موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الثَّالثُ: أسبابُ وُرودِ الحَديثِ وعَلاقَتُه بالاحتِجاجِ بالسُّنَّةِ


يُعنى بأسبابِ وُرودِ الحَديثِ الأسبابُ الدَّاعيةُ إلى ذِكرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الحَديثَ أوَّلًا، وهذا السَّبَبُ قد يَكونُ سُؤالًا، وقد يَكونُ قِصَّةً، وقد تَكونُ حادِثةً، فيَقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الحَديثَ بسَبَبِه أو بسَبَبِها .
عَلاقةُ أسبابِ وُرودِ الحَديثِ بالاحتِجاجِ بالسُّنَّةِ:
يَحتاجُ العُلماءُ إلى النَّظَرِ في أسبابِ وُرودِ الحَديثِ النَّبَويِّ قَبل الاحتِجاجِ به، وكما قال السُّيوطيُّ: (فبذِكرِ السَّبَبِ يَتَبَيَّنُ الفِقهُ في المَسألةِ) .
وتَبرُزُ أهَمِّيَّةُ الاطِّلاعِ على أسبابِ الوُرودِ في عِدَّةِ أُمورٍ؛ مِنها:
1- تَعيينُ عِلَّةِ الحُكمِ:
فإنَّ مِن طُرُقِ مَعرِفةِ عِلَّةِ الحُكمِ الشَّرعيِّ الاطِّلاعَ على سَبَبِ وُرودِ الحَديثِ.
قال الآمِديُّ: (لو حَدَثَت واقِعةٌ فرُفِعَت إلى النَّبيِّ عليه السَّلامُ فحَكَمَ عَقيبهَا بحُكمٍ، فإنَّه يَدُلُّ على كَونِ ما حَدَثَ عِلَّةً لذلك الحُكمِ) .
مِثالُه:
حَديثُ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((جاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: هَلكتُ! فقال: وما ذاكَ؟ قال: وقَعتُ بأهلي في رَمَضانَ، قال: تَجِدُ رَقَبةً؟ قال: لا، قال: فهَل تَستَطيعُ أن تَصومَ شَهرَينِ مُتَتابعَينِ؟ قال: لا، قال: فتَستَطيعُ أن تُطعِمَ سِتِّينَ مِسكينًا؟ قال: لا، قال: فجاءَ رَجُلٌ مِن الأنصارِ بعَرَقٍ -والعَرَقُ المِكتَلُ فيه تَمرٌ- فقال: اذهَبْ بهذا فتَصَدَّقْ به. قال: على أحوجَ مِنَّا يا رَسولَ اللهِ؟! والذي بَعَثَك بالحَقِّ ما بَينَ لابَتَيها أهلُ بَيتٍ أحوجُ مِنَّا! قال: اذهَبْ فأطعِمْه أهلَك)) .
وَجهُ الدَّلالةِ:
الحَديثُ فيه دَلالةٌ على كَونِ الوِقاعِ عِلَّةً للكَفَّارةِ؛ وذلك لأنَّا نَعلمُ أنَّ الأعرابيَّ إنَّما سَأل النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن واقِعَتِه لبَيانِ حُكمِها شَرعًا، وأنَّ النَّبيَّ عليه السَّلامُ إنَّما ذَكَرَ ذلك الحُكمَ في مَعرِضِ الجَوابِ له، لا أنَّه ذَكَرَه ابتِداءً مِنه .
2- تَخصيصُ الحُكمِ العامِّ:
فأسبابُ وُرودِ الحَديثِ هيَ المَحَلُّ الذي يَنعَقِدُ به تَخصيصُ الحُكمِ مِن حَيثُ تَحَقُّقُ قُيودِ المُناسَبةِ بَينَ المَعنى العامِّ والسَّبَبِ الخاصِّ الذي ورَدَ عليه .
مِثالُه:
قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((تَسَمَّوا باسمي، ولا تَكَنَّوا بكُنيَتي)) .
فهذا الحَديثُ فيه عُمومُ النَّهيِ عن التَّكَنِّي بكُنيَتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم -أبي القاسِمِ-، ولكِن عِندَ الاطِّلاعِ على سَبَبِ وُرودِ الحَديثِ يُلاحَظُ أنَّ السَّبَبَ مُخَصِّصٌ لعُمومِ النَّهيِ؛ فعن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: نادى رَجُلٌ رَجُلًا بالبَقيعِ: يا أبا القاسِمِ! فالتَفتَ إليه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي لمَ أعنِك، إنَّما دَعَوتُ فلانًا! فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((تَسَمَّوا باسمي ولا تَكَنَّوا بكُنيَتي)) .
قال عِياضٌ: (ذَهَبَ جَماعةٌ مِن أهلِ العِلمِ إلى أنَّ هذا مَقصورٌ على حَياةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّه قد ذَكَرَ سَبَبَ الحَديثِ: أنَّ رَجُلًا نادى: يا أبا القاسِم...) .
وقال النَّوويُّ: (وأمَّا إطباقُ النَّاسِ على فِعلِه مَعَ أنَّ في المُتَكَنِّينَ به الأئِمَّةَ الأعلامَ، وأهلَ الحَلِّ والعَقدِ والذينَ يُقتَدى بهم في مُهمَّاتِ الدِّينِ، ففيه تَقويةٌ لمَذهَبِ مالكٍ في جَوازِه مُطلقًا، ويَكونونَ قد فَهِموا مِن النَّهيِ الاختِصاصَ بحَياتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كَما هو مَشهورٌ مِن سَبَبِ النَّهيِ في تَكَنِّي اليَهودِ بأبي القاسِمِ ومُناداتِهم: يا أبا القاسِمِ، للإيذاءِ، وهذا المَعنى قد زال) .
3- تَبيينُ المُجمَلِ:
فأسبابُ الوُرودِ يُهتَدى بها إلى حَلِّ مُبهَماتِ ألفاظِ الحَديثِ، فإذا كان الإجمالُ بسَبَبِ الاشتِراكِ في اللَّفظِ أو الحَرفِ كان في تَأمُّلِ السَّبَبِ ما يُرَجِّحُ أحَدَ مَعانيه، وكذلك إذا كان الإجمالُ بسَبَبِ التَّرَدُّدِ في عَودِ الضَّميرِ في الحَديثِ، أو مَجهولٍ في النَّصِّ، فالسَّبَبُ يُوضِّحُ ذلك؛ فأحيانًا يَكونُ راويه قد اهتَمَّ بذِكرِ المُلابَساتِ والحَوادِثِ التي وقَعَت قَبلَ التَّحَدُّثِ به، أو الدَّافِعِ لقَولِه . وهذا كُلُّه ضَروريٌّ في الاستِدلالِ بالنَّصِّ والاحتِجاجِ به.
مِثالُه:
حَديثُ: ((وَيلٌ للأعقابِ مِن النَّارِ!)) .
فإنَّ لفظَ الأعقابِ يَحتَمِلُ عَدَدًا مِن المَعاني، فإذا اطُّلعَ على سَبَبِ النُّزولِ اتَّضَحَ المُرادُ بها؛ فعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما، قال: تَخَلَّف عنَّا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سَفرةٍ سافَرناها، فأدرَكَنا وقد أرهَقَتنا الصَّلاةُ ونحن نَتَوضَّأُ، فجَعَلنا نَمسَحُ على أرجُلِنا، فنادى بأعلى صَوتِه: ((وَيلٌ للأعقابِ مِن النَّارِ!)) مَرَّتَينِ أو ثَلاثًا .
قال الشَّاطِبيُّ: (ولتَعَيُّنِ المَناطِ مَواضِعُ: مِنها: الأسبابُ الموجِبةُ لتَقريرِ الأحكامِ، كما إذا نَزَلت آيةٌ أو جاءَ حَديثٌ على سَبَبٍ؛ فإنَّ الدَّليلَ يَأتي بحَسَبِه، وعلى وِفاقِ البَيانِ التَّمام فيه... وقال: "وَيلٌ للأعقابِ مِن النَّارِ!" مَعَ أنَّ غَيرَ الأعقابِ يُساويها حُكمًا، لكِنَّه كان السَّبَبُ في الحَديثِ التَّقصيرَ في الاستيعابِ في غَسلِ الرَّجُلينِ) .

انظر أيضا:

  1. (1) يُنظر: ((الوسيط في علوم ومصطلح الحديث)) لأبي شهبة (ص: 467).
  2. (2) ((تدريب الراوي)) (2/ 929- 930).
  3. (3) ((الإحكام)) (3/ 255).
  4. (4) أخرجه البخاري (2600) واللفظ له، ومسلم (1111).
  5. (5) يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (3/255). ويُنظر أيضًا: ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (1/ 92).
  6. (6) يُنظر: ((علم أسباب ورود الحديث)) للأسعد (ص: 46).
  7. (7) أخرجه البخاري (2120)، ومسلم (2131) واللَّفظُ له من حديثِ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه.
  8. (8) أخرجه البخاري (2120)، ومسلم (2131) واللَّفظُ له.
  9. (9) ((إكمال المعلم)) (7/ 5).
  10. (10) ((الأذكار)) (ص: 296).
  11. (11) يُنظر: ((أسباب ورود الحديث)) لشملال (ص: 100- 101).
  12. (12) أخرجه البخاري (60)، ومسلم (241) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما.
  13. (13) أخرجه البخاري (60) واللفظ له، ومسلم (241).
  14. (14) ((الموافقات)) (3/ 296- 297).