موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الثَّالِثُ: ما في الذِّمَّةِ لا يَتَعَيَّنُ إلَّا بقَبضِ مُكَلَّفٍ بَصيرٍ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: ما في الذِّمَّةِ لا يَتَعَيَّنُ إلَّا بقَبضِ مُكَلَّفٍ بَصيرٍ [3803] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/160)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 329). ، وصيغةِ: ما في الذِّمَّةِ لا يَتَعَيَّنُ إلَّا بقَبضٍ صَحيحٍ [3804] يُنظر: ((روضة الطالبين)) (3/345)، ((المجموع)) (9/158) كلاهما للنووي، ((الأشباه والنظائر)) للسبكي (1/282)، ((الكواكب الدراري)) للكرماني (10/68)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (1/415)، ((تحرير الفتاوى)) لابن العراقي (2/201)، ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (2/6). ، وصيغةِ: ما في الذِّمَّةِ لا يَتَعَيَّنُ مِلكًا إلَّا بقَبضٍ صَحيحٍ [3805] يُنظر: ((الوسيط)) للغزالي (3/13)، ((كفاية النبيهـ)) لابن الرفعة (8/445). ، وصيغةِ: الحُقوقُ المُتَعَلِّقةُ بالذِّمَمِ تَتَعَيَّنُ بالتَّعيينِ والتَّسليمِ [3806] يُنظر: ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (6/385). ، وصيغةِ: ما في الذِّمَّةِ لا يَتَعَيَّنُ إلَّا بالقَبضِ [3807] يُنظر: ((كفاية النبيهـ)) لابن الرفعة (9/306)، ((تحرير الفتاوى)) لابن العراقي (1/796)، ((قواعد الفقهـ)) للبركتي (ص: 116). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
اشتَهَر استِعمالُ هذه القاعِدةِ عِندَ الشَّافِعيَّةِ، وهيَ تُفيدُ أنَّ الحَقَّ الثَّابِتَ في الذِّمَّةِ لا يَتَعَيَّنُ مِلكًا إلَّا بالقَبضِ الصَّحيحِ مِن مُكَلَّفٍ، فإذا لَم يَصِحَّ القَبضُ لَم يَزُلِ الحَقُّ المُطلَقُ عنِ الذِّمَّةِ، فلا يُعتَدُّ بقَبضِ مَن ليس مُكَلَّفًا كالصَّبيِّ، فإذا أقبَضَه لمَن ليس مُكَلَّفًا فهو في ضَمانِ الدَّافِعِ.
ويُحتَرَزُ بصيغةِ: "ما في الذِّمَّةِ لا يَتَعَيَّنُ مِلكًا" عَمَّا يَتَعَيَّنُ حَقًّا لا مِلكًا، كما إذا التَقَطَ طَعامًا، وجَوَّزنا له أكلَه وعَزلَ القيمةِ، فإنَّ مالِكَ الطَّعامِ أحَقُّ بالقيمةِ، وإن لَم يَملِكْها بذلك [3808] يُنظر: ((الوسيط)) للغزالي (3/13)، ((العزيز)) للرافعي (4/16)، ((المجموع)) للنووي (9/158)، ((كفاية النبيهـ)) لابن الرفعة (8/446)، ((المنثور)) للزركشي (3/160). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفَرِّعةٌ مِن قاعِدةِ: (مِن شَرطِ الانتِقالِ إلى الذِّمَّةِ تَعَذُّرُ المُعَيَّنِ)، ووَجهُ تَفَرُّعِها عنها أنَّ ما ثَبَتَ في الذِّمَّةِ يَظَلُّ ثابِتًا فيها ولا يَزولُ عنها إلَّا بقَبضٍ صَحيحٍ، فإذا تَمَّ القَبضُ الصَّحيحُ فقد تَعَيَّنَ ما في الذِّمَّةِ، وزالَ الحَقُّ عنها.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ، والإجماعِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
عن عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عنهما، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((انطَلَقَ ثَلاثةُ رَهطٍ مِمَّن كان قَبلَكُم حَتَّى أووُا المَبيتَ إلى غارٍ فدَخَلوه، فانحَدَرَت صَخرةٌ مِنَ الجَبَلِ فسَدَّت عليهمُ الغارَ، فقالوا: إنَّه لا يُنجيكُم مِن هذه الصَّخرةِ إلَّا أن تَدعوا اللَّهَ بصالِحِ أعمالِكُم... وقال الثَّالِثُ: اللهُمَّ إنِّي استَأجَرتُ أُجَراءَ، فأعطَيتُهم أُجورَهم، غَيرَ رَجُلٍ واحِدٍ تَرَكَ الذي له وذَهَبَ، فثَمَّرتُ أجرَه حَتَّى كَثُرَت مِنه الأموالُ، فجاءَني بَعدَ حينٍ فقال: يا عَبدَ اللهِ، أدِّ إلَيَّ أجري. فقُلتُ له: كُلُّ ما تَرى مِن أجرِكَ مِنَ الإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ والرَّقيقِ. فقال: يا عَبدَ اللهِ، لا تَستَهزِئْ بي. فقُلتُ: إنِّي لا أستَهزِئُ بكَ، فأخَذَه كُلَّه فاستاقَه فلَم يَترُكْ مِنه شَيئًا، اللهُمَّ فإن كُنتُ فعَلتُ ذلك ابتِغاءَ وجهكَ فافرُجْ عنَّا ما نَحنُ فيه. فانفَرَجَتِ الصَّخرةُ فخَرَجوا يَمشونَ )) [3809] أخرجه البخاري (2272) واللفظ له، ومسلم (2743). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
قَولُه: ((غَيرَ رَجُلٍ واحِدٍ تَرَكَ الذي له وذَهَبَ، فثَمَّرتُ أجرَه حَتَّى كَثُرَت مِنه الأموالُ)) فيه دَلالةٌ على أنَّه استَأجَرَه بأجرٍ في الذِّمَّةِ، ولَم يُسَلِّمْه إلَيه، بَل عَرَضَه عليه فلَم يَقبِضْه؛ فبَقيَ على مِلكِ المُستَأجِرِ؛ لأنَّ ما في الذِّمَّةِ لا يَتَعَيَّنُ إلَّا بقَبضٍ صَحيحٍ، ثُمَّ إنَّ المُستَأجِرَ تَصَرَّفَ فيه، وصَحَّ تَصَرُّفُه سَواءٌ اعتَدَّه لنَفسِه أو للأجيرِ، ثُمَّ تَبَرَّعَ بما اجتَمَعَ مِنه على الأجيرِ بتَراضيهما [3810] يُنظر: ((الكواكب الدراري)) للكرماني (10/68)، ((اللامع الصبيح)) للبرماوي (7/148)، ((شرح سنن أبي داود)) لابن رسلان (14/181)، ((فتح الباري)) لابن حجر (4/409). .
2- مِنَ الإجماعِ:
وقد حَكاه النَّوويُّ في صورةٍ مِن صورِ القاعِدةِ؛ حَيثُ نَفى الخِلافَ في عَدَمِ زَوالِ الدَّينِ -المُسَلَّمِ إلى الصَّبيِّ- عنِ الذِّمَّةِ [3811] قال: (لو قال مُستَحِقُّ الدَّينِ لِمَن هو عليه: سَلِّمْ حَقِّي إلى هذا الصَّبيِّ. فسَلَّمَ قدرَ حَقِّه إلى الصَّبيِّ، لَم يَبرَأْ مِنَ الدَّينِ بلا خِلافٍ، بَل يَكونُ ما سَلَّمَه باقيًا على مِلكِهـ). ((المجموع)) (9/157). .
3- مِنَ القواعِدِ:
فيُستَدَلُّ لَها بالقاعِدةِ الأُمِّ: (مِن شَرطِ الانتِقالِ إلى الذِّمَّةِ تَعَذُّرُ المُعَيَّنِ).
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- إذا دَفَعَ الزَّكاةَ إلى أعمى، فلا تُجزِئُ على أصلِ الشَّافِعيِّ؛ بناءً على أنَّه لا يَصِحُّ قَبضُه وإقباضُه بَل يوكِّلُ؛ لأنَّ ما في الذِّمَّةِ لا يَتَعَيَّنُ إلَّا بقَبضِ مُكَلَّفٍ بَصيرٍ [3812] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/160). .
2- لا يَصِحُّ قَبضُ الصَّبيِّ في التَّصَرُّفاتِ، فلا يُفيدُ قَبضُه المِلكَ في المَوهوبِ له وإنِ اتَّهَبَه الوليُّ، ولا لغَيرِه إذا أمَرَه المَوهوبُ له بالقَبضِ له؛ لأنَّ ما في الذِّمَّةِ لا يَتَعَيَّنُ إلَّا بقَبضٍ صَحيحٍ [3813] يُنظر: ((روضة الطالبين)) للنووي (3/345)، ((كفاية النبيهـ)) لابن الرفعة (8/445). .
3- إذا استَأجَرَ غَيرَه بأَرُزٍّ في الذِّمَّةِ، ولَم يُسَلِّمْه إلَيه، بَل عَيَّنَه له، فلا يَتَعَيَّنُ مِن غَيرِ قَبضٍ، ويَبقى على مِلكِ المُستَأجِرِ؛ لأنَّ ما في الذِّمَّةِ لا يَتَعَيَّنُ إلَّا بقَبضٍ صَحيحٍ، فإذا تَصَرَّفَ فيه المُستَأجِرُ يَصِحُّ تَصَرُّفُه؛ لأنَّه ما زالَ في مِلكِه [3814] يُنظر: ((المجموع)) للنووي (9/263). .
4- إذا قال الرَّجُلُ لرَبِّ الدَّينِ: إن أخَذتَ ما لَكَ عليَّ فامرَأتي طالِقٌ، فأخَذَه رَبُّ الدَّينِ، وهو مُكرَهٌ على الإعطاءِ، لَم تَطلُقِ امرَأةُ المَديونِ؛ لأنَّ ما له عليه لَم يَكُنْ مُعَيَّنًا، بَل كان مُستَرسَلًا في الذِّمَّةِ، فلا يَتَعَيَّنُ إلَّا بقَبضٍ صَحيحٍ، فمَتى أُكرِهَ بغَيرِ حَقٍّ لَم يَأخُذِ الذي عليه، فلا يَحنَثُ [3815] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (2/222). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استِثناءاتٌ:
يُستَثنى مِنَ القاعِدةِ بَعضُ الصُّورِ، منها [3816] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/161)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 329). :
1- إذا خالَعَ الرَّجُلُ زَوجَتَه على طَعامٍ في ذِمَّتِها، ووصَفَه بصِفاتِ السَّلَمِ -وهو بَيعُ شَيءٍ مَوصوفٍ مُؤَجَّلٍ بثَمَنٍ مُعَجَّلٍ- وأذِنَ لَها في صَرفِه لولَدِه مِنها، فإنَّها تَبرَأُ بصَرفِه إلى الصَّغيرِ.
2- النَّفَقةُ الواجِبةُ في الذِّمَّةِ: إذا أنفَقَ الرَّجُلُ على زَوجَتِه الصَّغيرةِ أوِ المَجنونةِ بإذنِ الوليِّ، فإنَّه يَبرَأُ وإن لَم يَقبِضِ المُكَلَّفُ.
استِشكالٌ ودَفعُه:
استُشكِلَ على هذه القاعِدةِ بما نَقَلَه الرَّافِعيُّ: أنَّ الزَّوجَ المُختَلَعَ إذا وكَّلَ مَحجورًا في قَبضِ المالِ مِنَ الزَّوجةِ ففَعَلَ، كان مُضَيِّعًا له، وتَبرَأُ المَرأةُ بالدَّفعِ، مَعَ أنَّ تَوكيلَ المَحجورِ في القَبضِ لا يَصِحُّ. لَكِن أُجيبَ عنه: بأنَّ هذا إذا كان العِوضُ مُعَيَّنًا، أو كان الطَّلاقُ مُعَلَّقًا بدَفعِه، أمَّا إن كان الخُلعُ على مالٍ في ذِمَّتِها فيَنبَغي أن لا يَصِحَّ القَبضُ، وإذا أتلَفَ ضاعَ على المَرأةِ [3817] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسبكي (1/282)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (1/415)، ((تحرير الفتاوى)) لابن العراقي (2/689). .

انظر أيضا: