المَطلَبُ السَّادِسَ عَشَرَ: إذا اختَلَف أهلُ العَصرِ على قَولينِ، فهل يَجوزُ لمَن بَعدَهم إحداثُ قَولٍ ثالثٍ؟
لم يَختَلفِ الأُصوليُّونَ في أنَّ الإجماعَ على قَولٍ واحِدٍ واستِقرارِه يَمنَعُ حُدوثَ قَولٍ ثانٍ، بَل يُعتَبَرُ القَولُ الثَّاني خارِقًا للإجماعِ، وإنَّما وقَعَ الخِلافُ فيما إذا اختَلف أهلُ العَصرِ على قَولينِ، واستَقَرُّوا على ذلك، ثُمَّ جاءَ مَن بَعدَهم، فهَل يَجوزُ لهم إحداثُ قَولٍ ثالثٍ، أو لا يَجوزُ؟
وحاصِلُ خِلافِهم ثَلاثةُ أقوالٍ: المَنعُ
، والجَوازُ
، والثَّالِثُ: التَّفصيلُ؛ فإن رَفعَ القَولُ الثَّالثُ شَيئًا مِمَّا اتَّفقَ عليه القَولانِ السَّابقانِ لم يَجُزْ، وإن لم يَرفَعْ جاز، وهو المُختارُ عِندَ مُتَأخِّري الأُصوليِّينَ
، وهو اختيارُ المُحَقِّقينَ
، واختارَه بَعضُ المالكيَّةِ كالقَرافيِّ
، وبَعضُ الشَّافِعيَّةِ كالرَّازيِّ
، والآمِديِّ
، وأتباعِهما
، وصَفيِّ الدِّينِ الهِنديِّ
، وبَعضُ الحَنابلةِ كالطُّوفيِّ
.
ومِثالُ إحداثِ قَولٍ ثالثٍ رافِعٍ للاتِّفاقِ: اختِلافُ العُلماءِ حَولَ ميراثِ الجَدِّ مَعَ الأخِ، على قَولينِ: مِنهم مَن جَعَل المالَ كُلَّه للجَدِّ
، ومِنهم مَن قال: إنَّه يُقاسِمُ الأخَ
؛ فالقَولُ الثَّالثُ: وهو صَرفُ المالِ كُلِّه إلى الأخِ غَيرُ جائِز؛ لأنَّ أهلَ العَصرِ الأوَّلِ القائِلينَ بالقَولينِ الأوَّلينِ اتَّفقوا على أنَّ للجَدِّ قِسطًا مِن المالِ، فالقَولُ بصَرفِ المالِ كُلِّه إلى الأخِ يُبطِلُ ذلك؛ فهو مُخالِفٌ للإجماعِ
.
ومِثالُ إحداثِ قَولٍ ثالثٍ غَيرِ رافِعٍ للاتِّفاقِ: الاختِلافُ في مَتروكِ التَّسميةِ؛ فمِنهم مَن قال: يَحِلُّ أكلُه سَواءٌ كان التَّركُ عَمدًا أو سَهوًا
، ومِنهم مَن قال: لا يَحِلُّ أكلُه سَواءٌ كان التَّركُ عَمدًا أو سَهوًا
، والقَولُ الثَّالثُ: وهو التَّفصيلُ بَينَ العَمدِ والسَّهوِ في حِلِّ الأكلِ وعَدَمِه
ليسَ خَرقًا للإجماعِ؛ لأنَّه لم يَخرُجْ عنِ القَولينِ السَّابقَينِ؛ فاختيرَ مِن كُلِّ قَولٍ حالةٌ مِنه، دونَ الإتيانِ بقَولٍ خارِجٍ عنهما
.
واستَدَلُّوا على ذلك بأنَّ المَحذورَ مُخالَفةُ الإجماعِ والخُروجُ عن سَبيلِ المُؤمِنينَ، أو إحداثُ قَولٍ يَلزَمُ مِنه مُخالَفةُ الإجماعِ، فإذا كان إحداثُ القَولِ لا يُخالِفُ الإجماعَ ولا يَخرُجُ عنه وجَبَ جَوازُه
.
وبَيانُه: أنَّ المَحذورَ خَرقُ الإجماعِ، وما ذُكِرَ ليسَ كذلك؛ لأنَّ خَرقَ الإجماعِ إنَّما هو القَولُ بما يُخالفُ ما اتَّفقَ عليه أهلُ الإجماعِ، وما هاهنا ليسَ كذلك، فإنَّ القائِلَ بالنَّفيِ في البَعضِ والإثباتِ في البَعضِ قد وافقَ في كُلِّ صورةٍ مَذهَبًا، فلم يَكُنْ مُخالِفًا للإجماعِ
.
وإحداثُ قَولٍ ثالثٍ لا يَرفعُ الاتِّفاقَ ليسَ مُخالفًا، بَل هو موافِقٌ لكُلِّ فريقٍ في بَعضِ ما ذَهَبَ إليه، وهذا لا يَتَحَقَّقُ به مُخالفةُ سَبيلِ المُؤمِنينَ، فلا يَكونُ باطِلًا؛ لأنَّ الدَّليلَ السَّمعيَّ إنَّما دَلَّ على تَحريمِ مُخالفةِ سَبيلِ المُؤمِنينَ، فسَبيلُ بَعضِهم لا يَتَناولُه دَليلُ السَّمعِ، وإلَّا لانعَقدَ الإجماعُ بقَولِ بَعضِهم، وهو باطِلٌ
.
وهذا بخِلافِ ما إذا كان القَولُ الثَّالثُ رافِعًا لِما اتُّفِقَ عليه فإنَّه حينَئِذٍ يَكونُ مُخالفًا للإجماعِ، فلا يَجوزُ المَصيرُ إليه، وذلكَ كما في مسألةِ الجَدِّ المتقدِّمةِ
.