المَسألةُ الثَّانيةُ: طُرُقُ التَّرجيحِ بَينَ الأقيِسةِ التي تَرجِعُ إلى العِلَّةِ
لمَّا كانتِ العِلَّةُ هيَ رُكنَ القياسِ الأعظَمِ كانت مَحَلَّ النَّظَرِ والِاعتِبارِ عِندَ تَعارُضِ الأقيِسةِ وكَثرةِ المُرَجِّحاتِ العائِدةِ إليها، ومِن هذه المُرَجِّحاتِ:
أوَّلًا: كَونُ العِلَّةِ في أحَدِ القياسَينِ مَظنونًا بها ظَنًّا أغلَبَ مِنَ الآخَرِإذا تَعارَضَ قياسانِ وكانتِ العِلَّة مَظنونًا وجودُها في أحَدِ القياسَينِ ظَنًّا أقوى مِنَ الآخَرِ، فإنَّه يُقدَّمُ على الظَّنِّ غَيرِ الأغلَبِ، وذلك بأن تَكونَ إحداهما مَردودةً إلى أصلٍ مُجمَعٍ عليه، والأخرى إلى أصلٍ مُختَلَفٍ فيه، أو تَكونَ إحداهما مُفسَّرةً، والأخرى مُجمَلةً
، ومِمَّن نَصَّ عليه: الغَزاليُّ
، وابنُ عَقيلٍ
، والآمِديُّ
، وابنُ الحاجِبِ
.
ومَثَّل الكَلْوَذانيُّ لكَونِ إحداهما مُفسَّرةً، والأخرى مُجمَلةً، قائِلًا: (كقياسِنا: في الأكلِ في رَمَضانَ أنَّه لا كَفَّارةَ فيه لأنَّه إفطارٌ بغَيرِ مُباشَرةٍ، فأشبَهَ إذا ابتَلَعَ الحَصاةَ: أَولى مِن قياسِهم: أفطَرَ بمُسَوِّغِ جِنسِه؛ لأنَّ المُفسَّرَ في الكِتابِ والسُّنَّةِ يُقدَّمُ على المُجمَلِ، وكذلك في المُستَنبَطِ مِنهما)
.
ثانيًا: كَونُ أصلِ إحدى العِلَّتَينِ قد نُصَّ على القياسِ عليه العِلَّةُ المَردودةُ إلى أصلٍ قاسَ الشَّارِعُ عليه: راجِحةٌ على غَيرِها، ومِمَّن نَصَّ عليه: الشِّيرازيُّ
، وابنُ عَقيلٍ
، والطُّوفيُّ
.
وذلك كَقياسِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الحَجَّ على دَينِ الآدَميِّ في حَديثِ الخَثْعَميَّةِ
، فلَو قال قائِلٌ: الحَجُّ عنِ المَعضوبِ لا يُجزِئُ بالقياسِ على الصَّلاةِ، لَقُلنا: القياسُ على ما قاسَ عليه الشَّارِعُ أَولى، لأنَّه أعلَمُ بالأحكامِ ومَصالِحها ومَفاسِدِها، ويَصيرُ القياسُ المُعارِضُ لقياسِ الشَّارِعِ كالقياسِ المُعارِضِ لنَصِّه، بَل هو مُعارِضٌ لنَصِّه حَقيقةً؛ لأنَّه نَصَّ على الحُكمِ، ثُمَّ أوضحَه بالقياسِ على أصلٍ واضِحٍ
؛ لأنَّه قال للخَثْعَميَّةِ:
((حُجِّي عن أبيك))
.
ثالِثًا: تَقديمُ العِلَّةِ المنصوصةِ على المُستَنبَطةِ إذا تَعارَضَ قياسانِ، وكانت عِلَّةُ أحَدِهما ثابِتةً بالنَّصِّ، والأخرى ثابِتةً بالِاستِنباطِ، فإنَّ التي تَثبُتُ عِلِّيَّتُها بالنَّصِّ تُقدَّمُ على التي ثَبَتَت عِلِّيَّتُها بالِاستِنباطِ؛ لأنَّ نَصَّ الشَّارِعِ أَولى مِنِ اجتِهادِ المُجتَهِدِ؛ لعِصمةِ النَّصِّ دونَ اجتِهادِ المُجتَهِدِ
، ومِمَّن نَصَّ عليه: إمامُ الحَرَمَينِ
، والشِّيرازيُّ
، وابنُ عَقيلٍ
.
ومِثالُها: تَعليلُ حُرمةِ بَيعِ الرُّطَبِ بالتَّمرِ بأنَّه جِنسٌ رِبَويٌّ بِيعَ بَعضُه ببَعضٍ على صِفةٍ يَتَفاضَلانِ في حالِ الكَمالِ والِادِّخارِ، فأشبَهَ الحِنطةَ بالدَّقيقِ؛ فإنَّ هذا القياسَ يُقدَّمُ على تَعليلِ مَن عَلَّل بوُجودِ التَّماثُلِ في الحالِ
؛ لأنَّ العِلَّةَ الأولى مَنصوصٌ عليها؛ فإنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَصَّ على مَعنى هذا التَّعليلِ في حَديثِ:
((أيَنقُصُ الرُّطَبُ إذا يَبِسَ؟))
؛ فكانت أَولى مِنَ المُستَنبَطةِ
.
رابِعًا: كَونُ مَسلَكِ العِلَّةِ نَصًّا قَطعيًّا في أحَدِ القياسَينِإذا تَعارَضَ قياسانِ، وكان مَسلَكُ العِلَّةِ في أحَدِهما نَصًّا قَطعيًّا، والآخَرِ نَصًّا ظاهرًا، أو إيماءً؛ فإنَّ القياسَ ذا المَسلَكِ القَطعيِّ يُقدَّمُ لكَونِ مَسلَكِه أقوى مِن مَسلَكِ القياسِ الثَّاني
، ومِمَّن نَصَّ عليه: الشِّيرازيُّ
، والرَّازيُّ
، والآمِديُّ
، وابنُ الحاجِبِ
، وابنُ السُّبكيِّ
، ومُحِبُّ الدِّينِ بنُ عبدِ الشَّكورِ
.
خامِسًا: كَونُ مَسلَكِ العِلَّةِ في أحَدِ القياسَينِ نَصًّا ظاهرًا وفي مُقابِلِه إيماءًإذا تَعارَضَ قياسانِ، وكان مَسلَكُ العِلَّةِ في أحَدِهما نَصًّا ظاهرًا، وفي الآخَرِ إيماءً، فإنَّه يُقدَّمُ ما كان مَسلَكُه مِنَ النَّصِّ الظَّاهرِ على ما كان مَسلَكُه مِنَ الإيماءِ، ومِمَّن نَصَّ عليه: الشِّيرازيُّ
، وأبو المُظَفَّرِ السَّمعانيُّ
، وابنُ السُّبكيِّ
؛ وذلك لأنَّ دَلالةَ النَّصِّ الظَّاهرِ على العِلَّةِ أقوى مِن دَلالةِ الإيماءِ، واحتِمالُه لغَيرِ العِلَّةِ أضعَفُ مِنه في الإيماءِ
.
سادِسًا: تَرجيحُ القياسِ المُعَلَّلِ بالوَصفِ الحَقيقيِّ على القياسِ المُعَلَّلِ بالوَصفِ غَيرِ الحَقيقيِّإذا تَعارَضَ قياسانِ، وكان أحَدُهما مُعَلَّلًا بوصفٍ حَقيقيٍّ، والآخَرُ مُعَلَّلًا بوصفٍ اعتِباريٍّ، أو حِكمةٍ مُجَرَّدةٍ أو وَصفٍ حُكميٍّ؛ فإنَّه يُرَجَّحُ المُعَلَّلُ بالوَصفِ الحَقيقيِّ
، ومِمَّن نَصَّ عليه: الرَّازيُّ
، والآمِديُّ
، وابنُ الحاجِبِ
، وابنُ السُّبكيِّ
.
فيُرَجَّحُ التَّعليلُ بالسَّفرِ الذي هو مَظِنَّةُ المَشَقَّةِ على التَّعليلِ بنَفسِ المَشَقَّةِ، ويُرَجَّحُ قياسُ المَنيِّ على الطِّينِ في الطَّهارةِ، بأن يُقالَ في المَنيِّ: مُبتَدَأُ خَلقِ بَشَرٍ فأشبَهَ الطِّينَ، فيُقدَّمُ على القَولِ بتَحريمِه؛ لأنَّه مانِعٌ سَبَبُه الغُسلُ، فأشبَهَ الحَيضَ
.
سابِعًا: تَقديمُ القياسِ المُعَلَّلِ بالوَصفِ الوُجوديِّ على المُعَلَّلِ بالوَصفِ العَدَميِّإذا تَعارَضَ قياسانِ، وكان أحَدُهما مُعَلَّلًا بوَصفٍ وُجوديٍّ، وآخَرُ مُعَلَّلًا بوَصفٍ عَدَميٍّ؛ فإنَّه يُقدَّمُ المُعَلَّلُ بالوَصفِ الوُجوديِّ على المُعَلَّلِ بالوَصفِ العَدَميِّ؛ لاتِّفاقِ الأصوليِّينَ على صِحَّةِ التَّعليلِ بالوُجوديِّ بخِلافِ العَدَميِّ
، ومِمَّن نَصَّ عليه: الرَّازيُّ
، والآمِديُّ
، وابنُ الحاجِبِ
، والزَّركَشيُّ
.
وذلك كالقَولِ في فاكِهةِ السَّفرجَلِ: مَطعومٌ، فكان رِبَويًّا كالبُرِّ؛ فإنَّه يُقدَّمُ على قَولِ مَن قال: ليس بمَكيلٍ ولا مَوزونٍ، فلا يَكونُ رِبَويًّا؛ لأنَّ الأوَّلَ -وهو كَونُه مَطعومًا- وصفٌ وُجوديٌّ، والثَّاني -وهو كَونُه ليس بمَكيلٍ ولا مَوزونٍ- وصفٌ عَدَميٌّ
.
قال الشُّوشاويُّ: (مِثالُه: اختِلافُهم في قَليلِ النَّبيذِ؛ قال مالِكٌ: شَرابٌ يُسكِرُ كَثيرُه فيَحرُمُ قَليلُه، أصلُه الخَمرُ. وقال أبو حَنيفةَ: شَرابٌ لا يُسكِرُ فلا يَحرُمُ، أصلُه اللَّبَنُ. فالوَصفُ الوُجوديُّ هو قَولُنا: يُسكِرُ، والحُكمُ الوُجوديُّ، هو قَولُنا: يَحرُمُ، والوَصفُ العَدَميُّ، هو قَولُنا: لا يُسكِرُ، والحُكمُ العَدَميُّ هو قَولُنا: فلا يَحرُمُ)
.
ثامِنًا: كَونُ العِلَّةِ في أحَدِ القياسَينِ مُنتَزَعةً مَن أصلَينِ وفي الآخَرِ مِن أصلٍ واحِدٍإذا تَعارَضَ قياسانِ أحَدُهما يَشهَدُ لعِلَّتِه أصلانِ، والآخَرُ لا يَشهَدُ لعِلَّتِه إلَّا أصلٌ واحِدٌ؛ فإنَّه يُقدَّمُ ما يَشهَدُ لعِلَّتِه أصلانِ
؛ لأنَّ كَثرةَ الأصولِ في المَعنى الذي صارَ الوَصفُ به حُجَّةً بمَنزِلةِ الِاشتِهارِ في المَعنى الذي صارَ الخَبَرُ به حُجَّةً
، وهو اختيارُ الدَّبُوسيِّ
، وأبي المُظَفَّرِ السَّمعانيِّ
، واختارَه الغَزاليُّ فيما إذا كان طَريقُ الِاستِنباطِ مُختَلِفًا
، وابنُ السُّبكيِّ
.
ومِثالُه: ما قاله الحَنَفيَّةُ في مَسحِ الرَّأسِ: إنَّه مَسحٌ، فلا يُسَنُّ تَكرارُه كَسائِر الممسوحاتِ
؛ فإنَّه أَولى مِن قَولِ الشَّافِعيِّ: إنَّه رُكنٌ، فيُسَنُّ تَكرارُه
كالغُسلِ، فيُرَجَّحُ رَأيُ الحَنَفيَّةِ؛ لأنَّه يَشهَدُ لتَأثيرِ المَسحِ في عَدَمِ التَّكرارِ أصولٌ، كمَسحِ الخُفِّ، والتَّيَمُّمِ، ومَسحِ الجَبيرةِ، ولا يَشهَدُ لتَأثيرِ الرُّكنِ في التَّكرارِ إلَّا أصلٌ واحِدٌ، وهو الغُسلُ
.
قال الغَزاليُّ: (مِثالُه: أنَّا إذا تَنازَعنا في أنَّ يَدَ السَّومِ لم توجِبِ الضَّمانَ، فقال الشَّافِعيُّ رَحِمَه اللهُ: عِلَّتُه أنَّه أخَذَ لغَرَضِ نَفسِه مِن غَيرِ استِحقاقٍ، وعَداه إلى المُستَعيرِ.
وقال الخَصمُ: بَل عِلَّتُه أنَّه أخَذَ ليَتَمَلَّكَ، فيَشهَدُ للشَّافِعيِّ في عِلَّتِه -رَحِمَه اللهُ- يَدُ الغاصِبِ ويَدُ المُستَعيرِ مِنَ الغاصِبِ، ولا يَشهَدُ لأبي حَنيفةَ -رَحِمَه اللهُ- إلَّا يَدُ الرَّهنِ، فلا يَبعُدُ أن يَغلِبَ رُجحانُ عِلَّةِ الشَّافِعيِّ عِندَ مُجتَهِدٍ، ويَكونَ كُلُّ أصلٍ كَأنَّه شاهِدٌ آخَرُ، وكذلك الرِّبا إذا عُلِّلَ بالطُّعمِ، يَشهَدُ له المِلحُ أيضًا، وإن عُلِّل بالقُوتِ لم يَشهَدْ له، فلا يَبعُدُ أن يَكونَ ذلك مِنَ التَّرجيحاتِ)
.