المَطلَبُ الأوَّلُ: الذِّمَّةُ تَتَّسِعُ للحُقوقِ كُلِّها
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ. استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: الذِّمَّةُ تَتَّسِعُ للحُقوقِ كُلِّها
[3730] يُنظر: ((الفروق)) للكرابيسي (1/258). ، وصيغةِ: الذِّمَّةُ تَسَعُ الحُقوقَ كُلَّها
[3731] يُنظر: ((الفروق)) للكرابيسي (1/235). ، وصيغةِ: الذِّمَّةُ تَتَّسِعُ لتَعَلُّقِ حُقوقٍ بها
[3732] يُنظر: ((التهذيب)) للبغوي (3/74). ، وصيغةِ: الذِّمَّةُ تَتَّسِعُ لحُقوقٍ كَثيرةٍ
[3733] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (11/527). ، وصيغةِ: الذِّمَّةُ لا تَضيقُ عن ثُبوتِ الحُقوقِ
[3734] يُنظر: ((العزيز)) للرافعي (2/547)، ((كفاية النبيهـ)) لابن الرفعة (5/203)، ((المهمات)) للإسنوي (3/560)، ((حاشية الرملي الكبير على أسنى المطالب)) (1/356). ، وصيغةِ: تَعَلُّقُ الشَّيءِ بالذِّمَّةِ لا يَمنَعُ تَعَلُّقَ الآخَرِ
[3735] يُنظر: ((الفروق)) للكرابيسي (2/195). ، وصيغةِ: في الذِّمَّةِ سَعةٌ بالحُقوقِ
[3736] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (18/180). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ. تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ الذِّمَّةَ لا تَضيقُ عن ثُبوتِ الحُقوقِ، بَل فيها سَعةٌ بكَثيرٍ مِنَ الحُقوقِ والالتِزاماتِ، فالذِّمَّةُ تَتَّسِعُ للحُقوقِ كُلِّها التي يَتَحَمَّلُها الإنسانُ؛ ولِهذا تَقبَلُ أن يَشغَلَها المُكَلَّفُ بحُقوقٍ كَثيرةٍ، فجازَ أن يَسعى المُكَلَّفُ في أداءِ جَميعِ الحُقوقِ
[3737] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (18/180)، ((الفروق)) للكرابيسي (1/258)، ((العزيز)) للرافعي (2/547)، ((المغني)) لابن قدامة (11/526)، ((تهذيب سنن أبي داود)) لابن القيم (2/95). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ. يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ:
فعن أبي شُرَيحٍ العَدَويِّ رَضيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ ولَم يُحَرِّمْها النَّاسُ، مَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فلا يَسفِكَنَّ فيها دَمًا، ولا يَعضِدَنَّ فيها شَجَرًا، فإن تَرَخَّصَ مُتَرَخِّصٌ، فقال: أُحِلَّت لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإنَّ اللَّهَ أحَلَّها ولَم يُحِلَّها للنَّاسِ، وإنَّما أُحِلَّت لي ساعةً مِن نَهارٍ، ثُمَّ هيَ حَرامٌ إلى يَومِ القيامةِ، ثُمَّ إنَّكُم مَعشَرَ خُزاعةَ قَتَلتُم هذا الرَّجُلَ مِن هُذَيلٍ، وإنِّي عاقِلُه، فمَن قُتِلَ له قَتيلٌ بَعدَ اليَومِ فأهلُه بَينَ خيَرَتَينِ: إمَّا أن يَقتُلوا، أو يَأخُذوا العَقلَ)) [3738] أخرجه أبو داود (4504) مختصرًا، والترمذي (1406) واللفظ له، وأحمد (27160). صحَّحه ابنُ حزم في ((المحلى)) (8/168)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1406)، والوادعي على شرط الشيخين في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1232)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن الدارقطني)) (3145)، وقال ابنُ الملقن في ((البدر المنير)) (8/410): أصلُه في الصَّحيحين، وقال ابنُ حجر في ((بلوغ المرام)) (354): أصلُه في الصَّحيحينِ بمعناه. وأصلُه في صحيح البخاري (104)، ومسلم (1354)، ولَفظُ مُسلِمٍ: عَن أبي شُرَيحٍ العَدَويِّ، أنَّه قال لعَمرِو بنِ سَعيدٍ وهو يَبعَثُ البُعوثَ إلى مَكَّةَ: ائذَنْ لي أيُّها الأميرُ أُحَدِّثْكَ قَولًا قامَ به رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم الغَدَ مِن يَومِ الفَتحِ، سَمِعَته أُذُنايَ، ووعاه قَلبي، وأبصَرَته عَينايَ حينَ تَكَلَّمَ به، أنَّه حَمِدَ اللَّهَ، وأثنى عليه، ثُمَّ قال: إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَها اللهُ ولَم يُحَرِّمها النَّاسُ، فلا يَحِلُّ لامرِئٍ يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ أن يَسفِكَ بها دَمًا، ولا يَعضِدَ بها شَجَرةً، فإن أحَدٌ تَرَخَّصَ بقِتالِ رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم فيها، فقولوا له: إنَّ اللَّهَ أذِنَ لرَسولِه، ولَم يَأذَنْ لَكُم، وإنَّما أذِنَ لي فيها ساعةً مِن نَهارٍ، وقد عادَت حُرمَتُها اليَومَ كَحُرمَتِها بالأمسِ، وليُبَلِّغِ الشَّاهدُ الغائِبَ. فقِيلَ لأَبِي شُرَيحٍ: ما قال لك عَمرٌو؟ قال: أنا أعلَمُ بذلكَ منك يا أبا شُرَيحٍ، إنَّ الحَرَمَ لا يُعِيذُ عَاصِيًا، ولا فَارًّا بدَمٍ، وَلَا فَارًّا بخَربةٍ. .
وَجهُ الدَّلالةِ: أنَّ ظاهرَ قَولِه:
((فأهلُه بَينَ خيَرَتَينِ)) أنَّه إذا قَتَلَ رَجُلٌ اثنَينِ، فأهلُ كُلِّ قَتيلٍ يَستَحِقُّونَ ما اختاروه مِنَ القَتلِ أوِ الدِّيةِ، فإذا اتَّفَقوا على القَتلِ وجَبَ لَهم، وإنِ اختارَ الآخَرونَ الدِّيةَ وجَبَت لَهم بظاهرِ الخَبَرِ؛ لأنَّ الجِنايةَ تَجِبُ في الذِّمَّةِ، والذِّمَّةُ تَتَّسِعُ لحُقوقٍ كَثيرةٍ
[3739] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (11/526)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (25/194). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ. تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- إذا مَلَكَ رَجُلٌ نِصابًا مِنَ المالِ الزَّكَويِّ، وعليه دَينٌ يَستَغرِقُه، أو يُنقِصُ المالَ عنِ النِّصابِ، فالدَّينُ هَل يَمنَعُ وُجوبَ الزَّكاةِ فيه أم لا؟ فالرَّاجِحُ أنَّه لا يَمنَعُ وُجوبَ الزَّكاةِ؛ فيُخرِجُ الزَّكاةَ مِنها، والباقي للغُرَماءِ؛ لأنَّا إن قُلنا: الزَّكاةُ تَتَعَلَّقُ بالذِّمَّةِ، فالذِّمَّةُ تَتَّسِعُ لتَعَلُّقِ حُقوقٍ بها. وإن قُلنا: تَتَعَلَّقُ بالعَينِ، فالدَّينُ الذي في ذِمَّتِه لا يَمنَعُ تَعَلُّقَ الحَقِّ بعَينِ مالِه
[3740] يُنظر: ((التهذيب)) للبغوي (3/74). .
2- إذا وجَبَت دُيونٌ على المُكَلَّفِ فيَجِبُ عليه أن يَسعى في سَدادِ جَميعِها، بالِغةً ما بَلَغَت؛ لأنَّ الدَّينَ يَثبُتُ في الذِّمَّةِ، والذِّمَّةُ تَسَعُ الحُقوقَ كُلَّها، فثَبَتَ جَميعُ الدُّيونِ، فوجَبَ أن يَغرَمَ بالِغًا ما بَلَغَ
[3741] يُنظر: ((الفروق)) للكرابيسي (1/235). .
انظر أيضا:
عرض الهوامش