موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الثَّاني: الفرقُ بَينَ الإفتاءِ والقَضاءِ


الإفتاءُ شَبيهٌ بالقَضاءِ؛ فكُلٌّ مِنهما مُتَعَلِّقٌ بالشَّريعةِ الإسلاميَّةِ، مَعنيٌّ بالرُّجوعِ إلى الكِتابِ والسُّنَّةِ والفِقهِ والأصولِ وغَيرِ ذلك مِن عُلومِ الشَّريعةِ التي لا يَستَغني عنها المُفتي والقاضي، فالإفتاءُ والقَضاءُ لا يَنبَغي أن يَتَولَّاهما إلَّا أهلُ العِلمِ بالشَّرعِ، وأيضًا فالفتوى والقَضاءُ يَكونانِ عن واقِعةٍ حَقيقيَّةٍ بحاجةٍ لمُعالَجةٍ مِن وِجهةِ نَظَرٍ شَرعيَّةٍ، ومِن أوجُهِ الشَّبَهِ أيضًا أنَّ الفتوى والقَضاءَ لا بُدَّ أن يَتَقدَّمَهما طَلَبٌ، سَواءٌ كان الطَّلَبُ دَعوى أوِ استِفسارًا عن حَقٍّ أو حُكمٍ .
وعلى الرَّغمِ مِن هذا التَّشابُهِ بَينَهما إلَّا أنَّ بَينَهما فروقًا، منها:
1- أنَّ القَضاءَ تَبيينٌ للحُكمِ الشَّرعيِّ وإلزامٌ به؛ فالقاضي في المَحكَمةِ يُبَيِّنُ الحُكمَ الشَّرعيَّ ويُلزِمُ به، والمُفتي لا يُلزِمُ أحَدًا؛ ولِهذا لمَّا استَفتَتِ امرَأةُ أبي سُفيانَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّه رَجُلٌ شَحيحٌ، قال: ((خُذي ما يَكفيكِ وولَدَك بالمَعروفِ)) ، مَعَ أنَّ المَقضيَّ عليه غائِبٌ، لكِنَّ هذا ليسَ مِن بابِ القَضاءِ، بَل مِن بابِ الفتوى. فجازَتِ الفتوى على الغائِبِ، ولم يَجُزِ القَضاءُ على الغائِبِ .
2- أنَّ القَضاءَ لا يَتَعَلَّقُ بالعِباداتِ كُلِّها على الإطلاقِ؛ فلا يَدخُلُها الحُكمُ البَتَّةَ، بَلِ الفُتيا فقَط، فكُلُّ ما وُجِدَ فيها مِنَ الإخباراتِ فهيَ فُتيا فقَط، فليس لحاكِمٍ أن يَحكُمَ بأنَّ هذه الصَّلاةَ صحيحةٌ أو باطِلةٌ، ولا أنَّ هذا الماءَ دونَ القُلَّتَينِ فيَكونُ نَجِسًا، أو غَير ذلك . ولا يَدخُلُ القَضاءُ في مَسائِلِ العَقيدةِ، أمَّا الفتوى فتَدخُلُ جَميعَ أبوابِ العِلمِ؛ في العَقائِدِ والعِباداتِ والمُعامَلاتِ وغَيرِها .
3- أنَّ فتوى المُفتي شَريعةٌ عامَّةٌ تَتَعَلَّقُ بالمُستَفتي وغَيرِه، وأمَّا الحاكِمُ فحُكمُه جُزئيٌّ خاصٌّ لا يَتَعَدَّى إلى غَيرِ المَحكومِ عليه وله؛ فالمُفتي يُفتي حُكمًا عامًّا كُلِّيًّا أنَّ مَن فعَلَ كَذا ترَتَّب عليه كَذا، ومَن قال كَذا لزِمَه كَذا، والحاكِمُ يَقضي قَضاءً مُعَيَّنًا على شَخصٍ مُعَيَّنٍ .
4- أنَّ الفتوى مُنَزَّلةٌ على تَصديقِ المُستَفتي فيما يَذكُرُه مِن وقائِعَ، أمَّا القَضاءُ فلا بُدَّ فيه مِنَ النَّظَرِ في ثُبوتِ الوقائِعِ بطُرُقِ الحُكمِ والإثباتِ المُقَرَّرةِ .

انظر أيضا:

  1. (1) يُنظَر: ((الفتوى)) للدخيل (ص: 43).
  2. (2) أخرجه البخاري (5364) واللفظ له، ومسلم (1714) من حديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها.
  3. (3) يُنظَر: ((فتح ذي الجلال والإكرام)) لابن عثيمين (6/ 145).
  4. (4) يُنظَر: ((الفروق)) للقرافي (4/ 48).
  5. (5) يُنظَر: ((الفتوى في الشريعة الإسلامية)) لعبد الله آل خنين (1/44).
  6. (6) يُنظَر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/ 79).
  7. (7) يُنظَر: ((الفتوى في الشريعة الإسلامية)) لعبد الله آل خنين (1/43).