الفرعُ السَّابِعُ: حُكمُ التَّخصيص بقَولِ الصَّحابيِّ
المُرادُ بقَولِ الصَّحابيِّ: هو مَذهَبُ الصَّحابيِّ في المَسألةِ الفِقهيَّةِ الاجتِهاديَّةِ، سَواءٌ أكان ما نُقِلَ عنِ الصَّحابيِّ قولًا أم فعلًا
.
والمُرادُ بالتَّخصيصِ بقَولِه: أن يَكونَ الخَبَرُ عامًّا فيَخُصُّه الصَّحابيُّ بأحَدِ أفرادِه، سَواءٌ كان هو الرَّاويَ لذلك الحَديثِ أو لَم يَكُنْ هو الرَّاويَ له
.
فعن سَعيدِ بنِ المُسَيِّبِ عن مَعمَرِ بنِ عَبدِ اللَّهِ بنِ نَضلةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لا يَحتَكِرُ إلَّا خاطِئٌ)). فقيلَ لسَعيدٍ: فإنَّك تَحتَكِرُ! فقال: إنَّ مَعمَرًا الذي كان يُحَدِّثُ هذا الحَديثَ كان يَحتَكِرُ
! فقيلَ: (كانا يَحتَكِرانِ الزَّيتَ، وحَمَلا الحَديثَ على احتِكارِ القوتِ عِندَ الحاجةِ إليه والغَلاءِ)
.
وقدِ اختَلَف الأُصوليُّونَ في قَولِ الصَّحابيِّ وفِعلِه ومَذهَبِه هَل يُخَصِّصُ العُمومَ؟
فقيلَ: إنَّ مَذهَبَ الصَّحابيِّ إذا كان على خِلافِ ظاهرِ العُمومِ فإنَّه لا يَكونُ مُخَصِّصًا له، سَواءٌ كان هو الرَّاويَ للخَبَرِ العامِّ أو لَم يَكُنْ، وهو مَذهَبُ مالِكٍ
، والشَّافِعيِّ في القَولِ الجَديدِ
، وهو مَذهَبُ جُمهورِ المالِكيَّةِ
، وجُمهورِ الشَّافِعيَّةِ
، وجُمهورِ الفُقَهاءِ والأُصوليِّينَ
، وصَحَّحه الباقِلَّانيُّ
.
وذلك لأنَّ العامَّ إذا ثَبَتَ فهو دَليلٌ ظاهرٌ فيما اقتَضاه مِنَ التَّعميمِ، ولَم يوجَدْ له ما يَصلُحُ أن يَكونَ مُعارِضًا له سِوى قَولِ الصَّحابيِّ أو فِعلِه، وهو غَيرُ صالِحٍ لمُعارَضَتِه؛ حَيثُ إنَّه غَيرُ مُستَنِدٍ إلى نَصٍّ يَدُلُّ على أنَّ المُرادَ بذلك العامِّ هو الخاصُّ، وعليه فلا يَقوى قَولُ الصَّحابيِّ ومَذهَبُه على تَخصيصِ العامِّ
.
وقيلَ: يَجوزُ تَخصيصُ العُمومِ بقَولِ الصَّحابيِّ ومَذهَبِه إذا انتَشَرَ ولَم يَظهَرْ خِلافُه، وهو مَنقولٌ عنِ الشَّافِعيِّ
، ورِوايةٌ عن أحمَدَ
، وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ
، وبَعضِ المالِكيَّةِ
، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ
كأبي حامِدٍ الإسْفِرايِينيّ
، والشِّيرازيِّ
، وأكثَرِ الحَنابِلةِ
كأبي يَعلى
، والكَلْوَذانيِّ
، وابنِ عَقيلٍ
، ونَقله الآمِديُّ عن جَماعةٍ مِنَ الفُقَهاءِ
.
وذلك لأنَّ قَولَ الصَّحابيِّ حُجَّةٌ يُقدَّمُ على القياسِ، وقد تَقدَّمَ أنَّ تَخصيصَ العُمومِ بالقياسِ جائِزٌ، فقَولُ الصَّحابيِّ المُقدَّمُ عليه أَولى أن يُخَصَّصَ به
.
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:يَتَخَرَّجُ على هذه المَسألةِ بَعضُ الفُروعِ، منها:
حَديثُ عَبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((مَن بَدَّلَ دينَه فاقتُلوهـ))
؛ فإنَّ لَفظَ "مَن" عامٌّ يَشمَلُ المُذَكَّرَ والمُؤَنَّثَ عِندَ جُمهورِ العُلَماءِ، وقد رُويَ عن عَبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّه قال في النِّساءِ إذا ارتَدَدنَ عنِ الإسلامِ: (النِّساءُ إذا هنَّ ارتَدَدنَ لا يُقتَلْنَ، ولَكِنْ يُحبَسْنَ ويُدْعَينَ إلى الإسلامِ ويُجبَرْنَ عليهـ)
، فخَصَّ الحَديثَ بالرِّجالِ. فهَل يُخَصَّصُ عُمومُ الحَديثِ بمَذهَبِه أو لا؟
فعلى المَذهَبِ الرَّاجِحِ: لا يُخَصَّصُ عُمومُ الحَديثِ بقَولِ ومَذهَبِ ابنِ عَبَّاسٍ، وعليه: تُقتَلُ المَرأةُ إذا ارتَدَّت.
وعلى المَذهَبِ الثَّاني: يُخَصَّصُ ذلك العُمومُ بقَولِ ابنِ عَبَّاسٍ، وعلى ذلك: لا تُقتَلُ المَرأةُ إذا ارتَدَّت
.