المَطلَبُ الحاديَ عَشَرَ: هَل يُنَزَّلُ تَركُ الاستِفصالِ في حِكايةِ الحالِ مَعَ وُجودِ الاحتِمالِ مَنزِلةَ العُمومِ في المَقالِ؟
ومَعنى القاعِدةِ: أنَّ تَركَ الشَّارِعِ الاستفصالَ -أي طَلَبَ التَّفصيلِ- في حِكايةِ الأحوالِ مَعَ قيامِ الاحتِمالِ يُنزَّلُ مَنزِلةَ العُمومِ في الأقوالِ، يَعني: أنَّ الشَّارِعَ إذا أطلَقَ الجَوابَ في واقِعةٍ مُحتَمِلةٍ لوُجوهٍ، ولَم يَسألِ الشَّارِعُ عن تلك الوُجوهِ المُحتَمَلةِ؛ فإنَّ عَدَمَ السُّؤالِ عنها يَقومُ مَقامَ العُمومِ بالمَقالِ فيها؛ فإنَّ تَركَ الاستِفصالِ كالتَّعميمِ بالمَقالِ.
والمُرادُ بالحِكايةِ: التَّلَفُّظُ، وبالحالِ: حالُ الشَّخصِ، وتَشمَلُ حِكايةُ الحالِ كونَ الحاكي صاحِبَ الحالِ أو غَيرَه.
ومَعنى "يُنزَّلُ مَنزِلةَ العُمومِ مِنَ المَقالِ": أي: أنَّ حُكمَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَكونُ عامًّا في كُلِّ أحوالِ الواقِعةِ المَسؤولِ عنها، والمُرادُ بالمَقالِ: أنَّ اللَّفظَ يَعُمُّ أحوالَ السُّؤالِ، وقُلنا: يُنزَّلُ مَنزِلةَ العُمومِ؛ إشارةً إلى أنَّه ليس مِنَ العامِّ المُصطَلَحِ عليه؛ لاختِصاصِه بالمَقالِ، فالمُرادُ أنَّ هذه المَسألةَ تُلائِمُ بَحثَ العامِّ لا أنَّها مِنَ العامِّ المُصطَلَحِ عليه
.
والرَّاجِحُ: أنَّ تَركَ الاستِفصالِ في حِكايةِ الحالِ مَعَ وُجودِ الاحتِمالِ يُنزَّلُ مَنزِلةَ العُمومِ في المَقالِ. وهو مَنقولٌ عن مالِكٍ
، والشَّافِعيِّ
، وأحمَدَ
.
ونَقَل العَلائيُّ الاتِّفاقَ على القاعِدةِ في الجُملةِ، وإن وقعَ الخِلافُ في بَعضِ المَسائِلِ المُتَفرِّعةِ عنها، فقال: (القَولُ بتَركِ الاستِفصالِ مُتَّفَقٌ عليه في الجُملةِ، وإن خالَف بَعضُهم في صُوَرٍ مِنه، فذلك لوُجودِ مُعارِضٍ راجِحٍ في نَظَرِ المُخالِفِ)
.
ومِنَ الأدِلَّةِ على ذلك:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُئِلَ عن بَيعِ الرُّطَبِ بالتَّمرِ، فقال:
((أيَنقُصُ الرُّطَبُ إذا يَبِسَ؟)) قالوا: نَعَم، فنَهى عن ذلك
.
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّه لَمَّا كان الحُكمُ ليس على عُمومِه، بَل هو مُختَصٌّ ببَعضِ الأحوالِ، استَفصَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن ذلك، ولَو كان النَّهيُ شاملًا لهما لَم يَستَفصِلْ، فدَلَّ على أنَّ تَركَ الاستِفصالِ فيما هذا شَأنُه نازِلٌ مَنزِلةَ العُمومِ
.
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:يَتَخَرَّجُ على الخِلافِ في المَسألةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، ومِنها:
1- أنَّ الإنسانَ لَو أسلَمَ وعِندَه أكثَرُ مِن أربَعِ نِسوةٍ، فعليه أن يُمسِكَ أربَعًا مِنهنَّ فقَط، ويُفارِقَ الباقيَ، فيَختارَ مِنهنَّ ما شاءَ، ويَترُكَ الباقيَ مُطلَقًا، سَواءٌ كان العَقدُ على هذه النِّسوةِ في زَمَنٍ واحِدٍ، أو في أزمانٍ مُتَعَدِّدةٍ، وهذا يَتَبَيَّنُ فيه سَماحةُ الإسلامِ ويُسرُه.
وعِندَ الحَنَفيَّةِ: إن كان العَقدُ عليهنَّ في وقتٍ واحِدٍ، فعليه أن يُجَدِّدَ عَقدَ النِّكاحِ على أربَعٍ مِنهنَّ على حَسَبِ اختيارِه.
وإن كانت تلك العُقودُ مُرَتَّبةً، أي: كُلُّ واحِدةٍ عُقِدَ عليها بَعدَ الأُخرى، فعليه أن يُمسِكَ الأربَعَ الأُوَلَ، ويُفارِقَ ما عَداهنَّ؛ وذلك لأنَّ العُقودَ الأولى قد صادَفت محلًّا قابلًا للعَقدِ، فكانت صحيحةً، أمَّا ما عَداها فلَم يُصادِفْ محلًّا قابلًا للعَقدِ، فكان باطلًا
.
2- شَهادةُ العُدولِ برُؤيةِ الهلالِ: فعنِ الحارِثِ بنِ الحاطِبِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (أمَرَنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن نَنسُكَ لرُؤيَتِه، فإن لَم نَرَه فشَهدَ شاهدانِ عَدلانِ نَسَكْنا بشَهادَتِهما)
؛ لأنَّ العَدلَينِ يَحتَمِلُ الشَّيخَينِ والكَهلَينِ، والعَرَبيَّينِ والعَجَميَّينِ، والأبيَضَينِ والأسودَينِ، وغَيرَ ذلك، فيَعُمُّ الحُكمُ جَميعَ ذلك؛ لأنَّ تَركَ السُّؤالِ عنِ الأحوالِ كالعُمومِ بالمَقالِ
.