موسوعة القواعد الفقهية

الفرعُ الثَّاني: الشَّرطُ الباطِلُ لا يُؤَثِّرُ في العُقدِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ عِندَ الفُقَهاءِ مَعَ اختِلافٍ يَسيرٍ [403] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (23/90)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (5/170)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/621). . واستُعمِلت بصيغةِ: "الشَّرطُ الباطِلُ إذا شُرِطَ في العَقدِ لم يَجُزِ الوفاءُ به" [404] يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (5/230). ، وبصيغةِ: "الشَّرطُ الباطِلُ لا تَأثيرَ له" [405] يُنظر: ((البناية)) للعيني (9/449). ، وبصيغةِ: "لا يُعطى بالشَّرطِ الباطِلِ شَيءٌ" [406] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (4/208)، ((الأوسط)) لابن المنذر (6/362). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
إذا استَجمَعَ العَقدُ أركانَه وشُروطَه الشَّرعيَّةَ كان صحيحًا، ولا عِبرةَ بما خَرَجَ عنه مِنَ الشُّروطِ الباطِلةِ التي يَشتَرِطُها المُتَعاقِدانِ أو أحَدُهما؛ لأنَّها لاغيةٌ بالنِّسبةِ للشَّرعِ، فيَبقى العَقدُ صحيحًا حينَئِذٍ، والشَّرطُ لغوٌ باطِلٌ لا قيمةَ له، سَواءٌ في عُقودِ المُعاوَضاتِ، أم في العُقودِ الأُخرى، كالزَّواجِ والكَفالةِ والهِبةِ.
ويَنبَغي هنا التَّفريقُ بَينَ شُروطِ العَقدِ والشُّروطِ في العَقدِ؛ فإنَّ بَينَهما فُروقًا على النَّحوِ التَّالي:
الفَرقُ الأوَّلُ: أنَّ شُروطَ العَقدِ مِن وَضعِ الشَّارِعِ، والشُّروطُ في العَقدِ مِن وَضعِ المُتَعاقِدَينِ.
مِثالُ ذلك: كَونُ المَبيعِ مَعلومًا، والثَّمَنِ مَعلومًا، والعَقدِ مِن مالكٍ، هذا مِن وضعِ الشَّارِعِ. أمَّا الشُّروطُ في العَقدِ فهيَ مِن وضعِ المُتَعاقِدَينِ.
الفَرقُ الثَّاني: أنَّ شَرطَ العَقدِ لا يَصِحُّ إسقاطُه. وأمَّا الشَّرطُ في العَقدِ فيَصِحُّ إسقاطُه، فلو أنَّ إنسانًا اشتَرَطَ على مَن يَشتَري سَيَّارَتَه أن يَستَعمِلَها لمُدَّةِ يَومٍ أو يَومَينِ، فيَصِحُّ أن يُسقِطَ هذا الشَّرطَ. أمَّا شَرطُ كَونِ المَبيعِ مَعلومًا، أوِ الثَّمَنِ مَعلومًا، أو شَرطُ الوِلايةِ في عَقدِ النِّكاحِ، فلا يَصِحُّ إسقاطُه.
الفرقُ الثَّالثُ: أنَّ الإخلالَ بشُروطِ العَقدِ يَتَرَتَّبُ عليها فسادُ العَقدِ. وأمَّا الإخلالُ بالشُّروطِ في العَقدِ فيَتَرَتَّبُ عليها عَدَمُ الإلزامِ به، فإذا لم يوفِّ به فإنَّ لمَن له الشَّرطُ أن يَفسَخَ.
الفرقُ الرَّابعُ: أنَّ شُروطَ العَقدِ تَكونُ قَبلَ العَقدِ. أمَّا الشُّروطُ في العَقدِ فإنَّها تَكونُ قَبلَ العَقدِ، وفي صُلبِ العَقدِ، وفي زَمَنِ الخيارَينِ [407] يُنظر: ((التنبيهـ)) لابن أبي العز (4/389)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/621)، ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (4/3055)، ((العقد الثمين)) لخالد المشيقح (ص: 258). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ (كُلُّ شَرطٍ ليسَ في كِتابِ اللهِ فهو باطِلٌ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ الشَّرطَ الذي يَكونُ مُخالفًا لحُكمِ اللهِ تعالى وحُكمِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَكونُ باطِلًا، وكُلُّ ما كان باطِلًا لا يُؤَثِّرُ في العَقدِ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ برَيرةَ أتَتها فقالت: ((إنَّ أهلي كاتَبوني على تِسعِ أواقٍ في تِسعِ سِنينَ، في كُلِّ سَنةٍ أوقيَّةٌ، فأعينيني. فقُلتُ لها: إن شاءَ أهلُكِ أن أعُدَّها لهم عَدَّةً واحِدةً، وأُعتِقَكِ ويَكونَ الولاءُ لي، فعَلتُ، فذَكَرَت ذلك لأهلِها فأبَوا إلَّا أن يَكونَ الولاءُ لهم، فأتَتني فذَكَرَت ذلك، فانتَهَرتُها، فقالت: لاهَا اللَّهِ إذًا، قالت: فسَمِعَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فسَألني فأخبَرتُه، فقال: اشتَريها وأعتِقيها واشتَرِطي لهمُ الولاءَ؛ فإنَّ الولاءَ لمَن أعتَقَ. ففعَلتُ. ثُمَّ خَطَبَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَشيَّةً، فحَمِدَ اللَّهَ وأثنى عليه بما هو أهلُه، ثُمَّ قال: أمَّا بَعدُ، فما بالُ أقوامٍ يَشتَرِطونَ شُروطًا ليسَت في كِتابِ اللهِ؟ ما كان مِن شَرطٍ ليسَ في كِتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ فهو باطِلٌ، وإن كان مِائةَ شَرطٍ؛ كِتابُ اللهِ أحَقُّ، وشَرطُ اللَّهِ أوثَقُ)) [408] أخرجه البخاري (2168)، ومسلم (1504) واللفظ له.
وَجهُ الدَّلالةِ:
ظَنَّت عائِشةُ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّها لوِ اشتَرَطَت ذلك -مَعَ كَونِه على خِلافِ مُقتَضى الإعتاقِ- أنَّه يَصِحُّ؛ لوُجودِ الشَّرطِ، فنَبَّهَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أنَّ اشتِراطَها وعَدَمَه سَواءٌ، وأنَّ الشَّرطَ الباطِلَ لا يُعتَبَرُ، فلا يَبطُلُ به ما مُقتَضاه الصِّحَّةُ، ولا يَصِحُّ به ما مُقتَضاه البُطلانُ؛ فإنَّ الحَديثَ قد تَضَمَّنَ فسادَ هذا الحُكمِ، وهو كَونُ الولاءِ لغَيرِ المُعتِقِ، فبُطلانُه -إذا شُرِطَ- قدِ استُفيدَ مِن تَصريحِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ببُطلانِه بَعدَ اشتِراطِه؛ حَيثُ بَيَّنَ أنَّ مِثلَ هذا الشَّرطِ الباطِلِ لا يُؤَثِّرُ في صِحَّةِ البَيعِ [409] يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (5/230)، ((التنبيهـ)) لابن أبي العز (4/389)، ((ذخيرة العقبى)) للإتيوبي (23/250). .
- وعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن عَمِل عَمَلًا ليسَ عليه أمرُنا فهو رَدٌّ )) [410] أخرجه مسلم (1718). وأخرجه البخاري مُعَلَّقًا بصيغة الجَزم قَبلَ حَديث (7350) دونَ ذِكرِ راويه. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أبطَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كُلَّ الشُّروطِ المُحَرَّمةِ في الشَّرعِ، والشُّروطَ المَكروهةَ للهِ ورَسولِه، والشُّروطَ التي تَتَضَمَّنُ تَركَ ما هو أحَبُّ إلى اللهِ ورَسولِه. وما رَدَّه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَجُزْ لأحَدٍ اعتِبارُه ولا الإلزامُ به وتَنفيذُه [411] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/580). .
2- مِنَ القَواعِدِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ (كُلُّ شَرطٍ ليسَ في كِتابِ اللهِ فهو باطِلٌ).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- اشتِراطُ بائِعِ البضاعةِ على المُشتَري ألَّا يَبيعَها أو لا يَهَبَها لأحَدٍ. واشتِراطُ بائِعِ الدَّارِ على المُشتَري أن يَترُكَها مِن غَيرِ سَكَنٍ مُدَّةَ شَهرٍ في كُلِّ سَنةٍ مَثَلًا. واشتِراطُ بائِعِ سَيَّارةٍ ألَّا يُركِبَ المُشتَري فُلانًا فيها، أو يَضَعَها في مَكانٍ خاصٍّ. فالعَقدُ صحيحٌ حينَئِذٍ، والشَّرطُ لغوٌ باطِلٌ لا قيمةَ له [412] يُنظر: ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (4/3055). .
2- الشَّرطُ الباطِلُ في الرَّهنِ، كَأن يَشرُطَ فيه ما لا مَصلحةَ فيه ولا غَرَضَ، كَأن لا يَأكُلَ الحَيَوانُ المَرهونُ كَذا، فيَبطُلُ الشَّرطُ، ويَصِحُّ العَقدُ [413] يُنظر: ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (6/4219). .
3- لا يَجوزُ رَبطُ الدُّيونِ والقُروضِ بمُستَوى الأسعارِ؛ لأنَّ الرَّبطَ القياسيَّ -ومِنه الرَّبطُ بمُستَوى الأسعارِ- اشتِراطٌ عِندَ العَقدِ يُؤَدِّي إلى جَهالةِ ثَمَنِ المَبيعِ، أو مِقدارِ الوَفاءِ بالقَرضِ؛ حَيثُ لا يَكونُ مَعلومَ المِقدارِ بسَبَبِ عَدَمِ العِلمِ بنِسبةِ التَّضَخُّمِ التي سَتُؤَثِّرُ على قيَمِ السِّلَعِ التي رُبِطَ الدَّينُ بها. وهذا شَرطٌ باطِلٌ، والشَّرطُ الباطِلُ لا تَتَرَتَّبُ عليه آثارُه [414] يُنظر: ((ربط الديون والالتزامات الآجلة بالذهب أو الفضة)) لصالح البقمي (ص: 108). .

انظر أيضا: