المَطلَبُ العِشرونَ: تَخصيصُ العامِّ إلى ألَّا يَبقى منه إلَّا واحِدٌ
إذا قال اللهُ تعالى مَثَلًا: فاقتُلوا المُشرِكينَ، فهَل يَجوزُ أن يُخَصَّ هذا الأمرُ حتَّى لا يبقى مَأمورٌ بقَتلِه إلَّا مُشرِكٌ واحِدٌ، أو يُشتَرَطُ أن يَبقى ثَلاثةٌ، أو ما يُقارِبُ المُشرِكينَ المَأمورَ بقَتلِهم في الكَثرةِ
؟
وهذه المَسألةُ تَنبَني على القَولِ بالعُمومِ وتَخصيصِه.
فالعامُّ إمَّا أن يَكونَ عُمومُه مُرادًا تناوُلًا لا حُكمًا، وهو ما يُسَمَّى بالعامِّ المَخصوصِ.
وإمَّا أن يَكونَ عُمومُه غَيرَ مُرادٍ تناوُلًا ولا حُكمًا، وهو العامُّ المُرادُ به الخُصوصُ، وهذا كُلِّيٌّ -مِن حَيثُ إنَّ له أفرادًا بحَسَبِ الأصلِ-، استُعمِلَ في جُزئيِّ أيِّ فَردٍ منها؛ ولذلك كان مَجازًا.
مِثالُ ذلك: قَولُ اللهِ تعالى:
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ [آل عمران: 173] ، والمُرادُ: بَعضُ النَّاسِ لا كُلُّهم.
وهذا العامُّ الذي أُريدَ به الخُصوصُ لا يَدخُلُ تَحتَ الخِلافِ في هذه المَسألةِ؛ لأنَّه لا عُمومَ فيه، لا بحَسَبِ التَّناوُلِ، ولا بحَسَبِ الحُكمِ، بَل هو مِن أوَّلِ الأمرِ استُعمِلَ مَجازًا في الخُصوصِ.
وقدِ اتَّفقَ الأُصوليُّونَ على أنَّه لا يَجوزُ إخراجُ جَميعِ أفرادِ العامِّ مِن حُكمِه بالتَّخصيصِ، بَل لا بُدَّ أن يَبقى شَيءٌ مِنَ الأفرادِ مَحكومًا عليه بحُكمِ العامِّ.
فمَحَلُّ الخِلافِ في المَسألةِ في ضابِطِ المِقدارِ الذي لا بُدَّ مِن بَقائِه بَعدَ التَّخصيصِ
.
وهذه المَسألةُ مُتَفرِّعةٌ على مَسألةِ أقَلِّ الجَمعِ. ووجهُ تَفريعِها عليها: أنَّ المُخَصِّصَ إمَّا أن يَكونَ جَمعًا أو غَيرَ جَمعٍ؛ فإن كان جَمعًا فالكَلامُ في تَخصيصِه مَبنيٌّ على أقَلِّ الجَمعِ؛ لأنَّ العُمومَ إذا استُخرِجَ منه أكثَرُ المُسَمَّياتِ حتَّى يَبقى مِن جُملَتِها ثَلاثةٌ؛ فإنَّ مَن صارَ إلى أنَّ أقَلَّ الجَمعِ ثَلاثةٌ، قال: إنَّ العُمومَ باقٍ على حَقيقَتِه، ولَم يَصِرْ مَجازًا؛ لأنَّ الجَمعَ حَقيقةٌ في الثَّلاثةِ.
فإن بَقيَ اثنانِ صارَ اللَّفظُ مَجازًا، وبَطَلَ الاحتِجاجُ به عِندَ مَن يَرى أنَّ المَجازَ ليس بحُجَّةٍ، فلا يَجوزُ أن يَكونَ الدَّليلَ المُخَصِّصَ للعُمومِ إلى أن يَبقى منه اثنانِ إلَّا دليلًا يَجوزُ النَّسخُ به؛ لأنَّه يُفضي إلى إسقاطِ العُمومِ، فتَنَزَّلَ مَنزِلةَ النَّسخِ.
ومَن يَرى أنَّ أقَلَّ الجَمعِ اثنانِ لَم يَشتَرِطْ ذلك
.
وقدِ اختَلَف الأُصوليُّونَ في المَسألةِ، والرَّاجِحُ: أنَّه يَجوزُ تَخصيصُ جَميعِ ألفاظِ العُمومِ على اختِلافِها إلى أن يَبقى منها واحِدٌ. وهو مَنقولٌ عن أحمَدَ
، وهو مَذهَبُ عامَّةِ الحَنَفيَّةِ
، وأكثَرِ المالِكيَّةِ
، وأكثَرِ الشَّافِعيَّةِ
، والحَنابِلةِ
.
الأدِلَّةُ:1- القياسُ على الاستِثناءِ، فيَجوزُ تَخصيصُ العُمومِ إلى أن يَبقى واحِدٌ كالِاستِثناءِ؛ لأنَّ التَّخصيصَ مِنَ العامِّ كالِاستِثناءِ مِنَ المُستَثنى مِنه، والقَرينةُ المُتَّصِلةُ كالقَرينةِ المُنفصِلةِ؛ لأنَّ كَلامَ الشَّرعِ وإن تَفرَّقَ في المَورِدِ وجَبَ ضَمُّ بَعضِه إلى بَعضٍ، وبناءُ بَعضِه على بَعضٍ، فكما أنَّه يَصِحُّ الاستِثناءُ ما بَقيَ مِنَ اللَّفظِ واحِدٌ، فكذلك التَّخصيصُ
.
2- أنَّ ما جازَ تَخصيصُه إلى الثَّلاثةِ، جازَ تَخصيصُه إلى ما دونَها، كـ(مَن، وما)؛ فإنَّه لَو قال: (مَن دَخَلَ الدَّارَ؟ أو مَن في الدَّارِ؟ أو ما في الدَّارِ؟) حَسُنَ جَوابُه بالواحِدِ مِنَ الجِنسِ، كما يَحسُنُ جَوابُه بالثَّلاثةِ أو بقَولِ لَفظٍ مِن ألفاظِ العُمومِ
.
3- أنَّ المَنعَ مِن ذلك: إمَّا أن يَكونَ لأنَّ الخِطابَ بهذا التَّخصيصِ يَصيرُ مَجازًا، أو لأنَّه إذا استُعمِلَ في الواحِدِ لَم يَكُنْ مُستعمَلًا في الجَمعِ، واللَّفظُ للجَمعِ، فيَكونُ قدِ استُعمِلَ الخِطابُ في غَيرِ مَوضوعِه.
ولا يَجوزُ أن يُمنَعَ بالأوَّلِ؛ لأنَّه لَو كان كذلك لَم يَجرِ التَّخصيصُ بكُلِّ حالٍ؛ لأنَّه إن صارَ مَجازًا بالتَّخصيصِ إلى أن يَبقى واحِدٌ، يَصيرُ مجازًا بالتَّخصيصِ أيضًا وإن بَقيَت ثَلاثةٌ.
ولا يَجوزُ أن يُمنَعَ بالثَّاني؛ لأنَّ اللَّفظَ العامَّ مَوضوعٌ للِاستِغراقِ لا غَيرُ، وأمَّا الجَمعُ فتَبَعٌ له، فإن لَم يَجُزِ استِعمالُه في غَيرِ الجَمعِ وجَبَ أن لا يَجوزَ استِعمالُه في غَيرِ الاستِغراقِ، بَل يَكونُ المَنعُ هاهنا أَولى
.
وقيلَ: إنَّ العامَّ إن كان ظاهرًا مُفرَدًا، كـ (مَن) و(الألِفِ واللَّامِ) نَحوُ: (اقتُلْ مَن في الدَّارِ)، و(اقطَعِ السَّارِقَ). جاز التَّخصيصُ إلى أقَلِّ المَراتِبِ، وهو واحِدٌ، وإن كان بلَفظِ الجَمعِ، كـ(المُسلِمينَ)، جازَ إلى أقَلِّ الجَمعِ. وهو قَولُ بَعضِ الأُصوليِّينَ
، واختارَه القَفَّالُ الشَّاشيُّ، وابنُ الصَّبَّاغِ
، وقال تاجُ الدِّينِ السُّبكيُّ: (إنَّه الحَقُّ)
.
وقيلَ: إنَّه لا بُدَّ مِن بَقاءِ جَمعٍ كَثيرٍ، وإن لَم يُعلَمْ قَدرُه، إلَّا أن يُستَعمَلَ في الواحِدِ على سَبيلِ التَّعظيمِ، والإبانةُ بأنَّ ذلك الواحِدَ يَجري مَجرى الكَثيرِ. وهو قَولُ بَعضِ الأُصوليِّينَ، كالغَزاليِّ
، وابنِ بَرهانَ
، والرَّازيِّ
، وحَكاه صَفيُّ الدِّينِ الهِنديُّ وابنُ السُّبكيِّ عن كَثيرٍ مِنَ الشَّافِعيَّةِ
، وصَحَّحه بَعضُ الحَنابِلةِ
، وعَزاه ابنُ الحاجِبِ إلى الأكثَرِ
.
واختَلَفوا في تَفسيرِ هذا الجَمعِ الكَثيرِ: فقال ابنُ الحاجِبِ: (لا بُدَّ أن يَقرُبَ مِن مَدلولِ العامِّ قَبلَ التَّخصيصِ)
، وقال البَيضاويُّ: (لا بُدَّ أن يَكونَ غَيرَ مَحصورٍ)
.
وقيلَ: إنَّ التَّخصيصَ إن كان بمُتَّصِلٍ، فإن كان بالِاستِثناءِ أوِ البَدَلِ، جازَ إلى واحِدٍ، نَحوُ: أكرِمِ النَّاسَ إلَّا الجُهَّالَ، وأكرَمَ النَّاسُ العالِمَ مِنهم، فيَجوزُ وإن لَم يَكُنِ العالمُ إلَّا واحدًا. وإن كان بالصِّفةِ والشَّرطِ فيَجوزُ إلى اثنَينِ، نَحوُ: أكرِمِ القَومَ الفُضَلاءَ، أو إذا كانوا فُضَلاءَ.
وإن كان التَّخصيصُ بمُنفصِلٍ، وكان في العامِّ المَحصورِ القَليلِ، كالثَّلاثةِ، جازَ إلى اثنَينِ، كقَولِك: (قَتَلتُ كُلَّ زِنديقٍ)، وقد قَتَلَ اثنَينِ، وكانوا ثَلاثةً. وإن كان غَيرَ مَحصورٍ أو مَحصورًا كَثيرًا، جازَ بشَرطِ كَونِ الباقي قَريبًا مِن مَدلولِ العامِّ. وهو اختيارُ ابنِ الحاجِبِ
.
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:تَظهَرُ ثَمَرةُ الخِلافِ في هذه المَسألةِ في بَعضِ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- إذا قال: (نِسائي طَوالِقُ إلَّا فُلانةَ وفُلانةَ وفُلانةَ) يُقبَلُ.
وقيلَ: لا يُقبَلُ؛ لأنَّ اسمَ النِّساءِ لَفظُ جَمعٍ لا يَقَعُ على الواحِدةِ، فيَنبَغي أن يَبقى مِن عَدَدِ النِّساءِ ما يَكونُ اللَّفظُ مُطابِقًا له؛ لأنَّ أقَلَّ الجَمعِ ثَلاثةٌ
.
2- ما ذَكَرَه الرَّافِعيُّ في الأيمانِ؛ فإنَّه قال: وأمَّا تَخصيصُ العامِّ فقد يَكونُ بالنِّيَّةِ، كما إذا قال: (واللَّهِ لا أُكَلِّمُ أحَدًا، أو لا آكُلُ طَعامًا) ونَوى طَعامًا مُعَيَّنًا
.
قال الإسنَويُّ: (ما ذَكَرَه الرَّافِعيُّ مِنَ الاختِصاصِ مَحَلُّه في الباطِنِ، وأمَّا القَبولُ ظاهرًا ففيه تَفصيلٌ؛ فإنَّه ذَكَرَ عِندَ هذا المَوضِعِ المَذكورِ أنَّه إذا حَلَف لا يَدخُلُ الدَّارَ، ثُمَّ قال: (أرَدتُ شَهرًا أو يَومًا) أنَّه إن كانتِ اليَمينُ بطَلاقٍ أو عَتاقٍ أو باللهِ تعالى، ولَكِن تَعَلَّق بها حَقُّ آدَميٍّ، لَم يُقبَلْ في الحُكمِ، ويُدَيَّنُ، وإن كانت باللهِ تعالى ولَم يَتَعَلَّقْ بها حَقُّ آدَميٍّ قُبِلَ ظاهرًا وباطِنًا. انتَهى كَلامُه، وتَقييدُ المُطلَقِ كتَخصيصِ العامِّ)
.