الفرعُ الثَّامِنُ: حُكمُ التَّخصيصِ بالعادةِ
العادةُ: هيَ ما استَمَرَّ النَّاسُ عليه، وعادوا إليه مَرَّةً بَعدَ أُخرى
.
ومَعنى تَخصيصِ العُمومِ بالعادةِ: قَصرُه على العَمَلِ المُعتادِ الكَثيرِ المَنفعةِ، وكَذا قَصرُه على الأعيانِ التي كان الفِعلُ مُعتادًا فيها زَمَنَ التَّكَلُّمِ
.
والعادةُ المَقصودةُ هنا هيَ العادةُ الحاضِرةُ في وقتِ الخِطابِ، بأن تَكونَ مُقارِنةً لزَمَنِ التَّلَفُّظِ حتَّى تُجعَلَ كالمَلفوظِ بها، وأمَّا العادةُ الطَّارِئةُ بَعدَ الخِطابِ العامِّ فلا عِبرةَ بها فيما تَقَدَّمها، أي: لا يُخَصَّصُ بها العُمومُ، ولا يُقَيَّدُ بها المُطلَقُ، ولا تَأثيرَ لها أصلًا، ولا يُنَزَّلُ اللَّفظُ السَّابِقُ عليها قَطعًا
.
وكَونُ العادةِ مُخَصِّصةً للعامِّ يَحتَمِلُ وَجهَينِ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أن يَكونَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد أوجَبَ أو حَرَّمَ أشياءَ بلَفظٍ عامٍّ، ثُمَّ رَأينا العادةَ جاريةً بتَركِ بَعضِها، أو بفِعلِ بَعضِها، فهَل تُؤَثِّرُ تلك العادةُ في تَخصيصِ ذلك العامِّ حتَّى يُقالَ: المُرادُ مِن ذلك العامِّ ما عَدا ذلك البَعضَ الذي جَرَتِ العادةُ بتَركِه أو بفِعلِه، أم لا تُؤَثِّرُ في ذلك، بَل هو باقٍ على عُمومِه مُتَناوِلٌ لذلك الفِعلِ ولغَيرِه؟
وفي هذا تَفصيلٌ:
أوَّلًا: إن عُلِمَ أنَّ العادةَ كانت واقِعةً في عَصرِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَعَ عِلمِه بها، وعَدَمِ مَنعِهم منها، كانت مُخَصِّصةً، لَكِنَّ المُخَصِّصَ في الحَقيقةِ هو تَقريرُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا العادةُ.
ثانيًا: إن عُلِمَ أنَّها ما كانت واقِعةً في عَصرِه، أو ما عَلِمَ بها، أو كان يَمنَعُهم مِن ذلك، أو لَم يَثبُتْ شَيءٌ مِن ذلك لَم يَجُزِ التَّخصيصُ بها؛ لأنَّ أفعالَ النَّاسِ لَيسَت بحُجَّةٍ على الشَّرعِ.
ثالِثًا: إذا فُرِضَتِ العادةُ بحَيثُ تَكونُ مُجمَعًا عليها بأن يَستَمِرَّ عليها كُلٌّ واحِدٍ مِنَ العُلَماءِ وغَيرِهم، كانت مُخَصِّصةً، لَكِنَّ المُخَصِّصَ في الحَقيقةِ هو الإجماعُ لا العادةُ.
الوَجهُ الثَّاني: أن تَكونَ العادةُ جاريةً بفِعلٍ مُعَيَّنٍ، كَأكلِ طَعامٍ مُعَيَّنٍ مثلًا، ثُمَّ إنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهاهم عنه بلَفظٍ عامٍّ يَتَناولُ ذلك الطَّعامَ وغَيرَه، فهَل يَكونُ النَّهيُ مُقتَصِرًا على أكلِ ذلك الطَّعامِ فقَط، أم يَجري على عُمومِه ولا تَأثيرَ للعادةِ في ذلك
؟
اختَلَف الأُصوليُّونَ في هذه المَسألةِ، والرَّاجِحُ: أنَّه لا يَجوزُ تَخصيصُ العُمومِ بالعُرفِ والعادةِ
، وهو مَذهَبُ الشَّافِعيَّةِ
، والحَنابِلةِ
، وهو مَذهَبُ جُمهورِ الأُصوليِّينَ
. وقال ابنُ عَقيلٍ: (ما رَأيتُ في ذلك خِلافًا فأحكيَهـ)
.
وقال إمامُ الحَرَمَينِ: (لا يَتَخَصَّصُ لَفظُ الشَّارِعِ بالعُرفِ على مَذهَبِ المُحَقِّقينَ في الأُصولِ)
.
ومِثالُه: وُرودُ تَحريمِ البَيعِ مُطلَقًا، وعادَتُهم جاريةٌ بنَوعٍ مِنه، كقَولِ اللهِ تعالى العامِّ:
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة: 188] ، وقد جَرَت عادَتُهم بأكلِ نَوعٍ مِنه؛ فإنَّه لا يُعدَلُ عن عُمومِ اللَّفظِ بإخراجِ ما جَرَت به عادَتُهم
.
الأدِلَّةُ:1- أنَّ الحُكمَ يَتَعَلَّقُ باللَّفظِ، واللَّفظُ عامٌّ، ولَم يوجَدْ له مَعارِضٌ؛ إذِ العادةُ لَيسَت بحُجَّةٍ حتَّى تَكونَ مُعارِضةً له، فوجَبَ الجَريُ على موجِبِه، والقَضاءُ به على جَميعِ ما يَصِحُّ أن يُعَبَّرَ به عنه، اعتِبارًا بالعُمومِ
.
2- أنَّ العُمومَ نُطقُ الشَّارِعِ، ونُطقُه لا يُخَصُّ إلَّا بنُطقِه أو ما يُستخرَجُ مِن نُطقِه، كالفحوى، ودَليلِ الخِطابِ، ومَعنى الخِطابِ، فأمَّا العادةُ فلَيسَت إلَّا وضْعَ الشَّهَواتِ أوِ الاختياراتِ أوِ الحاجاتِ التي لا يَجوزُ أن تَكونَ شَرعًا، فكَيف تخصُّ شَرعًا
؟
3- أنَّ الشَّريعةَ جاءَت بتَغييرِ العَوائِدِ وحَسمِ مَوادِّها، فلا يَجوزُ أن يَكونَ ما ورَدَتِ الشَّريعةُ قاضيةً عليه، قاضيًا عليها، ومزيلًا لعُمومِها
.
4- أنَّ الخِطابَ إنَّما يَقَعُ بلِسانِ العَرَبِ على حَقيقةِ لُغَتِها، فلَو خَصَصناه بالعادةِ لَلَزِمَ تَناوُلُه بَعضَ ما وُضِعَ له، وحَقُّ الكَلامِ العُمومُ، ولَسنا نَدري: هَل أرادَ اللَّهُ ذلك أم لا؟ فالحُكمُ للِاسمِ حتَّى يَأتيَ دَليلٌ يَدُلُّ على التَّخصيصِ
.
وقيلَ: يَجوزُ تَخصيصُ العُمومِ بالعُرفِ والعادةِ. وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ
، والمالِكيَّةِ
.
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:يَتَخَرَّجُ على هذه المَسألةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، ومِنها:
جِنسُ الشَّاةِ التي يُخرِجُها عنِ الخَمسِ مِنَ الإبِلِ فزائِدًا إلى الخَمسِ والعِشرينَ:
فالواجِبُ إخراجُ شاةٍ مِن أيِّ نَوعٍ كان: جَذَعةً مِنَ الضَّأنِ، أو ثَنيَّةً مِنَ المَعزِ، ولا نَظَرَ إلى غَنَمِ البَلَدِ، وتَوجيهُه: أنَّ الشَّاةَ أوجِبَت مُطلَقةً في الذِّمَّةِ، فاعتُبِرَ اسمُ الشَّاةِ، والشَّاةُ الشَّرعيَّةُ جَذَعةٌ مِنَ الضَّأنِ، أو ثَنيَّةٌ مِنَ المَعزِ، ولا يَتَخَصَّصُ لَفظُ الشَّارِعِ بالعُرفِ على مَذهَبِ المُحَقِّقينَ في الأُصولِ، وشُبِّه لَفظُ الشَّاةِ في ذلك بلَفظِ الشَّاةِ في الضَّحيَّةِ؛ فإنَّها تُجزِئُ، ولا يُعتَبَرُ ما يَغلِبُ في البَلدةِ، حتَّى لَو كان غالِبُ غَنَمِ البَلدةِ الضَّأنَ، فضَحَّى بثَنيَّةٍ مِنَ المَعزِ، أجزَأَت.
وقيلَ: يُخرِجُ الشَّاةَ مِنَ الشِّياهِ الغالِبةِ في البَلَدِ؛ فإنَّ مَن عليه العُشرُ وزَكاةُ الفِطرِ، يُعتَبَرُ في العُشرِ جِنسُ المُعَشَّرِ، وفي زَكاةِ الفِطرِ القوتُ الغالِبُ في البَلَدِ، فكذلك إذا كان يُخرِجُ شاةً مِن خَمسٍ مِنَ الإبِلِ، فالِاعتِبارُ بالغَنَمِ الغالِبةِ في البَلَدِ
.