موسوعة أصول الفقه

المَبحَثُ الثَّامِنُ: الإصابةُ والخَطَأُ في الاجتِهادِ


هذه المَسألةُ تُسَمَّى مَسألةَ: التَّصويبِ، أو تَصويبِ المُجتَهِدينَ. وهيَ تَعني: هَلِ الحَقُّ يَتَعَدَّدُ في مَسائِلِ الاجتِهادِ، أم للهِ في كُلِّ واقِعةٍ حُكمٌ مُعَيَّنٌ ؟
والرَّاجِحُ: أنَّ الأحكامَ الشَّرعيَّةَ الاجتِهاديَّةَ: المُصيبُ فيها واحِدٌ، والحَقُّ فيها عِندَ اللهِ واحِدٌ لا يَتَعَدَّدُ. ولَكِنْ لا إثمَ على المُخطِئِ إذا استَوفى اجتِهادُه الشُّروطَ، وهذا هو قَولُ السَّلَفِ والأئِمَّةِ وجُمهورِ المُسلِمينَ .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (مَذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: أنَّه لا إثمَ على مَنِ اجتَهَدَ وإن أخطَأ) ، وعَزا الغَزاليُّ عَدَم تَأثيمِه إلى الجَماهيرِ ، ونَقَل الآمِديُّ اتِّفاقَ أهلِ الحَقِّ على ذلك .
وقال ابنُ قُدامةَ: (إنَّنا لا نَقولُ: إنَّ المُجتَهِدَ يُكَلَّفُ إصابةَ الحُكمِ، وإنَّما لكُلِّ مَسألةٍ حُكمٌ مُعَيَّنٌ يَعلَمُه اللهُ، كَلَّف المُجتَهِدَ طَلَبَه، فإنِ اجتَهَدَ فأصابَه فلَه أجرانِ، وإن أخطَأه فلَه أجرٌ على اجتِهادِه، وهو مُخطِئٌ، وإثمُ الخَطَأِ مَحطوطٌ عنه. كما في مَسألةِ القِبلةِ؛ فإنَّ المُصيبَ لجِهةِ الكَعبةِ عِندَ اختِلافِ المُجتَهِدينَ واحِدٌ، ومَن عَداه مُخطِئٌ يَقينًا، يُمكِنُ أن يُبَيَّنَ له خَطَؤُه، فيَلزَمُه إعادةُ الصَّلاةِ عِندَ قَومٍ، ولا يَلزَمُه عِندَ آخَرينَ، لا لكَونِه مُصيبًا لها، بَل سَقَطَ عنه التَّوجُّهُ إليها؛ لعَجزِه عنها. وهكذا كَونُ حَقِّ زَيدٍ عِندَ عَمرٍو، إذا اختَلَف فيه مُجتَهِدانِ، فالمُصيبُ أحَدُهما، والآخَرُ مُخطِئٌ؛ إذ لا يُمكِنُ كَونُ ذِمَّةِ عَمرٍو مَشغولةً بَريئةً.
وتَخصيصُ ذلك بما فيه نَصٌّ خِلافُ مُوجِبِ العُمومِ، وهو باطِلٌ أيضًا؛ فإنَّ القياسَ في مَعنى النَّصِّ، ونَحنُ نَتَعَرَّفُ بالبَحثِ المَعنى الذي قَصَدَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فهو كالنَّصِّ) .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ القُرآنِ الكَريمِ
قال اللهُ تعالى: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء: 78-79] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّهما لو كانا مُصيبَينِ لما خُصَّ سُلَيمانُ عليه السَّلامُ بفهمِ الحُكمِ؛ لأنَّ داودَ عليه السَّلامُ قد فَهِم مِنَ الحُكمِ غَيرَ ما فَهِمَه سُلَيمانُ، وهذا الحُكمُ كان بالاجتِهادِ؛ إذ لو كان بالوَحيِ لما جازَ لسُلَيمانَ خِلافُه، ولَما جازَ لداودَ الرُّجوعُ إلى قَولِه؛ فعُلِم أنَّ الحَقَّ واحِدٌ والمُجتَهِدَ المُصيبَ له واحِدٌ .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((إذا حَكَم الحاكِمُ فاجتَهَدَ ثُمَّ أصابَ، فله أجرانِ، وإذا حَكَمَ فاجتَهَدَ ثُمَّ أخطَأ، فله أجرٌ)) .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّه أخبَرَ أنَّ في المُجتَهِدينَ مَن يُصيبُ، وفيهم مَن يُخطِئُ، وذَكَرَ حُكمَ المُخطِئِ والمُصيبِ، ولَو كانا مُصيبَينِ لم يَكُنْ لهذا التَّقسيمِ مَعنًى، وهو صَريحٌ في أنَّه يَحكُمُ باجتِهادِه فيُخطِئُ، ويُؤجَرُ دونَ أجرِ المُصيبِ .
ثالثًا: إجماعُ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم
أجمَع الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم على أنَّ جَميعَ المُجتَهِدينَ ليسوا مُصيبينَ، وأنَّ بَعضَهم مُخطِئٌ وبَعضَهم مُصيبٌ؛ فقدِ اتَّفقوا على الاجتِهادِ في المَسائِلِ، وأنكَرَ بَعضُهم على بَعضٍ، وخَطَّأ بَعضُهم بعضًا، وممَّن نَقَلَ الإجماعَ على ذلك: السَّمعانيُّ ، وابنُ قُدامةَ .
ومِن نُصوصِ الصَّحابةِ التي يُشيرُ إليها هذا الإجماعُ:
1- أنَّه كَتَب كاتِبٌ لعُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه: هذا ما أرى اللهُ أميرَ المُؤمِنينَ عُمَرَ. فانتَهَرَه عُمَرُ، وقال: لا، بَلِ اكتُبْ: (هذا ما رَأى عُمَرُ، فإن كان صَوابًا فمِنَ اللهِ، وإن كان خَطَأً فمِن عُمَرَ) .
2- أنَّ عَبدَ اللهِ بنَ مَسعودٍ أُتيَ في رَجُلٍ، بهذا الخَبَرِ، قال: فاختَلَفوا إليه شَهرًا، أو قال: مَرَّاتٍ، قال: فإنِّي أقولُ فيها: إنَّ لها صَداقًا كصَداقِ نِسائِها، لا وَكسَ ولا شَطَطَ، وإنَّ لها الميراثَ، وعليها العِدَّةَ، فإن يَكُ صَوابًا فمِنَ اللهِ، وإن يَكُنْ خَطَأً فمِنِّي ومِنَ الشَّيطانِ. واللهُ ورَسولُه بَريئانِ... .
وذَهَب بِشرٌ المِرِّيسيُّ، وابنُ عُلَيَّةَ، وأبو بَكرٍ الأصَمُّ، ونفاةُ القياسِ -كالظَّاهريَّةِ والإماميَّةِ- إلى أنَّه ما مِن مَسألةٍ إلَّا والحَقُّ فيها مُتَعَيِّنٌ، وعليه دَليلٌ قاطِعٌ، فمَن أخطَأه فهو آثِمٌ غَيرُ كافِرٍ ولا فاسِقٍ .

انظر أيضا:

  1. (1) يُنظَر: ((أصول الفقهـ)) لعياض السلمي (ص: 461) وما بعدها.
  2. (2) جاء في ((المسودة في أصول الفقهـ)) (ص: 497): (مَسألةٌ: وكذلك في الفُروعِ الحَقُّ عِندَ اللهِ واحِدٌ، وعلى المُجتَهِدِ طَلَبُه، فإن أصابَه تَوفَّرَ أجرُه، وإن أخطَأه فالمُؤاخَذةُ مَوضوعةٌ عنه، وهو مُثابٌ مَعَ كَونِه مُخطِئًا. نَصَّ عليه في مَواضِعَ، ولا يُقطَعُ بخَطَأِ واحِدٍ بعَينِه في ذلك، وبِهذا قال أكثَرُ الشَّافِعيَّةِ، وذَكَرَ أبو الطَّيِّبِ أنَّه مَذهَبُ الشَّافِعيِّ وكُلِّ مُصَنِّفٍ مِن أصحابِه المُتَقدِّمينَ والمُتَأخِّرينَ، وإنَّ المُزَنيَ استَقصى القَولَ فيه وقال: إنَّه مَذهَبُ مالِكٍ واللَّيثِ، وإنَّ أبا عَليٍّ الطَّبَريَّ أنكَرَ على مَن نَسَبَ إلى الشَّافِعيِّ خِلافَ ذلك بَعدَ ما ذَكَرَ أنَّ قَومًا نَسَبوا إليه ما قدَّمناه عنِ الحَنَفيَّةِ، فأبطَلَ ذلك وشَدَّدَ النَّكيرَ فيه، وكذلك ذَكَرَه عَبدُ الوهَّابِ عن أصحابِه وأكثَرِ الفُقَهاءِ، ورَواه ابنُ وَهبٍ عن مالِكٍ واللَّيثِ، وذَكرَ عن مالِكٍ نُصوصًا صَريحةً بذلك حتَّى قارَبَ مَذهَبَ المُؤَثِّمينَ). وقال ابنُ تَيميَّةَ: (لَيسَ كُلُّ مَنِ اجتَهَدَ واستَدَلَّ يَتَمَكَّنُ مَن مَعرِفةِ الحَقِّ، ولا يَستَحِقُّ الوعيدَ إلَّا مَن تَرَكَ مَأمورًا به أو فعَلَ مَحظورًا. وهذا هو قَولُ الفُقَهاءِ والأئِمَّةِ، وهو القَولُ المَعروفُ عن سَلَفِ الأُمَّةِ، وقَولُ جُمهورِ المُسلِمينَ. وهذا القَولُ يَجمَعُ الصَّوابَ مِنَ القَولَينِ؛ فالصَّوابُ مِنَ القَولِ الأوَّلِ قَولُ الجَهميَّةِ الذينَ وافَقوا فيه السَّلَفَ والجُمهورَ، وهو أنَّه لَيسَ كُلُّ مَن طَلَبَ واجتَهَدَ واستَدَلَّ على الشَّيءِ يَتَمَكَّنُ مِن مَعرِفةِ الحَقِّ فيه، بَلِ استِطاعةُ النَّاسِ في ذلك مُتَفاوِتةٌ) ((منهاج السنة النبوية)) (5/ 98). وقال ابنُ مُفلِحٍ: (المَسألةُ الظَّنِّيَّةُ: الحَقُّ عِندَ اللهِ واحِدٌ، وعليه دَليلٌ، وعلى المُجتَهِدِ طَلَبُه، فمَن أصابَه فمُصيبٌ، وإلَّا فمُخطِئٌ مُثابٌ عِندَ أحمَدَ وأكثَرِ أصحابِه، وقاله الأوزاعيُّ ومالِكٌ والشَّافِعيُّ وإسحاقُ والمُحاسِبيُّ وابنُ كُلَّابٍ، وذَكَرُه أبو المَعالي عن مُعظَمِ الفُقَهاءِ، وذَكَرَه ابنُ بَرهانَ عنِ الأشعَريِّ). ((أصول الفقهـ)) (4/1486-1487). ويُنظَر: ((البحر المحيط)) للزركشي (8/ 283).
  3. (3) ((مجموع الفتاوى)) (19/123). وقال أيضًا: (لَم يُفرِّقْ أحَدٌ مِنَ السَّلَفِ والأئِمَّةِ بَينَ أُصولٍ وفُروعٍ، بَل جَعلُ الدِّينِ قِسمَينِ -أُصولًا وفُروعًا- لَم يَكُنْ مَعروفًا في الصَّحابةِ والتَّابِعينَ، ولم يَقُلْ أحَدٌ مِنَ السَّلَفِ والصَّحابةِ والتَّابِعينَ: إنَّ المُجتَهِدَ الذي استَفرَغَ وُسعَه في طَلَبِ الحَقِّ يَأثَمُ لا في الأُصولِ ولا في الفُروعِ، ولَكِنَّ هذا التَّفريقَ ظَهَرَ مِن جِهةِ المُعتَزِلةِ وأدخَلَه في أُصولِ الفِقهِ مَن نَقَلَ ذلك عنهم، وحَكَوا عن عُبَيدِ اللهِ بنِ الحَسَنِ العَنبَريِّ أنَّه قال: كُلُّ مُجتَهِدٍ مُصيبٌ، ومُرادُه أنَّه لا يَأثَمُ. وهذا قَولُ عامَّةِ الأئِمَّةِ، كأبي حَنيفةَ، والشَّافِعيِّ، وغَيرِهما). ((مجموع الفتاوى)) (13/ 125).
  4. (4) قال: (لا إثمَ في الظَّنِّياتِ أصلًا لا عِندَ مَن قال: المُصيبُ فيها واحِدٌ. ولا عِندَ مَن قال: كُلُّ مُجتَهِدٍ مُصيبٌ، هذا هو مَذهَبُ الجَماهيرِ). ((المستصفى)) (ص: 348).
  5. (5) قال: (اتَّفقَ أهلُ الحَقِّ مِنَ المُسلِمينَ على أنَّ الإثمَ مَحطوطٌ عنِ المُجتَهِدينَ في الأحكامِ الشَّرعيَّةِ). ((الإحكام)) (4/ 182).
  6. (6) ((روضة الناظر)) (2/ 356).
  7. (7) يُنظَر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (2/ 313)، ((بذل النظر)) للأسمندي (ص: 700).
  8. (8) أخرجه البخاري (7352)، ومسلم (1716) من حديثِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنه.
  9. (9) يُنظَر: ((اللمع)) للشيرازي (ص: 131)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (2/ 313).
  10. (10) قال: (المُعتَمَدُ مِنَ الدَّليلِ الإجماعُ مِنَ الصَّحابةِ؛ فإنَّهمُ اتَّفقوا على الاجتِهادِ في المَسائِلِ، وأنكَرَ بَعضُهم على البَعضِ، وخَطَّأ بَعضُهم بَعضًا، ونَصُّوا على الخَطَأِ في اجتِهادِهم، فلَو كان كُلُّ مُجتَهِدٍ مُصيبًا وكانوا يَعتَقِدونَ ذلك لَم يَصِحَّ). ((قواطع الأدلة)) (2/ 313).
  11. (11) قال: (أمَّا الإجماعُ: فإنَّ الصَّحابةَ رَضِيَ اللهُ عنهمُ اشتَهَرَ عنهم في وقائِعَ لا تُحصى إطلاقُ الخَطَأِ على المُجتَهِدينَ). ((روضة الناظر)) (2/ 357).
  12. (12) أخرجه الطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) بعد حديث (3583)، والبيهقي (20374) واللفظ له. صَحَّحَه الطَّحاويُّ، وقال ابنُ القَيِّمِ في ((أعلام الموقعين)) (1/63): إسنادُه في غايةِ الصِّحَّةِ، وصَحَّحَ إسنادَه ابنُ حَجَرٍ في ((التلخيص الحبير)) (4/1573).
  13. (13) أخرجه مِن طُرُقٍ: أبو داود (2116) واللَّفظُ له، والنسائي (3358)، وأحمد (4276). صَحَّحه ابنُ القَيِّمِ في ((أعلام الموقعين)) (1/66)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2116)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (2/187)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (4276).
  14. (14) يُنظَر: ((الإحكام)) للآمدي (4/ 182).