المَطلَبُ الخامِسَ عَشَرَ: نَسخُ الحُكمِ إلى غَيرِ بَدَلٍ
اختَلَف الأصوليُّونَ في هذه المَسألةِ:
فقيلَ: يَجوزُ النَّسخُ إلى غَيرِ بَدَلٍ، أي: لا يُشتَرَطُ أن يَكونَ النَّسخُ إلى بَدَلٍ. وهو قَولُ جُمهورِ الأصوليِّينَ
، ومِنهم أبو يَعلى
، والآمِديُّ
.
الأدِلَّةُ:أوَّلًا: الوُقوعُ:
فإنَّ نَسخَ الحُكمِ إلى غَيرِ بَدَلٍ قد وقَعَ؛ حَيثُ إنَّ كَثيرًا مِنَ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ نُسِخَت إلى غَيرِ بَدَلٍ، ولَو كان مُستَحيلًا لم يَرِدِ الشَّرعُ به، والوُقوعُ دَليلُ الجَوازِ
.
قال الآمِديُّ: (والوُقوعُ في الشَّرعِ أدَلُّ الدَّلائِلِ على الجَوازِ الشَّرعيِّ)
.
ومِنَ الأمثِلةِ على ذلك:1- تَقديمُ الصَّدَقةِ بَينَ يَدَي مُناجاةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فقد كان واجِبًا لقَولِ اللهِ تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً [المجادلة: 12] ، ثُمَّ نُسِخَ ذلك بقَولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ:
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 13] ، وكان هذا النَّسخُ إلى غَيرِ بَدَلٍ
.
2- أنَّ اللَّهَ تعالى أوجَبَ على الصَّائِمِ في أوَّلِ الإسلامِ أن يُمسِكَ بَعدَ الفِطرِ مِن أوَّلِ اللَّيلِ، فلَو نامَ قَبلَ الفِطرِ ثُمَّ استَيقَظَ لَيلًا حَرُمَ عليه الطَّعامُ والشَّرابُ، ثُمَّ نُسِخَ تَحريمُ الأكلِ والشُّربِ في اللَّيلِ، وكان هذا النَّسخُ إلى غَيرِ بَدَلٍ
.
ثانيًا: أنَّ إثباتَ البَدَلِ تَكليفٌ مِنَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، ولا يَجِبُ على اللهِ أن يُكَلِّفَ عِبادَه، وكما يَجوزُ أن يُنسَخَ البَعضُ فيَجوزُ أن يُنسَخَ الجَميعُ
.
وقيلَ: يُشتَرَطُ أن يَكونَ النَّسخُ إلى بَدَلٍ. وهو قَولُ بَعضِ الظَّاهريَّةِ
، واختارَه مُحَمَّد الأمينُ الشِّنقيطيُّ
.
وذلك لأنَّ اللَّهَ جَلَّ وعَلا صَرَّح به في كِتابِه في قَولِه تعالى:
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة: 106] ؛ فقد رَبَطَ بَينَ نَسخِها وبَينَ الإتيانِ بخَيرٍ مِنها أو مِثلِها بأداةِ الشَّرطِ رَبطَ الجَزاءِ بشَرطِه، ومَعلومٌ عِندَ المُحَقِّقينَ أنَّ الشَّرطيَّةَ إنَّما يَتَوارَدُ فيها الصِّدقُ والكَذِبُ على نَفسِ الرَّبطِ، وهذا الرَّبطُ الذي صَرَّحَ اللهُ به بَينَ هذا الشَّرطِ والجَزاءِ في هذه الآيةِ لا يُمكِنُ تَخَلُّفُه بحالٍ
.
وقيلَ: لا يَجوزُ النَّسخُ إلى غَيرِ بَدَلٍ في العِباداتِ خاصَّةً
.
وظاهِرُ نَصِّ الشَّافِعيِّ أنَّه لا يَجوزُ النَّسخُ إلى غَيرِ بَدَلٍ؛ حَيثُ قال: (ولَيسَ يُنسَخُ فرضٌ أبَدًا إلَّا أُثبِتَ مَكانَه فرضٌ، كما نُسِخَت قِبلةُ بَيتِ المَقدِسِ، فأُثبِت مَكانَها الكَعبةُ، وكُلُّ مَنسوخٍ في كِتابٍ وسُنَّةٍ هَكَذا)
.
وقدِ اختَلَف الأصوليُّونَ في بَيانِ مَذهَبِ الشَّافِعيِّ في المَسألةِ، فقال الإسْنَويُّ: (ذَهَبَ الشَّافِعيُّ إلى أنَّ النَّسخَ لا بُدَّ له مِن بَدَلٍ)
.
وأوَّلَ أبو بَكرٍ الصَّيرَفيُّ وأبو إسحاقَ المَروَزيُّ كَلامَ الشَّافِعيِّ على أنَّه يُشتَرَطُ البَدَلُ بمَعناه العامِّ الذي هو الرَّدُّ إلى الإباحةِ الأصليَّةِ، أو ما كان عليه الأمرُ قَبلَ وُرودِ الحُكمِ المَنسوخِ.
قال تاجُ الدِّينِ السُّبكيُّ: (ظاهِرُ هذه العِبارةِ أنَّه لا يَقَعُ النَّسخُ إلَّا ببَدَلٍ، وليس ذلك مُرادَه، بَل هو موافِقٌ للجَماهيرِ على أنَّ النَّسخَ قد يَقَعُ بلا بَدَلٍ، وإنَّما أرادَ الشَّافِعيُّ بهذه العِبارةِ -كما نَبَّهَ عليه أبو بَكرٍ الصَّيرَفيُّ في "شَرحِ الرِّسالةِ"- أنَّه يُنقَلُ مِن حَظرٍ إلى إباحةٍ، أو إباحةٍ إلى حَظرٍ أو تَخييرٍ، على حَسَبِ أحوالِ الفُروضِ. قال: ومَثَلُ ذلك مَثَلُ المُناجاةِ، كان يُناجى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بلا تَقديمِ صَدَقةٍ، ثُمَّ فرَضَ اللَّهُ تَقديمَ الصَّدَقةِ، ثُمَّ أزالَ ذلك فرَدَّهم إلى ما كانوا عليه، فإن شاؤوا تَقَرَّبوا بالصَّدَقةِ إلى اللهِ، وإن شاؤوا ناجَوا مِن غَيرِ صَدَقةٍ. قال: فهذا مَعنى قَولِ الشَّافِعيِّ: "فَرضٌ مَكانَ فَرضٍ" فتَفهَّمْه. انتَهى، وهذا لا يُخالِفُه فيه الأصوليُّونَ؛ فإنَّهم يَقولونَ: إذا نُسِخَ الأمرُ بقَولِه: رَفعتُ الوُجوبَ أوِ التَّحريمَ مَثَلًا، عادَ الأمرُ إلى ما كان عليه، وهو حُكمٌ أيضًا)
.
وقد رَجَّحَ الشَّوكانيُّ تَأويلَ الصَّيرَفيِّ والمَروَزيِّ، فقال: (وهذا الحَملُ هو الذي يَنبَغي تَفسيرُ كَلامِ الشَّافِعيِّ به؛ فإنَّ مِثلَه لا يَخفى عليه وُقوعُ النَّسخِ في هذه الشَّريعةِ بلا بَدَلٍ)
.
والخِلافُ في هذه المَسألةِ يَرجِعُ إلى اللَّفظِ دونَ الحَقيقةِ، تَبَعًا لاختِلافِهم في تَسميةِ الحُكمِ المُنتَقَلِ إليه بَدَلًا إذا كان رُجوعًا ورَدًّا إلى الحُكمِ السَّابِقِ الذي كانوا عليه، فمَن يُسَمِّيه بَدَلًا يَمنَعُ النَّسخَ إلى غَيرِ بَدَلٍ، ومَن لم يُسَمِّه بَدَلًا يُجَوِّزُ النَّسخَ إلى غَيرِ بَدَلٍ.
فعِندَ جُمهورِ الأصوليِّينَ -القائِلينَ بجَوازِ النَّسخِ إلى غَيرِ بَدَلٍ- لا يُسَمَّى هذا بَدَلًا؛ إذِ البَدَلُ عِندَهم خاصٌّ بما هو حُكمٌ شَرعيٌّ آخَرُ ضِدَّ المَنسوخِ، كاستِقبالِ الكَعبةِ بَدَلًا مِن بَيتِ المَقدِسِ، فهو تَكليفٌ جَديدٌ يَقتَضيه الخِطابُ النَّاسِخُ، وليس هو مُجَرَّدَ رَفعِ الحُكمِ المَنسوخِ والرَّدِّ إلى الإباحةِ الأصليَّةِ أو إلى ما كانوا عليه قَبلَ وُرودِ الحُكمِ المَنسوخِ -كَما في المُناجاةِ-؛ فلَيسَ هذا بَدَلًا عِندَهم.
أمَّا الذينَ يَمنَعونَ النَّسخَ إلى غَيرِ بَدَلٍ، فالبَدَلُ عِندَهم يَشمَلُ ما هو حُكمٌ شَرعيٌّ آخَرُ ضِدَّ المَنسوخِ بالإضافةِ إلى الرَّدِّ إلى الإباحةِ الأصليَّةِ أو إلى ما كانوا عليه قَبلَ شَرعِ المَنسوخِ؛ فكِلاهما يُسَمَّى عِندَهم بَدَلًا
.
فالجَميعُ مُتَّفِقٌ على أنَّ اللَّهَ سُبحانَه وتعالى إذا نَسَخَ حُكمًا عَوَّضَ المُؤمِنينَ عنه بحُكمٍ آخَرَ هو خَيرٌ مِنَ الحُكمِ المَنسوخِ أو مِثلُه، فلا يَترُكُهم هَمَلًا بلا حُكمٍ
.