لما تسلطن المنصور عثمان بن جقمق أساء تدبيرَ أمور الدولة فأخذ يعزِلُ ويولي ويعطي ويمنع دون رشدٍ ولا تدبيرٍ ولا توقيرٍ لكبير أو قديم، حتى أوغر صدورَ الأشرفية والمؤيدية عليه، وانتظم الصلح بين الطائفتين سرًّا فتحالفوا واتَّفقوا على الركوب في يوم بعينه، كل ذلك والمنصور ومماليك أبيه وحواشيه في غفلةٍ عن ذلك، وأكبَرُ همهم في تفرقة الإقطاعات والوظائف، وفي ظنِّهم أن دولتهم تدوم، وأنَّ الملك قد صار بيَدِهم، هذا مع عدم التفاتِهم لتقريبِ العُقلاء، ومشاورةِ ذوي التدبير وأرباب التجارب ممَّن مارس تغييرَ الدول والحروب والوقائع، وقد صار الناسُ عند الأمير الكبير إينال، ولَبِسوا السلاح، وأجمعوا على قتالهم، وأهلَّ شهر ربيع الأول يوم الاثنين، وفيه كان ابتداءُ الوقعة بين السلطان الملك المنصور عثمان وبين الأتابك إينال العلائي، وذلك أنَّه قدم الأمراء جميعًا إلى الرميلة يريدون طلوعَ القلعة، فتكاثرت المماليكُ عليهم واحتاطوا بهم، وأخذوهم غصبًا بأجمَعِهم، وعادوا بهم إلى بيت الأميرِ الكبير إينال العلائي، ولما اجتمع القومُ في بيت الأمير الكبير، وعَظُم جمعُهم، أتاهم الأمراءُ والخاصكية والأعيانُ من كل فجٍّ، حتى بقُوا في جمع موفور، فأعلنوا عند ذلك بالخروج عن طاعة الملك المنصور، والدخولِ في طاعة الأمير الكبير إينال، والأمير الكبير يمتنع من ذلك بلسانه، فلم يلتفتوا لتمنُّعِه، وأخفوا في لبس السلاح، فلَبِسوا في الحالِ عن آخِرِهم، وطلبوا الخليفةَ القائم بأمرِ الله حمزة، فحضر قبل تمامِ لُبسِهم السلاح، ولما حضر الخليفةُ أظهر الميل الكليَّ للأتابك إينال، وأظهر كوامِنَ كانت عنده من الملك المنصور وحواشيه وقام مع الأمراءِ في خلع المنصورِ أتمَّ قيام، ولما تكامل لبس المماليك والأمراء السلاح طلبوا من الأمير الكبير الركوبَ معهم والتوجُّهَ إلى بيت قوصون تجاهَ باب السلسلة، فامتنع تمنعًا ليس بذاك، ثم أجابهم في الحال، وركب هو والأمراءُ وحولهم العساكرُ مُحدِقة بهم إلى أن أوصلوهم إلى بيتِ قوصون، وأمَّا الملك المنصور لَمَّا بلغه ما وقع من القومِ في بيت الأمير الكبير تحقَّق مَن عنده من الأمراء والأعيان ركوبَ الأمير الكبير وخروجه عن الطاعة، فأمروا في الحال يشبك القرمي والي القاهرة أن يناديَ بطلوع المماليك السلطانية لأخذ النفقة، وأنَّ النفقة لكُلِّ واحد مائة دينار، فنزل يشبك من القلعة والمنادي بين يديه ينادي بذلك، إلى أن وصل إلى الرميلة تجاه باب السلسلة، فأخذته الدبابيسُ من المماليك، فتمَزَّقوا، وذهب القرمي إلى حال سبيلِه، ثم أمر الملك المنصور لأمرائِه وحواشيه بلُبس السلاح، فلبسوا بأجمعِهم، ولبس هو أيضًا، كل ذلك وآراؤهم مفكوكة، وكلمتهم غيرُ منضبطة، وابتدأ القومُ في القتال من يوم الاثنين هلال ربيع الأول، واشتدَّت الحرب، وجُرح من الطائفتين جماعة، وصار أمر الأميرِ الكبير في نموٍّ بمن يأتيه من المماليك السلطانية، ومضى نهارُ الاثنين بعد قتال كبيرٍ وقع فيه، وبات الفريقان في ليلة الثلاثاء على أُهبة القتال، وأصبحا يوم الثلاثاء على ما هم عليه من القتال والرميِ بالمدافع والنفوطِ والسهام من الجهتين، والجراحاتُ فاشية في الفريقين، ولم يكن وقت الزوال حتى كثُرَ عسكر الأمير الكبير إينال، واستفحل أمرُه، ثم في هذا اليوم لهج الخليفةُ أمير المؤمنين القائم بأمر الله حمزة بخلعِ الملك المنصور عثمان من الملك غيرَ مرة في الملأ، فقَوِيَ بذلك قلبُ أصحاب الأمير الكبير وجدُّوا في القتال، وتفرقَّوا على جهات القلعة، وجدُّوا في حصارها، وأصبحوا يومَ الأربعاءِ ثالث شهر ربيع الأول والقتال مستمِرٌّ، وأصحاب الملك المنصور تنسَلُّ منه إلى الأمير الكبير واحدًا بعد واحدٍ، ثم رسم الأمير الكبير بطلب القاضي محبِّ الدين بن الأشقر كاتب السر والقضاة الأربعة، فحضروا في الحال، وقد نزل الخليفةُ من القصر، وجلس عند الأمير الكبير هو والقضاة تكلَّموا مع الخليفة في خلع الملك المنصور عثمان بكلام طويل، ثم طلبوا بدر الدين ابن المصري الموقِّع فأملاه قاضي القضاة علم الدين صالح البلقيني الشافعي ألفاظًا كتبها تتضَمَّن القدحَ في الملك المنصور وخلْعَه من السلطنة، وكان ذلك في أوائل نهار الجمعة، وخُلِعَ الملك المنصور من المُلك وحَكَم القضاة بذلك، وكانت مدةُ سلطنة الملك المنصور شهرًا واحدًا وثلاثة عشر يومًا، ثم سأل قاضي القضاة من حضر المجلس عن سلطنة الأمير الكبير إينال عليهم، فصاحوا بأجمَعِهم: نحن راضون بالأمير الكبير، وكرَّر القاضي عليهم القولَ غيرَ مرة وهم يردون الجوابَ كمقالتهم أولًا، وفرحوا بذلك، وسُرُّوا غاية السرور، وانفَضَّ المجلس على خلع الملك المنصور وسلطنةِ الأتابك إينال، هذا والقتال مستمر أشد ما يكون بين الطائفتين، وأصبح الناسُ في يوم الأحد سابع شهر ربيع الأول والقتالُ مستمِرٌّ بين الفريقين، ثم استطاع الأمير إينال أن يملكَ القلعة ثم أخذ المنصور عثمان ورسم بتسفيرِه إلى الإسكندرية وسُجِنَ بها، ثم حضر الخليفةُ والقضاة الأربعة وسائر أمراء الدولة، وبويع الأميرُ الكبير إينال بالسلطنة، ولقِّبَ بالملك الأشرف، ولَبِس خِلعةَ السلطنة.
في يوم الاثنين آخر جمادى الآخرة كانت وقعةُ المماليك الظاهرية الجقمقية مع الملك الأشرف إينال، وسببُ هذه الفتنة ثورةُ المماليك الأجلاب أولًا، وأفعالُهم القبيحة بالناس، ثم عقب ذلك أنَّ السلطان كان عيَّنَ تجريدة إلى البحيرة، نحوًا من خمسمائة مملوك، وعليهم من أمراء الألوف الأمير خشقدم المؤيدي أمير سلاح، والأمير قرقماس رأسُ نوبة النوب، وعِدَّةٌ من أمراء الطبلخانات والعشرات، ورسم لهم السلطانُ بالسفر، ولم يفرِّقْ على المماليك المكتوبة للسفر الجمالَ على العادة، فعَظُم ذلك عليهم، وامتنَعوا إلى أن يأخذوا الجِمالَ، فسافر الأمير خشقدم في صبيحة يوم الاثنين المذكور، وتبعه الأمير قرقماس في عصر نهاره، وأقاما ببر منبابة تجاه بولاق، فلم يتبَعْهم أحد من المماليك المعيَّنة معهم، بل وقف غالبُهم بسوق الخيل تحت القلعة ينتظِرونَ تفرقةَ الجِمال عليهم، إلى أن انفَضَّ الموكب السلطاني ونزلت الأمراءُ إلى جهة بيوتهم، فلما صار الأميرُ يونس الدوادار بوسط الرميلة احتاطت به المماليك الأجلاب، وتحقق الغدرَ، فأمر مماليكه بإشهار سيوفِهم ففعلت ذلك، ودافعت عنه، وجرَحَ من المماليك الأجلاب جماعةً، وقطع أصابِعَ بعضِهم، وشقَّ بطنَ آخر على ما قيل، فعند ذلك انفرجت ليونس فرجةٌ خرج منها فارًّا إلى جهة داره، ونزل بها، ورمى عنه قماش الموكِبِ، ولَبِسَ قماشَ الركوبِ، وطلع من وقتِه إلى القلعةِ من أعلى الكبش، ولم يشق الرميلة، وأعلم السلطانَ بخبَرِه، فقامت لذلك قيامةُ المماليك الأجلاب، وقالوا: نحن ضربناهم بالدبابيس فضربونا بالسيوفِ، وثاروا على أستاذِهم ثورةً واحدةً، وساعدهم جماعةٌ من المماليك القرانيص وغيرِهم لِما في نفوسهم من السلطانِ لعدم تفرقةِ الجِمالِ وغيرها، ووقفوا بسوق الخيل وأفحشوا في الكلامِ في حقِّ السلطان، وهددوه إن لم يسلِّم لهم الأميرَ يونس، ثم ساقوا غارةً إلى بيت يونس الدوادار، فمنعهم مماليكُه من الدخول إلى داره، فجاؤوا بنار ليحرقوا الباب، فمنعوهم من ذلك أيضًا، فعادوا إلى سوق الخيل، فوافَوا المنادي ينادي من قبل السلطانِ بالأمان، فمالوا على المنادي بالدبابيس، فسكت من وقته، وهرب إلى حالِ سبيله، وقد طلعت جميعُ أمراء الألوف إلى السلطانِ، وهو على حالة السكوتِ غير أنه طلب بعضَ مماليكه الأجلاب الأعيان، وكلَّمه بأنَّه يعطي من جُرِحَ من الأجلاب ما يكفيه، وأنه يعطي للذي قُطِعَت أصابعه إقطاعًا ومائة دينار، فلم يقع الصلحُ، وانفضَّ الأمر على غير طائلٍ؛ لشدة حر النهار، ولما تفرقت المماليك نزلت الأمراءُ إلى دورهم ما خلا الأمير يونس الدوادار؛ فإنه بات في القلعة، فلما تضحى النهارُ أرسل إليهم السلطان بأربعة أمراء، وهم: الأمير يونس العلائي أحد مقدَّمي الألوف، وسودون الإينالي المؤيدي قراقاش رأس نوبة ثان، ويلباي الإينالي المؤيدي أحد أمراء الطبلخانات ورأس نوبة، وبردبك البجمقدار أحد الطبلخانات أيضًا ورأس نوبة، فنزلوا إليهم من القلعة؛ فما كان إلَّا أن وقع بصر المماليك الأجلاب على هؤلاء الأمراء احتاطوا بهم، وأخذوهم بعد كلامٍ كثير، ودخلوا بهم إلى بيتِ الأمير خشقدم أمير سلاح تجاه باب السلسلة، ورسموا عليهم بعضَهم، كلُّ ذلك والمماليك الظاهرية الجقمقية وقوفٌ على بُعدٍ، لا يختلفون بهم، لينظروا ما يصيرُ من أمرهم، فلما وقع ما ذُكِرَ تحققوا خروجَهم على أستاذهم، وثار ما عندهم من الكمائنِ التي كانت كامنةً في صدورهم من الملك الأشرف إينال لِما فَعَل بابن أستاذِهم الملك المنصور عثمان، وحَبْسِ خشداشيَّتِهم- زملائهم- وتقريب أعدائهم الأشرفية مماليك الأشرف برسباي، فانتهزوا الفرصة، وانضافوا إلى المماليك الأجلاب، وعرَّفوهم أن الأمر لا يتم إلا بحضرة الخليفةِ ولبس السلاح، فساق قاني باي المشطوب أحد المماليك الظاهريَّة من وقته إلى بيت الخليفة القائم بأمر الله حمزة، وكان في الخليفةِ خِفَّةٌ وطَيشٌ، فمال إليهم ظنًّا أنه يكون مع هؤلاء وينتَصِرُ أحدُهم ويتسلطنُ، فيستفحلُ أمره ثانيًا أعظَمَ من الأول، ولما حضر الخليفة عندهم، تكامل لُبسُهم السلاح، وانضافت إليهم خلائقُ من المماليك السيفية، وأوباش الأشرفية، وغيرُهم من الجياع الحرافيش، فلما رأت الأجلابُ أمر الظاهرية حسبوا العواقب، وخافوا زوالَ ملك أستاذهم، فتخلَّوا عن الظاهرية قليلًا بقليلٍ، وتوجه كل واحد إلى حالِ سبيله، فقامت الظاهريةُ بالأمر وحدهم، وما عسى يكونُ قيامهم من غير مساعدة، وقد تخلَّى عنهم جماعة من أعيانهم وخافوا عاقبةَ هذه الفتنة، وقد تعبَّأ السلطان لحربهم، ونزل من القلعة إلى باب السلسلة من الإسطبل السلطاني، وتناوش القومُ بالسهام، وأرادوا المصاففة، فتكاثر عليهم السلطانيةُ، وصدموهم صدمةً واحدة بدَّدوا شملهم، بل كانوا تشتَّتوا قبل الصدمة أيضًا، وهجم السلطانيةُ في الحال إلى بيت الأمير خشقدم أمير سلاح، وأخذوا الأمراءَ المرسَّم عليهم، وأخذوا فيمن أخذوا الخليفةَ معهم، وطلعوا بهم إلى السلطانِ، فلما رأى السلطان الخليفةَ وبَّخه بالكلام الخَشِن، وتفرقت من يوم ذاك أجلابُ السلطان فرقتين: فرقةٌ وهم الذين اشتراهم من كتابية الظاهر جقمق وابنه، وفرقةٌ اشتراهم هو في أيام سلطنته، وقويت الفرقةُ الذين اشتراهم على الفرقةِ الظاهرية، ومنعوهم من الطلوعِ إلى القلعة، والسكنى بالأطباق، ولما انتهت الوقعة أمسك جماعةً من المماليك الظاهرية وحبسهم بالبرج من قلعة الجبل، ونفى بعضَهم واختفى بعضُهم.
هو الإمامُ العلَّامة الحافِظُ قاضي القضاة نجمُ الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن سالم بن أبي المواهب، الربعي الثعلبي الدمشقي الشافعي، الشهيرُ بابن صصرى قاضي القُضاة بالشام، وُلِدَ في ذي القعدة سنة 655، ووالدتُه هي شاه ست بنت أبي الغنائم المسلم بن محمد بن المسلم بن علان القيسية الدمشقية، ذكرها الذهبي في معجم الشيوخ الكبير. كان في ابتداء أمرِه كتب في الإنشاء، وكان له نظمٌ ونثرٌ ومُشاركة في فنونٍ كثيرة، فصيحَ العبارة، قادرًا على الحفظ، يحفظُ أربعة دروس في اليوم، سمِعَ ابن صصرى الحديثَ واشتغل وحَصَّل وكتَبَ عن القاضي شمس الدين بن خَلِّكان وفياتِ الأعيان، وسَمِعَها عليه، وتفقَّه بالشيخ تاج الدين الفزاري، وعلى أخيه شرف الدين في النَّحو، وكان له يدٌ في الإنشاء وحُسن العبارة. درَّس بالعادلية الصغيرة سنةَ ثنتين وثمانين، وبالأمينية سنة تسعين، وبالغزالية سنة أربع وتسعين، وتولى قضاء العساكر في دولة العادل كتبغا، ثم تولَّى قضاء الشام سنة ثنتين وسبعمائة، بعد ابنِ جماعة حين طُلِبَ لقضاء مصر بعد ابن دقيق العيد، ثم أضيف إليه مشيخةُ الشيوخ مع تدريس العادلية والغزالية والأتابكية، في يوم الثلاثاء سابِعَ شعبان عَزَل نجم الدين بن صصرى نفسه عن الحُكمِ بسبب كلامٍ سمعه من الشيخ كمال الدين بن الزملكاني. كان نجم الدين ابن صصرى من خصومِ شيخ الإسلام ابن تيمية, ففي الثاني عشر رجب سنة 698 قرأ المِزِّي فصلًا من كتاب أفعال العباد للبُخاري في الجامع، فسَمِعَه بعض الشافعية فغضِبَ، وقالوا: نحن المقصودون بهذا ورفعوه إلى القاضي الشافعي فأمر بحبسه، فبلغ ابن تيمية فتوجَّهَ إلى الحبس فأخرجه بيده، فبلغ القاضي ابن صصرى فطلع إلى القلعة فوافاه ابن تيميَّةَ فتشاجرا بحضرة النائِبِ، واشتطَّ ابن تيمية على القاضي لِكَونِ نائبه جلال الدين آذى أصحابَه في غَيبة النائب، فأمر النائب من ينادي أنَّ من تكلَّمَ في العقائد فُعِلَ كذا به، وقصد بذلك تسكينَ الفتنة. وفي خامس رمضان بطلب القاضي والشيخ وأن يرسلوا بصورةِ ما جرى للقاضي نجم الدين ابن صصرى، ثم وصل مملوك النائب وأخبر أن الجاشنكير والقاضي المالكي قد قاما في الإنكارِ على الشيخ ابن تيمية، وأنَّ الأمرَ اشتَدَّ بمصر على الحنابلة، حتى صفع بعضهم، ثم توجه القاضي ابن صصرى وشيخ الإسلام إلى القاهرة ومعهما جماعةٌ فوصلا في العشر الأخير من رمضان، وعُقِدَ مجلس في ثالث عشر منه بعد صلاة الجمعة، فادعى على ابن تيميَّةَ عند المالكي، فقال: هذا عدوِّي ولم يجِبْ عن الدعوى، فكرر عليه فأصَرَّ، فحكم المالكيُّ بحبسِه، فأقيم من المجلسِ وحُبِسَ في برجٍ، ثم بلغ المالكي أن الناس يترددون إليه، فقال: يجب التضييقُ عليه إنْ لم يُقتَل وإلَّا فقد ثبت كفرُه، فنقلوه ليلة عيد الفطر إلى الجبِّ، وعاد القاضي ابن صصرى الشافعي إلى ولايتِه، ونودي بدمشق من اعتقد عقيدةَ ابن تيمية حَلَّ دَمُه ومالُه خصوصًا الحنابلة، فنودي بذلك وقرئ المرسوم. توفي ابن صصرى فجأةً ببستانه بالسَّهمِ ليلة الخميس سادس عشر ربيع الأول عن ثمان وستين سنة وصُلِّيَ عليه بالجامع المظفري، وحضر جنازتَه نائب السلطنة والقضاة والأمراء والأعيان، وكانت جنازتُه حافلةً ودُفِنَ بتربتهم عند الركنية.
لمَّا تَمَّتْ بَيعةُ العَقبةِ أمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مَن كان معه بالهِجرةِ إلى المدينةِ، فخرجوا أَرسالًا، كان مِنَ السَّابقين للهِجرةِ بعدَ العَقبةِ الثَّانيةِ مُصعبُ بنُ عُميرٍ, ثمَّ عامرُ بنُ رَبيعةَ حَليفُ بن بني عَدِيِّ بنِ كعبٍ، معه امرأتُه ليلى بنتُ أبي حَثْمَةَ بنِ غانمٍ، ثمَّ عبدُ الله بنُ جَحْشٍ بأهلِهِ وأخيهِ عبدِ بنِ جَحْشٍ أبي أحمدَ، وكان ضَريرًا، وكان منزلُهما ومنزلُ أبي سَلمةَ بقُباءٍ في بني عَمرِو بنِ عَوفٍ، فلمَّا هاجر جميعُ بني جَحْشٍ بنِسائهِم فعَدا أبو سُفيانَ على دارِهم فتَمَلَّكَها، فذكر ذلك عبدُ الله بنُ جَحْشٍ لمَّا بَلَغَهُ لِرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تَرضى يا عبدَ الله أن يُعطِيَك الله بها دارًا في الجنَّةِ خيرًا منها؟ قال: بلى. قال: فذلك لك". فلمَّا افتتح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مكَّةَ كَلَّمَهُ أبو أَحمدَ في دارِهم، فأبطأَ عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال النَّاسُ لأبي أَحمدَ: يا أبا أَحمدَ، إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَكرهُ أن تَرجِعوا في شيءٍ أُصيبَ منكم في الله، فأَمْسَكَ عن كلامِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. وكان بنو غَنْمِ بنِ دُودانِ أهلَ إسلامٍ قد خرجوا كُلُّهم إلى المدينةِ، ثمَّ خرج عُمَرُ بنُ الخطَّابِ، وعيَّاشُ بنُ أبي رَبيعةَ في عِشرين راكبًا فقَدِموا المدينةَ، وكان هشامُ بنُ العاصِ بنِ وائلٍ قد أَسلمَ، وواعد عُمَرَ بنَ الخطَّابِ أن يُهاجِرَ معه، وقال: تَجِدُني أو أَجِدُك عند أَضاءةِ بني غِفارٍ، ففَطِنَ لهشامٍ قومُه فحبسوه عن الهِجرةِ. ثمَّ إنَّ أبا جهلٍ والحرثَ بنَ هشامٍ خرجا حتَّى قَدِما المدينةَ ورسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بمكَّةَ، فكَلَّما عيَّاشَ بنَ أبي رَبيعةَ وكان أخاهُما لِأُمِّهِما وابنَ عَمِّهِما، وأَخبراهُ أنَّ أمَّهُ قد نَذرتْ أن لا تَغسِلَ رأسَها ولا تَسْتَظِلَّ حتَّى تَراهُ، فَرَقَّتْ نَفْسُهُ وصدَّقهُما وخرج راجعًا معهُما، فكَتَّفاهُ في الطَّريقِ وبلغا به مكَّةَ، نهارًا مُوثَقًا، ثمَّ قالا: يا أهلَ مكَّةَ هكذا فافعلوا بسُفهائِكُم كما فعلنا بسَفيهِنا هذا. فحَبَساهُ بها إلى أن خَلَّصَهُ الله تعالى بعد ذلك بدُعاءِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم له في قُنوتِ الصَّلاةِ: "اللَّهمَّ أَنْجِ الوليدَ بنَ الوليدِ، وسَلمةَ بنَ هشامٍ، وعيَّاشَ بنَ أبي رَبيعةَ". ولمَّا أراد صُهيبُ بنُ سِنانٍ الهِجرةَ قال له كُفَّارُ قُريشٍ: أَتَيْتَنا صُعلوكًا حَقيرًا فكَثُرَ مالُك عندنا، وبلغتَ الذي بلغتَ، ثمَّ تُريدُ أن تَخرُجَ بمالِك ونَفسِك، لا والله لا يكونُ ذلك. فقال لهم صُهيبٌ: أَرأيتُم إن جَعلتُ لكم مالي أَتُخَلُّون سَبيلي؟ قالوا: نعم، فقال: فإنِّي قد جَعلتُ لكم، فبلغ ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "رَبِحَ صُهيبٌ، رَبِحَ صُهيبٌ". ثمَّ تتابع المهاجرون بالهِجرةِ إلى المدينةِ إلى أن هاجر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.
هو العلَّامة الفقيهُ المجتهدُ الربَّاني الحنفي، أبو الهذيل زُفَر بن الهذيل بن قيس بن سلم وُلد سنة 110 في العراق. وكانت أسرة زُفر على جانبٍ مِن سَعة الرزق وبُحبوحة العيش، وهو ما ساعَده على الانصراف إلى طلب العلمِ دون أن يشغَلَ نفسَه بأعباءِ الحياة، فحَفِظَ القرآنَ صغيرًا واستقام به لسانُه، وتفتَّحَت مواهِبُه واستعَدَّت لطلب العلم، ومالت نفسُه ورَغِبَت في تلقِّي الحديثِ النبوي، فتردَّدَ على حلقاتِه واتصل بشيوخِه الأبرار، وفي مقدِّمتِهم محدِّث الكوفة سليمان بن مهران المعروف بالأعمش، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وسعيد بن أبي عَروبة، وإسماعيل بن أبي خالد، ومحمد بن إسحاق، وأيوب السختياني في أصبهان. ثم ذهب إلى أصبهان مع والده، في خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وكان أبوه قد تولَّى أمرَ أصبهان، وفي الفترة التي أقامها زُفَرُ في أصبهان أخذ عن عُلَمائها ومحدِّثيها المشهورين، حتى أصبحَ حافظًا مُتقنًا، وثِقةً مأمونًا. ولَمَّا رسخت قدمه في السُّنَّة أقبل عليه طلابُ العِلمِ يتعلَّمون على يديه، ويروونَ عنه أحاديثَ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ومن أشهَرِ هؤلاء: أبو نُعَيم الأصبهاني، وحسان بن إبراهيم، وأكثم بن محمد، وعبد الله بن المبارك، ووكيع بن الجرَّاح، وخالد بن الحارث. وكان زُفَرُ محدِّثًا بصيرًا وخبيرًا بفنون الحديثِ، وناقدًا دقيقًا، ويصف أبو نُعَيم ذلك بقوله: "كنتُ أعرِضُ الحديثَ على زُفَر، فيقول هذا ناسِخٌ وهذا منسوخ، وهذا يؤخَذُ به وهذا يُرفَض". وبلغ من سَعةِ عِلمِه وتمكُّنه من فنون الحديث وقدرتِه على التمييز بين درجاتِ الحديث من حيثُ الصِّحةُ والضَّعفُ أنه كان يقول للحافظ أبي نعيم: "هاتِ أحاديثَك، أُغَرْبِلْها لك غَربلةً"، ولَمَّا عاد إلى الكوفة وكانت تموجُ بحلقاتِ العلماء، استأنف اتصالَه بكبار الأئمة، وانتظم في حلقاتِهم، ونهَل من عِلمِهم، حتى اتَّصل بأبي حنيفة النعمان، وكان قد انتهت إليه رئاسةُ الفِقه في العراقِ، واتَّسَعت شهرتُه، فلازمه ملازمةً لصيقةً، حتى غلب عليه الفقهُ وعُرِفَ به، فقيل: "كان صاحِبَ حديثٍ، ثم غلَبَ عليه الفِقهُ". ويذكرُ أبو جعفر الطحاوي أنَّ سبب انتقال زُفَر إلى حلقةِ أبي حنيفةَ مسألةٌ فقهيَّةٌ أعيَتْه وأعيَتْ أصحابَه من المحدِّثين، وعجزوا عن حَلِّها، فلما أتى بها إلى أبي حنيفة أجابه إجابةً شافيةً، فكان ذلك أحدَ الأسبابِ التي دفعت بزُفَرَ إلى الاشتغالِ بالفقه والإقبال عليه، فالتزم أبا حنيفةَ أكثر من عشرين سنة، ووجد فيه الفَهمَ العميقَ والفِكرَ السَّديد، ومالت نفسُه إليه. ولَمَّا توفِّي أبو حنيفة النعمان خلَفَه في حلقتِه زُفَرُ بن الهذيل بإجماعِ تلامذةِ الإمام دونَ مُعارضةٍ، وقد رفض منصِبَ القضاء حين عُرِضَ عليه، وظل منقطعًا إلى العِلمِ، وقد توفِّيَ وهو في الثامنة والأربعين. قال الذهبي: ذكَره يحيى بن مَعين، فقال: ثقةٌ مأمون
هو أبو الفَتحِ ملكشاه بن ألب أرسلان محمد بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق، المُلَقَّب بجَلالِ الدولة. لمَّا تُوفِّي أَبوهُ كان ملكشاه وَلِيَّ الأَمرِ مِن بَعدِه بِوَصِيَّةِ والِدِه وتَحليفِ الأُمراءِ والأَجنادِ على طاعَتِه، ووَصَّى وَزيرَه نِظامَ المُلْكِ أبا عليٍّ الحَسنَ على تَفرِقَةِ البِلادِ بين أَولادِه، ويكون مَرجِعُهم إلى ملكشاه، ففَعَلَ ذلك، وعَبَرَ بهم نَهرَ جيحون راجِعًا إلى البلادِ, فلمَّا وَصَلَ وَجَدَ عَمَّهُ قاروتبك صاحِبَ كرمان قد خَرَجَ عليه، فعاجَلَهُ وتَصافَّا بالقُرْبِ من همذان، فهَزَمهُ، فتَبِعَه بَعضُ جُنْدِ ملكشاه فأَسَروهُ وحَمَلوهُ إلى ملكشاه، فبَذَلَ التَّوبَةَ ورَضِيَ بالاعتِقالِ وأن لا يُقتَل، فلم يُجِبهُ ملكشاه إلى ذلك، فأَمَرَ بقَتلِه فخُنِقَ بوَتَرِ قَوسِه، واستَقرَّت القَواعدُ للسُّلطانِ وفَتَحَ البِلادَ واتَّسعَت عليه المَملكَةُ، ومَلَكَ ما لم يَملِكهُ أَحدٌ من مُلوكِ الإسلامِ بعدَ الخُلفاءِ المُتقدِّمين، فكان في مَملَكتِه جَميعُ بلادِ ما وراءَ النهرِ وبلادُ الهياطلة وبابُ الأبوابِ والرُّومُ ودِيارُ بَكرٍ والجَزيرةُ والشامُ، وخُطِبَ له على جَميعِ مَنابرِ الإسلامِ سِوى بلادِ المَغرِب، فإنه مَلَكَ مِن كاشغر وهي مَدينةٌ في أَقصَى بلادِ التُّركِ إلى بَيتِ المَقدِس طُولًا، ومِن القُسطنطينيَّة إلى بلادِ الخزر وبَحرِ الهِندِ عَرضًا، وكأن قد قُدِّرَ لِمالِكِه مُلْكُ الدنيا. وكان من أَحسنِ المُلوكِ سِيرَةً حتى كان يُلَقَّب بالسُّلطانِ العادِل، وكان مَنصورًا في الحُروبِ، ومُغرَمًا بالعَمائِرِ، حَفَرَ كَثيرًا من الأَنهارِ، وعَمَّرَ على كَثيرٍ من البُلدانِ الأَسوارَ، وأَنشأَ في المَفاوِزِ رِباطاتٍ وقَناطِرَ، وهو الذي عَمَّرَ جامِعَ السُّلطانِ ببغداد ابتَدأَ بعِمارَتِه في المُحرَّم من سَنَةِ خمسٍ وثمانين وأربعمائة، وزادَ في دارِ السَّلطَنَةِ بها، وصَنَعَ بطَريقِ مكَّةَ مَصانِعَ، وغَرِمَ عليها أَموالًا كَثيرةً خارِجةً عن الحَصرِ، وأَبطلَ المُكوسَ والخَفاراتِ في جَميعِ البلادِ. وكان لَهِجًا بالصَّيْدِ، حتى قيل: إنه ضُبِطَ ما اصطادَهُ بِيَدِه فكان عشرة آلاف، وكانت السبيلُ في أيامِه ساكِنةً والمَخاوِفُ آمِنةً، تَسيرُ القَوافلُ مِن ما وَراءَ النهرِ إلى أَقصَى الشامِ وليس معها خَفيرٌ، ويُسافِر الواحِدُ والاثنانِ من غَيرِ خَوفٍ ولا رَهَبٍ. سارَ السُّلطانُ ملكشاه، بعدَ قَتلِ نِظامِ المُلْكِ، إلى بغداد، ودَخَلَها في الرابع والعشرين من شَهرِ رمضان، ولَقِيَهُ وَزيرُ الخَليفةِ عَميدُ الدولةِ ابنُ جَهيرٍ، وكان السُّلطانُ قد أَمَرَ أن تُفصَّل خِلَعُ الوِزارَةِ لتاجِ المُلْكِ، وكان هو الذي سَعَى بنِظامِ المُلْكِ، فلمَّا فَرَغَ من الخِلَعِ، ولم يَبقَ غيرُ لُبْسِها والجُلوسُ في الدستِ، اتَّفَقَ أن السُّلطانَ خَرجَ إلى الصَّيدِ، وعادَ ثالثَ شَوَّال مَريضًا، وكان سَبَبُ مَرَضِه أنه أَكَلَ لَحمَ صَيْدٍ فَحُمَّ وافتُصِدَ، ولم يَستَوفِ إخراجَ الدَّمِ، فثَقُلَ مَرضُه، وكانت حُمَّى مُحرِقَةً، فتُوفِّي ليلةَ الجُمعةِ، النصفَ من شَوَّال، ولمَّا ثَقُلَ نَقَلَ أَربابُ دَولتِه أَموالَهم إلى حَريمِ دارِ الخِلافَةِ، ولمَّا تُوفِّي سَتَرَت زَوجتُه تركان خاتون المعروفة بخاتون الجلالية مَوْتَه وكَتَمَتهُ، وأَرسَلَت إلى الأُمراءِ سِرًّا فأَرضَتهُم، واستَحلَفَتهُم لِوَلَدِها محمود، وعُمرُه أربع سنين وشهور، وبِمَوتِ السُّلطان ملكشاه انقَضَى العصر عَصرُ القُوَّةِ للسُّلطَةِ السلجوقية وبَدأَ عَهدُ الانقِساماتِ السياسيَّة والحُروبِ بين وَرَثَةِ العَرشِ السلجوقي ممَّا أَدَّى إلى تَشتيتِ صُفوفِهم وإضعافِ سُلطَتِهم.
هو المنصور أبو يوسف يعقوب بن أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن بن علي، القيسي الكومي، صاحِبُ المغرب والأندلس. ولِدَ في ربيع الأول سنة 554كان صافي السمرةِ جدًّا، ليس بالطَّويلِ، جميل الوجه، أفْوَهَ أعيْنَ، شديدَ الكَحَل، ضخم الأعضاءِ جَهْوريَّ الصوتِ، جَزْلَ الألفاظ، مِن أصدَقِ الناس لهجةً وأحسَنِهم حديثًا وأكثَرِهم إصابةً بالظن، مجرِّبًا للأمور، ولِيَ وَزارة أبيه، فبحث عن الأحوالِ بحثًا شافيًا وطالع مقاصِدَ العُمَّال والولاة وغيرهم مطالعةً أفادته معرفةَ جزئيات الأمور. ولَمَّا مات أبوه اجتمع رأيُ أشياخ الموحدين وبني عبد المؤمن على تقديمِه فبايعوه وعَقَدوا له الولايةَ ودَعَوه أميرَ المؤمنين كأبيه وجَدِّه، ولقبوه بالمنصور، فقام بالأمر أحسنَ قيامٍ، وهو الذي أظهَرَ أبَّهةَ مُلكِهم، ورفع رايةَ الجِهاد ونَصَب ميزانَ العَدلِ وبَسَط أحكامَ النَّاسِ على حقيقةِ الشَّرعِ، ونظر في أمور الدينِ والوَرَعِ والأمر بالمعروف والنَّهيِ عن المنكر، وأقام الحدودَ حتى في أهلِه وعشيرته الأقربين كما أقامَها في سائر الناس أجمعين، فاستقامت الأحوالُ في أيامه وعَظُمت الفتوحات, ولَمَّا مات أبوه كان معه في الصحبة، فباشر تدبير المملكةِ من هناك، وأوَّلُ ما رَتَّب قواعِدُ بلاد الأندلس، فأصلحَ شأنَها وقَرَّر المقاتلينَ في مراكزها ومَهَّد مصالحَها في مدة شهرين, ثم عاد إلى مراكش التي هي كرسيُّ ملكهم. بلغ الأميرَ يعقوبَ خَبَرُ مسير الفرنج وكثرةُ جموعهم لبلاد المسلمين في الأندلس، فما هاله ذلك، وجدَّ في السير نحوَهم حتى التَقَوا في شمال قرطبة على قُربِ قلعة رياح في مرج الحديد، وصافَّهم سنة 591، وانهزم الفرنجُ وعَمِلَ فيهم السيف فاستأصلهم قتلًا، وما نجا مَلِكُهم إلَّا في نفر يسير، ولولا دخولُ الليل لم يبقَ منهم أحد، وغَنِمَ المسلمون منهم أموالًا عظيمة, ولم يُسمعْ في بلاد الأندلس بكسرةٍ مثلها. وكان المنصورُ ملكًا جوادًا عادلًا متمَسِّكًا بالشرع المطَهَّر، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر كما ينبغي، مِن غير محاباة، ويصلي بالناس الصلوات الخمس، ويلبَسُ الصوف، ويَقِفُ للمرأة وللضعيفِ، ويأخُذُ لهم بالحَقِّ. وأوصى أن يُدفَنَ على قارعة الطريقِ؛ ليترحم عليه من يمُرُّ به. توفِّيَ ثامن عشر ربيع الآخر، وقيل جمادى الأولى، بمدينة سلا، وكان قد سار إليها من مراكش، وكان قد بنى مدينة محاذية لسلا، وسمَّاها المهدية، مِن أحسن البلاد وأنزَهِها، فسار إليها يشاهِدُها، فتوفِّيَ بها، وكانت ولايته خمس عشرة سنة، وكان ذا جهاد للعَدُوِّ، وكان يتظاهَرُ بمذهَبِ الظاهريةَّ، فعَظُمَ أمرُ الظاهرية في أيامه، ثم في آخِرِ أيامه استقضى الشافعيَّةَ على بعض البلاد ومال إليهم، ولما مات قام ابنُه أبو عبد الله محمد بالملك بعده، وكان أبوه قد ولَّاه عهده في حياته، فاستقام المُلكُ له وأطاعه الناسُ، وجَهَّزَ جمعًا من العرب وسيَّرَهم إلى الأندلس احتياطًا من الفرنجِ.
هي زينبُ بنتُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وأَكبرُ أَخواتِها، تَزوَّجَها في حياةِ أمِّها ابنُ خالتِها أبو العاصِ بنُ الرَّبيعِ، فوَلدتْ له أُمامَةَ التي تَزوَّجَ بها عليُّ بنُ أبي طالبٍ بعدَ فاطمةَ، ووَلدتْ له عليَّ بنَ أبي العاصِ، أَسلمتْ زَينبُ وهاجرتْ قبلَ إسلامِ زَوجِها بسِتِّ سنين، قالت أمُّ عَطيَّةَ: لمَّا ماتتْ زَينبُ بنتُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال لنا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «اغْسِلْنَها وِترًا ثلاثًا، أو خمسًا، واجْعَلْنَ في الخامسةِ كافورًا، أو شيئًا مِن كافورٍ، فإذا غَسَّلْتُنَّها، فأَعْلِمْنَني». قالت: فأَعلَمْناهُ، فأعطانا حِقْوَهُ وقال «أَشْعِرْنَها إيَّاهُ».
لمَّا جمَع الله لمُعاويةَ بن أبي سُفيانَ الشَّامَ كلَّها فصار أميرَ الشَّامِ كان يَغزو الرُّومَ كلَّ عامٍ في الصَّيْفِ -وتُسَمَّى الصَّائِفَةَ- فيَفتَح الله على يَديهِ البِلادَ ويَغنَم الكثيرَ حتَّى وصَل عَمُّورِيَة -وهي اليوم في أنقرة- وكان معه مِن الصَّحابةِ عُبادةُ بن الصَّامِتِ، وأبو أيُّوبَ الأنصاريُّ، وأبو ذَرٍّ الغِفاريُّ، وشَدَّادُ بن أَوْسٍ، وغيرُهم وقد فتَح الله لهم مِن البِلادِ الكثيرَ, ثمَّ غَزا مُعاويةُ الرُّومَ حتَّى بلَغ المَضِيقَ مَضِيقَ القُسطنطينيَّة ومعه زوجتُه عاتِكةُ، ويُقالُ: فاطمةُ بنتُ قَرَظَةَ بن عبدِ عَمرِو بن نَوفلِ بن عبدِ مَنافٍ.
هي ابنةُ سَيِّدِ بَنِي المُصْطَلِق مِن خُزاعَة، وقَعَت في السَّبْي بعدَ غَزوةِ المُصطَلِق فوقَعَت في سَهْمِ ثابتِ بن قيسٍ، فكاتَبَتْ نَفْسَها ثمَّ أَتَت النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم تَستَعينُه فعَرَضَ عليها أن يُؤَدِّيَ عنها ويَتَزوَّجها فقَبِلَت، وكانت قبلَ ذلك -يعني قبلَ السَّبْي- تحت صَفوان بن مالكٍ وقد قُتِلَ فيمَن قُتِلَ في الغَزوةِ، ثمَّ لمَّا تَزوَّجها النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أَطْلَقَ المسلمون أَسْراهُم مِن بَنِي المُصطلِق بسبَبِها إكرامًا لها حتَّى لا يكونَ أخوالُ المؤمنين سَبايا تحتهم، فكانت مِن أَعظمِ النِّساءِ بَركةً على قَومِها، كانت كثيرةَ التَّعَبُّدِ والذِّكْرِ، توفِّيت بالمدينةِ زمنَ مُعاوِيَة.
لمَّا قَرُبَت وَفاةُ سُليمان كان يُريد أن يَعْهَد لِوَلَدِهِ داود؛ لكنَّ رَجاء بن حَيْوَة صَرَفَهُ عن ذلك، فسَأَلَهُ عن عُمَر بن عبدِ العزيز فأَثْنَى رَجاءُ عليه، فجَعَل سُليمانُ الأَمْرَ لِعُمَر بن عبدِ العزيز، ثمَّ لِيَزيد بن عبدِ الملك بَعدَهُ، فكان لِرَجاء الفَضْل في إحْكام ذلك بعدَ مَوتِ سُليمان، فقرأ عليهم كِتابَ سُليمان بعدَ أن أَخَذَ البَيْعَةَ على الكِتابِ منهم، ثمَّ أَجْلَس عُمَرَ بن عبدِ العزيز على المِنْبَر بعدَ أن صَلَّى عُمَرُ على سُليمان، ثمَّ انْتَقل إلى دارِ الخِلافَة بعدَ أن فَرَغَت مِن أَهلِ سُليمان وبايَعَه كذلك عبدُ العزيز بن الوَليد، وبذلك تَمَّت له الخِلافَةُ.
لَمَّا وَلِيَ إسحاق بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس إمارةَ مِصرَ لم يرضَ بما كان يأخُذُه قبله الأمراءُ، وزاد على المُزارعين زيادةً أفحَشَت بهم فسَئِمَته الناسُ وكَرِهَته وخرج عليه جماعةٌ مِن أهل الحوفِ مِن قيس وقضاعة، فحاربَهم إسحاقُ، وقُتل من حواشيه وأصحابِه جماعةٌ كبيرة، فكتب إسحاقُ يُعلِمُ الرَّشيدَ بذلك، فعَظُمَ على الرشيدِ ما ناله من أمرِ مِصرَ، وصَرَفه عن إمرَتِها وعقَدَ الرَّشيدُ لهرثمة بن أعيَن على إمرة مصرَ، وأرسله في جيشٍ كبير إلى مصرَ، فتلقَّاه أهلُ مِصرَ بالطاعةِ وأذعنوا له، فقَبِلَ هرثمة منهم ذلك، وأمَّنَهم وأقَرَّ كُلَّ واحدٍ على حاله.
وقعَ الفِداءُ بين سيفِ الدَّولةِ وبين الرومِ، فاستنقذ منهم أُسارى كثيرةً، منهم ابنُ عَمِّه أبو فِراس بن سعيد بن حمدان، وأبو الهيثم بن حصن القاضي، وذلك في رجب منها، ولَمَّا لم يبقَ مع سيف الدَّولةِ مِن أسرى الرومِ أحَدٌ اشترى الباقينَ مِن أسارى المسلمينَ كُلَّ نَفسٍ باثنينِ وسبعينَ دينارًا، حتى نفِدَ ما معه من المال, فاشترى الباقينَ ورهن عليهم بدَنَتَه الجوهرَ المعدومةَ المِثْل، فقد أنفق في سنةٍ وثلاثة أشهر نيفًا وعشرين ألف ألف درهم ومائتين وستين ألف دينار, فخلَّصَ مِن الأسر ما بين أميرٍ إلى راجلٍ ثلاثة آلاف ومئتان وسبعون نفسًا.
ركِبَ عَضُدُ الدولةِ في جنودٍ كثيفة إلى بلادِ أخيه فخرِ الدَّولة، وذلك لَمَّا بلَغَه من ممالأتِه لعِزِّ الدولة واتفاقِهما عليه، فتسَلَّمَ بلاد أخيه فخرِ الدولة وهمدان والري وما بينهما من البلاد، وسلَّمَ ذلك إلى مؤيِّدِ الدَّولة- وهو أخوه الآخر- ليكون نائبه عليها، ثم سار إلى بلادِ حسنويه الكردي فتسَلَّمَها وأخذ حواصِلَه وذخائِرَه، وكانت كثيرةً جِدًّا، وحبس بعضَ أولادِه وأسَرَ بَعضَهم، وأرسلَ إلى الأكراد الهكارية فأخذ منهم بعضَ بلادهم، وعَظُم شَأنُه وارتفع صِيتُه إلَّا أنَّه أصابه في هذا السَّفَرِ داءُ الصُّداعِ، وكان قد تقَدَّمَ له بالموصِلِ مِثلُه، وكان يكتُمُه إلى أن غلب عليه كثرةُ النِّسيانِ، فلا يذكُرُ الشَّيءَ إلَّا بعد جَهدٍ جَهيدٍ.
لَمَّا استولى باذ الكردي على الموصِل، اهتم صمصام الدولة ووزيرُه ابن سعدان بأمرِه، فوقع الاختيارُ على إنفاذِ زيار بن شهراكويه، وهو أكبَرُ قُوَّادهم، فأمره بالمسيرِ إلى قتاله، وجَهَّزه، وبالغ في أمرِه، وأكثَرَ معه الرجالَ والعُدَد والأموال، وسار إلى باذ، فخرج إليهم، ولَقِيَهم في صفر، فأجْلَت الوقعةُ عن هزيمةِ باذ وأصحابِه، وأُسِرَ كثيرٌ مِن عَسكرِه وأهْلِه، وحمُلِوا إلى بغداد فشُهِروا بها، ومَلَك الدَّيلمُ الموصِلَ، فراسل باذ الكردي زيارًا وسعدًا يطلبُ الصلح، فاستقَرَّ الحال بينهم، واصطلحوا على أن تكون ديارُ بكرٍ لباذ، والنِّصفُ من طور عبدين أيضًا، وانحدرَ زيار إلى بغداد، وأقام سعدٌ بالموصل.