موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ السَّادِسَ عَشَرَ: حِكايةُ الرَّاوي لفِعلِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بلَفظِ "كان" هَل يُفيدُ العُمومَ؟


المُرادُ بذلك الفِعلُ المُضارِعُ الذي دَخَلَت عليه (كان) إذا عَبَّرَ به الصَّحابيُّ عن شَيءٍ مِن أفعالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فهَل تلك الصِّيغةُ دالَّةٌ على مُجَرَّدِ وُقوعِ الفِعلِ، أم على التَّكرارِ والمواظَبةِ ؟
والمُرادُ بالعُمومِ هنا: التَّكرارُ، وإطلاقُ العُمومِ على التَّكَرُّرِ مَجازٌ؛ فإنَّ الذي يُفيدُه "كان" في العُرفِ هو التَّكرارُ في الزَّمانِ الماضي، كقَولِهم: كان حاتِمٌ يُكرِمُ الضَّيفَ، وكقَولِك: كان زَيدٌ يَفعَلُ كَذا، وقَولِك: كُنَّا نَفعَلُ كَذا، إنَّما يُفيدُ التَّكرارَ ولا يُفيدُ العُمومَ، فإطلاقُ العُمومِ على التَّكرارِ مَجازٌ، فلَو كان يُفيدُ العُمومَ الحَقيقيَّ لَكان حاتِمٌ في قَولِنا: كان حاتِمٌ يُكرِمُ الضَّيفَ، يُكرِمُ جَميعَ أضيافِ الدُّنيا، وليس كذلك .
ولا يَلزَمُ مِنَ التَّكرارِ عَدَمُ الانقِطاعِ؛ فقد يَتَكَرَّرُ الشَّيءُ ثُمَّ يَنقَطِعُ .
فإذا قال الرَّاوي: "كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَفعَلُ كَذا"، فهَل هذا يُفيدُ العُمومَ والتَّكرارَ أو لا؟
اختَلَف الأُصوليُّونَ في هذه المَسألةِ، والرَّاجِحُ: أنَّه يُفيدُ العُمومَ، أي: التَّكرارَ، وهو قَولُ الحَنابِلةِ ، وكَثيرٍ مِنَ الأُصوليِّينَ، كالقاضي أبي الطَّيِّبِ الطَّبَريِّ ، والباقِلَّانيِّ ، والآمِديِّ ، وابنِ الحاجِبِ ، والشَّاطِبيِّ ، والزَّركَشيِّ ، وابنِ النَّجَّارِ ، والشَّوكانيِّ .
قال التَّفتازانيُّ: (إنَّما يُفهَمُ العُمومُ مِن قَولِ الرَّاوي، وهو لفظُ (كان) الدَّاخِلُ على الفِعلِ المُضارِعِ؛ إذ لَو قيلَ: كان قد جَمَعَ أو يَجمَعُ، بدونِ (كان) لَم يُفهِمِ التَّكَرُّرَ، هذا والتَّحقيقُ أنَّ المُفيدَ للِاستِمرارِ هو لَفظُ المُضارِع، و(كان) للدَّلالةِ على مَعنى ذلك المَعنى) .
وقال ابنُ دَقيقِ العيدِ: (يُقالُ: "كان يَفعَلُ كَذا"، بمَعنى: أنَّه تَكَرَّرَ منه فِعلُه، وكان عادَتَه، كما يُقالُ: كان فُلانٌ يَقري الضَّيفَ، و((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أجوَدَ النَّاسِ بالخَيرِ)) ، وقد يُستَعمَلُ "كان" لإفادةِ مُجَرَّدِ الفِعلِ، ووُقوعِ الفِعلِ، دونَ الدَّلالةِ على التَّكرارِ، والأوَّلُ: أكثَرُ في الاستِعمالِ) .
الأدِلَّةُ:
1- الاستِدلالُ بإنكارِ عُروةَ بنِ الزُّبَيرِ على عُمَرَ بنِ عَبدِ العَزيزِ تَأخيرَ الصَّلاةِ إلى آخِرِ وقتِها، واحتِجاجُ عُروةَ بحَديثِ عائِشةَ: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يُصَلِّي العَصرَ والشَّمسُ في حُجرَتِها قَبلَ أن تَظهَرَ)) . قال الشَّاطِبيُّ: (ولَفظُ: "كان يَفعَلُ" يَقتَضي الكَثرةَ بحَسَبِ العُرفِ، فكَأنَّه احتَجَّ عليه في مُخالَفةِ ما داومَ عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) .
2- الاستِدلالُ بالعُرفِ والعادةِ؛ فإنَّ العادةَ جاريةٌ بأنَّ ذلك لا يُقالُ إلَّا لمَن تَكَرَّرَ منه الفِعلُ، كقَولِ القائِلِ: كان فُلانٌ يُكرِمُ الضِّيفانَ؛ فإنَّه يُفهَمُ منه التَّكرارُ دونَ القُصورِ على المَرَّةِ الواحِدةِ، ولا يَقولونَ: كان فُلانٌ يُطعِمُ الطَّعامَ، ويُحافِظُ على الجارِ، إذا فعَلَ ذلك مَرَّةً أوِ اثنَتَينِ، بَل يَخُصُّونَ به المُداوِمَ على ذلك، وقد قال اللهُ تعالى عن إسماعيلَ عليه السَّلامُ: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ [مريم: 55] ، أي: كان يُداوِمُ على ذلك، وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يتخَوَّلُنا بالمَوعِظةِ)) ، فالمُرادُ هنا الاستِمرارُ .
وقيلَ: إنَّها لا تَقتَضي العُمومَ والتَّكرارَ لا عُرفًا ولا لُغةَ؛ لأنَّ لَفظَ "كان" لا يُفيدُ إلَّا تَقدُّمَ الفِعلِ، فأمَّا التَّكرارُ فلا، وهو قَولُ الرَّازيِّ ، والإسنَويِّ ، وصَحَّحه النَّوَويُّ .
وقيلَ: إنَّها تُفيدُ العُمومَ مِن جِهةِ العُرفِ والعادةِ، لا مِن جِهةِ اللُّغةِ؛ لأنَّه إذا قيلَ: كان فُلانٌ يَتَهَجَّدُ باللَّيلِ، لا يَحسُنُ ذلك إلَّا إذا كان مُتَكَرِّرًا مِنه، ولا يُقالُ: كان فُلانٌ يَتَهَجَّدُ باللَّيلِ، إذا تَهَجَّدَ مَرَّةً واحِدةً في عُمرِه. وهو قَولُ بَعضِ الأُصوليِّينَ ، قال المَرداويُّ: (وهو قَويٌّ جِدًّا) .

انظر أيضا:

  1. (1) يُنظر: ((أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم)) لمحمد الأشقر (1/489).
  2. (2) يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (3/144).
  3. (3) يُنظر: ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (3/170)، ((الذخر الحرير)) للبعلي (ص: 493).
  4. (4) يُنظر: ((التحبير)) للمرداوي (5/2437).
  5. (5) يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (4/235)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (3/1397).
  6. (6) يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) (3/92).
  7. (7) يُنظر: ((الإحكام)) (2/253).
  8. (8) يُنظر: ((مختصر منتهى السول والأمل)) (2/748).
  9. (9) يُنظر: ((الموافقات)) (3/258).
  10. (10) يُنظر: ((البحر المحيط)) (4/236).
  11. (11) يُنظر: ((شرح الكوكب المنير)) (3/215).
  12. (12) يُنظر: ((إرشاد الفحول)) (1/315).
  13. (13) ((حاشية التفتازاني على شرح العضد)) (2/646).
  14. (14) أخرجه البخاري (1902)، ومسلم (2308) واللَّفظُ له، من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما.
  15. (15) ((إحكام الأحكام)) (1/130).
  16. (16) أخرجه البخاري (522)، ومسلم (611).
  17. (17) ((الموافقات)) (3/258).
  18. (18) أخرجه البخاري (68) واللَّفظُ له، ومسلم (2821).
  19. (19) يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) للباقلاني (3/92)، ((الإحكام)) للآمدي (2/253)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (3/169)، ((التحبير)) للمرداوي (5/2437)، ((الذخر الحرير)) للبعلي (ص: 492).
  20. (20) يُنظر: ((المحصول)) للرازي (2/399).
  21. (21) يُنظر: ((نهاية السول)) (ص: 190).
  22. (22) يُنظر: ((شرح مسلم)) (9/69).
  23. (23) يُنظر: ((المحصول)) للرازي (2/399)، ((العقد المنظوم)) للقرافي (1/554)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (3/143).
  24. (24) ((التحبير)) (5/2439).