعُهودَه، فلا يجِبُ أن نَكشِفَها إلى أحَدٍ؛ لأنَّها خَلاصُ النُّفوسِ، وهي حَياةُ الأرواحِ.
س: ألعَلَّنا نَحنُ نَخلُصُ، ولا نُريدُ كُلَّ النَّاسِ أن تَخلُصَ؟
ج: هذا ليس مِن طَريقَتِه؛ لأنَّ الدَّعوةَ ارتَفعَت وغُلِقَ البابُ، وكفى مَن آمَنَ، وكفرَ مَن كفرَ.
س: وما مَعنى إبطالِ الصَّدَقةِ على بَعضِ النَّاسِ؟
ج: إنَّ الصَّدَقةَ لا تَجوزُ عِندَنا إلَّا على أخينا الموحِّدِ العاقِلِ، وأمَّا على غَيرِه فهي حَرامٌ أبَدًا [3318] ((رسالة في معرفة سر ديانة الدروز)) مخطوط في جامعة ييل. يُنظر: ((عقيدة الدروز عرض ونقد)) لمحمد أحمد الخطيب (ص: 82- 88). .
ولعلَّ من المفيدِ في سياقِ الحديثِ عن حَالِ المذهَبِ الدَّرزيِّ بعدَ الحاكِمِ عَرْضَ بعضِ الملامِحِ من تاريخِ الدُّروزِ منذُ موتِ الحاكِمِ وحتى القَرنِ الحاليِّ.
أبرَزُ ملامِحِ تاريخِ الدُّروزِ بعدَ عَهدِ الحاكِمِ وحتَّى القرنِ الحاليِّ:
عندما جاء الزَّحفُ المغوليُّ إلى بلادِ الشَّامِ سنةَ 657هـ بزعامةِ هولاكو، كانت السَّيطرةُ على لبنانَ بيَدِ أمراءِ الدُّروزِ التَّنوخيِّينَ، ولَمَّا دخل (كَتْبُغا) ابنُ هولاكو دِمَشقَ جاءه الأميرُ التَّنوخيُّ جمالُ الدِّينِ حجي الثَّاني معلِنًا خضوعَه له؛ ممَّا جعل (كَتْبُغا) يُقِرُّ الأميرَ الدَّرزيَّ على مقاطعةِ الغَربِ، ولكِنْ مجيءُ بِيبَرسَ من مِصرَ على رأسِ جَيشِ المماليكِ لمقاتلةِ المغولِ قلَبَ موازينَ القوى في ذلك الوقتِ، وهنا ارتأى الدُّروزُ أن يبقى أحدُهم -وهو الأميرُ جمالُ الدِّينِ- بجانِبِ كَتْبُغا، فيما ينضَمُّ دَرزيٌّ آخَرُ -وهو الأميرُ زَينُ الدِّينِ- إلى جانِبِ المماليكِ؛ لأنَّ الانحيازَ إلى إحدى القوَّتين كان يعني المجازفةَ بمصيرِهم فيما لو خَسِر الجانبُ الذي قد ينضمُّون إليه [3319] يُنظر: تفصيل ذلك في ((تاريخ الموحدين الدروز)) لعباس أبو صالح وسليمان مكارم (ص: 112). .
وبَعدَ انتصارِ المماليكِ على المغولِ استولَوا على بلادِ الشَّامِ دونَ أن يتعَرَّضوا لمناطِقِ الدُّروزِ بسوءٍ، ووجَّهوا اهتمامَهم لاحتلالِ المناطِقِ السَّاحِليَّةِ التي كانت لا تزالُ بيَدِ الصَّليبيِّينَ، ولكِنَّ بِيبَرسَ كانت تُساوِرُه الشُّكوكُ في حقيقةِ مَوقِفِ الدُّروزِ، وذلك بعدما نما إلى عِلمِه أنَّ أمراءَ الدُّروزِ على اتِّصالٍ بوالي طَرابُلُسَ الصَّليبيِّ، فأمر بسَجْنِهم ليتسنَّى له أن يلتَفِتَ لغَدرِ الصَّليبيِّينَ [3320] يُنظر: تفصيل ذلك في ((تاريخ الموحدين الدروز)) لعباس أبو صالح وسليمان مكارم (ص: 113 - 114). .
وبَعدَ قيامِ الدَّولةِ العُثمانيَّةِ راودَتهمُ الأحلامُ القديمةُ بقيامِ دَولةٍ مُستَقِلَّةٍ لهم، وخاصَّةً أنَّهم رَأوا الفُرصةَ سانِحةً لهم لانشِغالِ العُثمانيِّينَ بقِتالِ الدُّوَلِ الأورُبِّيَّةِ المُجاوِرةِ، فعَمِلوا على تَحقيقِ هذه الأحلامِ في عَهدِ الأميرِ فخرِ الدِّينِ الثَّاني، الذي قامَ بحُروبٍ مَحَلِّيَّةٍ لبَسطِ نُفوذِه على سائِرِ بلادِ الشَّامِ، ولَكِنَّ سياسَتَه هذه جَعَلَتِ العُثمانيِّينَ يتَوجَّسونَ منه خَوفًا، وتَحَرُّكُه على الصَّعيدِ الخارِجيِّ عَزَّزَ تلك المَخاوِفَ وأثارَ شُكوكَ البابِ العالي في ولائِه للعُثمانيِّينَ، وخاصَّةً أنَّ أهدافَه الحَقيقيَّةَ بَدَأت بالوُضوحِ عِندَما عَقدَ مَعَ دوقِ توسكانا مُعاهَدةً تِجاريَّةً تَضَمَّنَت بُنودًا عَسكريَّةً ضِدَّ الدَّولةِ العُثمانيَّةِ.
فقَرَّرَ السُّلطانُ العُثمانيُّ التَّخَلُّصَ مِن فخرِ الدِّينِ، فجَرَّدَ عليه حَملةً قَويَّةً برًّا وبَحرًا سَنةَ 1022هـ، فهَرَبَ إلى أورُبَّا عن طَريقِ ميناءِ صَيدا بمُساعَدةِ سَفينَتَينِ إحداهما فرَنسيَّةٌ وأُخرى هولَنديَّةٌ، وهناك أرادَ أن يُؤَلِّبَ الدُّولَ الأورُبِّيَّةَ ضِدَّ الدَّولةِ العُثمانيَّةِ، فسَعى جاهدًا للحُصولِ على مُساعَداتٍ عَسكريَّةٍ مِن أسبانيا وفرَنسا والفاتيكانِ ضِدَّ العُثمانيِّينَ، ولَكِنَّ مَسعاه فَشِل؛ لأنَّ الظُّروفَ الدَّوليَّةَ في ذلك الوقتِ كانت غَيرَ صالحةٍ [3321] يُنظر: ((تاريخ الموحدين الدروز)) لعباس أبو صالح وسليمان مكارم (ص: 133 – 136). .
وبحُكمِ عَلاقةِ فَخرِ الدِّينِ الوطيدةِ بدُوَلِ أورُبَّا فقد كان يعطِفُ على الإرساليَّاتِ الأورُبِّيَّةِ ويسمَحُ بإنشاءِ مَراكِزَ لها في لُبنانَ وفِلَسطينَ، وبَسَطَ يدَ الحِمايةِ لجَميعِ النَّصارى في بلادِ الشَّامِ، حتَّى صارَ الأورُبِّيُّونَ يدعونَه (حامي النَّصارى في الشَّرقِ)، وكان عَطفُ الأميرِ على الموارنةِ وتَحالُفُه مَعَهم مِن أبرَزِ مُمَيِّزاتِ سياسَتِه الدَّاخِليَّةِ، وكان أيضًا عامِلًا في هجرةِ الموارنةِ مِن مَناطِقِهم إلى مَناطِقِ المُسلمينَ، وانتِشارِهم في أكثَرَ مِن ثُلثَي لُبنانَ الحاليِّ؛ مِمَّا قَوَّى مَركزَهمُ السِّياسيَّ في لُبنانَ بَعدَ ذلك [3322] يُنظر: ((تاريخ الموحدين الدروز)) لعباس أبو صالح وسليمان مكارم (ص: 142، 143). .
وذَكرَ كمال جُنبُلاط أنَّ إمارةً دَرزيَّةً أُخرى كانت قائِمةً في الدَّولةِ العُثمانيَّةِ خاضِعةً لحُكمِ أحَدِ أجدادِه، ووُجِدَت في شَمالِ سوريا، وكانت تَشمَلُ حِمصَ وحَماةَ وحَلَبَ ودِمَشقَ وجُزءًا مِن تُركيا الأناضوليَّةِ، وقد عَقدَت هذه الإمارةُ أيضًا مُعاهَداتٍ عَسكريَّةً مَعَ الفاتيكانِ ودوقيَّةِ توسكانا وأسبانيا، وتَلَقَّى جَدُّه مُقابلَ ذلك دَعمًا سياسيًّا وعسكريًّا [3323] يُنظر: ((هذه وصيتي)) (ص: 40). .
وفي سَنةِ 1253هـ قامَ الدُّروزُ بتَمَرُّدٍ على مُحَمَّد عَلي باشا والي مِصرَ، وكان ذلك في جَبَلِ الدُّروزِ بحَورانَ؛ بسَبَبِ تَجريدِهم مِنَ السِّلاحِ وتَجنيدِهم في الجَيشِ، وبَقي هذا التَّمَرُّدُ مشتَعِلًا بَعدَ أنِ انضَمَّ إليه دُروزُ وادي التَّيمِ، رَغمَ مُحاولاتِ مُحَمَّد عَلي القَضاءَ عليه، إلى أن جَرَّدَ عليه حَملةً قَويَّةً سَنةَ 1256هـ.
وبَعدَ أن وجَدَتِ الدُّولُ الأورُبِّيَّةُ الضَّعفَ في الدَّولةِ العُثمانيَّةِ عَمِلَت على استِمالةِ الأقَلِّيَّاتِ المَوجودةِ داخِلَها، وخاصَّةً في لُبنانَ، الذي كانوا يرَونَ فيه مدخلًا مهمًّا لكُلِّ مُؤامَراتِهم على الدَّولةِ العُثمانيَّةِ، وكانت فرَنسا تَرى في نَفسِها مُدافِعًا شرعيًّا عن مَوارنةِ لُبنانَ، وقدِ اتَّخَذَت هذه الحُجَّةَ الواهيةَ ذَريعةً في سَبيلِ تَدَخُّلِها في شُؤونِ الدَّولةِ العُثمانيَّةِ، وهذه السِّياسةُ الفرَنسيَّةُ خَوَّفت بريطانيا؛ مِمَّا جَعَلها سَنةَ 1841م تَعمَلُ على استِمالةِ الدُّروزِ إلى جانِبها وتُقيمُ عَلاقاتٍ رَسميَّةً ووُدِّيَّةً مَعَهم ومَعَ زُعَمائِهم، ويَظهَرُ أنَّ الإنجِليزَ قد فهموا أحلامَ الدُّروزِ بإقامةِ دَولةٍ لهم، فاستَغَلُّوها لاستِمالَتِهم وإقامةِ العَلاقاتِ الوطيدةِ مَعَهم [3324] يُنظر: ((تاريخ الموحدين الدروز)) لعباس أبو صالح وسامي مكارم (ص: 245، 246). .
وقد باتَ هذا واضِحًا عِندَما ثارَ الدُّروزُ في جَبَلِهم على الدَّولةِ العُثمانيَّةِ سَنةَ 1851م؛ إذِ امتَنَعوا عن دَفعِ الضَّرائِبِ، فجَرَّدَتِ الدَّولةُ العُثمانيَّةُ حَمَلةً لتَأديبِهم، فتَدَخَّلَت بريطانيا لَدى البابِ العالي وصَدَرَتِ الأوامِرُ مِنَ الأستانةِ بحَلِّ المُشكِلةِ الدَّرْزيَّةِ سِلمًا، وجاءَ في بَرقيَّةِ الصَّدرِ الأعظَمِ الموجَّهةِ إلى مِدحَت باشا (والي الشَّامِ) بهذا الصَّدَدِ: (أنَّ الإنجِليزَ لا يُسَرُّونَ بما تَتَّخِذُه مِنَ التَّدابيرِ لتَأديبِهم)، وهذا التَّدَخُّلُ شَجَّعَ الدُّروزَ؛ إذ ما لَبثوا أنِ اعتَدَوا على بَعضِ المَناطِقِ وحَرَقوا زَرعَها في سَنةِ 1296هـ، واعتَدَوا على قَريةِ (المُسَميةِ) في حَورانَ سَنةَ 1308هـ. ثُمَّ ثاروا في سَنةِ 1311هـ و1313هـ وكذلك في سَنةِ 1328هـ. وكانتِ اعتِداءاتُ الدُّروزِ على أهالي حَورانَ قد أُثيرَت في مَجلسِ المَبعوثانِ العُثمانيِّ؛ حَيثُ نَدَّدَ مَبعوثُ حَورانَ باعتِداءاتِ الدُّروزِ، مُطالِبًا الدَّولةَ باتِّخاذِ الإجراءاتِ العَسكريَّةِ الرَّادِعةِ ضِدَّهم بَعدَ اعتِدائِهم على الجَيشِ والأهالي، وأنهى خِطابَه بمُطالَبةِ الحُكومةِ بسَوقِ قوَّةٍ عَسكريَّةٍ على حَورانَ لصيانةِ العِرضِ والدِّينِ والمالِ، وتَأمينِ الرَّعيَّةِ مِنَ الخَوفِ [3325] يُنظر: ((الإدارة العثمانية في ولاية سورية)) لمحمد عبد العزيز عوض (ص 193، 291، 292). .
مِمَّا تَقدَّمَ يتَّضِحُ أنَّ دُروزَ حَورانَ كانوا في شِبهِ ثَورةٍ دائِمةٍ ضِدَّ الدَّولةِ العُثمانيَّةِ، وعِندَما كانتِ الوِلايةُ تَعرِضُ عليهم بَرامِجَ الإصلاحِ وتَطلُبُ مِن زُعَمائِهم مُساعَدَتَها في تَطبيقِها، كان الزُّعَماءُ يقبَلونَ ذلك ثُمَّ يرفُضونَه وهَكذا، وبالرَّغمِ مِن ذلك فقد حاولَت وِلايةُ سوريا إصلاحَ الأوضاعِ الإداريَّةِ والاجتِماعيَّةِ في مِنطَقةِ جَبَلِ الدُّروزِ عن طَريقِ نَشرِ التَّعليمِ بَينَ الدُّروزِ بإنشاءِ المَدارِسِ وتَعليمِهم مَبادِئَ الدِّينِ الإسلاميِّ، واتَّبَعَت سياسةَ اللِّينِ والرِّفقِ مَعَ رُؤَسائِهمُ الدِّينيَّينِ، وذلك باستِدعائِهم إلى دِمَشقَ وبذلِ المَساعي لإقناعِهم بقَبولِ الإصلاحاتِ، فيُبدي الزُّعَماءُ رِضاهمُ التَّامَّ لدَرَجةِ المُطاوَعةِ والانقيادِ، ولَكِنَّهم يَثبُتون على ذلك طويلًا [3326] يُنظر: ((الإدارة العثمانية في ولاية سورية)) لمحمد عبد العزيز عوض (ص: 293). .
وبَعدَ استِعمارِ فرَنسا لسوريا عَمِلَت عن طَريقِ عُمَلائِها وبكُلِّ ما تَستَطيعُ مِن إمكانيَّاتٍ وإغراءاتٍ أن تَستَميلَ الدُّروزَ إلى جانِبِها ويترُكوا الإنجِليزَ، ومِن أجلِ ذلك تابَعَت فرَنسا استِمالةَ زُعَماءِ الدُّروزِ، فاستَطاعَت في 20 نيسان 1921م عن طَريقِ الجِنِرالِ (غورو) أن تُقنِعَ الأميرَ سَليمًا الأطرَشَ بإعلانِ دَولةٍ دَرزيَّةٍ في جَبَلِ الدُّروزِ، وتَشكيلِ حُكومةٍ دَرزيَّةٍ، وانتِخابِ مَجلسٍ نيابيٍّ مُكوَّنٍ من (40) عُضوًا، ورَفرَف لأوَّلِ مَرَّةٍ في تاريخِ الدُّروزِ عَلَمُهمُ المُكوَّنُ مِن خَمسةِ ألوانٍ [3327] يُنظر: ((بلاد الشام - السكان والاقتصاد والسياسة الفرنسية)) لوجيه كوثراني (ص: 93). . وعِندَما رَأت بريطانيا أنَّ نُفوذَها سيزولُ عِندَ الدُّروزِ بسَبَبِ هذه الدَّولةِ استَمالَت أحَدَ أُمَراءِ الجَبَلِ، الذي كان مِن أهَمِّ العَوامِلِ التي أثَّرَت على عَدَمِ بَقاءِ هذه الدَّولةِ وسُقوطِها.
والحَديثُ عن تاريخِ الدُّروزِ في القَرنِ الحاليِّ يَدفَعُ لإعطاءِ صورةٍ موجَزةٍ عن مَوقِفِ الدُّروزِ مِن دَولةِ إسرائيلَ؛ حَيثُ كانوا بَعدَ قيامِ هذه الدَّولةِ على أرضِ فِلَسطينَ مِن أهَمِّ المُدافِعينَ عن وُجودِها، بل إنَّ إسرائيلَ استَطاعَت أن تُكَوِّنَ كتيبةً منهم فيما يُسَمَّى بـ (حَرَس الحُدودِ) كان له دَورٌ خَطيرٌ ومُهِمٌّ في حُروبِ إسرائيلَ مَعَ الدُّوَلِ العَرَبيَّةِ.
لذا فإنَّ كمال جُنبُلاط في كِتابِه (هذه وصيَّتي) يعتَبرُ وُجودَ الدُّروزِ في إسرائيلَ مُشكِلةً، ولَكِن في الوقتِ نَفسِه يُدافِعُ عن تَعامُلِهم مَعَ دَولةِ العَدوِّ وينتَقِدُ الفِلَسطينيِّينَ الذين هَرَبوا وتَرَكوا أرضَهم وبلادَهم ولم يُقَلِّدوا الدُّروزَ في بَقائِهم في فِلَسطينَ، ولَو أنَّهم بَقوا لَشارَكوا بسُهولةٍ في اقتِصادِ إسرائيلَ وبالتَّالي في السُّلطةِ السِّياسيَّةِ، ويكونونَ أقَلِّيَّةً قَويَّةً وفعَّالةً في البَرلَمانِ، وبالتَّالي فإنَّ الدُّروزَ فيما فعَلوه مَعَ إسرائيلَ قاموا بواجِبِهم بتَعَقُّلٍ، فهم يعلَمونَ أنَّه لا جَدوى في الهجومِ على طَواحينِ الهَواءِ، كما يزعُمُ جُنبُلاط [3328] يُنظر: ((هذه وصيتي)) لكمال جنبلاط (ص: 56، 57). .
وفي سَنةِ 1982م عِندَما احتَلَّت إسرائيلُ لُبنانَ، رَفضَت مليشيَّاتُ الدُّروزِ (الحِزبُ التَّقدُّميُّ الاشتِراكيُّ) قِتالَ الجَيشِ الإسرائيليِّ ورَفضَت مِدفعيَّتُه المَوجودةُ في الجَبَلِ مُساعَدةَ الفِلَسطينيِّينَ؛ ولذلك استَطاعَ الجَيشُ الإسرائيليُّ دُخولَ مَناطِقِ الدُّروزِ دونَ أن تُطلَقَ رَصاصةٌ واحِدةٌ، وبَقيتِ الأسلحةُ في يدِ الدُّروزِ رَغمَ وُجودِ الجَيشِ الإسرائيليِّ في مَناطِقِهم [3329] يُنظر: ((عقيدة الدروز)) للخطيب (ص: 99). .

انظر أيضا: