موسوعة التفسير

سُورةُ يُوسُفَ
الآيات (58-62)

ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ

غريب الكلمات:

مُنْكِرُونَ: أي: لا يعرِفونَه، وأصْلُ (نكر): يدلُّ على خِلافِ المعرفةِ الَّتي يسكُنُ إليها القلْبُ [708] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/222)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/476)، ((المفردات)) للراغب (ص: 823). .
بِجَهَازِهِمْ: الجَهازُ: ما يَحتاجُ إليه المُسافِرُ مِن زادٍ، ومَتاعٍ، وكُلِّ ما يُحمَلُ، وأصلُ (جهز): يدُلُّ على شَيءٍ يُحوَى [709] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/488)، ((تفسير ابن عطية)) (3/258)، ((المفردات)) للراغب (ص: 209)، ((غريب القرآن)) لقاسم الحنفي (ص: 99). .
أُوفِي: أي: أُتِمُّ ولا أَبْخَسُ، وأصْلُ (وفي): يدلُّ على إكمالٍ وإتمامٍ [710] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/225)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/129)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 209). .
الْمُنْزِلِينَ: أي: المُضِيفينَ، وأصلُ (نزل): يدُلُّ هُبوطِ شَيءٍ ووُقوعِه [711] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 218)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/417)، ((البسيط)) للواحدي (12/162). .
رِحَالِهِمْ: أي: أمتعتِهم وأوعِيَتِهم، جمعُ رَحْلٍ: وهو كلُّ شيءٍ يعَدُّ للرَّحيلِ؛ مِن وِعاءٍ للمَتاعِ ومَركبٍ للبَعيرِ، وأصْلُ (رحل): يدلُّ على مُضِيٍّ في سفَرٍ [712] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/497)، ((البسيط)) للواحدي (12/164)، ((المصباح المنير)) للفيومي (1/222). .
بِضَاعَتَهُمْ: أي: أثمانَ الطَّعامِ التي دَفَعوها [713] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/156)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/254)، ((البسيط)) للواحدي (12/164)، ((المفردات)) للراغب (ص: 128). .
انْقَلَبُوا: أي: رجَعوا، وانصَرَفوا، وأصْلُ (قلب): صرْفُ الشَّيءِ عن وجْهٍ إلى وجْهٍ، أو ردُّه مِن جِهةٍ إلى جهةٍ [714] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 113)، ((تفسير ابن جرير)) (24/226)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/17)، ((المفردات)) للراغب (ص: 681). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى: وقدِمَ إخوةُ يوسُفَ إلى مِصرَ بعد أنْ حلَّ بهم الجَدبُ في أرضِهم؛ ليَجلِبوا منها الطَّعامَ، فدَخَلوا على يوسفَ، فعَرَفهم ولم يَعرِفوه؛ لطولِ المدَّةِ، وتغيُّرِ هيئتِه، وقد أمَرَ يوسُفُ بإكرامِهم وحُسنِ ضيافتِهم، ثمَّ أعطاهم مِن الطَّعامِ ما طلَبوا، وكانوا قد أخبَروه أنَّ لهم أخًا مِن أبيهم لم يُحضِروه معهم- يُريدونَ شَقيقَه- فقال: ائتُوني بأخيكم مِن أبيكم، ألم تَرَوا أنِّي أوفيتُ لكم الكَيلَ، وأكرَمتُكم في الضِّيافةِ، وأنا خيرُ المُضْيفينَ لِمَن نزَلَ بي؟ فإنْ لم تأتوني به فليس لكم عندي طعامٌ أكيلُه لكم، ولا تأْتوا إليَّ. قالوا: سنبذُلُ جُهدَنا لإقناعِ أبيه أنْ يُرسِلَه معنا، ولن نُقصِّرَ في ذلك. وقال يوسُفُ لغِلمانِه: اجعَلوا ثمَنَ ما أخَذوه في أمتعتِهم سِرًّا؛ رجاءَ أن يَعرِفوه إذا انصرفوا إلى أهلِهم، لكي يرْجِعوا إلينا مرَّةً أُخرى.

تفسير الآيات :

وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (58).
أي: وجاء إخوةُ يوسُفَ إلى مِصرَ لَمَّا أصابَهم القحْطُ؛ ليأْتوا بالطَّعامِ لأهليهم، فدخَلوا على يُوسفَ، فعرَفَهم حين رآهم، وهم لا يعرِفونَه [715] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/222)، ((تفسير القرطبي)) (9/220)، ((تفسير ابن كثير)) (4/397)، ((تفسير السعدي)) (ص: 401). عرَفهم يوسفُ عليه السلام لأنَّه فارَقَهم رِجالًا، وهم لم يعرفوه؛ لأنَّهم فارَقوه صَبِيًّا، وهو الآنَ رجلٌ عليه أُبَّهَةُ الملكِ، ورَونقُ الرئاسةِ، وعندَه الخدَمُ والحشمُ، ولعدمِ خطورِه ببالِهم لطولِ العهدِ، مع هيبةِ الملكِ وعزِّ السلطانِ، وقيل: لتوهُّمِهم أنَّه هَلَكَ، وقيلَ: كانوا بَعيدًا منه، فلم يَعْرِفُوهُ، وقيلَ غيرُ ذلك. ينظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/168)، ((تفسير الخازن)) (2/538)، ((تفسير البقاعي)) (10/145)، ((تفسير الشوكاني)) (3/44). .
وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (59).
وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ.
أي: ولَمَّا أوفى يوسُفُ إخوتَه الطَّعامَ، وحمَّلَ لكلِّ واحدٍ منهم بعيرَه، قال لهم: ائْتوني بأخيكم هذا الَّذي ذكَرتُموه لِي مِن أبيكم؛ لِتَزْدادوا حِملَ بعيرٍ آخرَ [716] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/224)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 552)، ((تفسير القرطبي)) (9/221)، ((تفسير ابن كثير)) (4/398)، ((تفسير السعدي)) (ص: 401). قال ابن عاشور: (وقولُه: ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ يقتضي وقوعَ حديثٍ منهم عن أنَّ لهم أخًا مِن أبيهم لم يحضُرْ معهم، وإلَّا لكان إنباءُ يوسفَ عليه السلامُ لهم بهذا يُشعرُهم أنَّه يكلِّمُهم عارفًا بهم، وهو لا يريدُ أن يكشفَ ذلك لهم). ((تفسير ابن عاشور)) (13/12). .
ثم قال يوسُفُ ترْغيبًا لإخوتِه في الرُّجوعِ إليه:
أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ.
أي: ألَا ترَونَ أنَّ عادتي هي إتمامُ الكيلِ دائمًا، وأنِّي لا أبْخَسُ النَّاسَ شيئًا [717] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/224)، ((تفسير البغوي)) (2/500)، ((تفسير الخازن)) (2/538)، ((تفسير ابن كثير)) (4/398)، ((تفسير الشوكاني)) (3/45). .
وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ.
أي: وأنا خيرُ المُضْيفينَ في مصرَ لِمَن نزَلَ بي، وسأُحسِنُ إليكم، وأُكرِمُكم إذا أتيتُم بأخيكم [718] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/224، 225)، ((تفسير أبي حيان)) (6/294)، ((تفسير الشوكاني)) (3/45). .
فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ (60).
أي: فإنْ لم تُحْضِروا إليَّ أخاكم حين تأْتونَ إليَّ في المرَّةِ التَّاليةِ، فليس لكم عندي طعامٌ أكيلُه لكم، ولا تقْرُبوا أرضَ مصرَ [719] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/226)، ((تفسير ابن كثير)) (4/398)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/13). قال الخازِنُ: (هذا هو نهايةُ التَّخويفِ والتَّرهيبِ؛ لأنَّهم كانوا مُحتاجينَ إلى تحصيلِ الطَّعامِ، ولا يُمكنهم تحصيلُه إلَّا مِن عنده؛ فإذا منَعَهم منَ العَودِ كان قد ضَيَّق عليهم). ((تفسير الخازن)) (2/538). قال أبو السعود: (وَلاَ تَقْرَبُونِ ... فيه دليلٌ على أنَّهم كانوا على نيةِ الامتيارِ مرةً بعدَ أُخرَى، وأنَّ ذلك كان معلومًا له عليه السلامُ). ((تفسير أبي السعود)) (4/289). وقيل: وَلاَ تَقْرَبُونِ أي: لا أنزلُكم عندي منزلةَ القريبِ، فلا أُنزلُكم عندي كما أنزلتُكم هذه المرةَ، ولم يُردْ أنَّهم لا يقربون بلادَه، ولا يعودونَ إليه؛ لأنَّه على العودِ حثَّهم. ينظر: ((تفسير الماوردي)) (3/55)، ((تفسير الشوكاني)) (3/45). .
قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61).
أي: قال إخوةُ يوسُفَ لِيوسُفَ حين أمَرَهم أن يأتوا إليه بأخيهم: سنسأَلُ أباه يعقوبَ أن يترُكَه يسافِرُ معنا، وسنجتهِدُ في إقناعِه حتَّى نأْتِيَ به معنا، وإنَّا لفاعِلونَ ما أمرْتَنا به [720] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/226)، ((تفسير القرطبي)) (9/222)، ((تفسير ابن كثير)) (4/398)، ((تفسير السعدي)) (ص: 401). وممَّن ذهب إلى أنَّ المُرادَ بقولِه تعالى: وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ أي: فاعلون ما أمَرْتَنا به من جلْب أخينا إليك: القرطبيُّ، والسعديُّ، وابنُ عاشورٍ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (9/222)، ((تفسير السعدي)) (ص: 401)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/14). وقيل: المُرادُ: وإنَّا لفاعلون ما وَعَدْناك منَ المُراودةِ، وممَّن ذهَب إلى هذا المعنى: ابنُ جريرٍ، والواحديُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/226)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 522). .
وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62).
وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ.
أي: وقال يوسُفُ لغِلمانِه: اجْعَلوا أثمانَ ما اشتَرَوه من الطَّعامِ في أمتِعَتِهم، من حيث لا يشعُرونَ [721] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/227)، ((تفسير ابن كثير)) (4/398)، ((تفسير السعدي)) (ص: 401). قال ابنُ عاشورٍ: (والبِضاعةُ: المالُ أو المتاعُ المُعَدُّ للتِّجارةِ، والمُرادُ بها هنا الدَّراهمُ الَّتي ابتاعوا بها الطَّعامَ، كما في التَّوراةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (13/14). .
لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.
أي: لكي يعْرِفوا بِضاعتَهم [722]  وممَّن اختار أنَّ المرادَ بقولِه: يعرفونها أي: بضاعتَهم: الواحديُّ، وابنُ الجوزي، والخازنُ، والشوكانيُّ، والسعدي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 522)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/453)، ((تفسير الخازن)) (2/539)، ((تفسير الشوكاني)) (3/45)، ((تفسير السعدي)) (ص: 401)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/14). وممَّن اختار أنَّ المرادَ: يعرفونَ حقَّ ردِّها والتكرُّمَ بذلك: السمرقندي، والزمخشري، وابنُ عطيةَ، وأبو حيان، وابنُ جُزَي. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (2/200)، ((تفسير الزمخشري)) (2/485)، ((تفسير ابن عطية)) (3/259)، ((تفسير أبي حيان)) (6/294)، ((تفسير ابن جزي)) (1/391). قال الألوسي: (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها أي يعرفون حقَّ ردِّها والتكرُّمِ بذلك، فـ «لعلَّ» على ظاهرِها، وفي الكلامِ مضافٌ مقدَّرٌ، ويحتملُ أن يكونَ المعنَى: «لكي يعرفوها»، فلا يحتاجُ إلى تقديرٍ، وهو ظاهرُ التعلُّقِ بقولِه: إِذَا انْقَلَبُوا أي: رجَعوا إِلى أَهْلِهِمْ؛ فإنَّ معرفتَهم لها مقيَّدةٌ بالرجوعِ، وتفريغِ الأوعيةِ قطعًا، وأمَّا معرفةُ حقِّ التكرُّمِ في ردِّها، وإن كانت في ذاتِها غيرَ مقيَّدةٍ بذلك، لكن لما كان ابتداؤُها حينئذٍ قيِّدت به). ((تفسير الألوسي)) (7/11). إذا انصْرَفوا إلى أهلِهم، وفتَحوا أمتِعَتَهم فوجَدوها؛ لكي يرْجِعوا إلينا مرَّةً أُخرى [723] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (2/620)، ((تفسير البغوي)) (2/501)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/453)، ((تفسير السعدي)) (ص: 401). قال ابنُ القيِّمِ: (قولُه لفتيانِه: اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فإنَّه تسبَّبَ بذلك إلى رُجوعِهم، وقد ذكروا في ذلك معانيَ: منها أنَّه تخوَّفَ ألَّا يكونَ عندهم ورِقٌ يرجعون بها، ومنها أنَّه خشِيَ أن يضرَّ أخْذُ الثَّمنِ بهم، ومنها أنَّه رأى لؤمًا أخْذَ الثَّمنِ منهم [أي: مع حاجتِهم إليه]، ومنها أنَّه أراهم كرَمَه في ردِّ البِضاعةِ؛ ليكون أدْعَى لهم إلى العَودِ، ومنها أنَّه علِمَ أنَّ أمانتَهم تُحوجُهم إلى العَودِ؛ ليردُّوها إليه). ((إعلام الموقعين)) (3/167). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/228، 229)، ((تفسير البغوي)) (2/501). .

الفوائد التربوية:

1- قولُ اللَّهِ تعالى: وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فيه إشارةٌ إلى أنَّه كان يُباشِرُ الأمورَ بنفْسِه، كما هو فِعْلُ الكُفاةِ الحَزَمَةِ، لا يثِقُ فيه بغيرِه [724] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (10/145). .
2- في قولِ يوسُفَ لإخوتِه: أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزلِينَ مشروعيَّةُ الضِّيافةِ، وأنَّها مِن سُنَنِ المُرسَلينَ، وقرَّرتْها هذه الشريعةُ [725] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 407)، ((فوائد مستنبطة من قصة يوسف عليه السلام)) للسعدي (ص: 35). .

الفوائد العلمية واللطائف :

1- قال اللَّهُ تعالى: وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ * وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ... لم يعرِّفْهم نفْسَه لأسبابٍ فيها مَنفعَةٌ لهم ولأبيهم وله، وتمامٌ لِما أرادَه اللَّهُ تعالى بهم مِن الخيرِ في هذا البَلاءِ، وأيضًا فلو عرَّفَهم نفْسَه في أوَّلِ مرَّةٍ لم يقَعِ الاجتماعُ بهم وبأبيه ذلك الموقِعَ العظيمَ، ولم يَحُلَّ ذلك المَحَلَّ، وهذه عادةُ اللَّهِ سبحانه في الغاياتِ العظيمةِ الحميدةِ: إذا أرادَ أنْ يُوصِّلَ عبْدَه إليها هيَّأَ لها أسبابًا مِن المِحَنِ والبَلايا والمَشاقِّ، فيكونُ وُصولُه إلى تلك الغاياتِ بعدها كوُصولِ أهلِ الجنَّةِ إليها بعدَ الموتِ وأهوالِ البرزَخِ، والبعْثِ والنُّشورِ، والموقِفِ والحِسابِ، والصِّراطِ، ومُقاساةِ تلك الأهوالِ والشَّدائدِ، وكما أُدخِلَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ تعالى عليه وآله وسلَّمَ إلى مكَّةَ ذلك المَدخَلَ العظيمَ، بعد أنْ أخرَجَه الكفَّارُ ذلك المَخْرَجَ، ونصَرَه ذلك النَّصرَ العزيزَ، بعد أنْ قاسى مع أعداءِ اللَّهِ ما قاساه [726] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/108). .
2- قولُه تعالى إخْبارًا عن يوسُفَ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم: قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ أوضحُ حُجَّةٍ، وأبْلَغُها نِهايةً في مدحِ النَّفْسِ وتزكيتِها عندَ الحاجَةِ، أَلَا تَرَاهُ يقولُ في سُورةِ (المؤمنين): وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ المؤمنون: 29، فقدْ سَمَّى يوسُفُ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم نَفْسَه بخَيْرِ المُنْزِلينَ في المعنى الذي أرادَه، ولم يكُنْ مُنْكَرًا عليه، ولا مُسْتَقْبَحًا منه، وفيه حُجَّةٌ لمَنْ يقولُ إذا أرادَ مَدْحَ إنْسانٍ: فُلانٌ خَيرُ مَن فَعَلَ كذا، وفُلانٌ أَحْسَنُ النَّاسِ وَجْهًا، وإنْ كان في النَّاسِ مَنْ هو خَيْرٌ مِنه وأَحْسَنُ، إذا أَضْمَرَ القائلُ ناسَ عَصْرِه، وعَزَلَ مَنْ تَقَدَّمَهُم مِن الأفضَلِ بِنِيَّتِه، فلا يكونُ كاذِبًا ولا آثِمًا بِمَا يدلُّ عليه ظاهِرُ قولِه [727] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (1/619). .
3- قولُه: أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ لم يَقُلْه يوسفُ عليه السَّلامُ بطريقِ الامْتِنانِ، بل لحثِّهم على تحقيقِ ما أَمَرَهم به. والاقتِصارُ في الكَيْلِ على ذِكْرِ الإيفاءِ؛ لأنَّ مُعاملتَه عليه السَّلامُ معهم في ذلك كمُعامَلَتِه مع غيرِهم في مُراعاةِ مَواجِبِ العدْلِ، وأمَّا الضِّيافَةُ فليس للنَّاسِ فيها حقٌّ، فخَصَّهم في ذلك بما شاء [728] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/288). .
4- قولُ اللَّهِ تعالى: قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ   فيه تنبيهٌ على عِزَّةِ المَطْلَبِ وصُعوبَةِ مَنالِه [730] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/289).
5- المالُ قد يُضافُ إلى المالِكِ الَّذي قد ملَكَه في بعضِ الأوقاتِ بعد زَوالِ مُلْكِه عنه، كقولِه تعالى: اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ فأضافَ البِضاعةَ إليهم بعد اشْتِرائِهم بها طعامًا [732] يُنظر: ((صحيح ابن خزيمة)) (4/286). .

بلاغة الآيات :

1- قوله تعالى: وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ
- قولُه تعالى: فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ وقَعَ الإخبارُ عنهم بالجُملةِ الاسميَّةِ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ؛ للدَّلالةِ على أنَّ عَدَمَ مَعْرفتِهم به أمْرٌ ثابتٌ مُتَمَكِّنٌ منهم، وأنَّ إنكارَهم له كان أمرًا مُستمرًّا في حالتَيِ المَحْضَرِ والمغِيبِ، وكان الإخبارُ عن مَعْرفتِه إيَّاهم بالجُملةِ الفِعليَّةِ فَعَرَفَهُمْ المُفيدةِ للتَّجدُّدِ [733] قال السكاكي: (فالفعلُ موضوعٌ لإفادةِ التجدُّدِ، ودخولُ الزمانِ الذي مِن شأنِه التغيرُ في مفهومِه مؤذنٌ بذلك). ((مفتاح العلوم)) (ص: 218). وقال بهاء الدين السبكي: (المرادُ فى هذا المكانِ بقولِهم: الفعلُ المتجددُ أنَّه للإخبارِ بتجدُّدِ الشيءِ ووقوعِه بعدَ أن لم يكنْ... بخلافِ قولِنا: الفعلُ المضارعُ للتجدُّدِ، فمعناه: أنَّ الشيءَ يتجدَّدُ وقتًا بعدَ وقتٍ ويتكرَّرُ). ((عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح)) (1/542). ؛ للدَّلالةِ على أنَّ مَعْرفتَه إيَّاهم حَصَلَت بحِدْثانِ رُؤْيتِه إيَّاهم، دون تَوَسُّمٍ وتأمُّلٍ [734] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/288)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/12). .
- قولُه: وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ قَرَنَ مفعولَ مُنْكِرُونَ الَّذي هو ضَميرُ يوسُفَ عليه السَّلامُ بِلامِ التَّقويةِ في لَهُ ولم يَقُلْ: (وهم مُنْكِرونَه)؛ لزيادةِ تقْوِيةِ جهْلِهم بمَعْرفتِه [735] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/12). .
- وتقْديمُ المجْرورِ بِلامِ التَّقويةِ لَهُ على مُنْكِرُونَ؛ للرِّعايةِ على الفاصِلةِ، وللاهتِمامِ بتعلُّقِ نُكْرَتِهم إيَّاه؛ للتَّنْبيهِ على أنَّ ذلك مِن صُنْعِ اللَّهِ تعالى، وإلَّا فإنَّ شَمائلَ يوسُفَ عليه السَّلامُ ليستْ ممَّا شأنُه أنْ يُجْهَلَ ويُنْسَى [736] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/12). .
2- قوله تعالى: وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ
- قولُه: وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ فيه مُناسَبَةٌ حَسَنَةٌ؛ حيثُ قالَه هنا بالواوِ، وقالَه بعدُ بالفاءِ في قولِه: فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ؛ لأنَّه ذكَرَ هنا أوَّلَ مجيئِهم إلى يُوسفَ، فناسبَتْه الواوُ الدَّالَّةُ على الاستئْنَافِ، وذكَرَ بعدُ عند انصرافِهم عنه عطفًا على (لَمَّا دَخَلُوا)، فَنَاسبَتْه الفاءُ الدَّالَّةُ على التَّرتيبِ والتَّعقيبِ [737] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (1/279). .
- قولُه: قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ نكَّرَ الأخَ ولم يقُلْ: (بأخيكم) وإنْ كان قد عَرَفَه وعَرَفَهم؛ مُبالَغةً في كونِه لا يُريدُ أن يَتَعرَّفَ لهم، ولا أنَّه يَدْري مَن هو، إظهارًا لعَدَمِ مَعْرفتِه بأخيهم إلَّا مِن ذِكْرِهم إيَّاه عنده، فعَدَلَ عنِ الإضافةِ المقتضِيَةِ المعرِفَةَ إلى التَّنكيرِ؛ تَنابُهًا في التَّظاهُرِ بجهْلِه به، كما في الفَرقِ بين قولِ القائلِ: مرَرْتُ بغُلامِك، ومرَرْتُ بغُلامٍ لك؛ ففي التَّعريفِ يكونُ المُتكلِّمُ عارفًا بالغُلامِ، وفي التَّنكيرِ يكونُ جاهِلًا به؛ فالتَّعريفُ يُفيد فرعَ عَهْدٍ في الغُلامِ بين المُتكلِّمِ وبين المُخاطَبِ، والتَّنكيرُ لا عَهْدَ فيه البتَّةَ [738] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/293)، ((تفسير أبي السعود)) (4/288)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/13). .
- قولُه: أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ هذه الجُملةُ كِنايةٌ عنِ الوعْدِ بأنْ يُوفِيَ لهم الكَيلَ، ويُكْرِمَ ضِيافتَهم إنْ أَتَوا بأخيهم [739] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/13). .
- وفيها تَخصيصُ الرُّؤيةِ بالإيفاءِ؛ لوُقوعِ الخِطابِ في أثنائِه، وأمَّا الإحسانُ في الإنزالِ فقد كان مُستمِرًّا فيما سبَق ولَحَقَ؛ ولذلك أخبَرَ عنه بالجُملةِ الاسميَّةِ [740] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/288). .
- قولُه: أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ فيه إيثارُ صِيغةِ الاستقبالِ- مع كونِ هذا الكلامِ بعد التَّجهيزِ- للدَّلالةِ على أنَّ ذلك عادةٌ له مُستمِرَّةٌ [741] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/288). .
3- قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث قال: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ ولم يقُلْ: (فإنْ لم تفعَلوا)؛ وذلك لأنَّه لَمَّا كان مَقصودُ يوسُفَ عليه السَّلامُ بالأمرِ ومَرْمَى غَرَضِه بالتَّكليفِ منه استِحْضارَ أخيه، لم يَكْتَفِ في الشَّرطيَّةِ الدَّاعِيَةِ لهم إلى الجِدِّ في الامتثالِ، والسَّعْيِ في تَحْقيقِ المأمورِ به بالإشارةِ الإجْماليَّةِ إلى الفعْلِ الَّذي وَرَد به الأمرُ، بأنْ يقولَ: (فإنْ لم تفعَلوا)، بل أعادَه بعينِه مُتعلِّقًا بمَفعولِه؛ تحقيقًا لِمَطلَبِه، وإعرابًا عن مَقصِدِه [742] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (1/67)، ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عاشور)) (1/344). .
4- قولُه تعالى: قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ فيه التَّأكيدُ- بعد الجُملةِ الفعليَّةِ المُصَدَّرةِ بالسِّينِ- بالجُملةِ الاسميَّةِ المؤكَّدَةِ بحرْفَيِ التَّأكيدِ: (إنَّ) واللَّامِ [743] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (10/147)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/14). .