موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ الأوَّلُ: الأصلُ أنَّ ما ثَبَتَ بالشَّرطِ نَصًّا لا يُلحَقُ به ما ليسَ في مَعناه مِن كُلِّ وَجهٍ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَت القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الأصلُ أنَّ ما ثَبَتَ بالشَّرطِ نَصًّا لا يُلحَقُ به ما ليسَ في مَعناه مِن كُلِّ وَجهٍ" [640] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 301). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
هذه القاعِدةُ أورَدَها السَّرَخسيُّ وطَبَّقَها في بابِ الأمانِ، ومَعناها أنَّ ما ثَبَتَ مَنصوصًا عليه بالشَّرطِ يَبقى مَخصوصًا به ومَقصورًا عليه، ولا يَجوزُ أن يُلحَقَ به إلَّا ما كان في مَعناه مِن كُلِّ وَجهٍ، كَما لو صالحَ المُسلمونَ أهلَ الحَربِ واشتَرَطَ عليهم أهلُ الحَربِ أن لا يُحرِقوا مَنازِلَهم، فلا يَنبَغي لهم نَقضُها والذَّهابُ بخَشَبِها وأبوابِها؛ لأنَّهم إنَّما أرادوا عَدَمَ استِهلاكِها عليهم، إلَّا أنَّه تَعَذَّر عليهمُ التَّنصيصُ على جَميعِ أنواعِ الاستِهلاكِ، فذَكَروا ما هو الظَّاهرُ مِن أسبابِه كالتَّحريقِ.
فأمَّا ما لم يَكُنْ في مَعناه مِن كُلِّ وَجهٍ فلا يُلحَقُ به ولا يُقاسُ عليه؛ لأنَّ الوفاءَ إنَّما يَلزَمُنا بقَدرِ ما قَبِلْنا مِنَ الشُّروطِ، كَما إذا قالوا للمُسلمينَ: أعطُونا الأمانَ على أن لا تُحرِقوا زُروعَنا وكَلأَنا، فأعطَيناهم عَهدَنا على ذلك، فإنَّ علينا أن نَفيَ به، فلا نُحرِقَ زُروعَهم وكَلأَهم، ولا بَأسَ بأن نَأكُلَ مِن ذلك ونَعلِفَ مِنه دَوابَّنا.
والأصلُ في هذه المَسائِلِ أنَّ الأمانَ على الشَّيءِ أمانٌ على مِثلِه وعلى ما فوقَه ضَرَرًا، ولا يَكونُ أمانًا على ما دُونَه ضَرَرًا؛ ولهذا إن قالوا: أعطُونا على أن لا تُحرِقوا زروعَنا، فلا يَنبَغي لنا أن نُغرِقَها [641] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 301)، ((الفتاوى الهندية)) (2/203)، ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (1/2/99). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ والقَواعِدِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((المُسلمونَ على شُروطِهم)) [642] أخرجه البخاريُّ مُعَلَّقًا بصيغةِ الجَزمِ قَبلَ حَديثِ (2274) دونَ ذِكرِ راويه، وأخرجه مَوصولًا أبو داود (3594) واللَّفظُ له من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. حَسَّنه المناوي في ((كشف المناهج)) (2/520)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن الدارقطني)) (2890)، وقال النووي في ((المجموع)) (9/376): إسنادُه حَسَنٌ أو صحيحٌ، وحَسَّن إسنادَه ابنُ كثير في ((إرشاد الفقيهـ)) (2/54)، وابن الملقن في ((خلاصة البدر المنير)) (2/69)، وذَكَرَ ثُبوتَه ابنُ العَرَبيِّ في ((عارضة الأحوذي)) (3/322)، وذَهَب إلى تَصحيحِه ابنُ القَيِّمِ في ((الفروسية)) (164)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (6714). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
الأصلُ أنَّ الشُّروطَ لا يَتَعَدَّى حُكمُها إلى غَيرِها مِمَّا ليسَ في مَعناها، وإنَّما يُلتَزَمُ بألفاظِ الشُّروطِ وما يَدخُلُ في مَعناها.
2- مِنَ القَواعِدِ:
يُستَدَلُّ لها بقاعِدةِ: (لا اجتِهادَ مَعَ النَّصِّ)؛ لأنَّ الاجتِهادَ مَعَ الشَّرطِ المَنصوصِ كالاجتِهادِ مَعَ الشَّرعِ المَنصوصِ.
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- إذا شَرط أهلُ الحَربِ على المُسلمينَ ألَّا يُحرِقوا لهم زُروعًا ووافقوهم على ذلك، فليسَ لهم إغراقُها بالماءِ؛ لأنَّ هذا في مَعنى المَنصوصِ مِن كُلِّ وَجهٍ، فإنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهما إفسادٌ، وكذلك لو شَرَطوا عَدَمَ إغراقِها فليسَ يَنبَغي لهم إحراقُها [643] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 302)، ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (1/2/99). .
2- إذا شَرَطوا على المُسلمينَ ألَّا يُغرِقوا سَفينَتَهم ولا يُحرِقوها، فلا يَنبَغي الذَّهابُ بها؛ لأنَّ مَقصودَهم مِن هذا بَقاءُ عَينِها لهم ليَنتَفِعوا بها، وذلك يَفوتُ إذا ذَهَبَ المُسلمونَ بها [644] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 302). .

انظر أيضا: