المَسألةُ الأولى: طُرُقُ التَّرجيحِ بَينَ الأقيِسةِ التي تَرجِعُ إلى الأصلِ
الأصلُ هو الصُّورةُ المَقيسُ عليها المَنصوصُ على حُكمِها، كالخَمرِ في قياسِ النَّبيذِ على الخَمرِ في الحُرمةِ، بجامِعِ الإسكارِ في كُلٍّ
.
وإذا تَعارَضَتِ الأقيِسةُ فهناكَ مُرَجِّحاتٌ تَرجِعُ إلى الأصلِ المَنصوصِ عليه، تُغَلِّبُ على الظَّنِّ تَرجيحَ قياسٍ على آخَرَ، مِن أهَمِّها:
أوَّلًا: قَطعيَّةُ حُكمِ الأصلِإذا تَعارَضَ قياسانِ، وكان حُكمُ أصلِ أحَدِهما مَقطوعًا به، والآخَرِ مَظنونًا، فإنَّه يُقدَّمُ القياسُ الذي حُكمُه قَطعيٌّ، ومِمَّن نَصَّ عليه: ابنُ عَقيلٍ
، والآمِديُّ
، والطُّوفيُّ
؛ وذلك لأنَّ ما كان حُكمُ أصلِه ظَنِّيًّا يَتَطَرَّقُ إليه احتِمالٌ لا يَتَطَرَّقُ إلى القَطعيِّ
.
ومِثالُه: ما ورَدَ مِنِ اختِلافِ الفُقَهاءِ في لِعانِ الأخرَسِ؛ حَيثُ قاسَه الجُمهورُ
على اليَمينِ، وقالوا: ما صَحَّ مِنَ النَّاطِقِ صَحَّ مِنَ الأخرَسِ إذا فُهِمَت إشارَتُه
كاليَمينِ، وذَهَبَ الحَنَفيَّةُ
إلى عَدَمِ صِحَّةِ لِعانِ الأخرَسِ؛ لأنَّه مَعنًى يَفتَقِرُ إلى لَفظِ الشَّهادةِ، فلا يَصحُّ مِنَ الأخرَسِ كالشَّهادةِ. فقاسوه على الشَّهادةِ، والقياسُ الأوَّلُ أرجَحُ مِنَ القياسِ على شَهادَتِه؛ لأنَّ اليَمينَ تَصِحُّ مِنَ الأخرَسِ بالإجماعِ، والإجماعُ قَطعيٌّ، وأمَّا جَوازُ شَهادَتِه ففيه خِلافٌ بَينَ الفُقَهاءِ
.
ثانيًا: التَّرجيحُ بموافقةِ الأصلِ سَنَنَ القياسِ
إذا تَعارَضَ قياسانِ، وكان أحَدُهما حُكمُه جارٍ على وَفقِ القياسِ ومُقتَضى القَواعِدِ الكُلِّيَّةِ باتِّفاقٍ، وحُكمُ الآخَرِ مُختَلِفٌ في كَونِ أصلِه جاريًا وَفقَ سَنَنِ القياسِ؛ فإنَّه يُقدَّمُ القياسُ الأوَّلُ على الثَّاني، ومِمَّن نَصَّ عليه: الشِّيرازيُّ
، والآمِديُّ
، والبِرْماويُّ
؛ وذلك لأنَّ المُتَّفَقَ عليه أقوى مِنَ المُختَلَفِ فيه، ولأنَّ المُختَلِفَ في جَرَيانِه على سَنَنِ القياسِ لو تَحَقَّقَ عُدولُه عنه فإنَّه لا يَكونُ قياسًا؛ لفَقدِه شَرطًا مِن شُروطِ القياسِ، فالخارِجُ عنِ القياسِ لا يُقاسُ عليه، وأيضًا يُقدَّمُ ما كان أصلُه مِن جِنسِ الفَرعِ المُتَنازَعِ فيه على ما ليس كذلك؛ لأنَّ الجِنسَ بالجِنسِ أَولى
.
ومِثالُه: قياسُ ما دونَ أَرْشِ
المُوضِحةِ
على المُوضِحةِ في تَحَمُّلِ العاقِلةِ
له، وهو أَولى مِن قياسِه ذلك على غَراماتِ الأموالِ في إسقاطِ التَّحَمُّلِ عنِ العاقِلةِ، وإلزامِ الجاني به، وإنَّما ترَجَّح قياسُه على الموضِحةِ؛ لأنَّ الموضِحةَ مِن جِنسِ ما اختُلِف فيه، فكان على سَنَنِه؛ لاشتِراكِ الأصلِ والفرعِ في كَونِ كُلٍّ مِنهما جِنايةً على البَدَنِ، بخِلافِ القياسِ الثَّاني؛ فإنَّ الأصلَ فيه جِنايةٌ على الأموالِ، فيُقدَّمُ الأوَّلُ؛ لأنَّ الجِنسَ بالجِنسِ أشبَهُ، كما يُقالُ: قياسُ الطَّهارةِ على الطَّهارةِ أَولى مِن قياسِها على سَترِ العَورةِ
.
ثالِثًا: كَونُ الأصلِ مُعَلَّلًا بالِاتِّفاقِ في أحَدِ القياسَينِ مَعَ الِاختِلافِ عليه في القياسِ المُقابِلِإذا تَعارَضَ قياسانِ، وكان الأصلُ في أحَدِهما مُعَلَّلًا بالِاتِّفاقِ، فإنَّه يُقدَّمُ على القياسِ الآخَرِ المُختَلَفِ في كَونِ أصلِه مُعَلَّلًا، ومِمَّن نَصَّ عليه: الآمِديُّ
، وابنُ السُّبكيِّ
؛ وذلك لأنَّ المُتَّفَقَ على تَعليلِ أصلِه أقرَبُ إلى العُقولِ، وأبعَدُ عنِ الِالتِباسِ والخِلافِ مِنَ المُختَلَفِ في كَونِه مُعَلَّلًا
.
ومِثالُه: ما لو قيلَ: يَنبَغي إزالةُ النَّجاسةِ عنِ المَكانِ قياسًا على إزالَتِها عن بَدَنِ الإنسانِ، وقال الآخَرُ: يَنبَغي إزالةُ النَّجاسةِ عنِ المَكانِ قياسًا على غَسلِ الإناءِ الذي ولَغَ فيه الكَلبُ؛ فإنَّ القياسَ الأوَّلَ أَولى؛ لأنَّ الأوَّلَ -وهو إزالَتُها عن بَدَنِ الإنسانِ- مُتَّفَقٌ على تَعليلِه، بخِلافِ الثَّاني، وهو الغَسلُ مِن وُلوغِ الكَلبِ؛ فإنَّه مُختَلَفٌ فيه؛ حَيثُ ذَهَبَ مالِكٌ إلى أنَّه تَعَبُّديٌّ
، والمُتَّفَقُ على تَعليلِه أَولى مِنَ المُختَلَفِ في تَعليلِه
.
رابِعًا: بَقاءُ حُكمِ الأصلِ في أحَدِ القياسَينِ بالِاتِّفاقِ والِاختِلافِ في نَسخِه في القياسِ المُقابِلِإذا تَعارَضَ قياسانِ، وكان الأصلُ في أحَدِهما مُتَّفَقًا على بَقاءِ حُكمِه وعَدَمِ نَسخِه، والآخَرُ اختُلِف في نَسخِ حُكمِ أصلِه؛ فإنَّ المُتَّفَقَ على حُكمِ أصلِه يُقدَّمُ على القياسِ المُقابِلِ المُختَلَفِ في نَسخِ حُكمِ أصلِه، ومِمَّن نَصَّ عليه: الغَزاليُّ
، والآمِديُّ
، وابنُ الحاجِبِ
؛ وذلك لأنَّ المُتَّفَقَ عليه أقوى لسَلامَتِه عنِ احتِمالِ تَطَرُّقِ الخَلَلِ إليه؛ لأنَّ مِن شَرطِ صِحَّةِ القياسِ بَقاءَ حُكمِ الأصلِ، فإذا اختُلِف في نَسخِه فقدِ احتَمَلَ بَقاؤه وعَدَمُه، فيَتَطَرَّقُ الخَلَلُ إليه حينَئِذٍ، فيُقدَّمُ المُتَّفَقُ عليه لسَلامَتِه حينَئِذٍ عن تَطَرُّقِ الخَلَلِ إليه
.
خامِسًا: قوَّةُ دَليلِ المُثبِتِ إذا تَعارَضَ قياسانِ، وكان الدَّليلُ المُثبِتُ لأحَدِهما أقوى مِنَ الآخَرِ، فإنَّه يُرَجَّحُ على مُقابِلِه الذي ليس كذلك، فيُقدَّمُ ما ظَنَّه أغلَبَ على غَيرِه تَقديمًا لِما كان دَليلُه أقوى؛ لأنَّ الظَّنَّ فيه أغلَبُ
، فإذا كان أصلُ أحَدِهما مَنصوصًا عليه، وأصلُ الآخَرِ ثَبَتَ بالتَّنبيهِ أو بالعُمومِ أو بدَليلِ الخِطابِ المَنصوصِ عليه، فيكونُ المقطوعُ به والمنصوصُ عليه أَولى؛ لأنَّه أقوى، والفَرعُ يَقوى لقوَّةِ أصلِه
، ومِمَّن نَصَّ عليه: أبو الخَطَّابِ الكَلْوَذانيُّ
، والآمِديُّ
، وابنُ الحاجِبِ
، وابنُ السُّبكيِّ
، والبِرْماويُّ
.