الموسوعة التاريخية

عدد النتائج ( 117 ). زمن البحث بالثانية ( 0.013 )

العام الهجري : 483 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1090
تفاصيل الحدث:

نَهَبَ العَربُ البَصرةَ نَهْبًا قَبيحًا، وسَببُ ذلك أنَّه وَرَدَ إلى بغداد، في بَعضِ السِّنين، رَجلٌ أَشقرُ مِن سَوادِ النِّيلِ يَدَّعِي الأَدبَ، والنَّظَرَ في النُّجومِ، ويَستَجرِي الناسَ، فلَقَّبَهُ أَهلُ بغداد تليا –أي التابع-، وكان نازلًا في بَعضِ الخاناتِ، فسَرَقَ ثِيابًا من الدِّيباجِ وغَيرِه، وأَخفَاها في خلفا، وسار بهم، فرَآها الذين يَحفَظون الطَّريقَ، فمَنَعوهُ من السَّفَر اتِّهامًا له، وحَمَلوهُ إلى المُقَدَّم عليهم، فأَطلَقَه لِحُرمَةِ العِلْمِ، فسار إلى أَميرٍ من أُمراءِ العَربِ مِن بَنِي عامرٍ، وبِلادُه مُتاخِمَة الأَحساء، وقال له: أنت تَملِك الأرضَ، وقد فَعلَ أَجدادُك بالحاج كذا وكذا، وأَفعالُهم مَشهورَةٌ، مَذكورَةٌ في التَّواريخِ، وحَسَّنَ له نَهْبَ البَصرَةِ وأَخْذَها، فجَمعَ مِن العَربِ ما يَزيدُ على عشرةِ آلافِ مُقاتلٍ، وقَصدَ البَصرَةَ، وبها العَميدُ عصمة، وليس معه من الجُنْدِ إلا اليَسيرُ، لِكَوْنِ الدنيا آمِنَةً مِن ذاعِرٍ، ولأنَّ الناسَ في جِنَّةٍ مِن هَيبَةِ السُّلطانِ، فخَرجَ إليهم في أَصحابِه، وحارَبَهم، ولم يُمَكِّنهُم من دُخولِ البَلدِ، فأَتاهُ مَن أَخبَرهُ أنَّ أَهلَ البَلَدِ يُريدونَ أن يُسلِّموهُ إلى العَرَبِ، فخاف، ففارَقَهم، وقَصدَ الجَزيرةَ التي هي مكانُ القَلعةِ بنَهرِ معقل، فلمَّا عاد أَهلُ البَلدِ بذلك فارَقوا دِيارَهم وانصَرَفوا، ودَخلَ العَربُ حينئذٍ البَصرَةَ، وقد قَوِيَت نُفوسُهم، ونَهَبوا ما فيها نَهْبًا شَنيعًا، فكانوا يَنهَبون نَهارًا، وأَصحابُ العَميدِ عصمة يَنهَبون لَيلًا، وأَحرَقوا مَواضِعَ عِدَّةً، وفي جُملَةِ ما أَحرَقوا دارانِ للكُتُبِ إحداهما وُقِفَت قبلَ أيامِ عَضُدِ الدولةِ بن بويه، وهي أَوَّلُ دارٍ وُقِفَت في الإسلامِ. والأُخرى وَقَفَها الوَزيرُ أبو مَنصورِ بن شاه مردان، وكان بها نَفائِسُ الكُتُبِ وأَعيانُها، وأَحرَقوا أيضًا النَّحَّاسِينَ وغَيرَها من الأماكنِ، وخُرِّبَت وُقوفُ البَصرَةِ التي لم يكُن لها نَظيرٌ، وكان فِعْلُ العَربِ بالبَصرَةِ أَوَّلَ خَرْقٍ جَرَى في أيامِ السُّلطانِ ملكشاه. فلمَّا فَعَلوا ذلك، وبَلغَ الخَبرُ إلى بغداد، انحَدرَ سَعدُ الدولةِ كوهرائين، وسَيفُ الدولةِ صَدقةُ بن مزيد إلى البَصرَةِ لإصلاحِ أُمورِها، فوَجَدوا العَربَ قد فارَقوها، ثم إن تليا أُخِذَ بالبَحرَينِ، وأُرسِلَ إلى السُّلطانِ، فشَهَرَهُ ببغداد سَنةَ أربع وثمانين وأربعمائة على جَمَلٍ، وعلى رَأسِه طرطور، وهو يُصفَع بالدِّرَّةِ، والناسُ يَشتُمونَه، ويَسُبُّهم، ثم أُمِرَ به فصُلِبَ.

العام الهجري : 1012 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1603
تفاصيل الحدث:

هو السلطان أبو العباس المنصور أحمد، المعروف بالذهبي ابن أبي عبد الله محمد الشيخ المهدي بن محمد القائم بأمر الله الزيداني الحسني السعدي، واسطةُ عِقد الملوك الأشراف السعديين، وأحدُ ملوك المغرب الأقصى العِظام. كانت ولادته بفاس سنة 956, وأمُّه الحُرَّة مسعودة بنت الشيخ الأجلِّ أبي العباس أحمد بن عبد الله الوزكيتي، وكانت من الصالحات الخيرات, وكان أبوه المهدي ينبِّه على أن ابنَه أحمد واسطةُ عِقد أولاده. نشأ المنصور في عَفافٍ وصيانة وتعاطٍ للعلم ومُثافنةٍ لأهله عليه، وكانت مخايل الخِلافة لائحةً عليه إلى أن تمَّ أمره. كان طويلَ القامة ممتلئ الخدين واسِعَ المنكبين، تعلوه صفرةٌ رقيقة، أسود الشعر أدعج أكحل ضيِّق البلج، برَّاق الثنايا، حسن الشكل جميل الوجه، ظريف المنزِع لطيف الشمائل. بويعَ له بالحكم بعد وفاة أخيه عبد الملك في معركة وادي المخازن 986. قال الفشتالي: "لما كانت وقعة وادي المخازن ونصر الله دينَه وكَبَتَ الكفرَ وأهلَه واستوسق الأمرُ للمنصور، كتب إلى صاحب القسطنطينية العظمى، وهو يومئذ السلطان مراد الثالث بن سليم الثاني، وإلى سائر ممالك الإسلام المجاورين للمغرب يعرِّفُهم بما أنعم الله به عليه من إظهارِ الدين وهلاك عَبَدة الصليب واستئصال شأفتِهم، فوردت عليه الأرسالُ من سائر الأقطار مهنئين له بما فتح الله على يدِه، وكان أول من وفد عليه رسولُ صاحب الجزائر ثم تلته أرسالُ طاغية البرتغال، وهو الريكي القائم بأمرهم" واستمر أحمد المنصور على منهج أخيه في بناء المؤسسات، واقتناءِ ما وصلت إليه الكشوفاتُ العلمية، وتطويرِ الإدارة والقضاء والجيش، وترتيبِ الأقاليم وتنظيمها، وكان أحمد المنصور يتابع وزراءه وكبارَ موظفيه ويحاسِبُهم على عدم المحافظة على أوقات العمل الرسمية، أو التأخير في الردِّ على المراسلات الإدارية والسياسية، وأحدث حروفًا لرموز خاصة بكتابة المراسَلات السريَّة؛ حتى لا يُعرَفَ فحواها إذا وقعت في يد عدوٍّ. توفي المنصور في الدار البيضاء خارجَ فاس فدُفِن فيها، ثم نُقِل إلى مراكش، ثم خلَفَه بعده ابنه زيدان الذي استخلفه والدُه المنصور بعد أن أَيِس من صلاحِ ابنه الكبير محمد الشيخ المأمون.

العام الهجري : 902 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1497
تفاصيل الحدث:

هو الإمام العلامة شمس الدين أبو الخير محمد بن عبد الرحمن بن محمد السخاوي القاهري أصله من سخا من قرى مصر، ولد بالقاهرة في ربيع الأول سنة 831 بحارة مجاورة لمدرسة شيخ الإسلام البلقيني محل أبيه وجده، ثم تحول منه حين دخل في الرابعة مع أبويه لمِلْك اشتراه أبوه مجاور لسكن شيخه ابن حجر، وأدخله أبوه المكتب بالقرب من الميدان عند المؤدب الشرف عيسى بن أحمد المقسي الناسخ، فأقام عنده يسيرًا جدًّا، ثم نقله لزوج أخته الفقيه الصالح البدر حسين بن أحمد الأزهري فقرأ عنده القرآن وصلى بالناس التراويح في رمضان، ثم توجه به أبوه لفقيهه المجاور لسكنه الشيخ المفيد النفاع القدوة المؤدب الشمس محمد بن أحمد النحريري الضرير, ثم لازم شيخه إمام الأئمة الشهاب ابن حجر العسقلاني حيث كان يسمع منه مع والده ليلًا الكثير من الحديث، فكان أول ما وقف عليه من ذلك في سنة ثمان وثلاثين، وأوقع الله في قلبه محبته فلازم مجلسه وعادت عليه بركته في هذا الشأن فأقبل عليه بكليته إقبالًا يزيد على الوصف؛ بحيث تقلل مما عداه, وداوم الملازمة لشيخه ابن حجر حتى حمل عنه علمًا جمًّا اختص به كثيرًا بحيث كان من أكثر الآخذين عنه، وأعانه على ذلك قُرب منزله منه، فكان لا يفوته مما يقرأ عليه إلا النادر، إما لكونه حمله أو لأن غيره أهم منه وينفرد عن سائر الجماعة بأشياء. ولما علم شيخه ابن حجر شدة حرصه على ذلك كان يرسل خلفه أحيانًا بعض خدمه لمنزله يأمره بالمجيء للقراءة, وكان شيخه يأذن له في الإقراء والإفادة والتصنيف، وصلى به إمامًا التراويح في بعض ليالي رمضان, وتدرب به في طريق القوم ومعرفة العالي والنازل والكشف عن التراجم والمتون وسائر الاصطلاح, وأخذ عنه علم الحديث وبرع فيه، ولم ينفك عن ملازمته ولا عدل عنه بملازمة غيره من علماء الفنون؛ خوفًا على فقده، ولا ارتحل إلى الأماكن النائية، بل ولا حجَّ إلا بعد وفاة شيخه ابن حجر, ومع ذلك حمل السخاوي عن شيوخ مصر والواردين إليها كثيرًا من دواوين الحديث وأجزائه بقراءته وقراءة غيره في الأوقات التي لا تعارض أوقات شيخه، سيما حين اشتغال شيخه بالقضاء وتوابعه، حتى صار السخاوي أكثر أهل العصر مسموعًا وأكثرهم رواية، ولما عاد السخاوي سنة تسع وتسعين للقاهرة من الحج للمرة السادسة والمجاورة في المدينة انجمع عن الناس وامتنع من الإملاء لمزاحمة من لا يحسن فيها وعدم التمييز من جُل الناس أو كلهم, وراسل إلى من لامه على ترك الإملاء بما نصه: "إنه ترك ذلك عند العلم بإغفال الناس لهذا الشأن؛ بحيث استوى عندهم ما يشتمل على مقدمات التصحيح وغيره من جمع الطرق التي يتبين بها انتفاء الشذوذ والعلة أو وجودهما، مع ما يورد بالسند مجردًا عن ذلك، وكذا ما يكون متصلًا بالسماع مع غيره, وكذا العالي والنازل والتقيد بكتاب ونحوه مع ما لا تقيد فيه إلى غيرها، مما ينافي القصد بالإملاء وينادي الذاكر له العامل به على الخالي منه بالجهل". كما أنه التزم ترك الإفتاء مع الإلحاح عليه فيه حين تزاحم الصغار على ذلك واستوى الماء والخشبةَ، سيما وإنما يعمل بالأغراض، بل صار يكتُب على الاستدعاءات وفي عرض الأبناء من هو في عدادِ من يلتمس له ذلك حين التقيد بالمراتب والأعمال بالنيات، وقد سبقه للاعتذار بنحو ذلك شيخ شيوخه الزين العراقي وكفى به قدوة، بل وأفحش من إغفالهم النظر في هذا وأشد في الجهالة إيراد بعض الأحاديث الباطلة على وجه الاستدلال وإبرازها حتى في التصانيف والأجوبة، كل ذلك مع ملازمة الناس له في منزله للقراءة دراية ورواية في تصانيفه وغيرها، بحيث خُتم عليه ما يفوق الوصف من ذلك، وأخذ عنه من الخلائق من لا يُحصى" وقد حدث خلاف بين السخاوي ومعاصره جلال الدين السيوطي، وهو من خلاف الأقران الذي لا يُقبَل فيه نقد أحدهما في الآخر مع جلالة قدر كل منهما في علمه وعمله في خدمة العلم وأهله. وللسخاوي مصنفات كثيرة جدًّا منها ترجمة لشيخه ابن حجر في كتاب سماه الجوهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر، والقول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع، والمقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة على الألسنة، وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي، ووجيز الكلام في الذيل على دول الإسلام، والضوء اللامع في أخبار أهل القرن التاسع، واستجلاب ارتقاء الغرف بحب أقرباء الرسول وذوي الشرف، وغيرها من الكتب والسؤالات المدونة له. توفي بالمدينة عصر يوم الأحد 28 من شعبان سنة 902 (1497م) وهو في الحادية والسبعين من عمره، ودُفِن بالبقيع بجوار الإمام مالك.

العام الهجري : 740 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1339
تفاصيل الحدث:

هو شَرَفُ الدين عبد الوهاب بن التاج فضل الله المعروف بالنشو القبطي ناظِرُ الخاص للسلطان، كان أبوه يكتُبُ عند الأمير بكتمر الحاحب وهو ينوب عنه، ثم انتقل إلى مباشرةِ ديوان الأمير أركتمر الجمدار، وعندما جمَعَ السلطان الناصر كتَّاب الأمراء, فرآه وهو واقِفٌ وراء الجميعِ وهو شابٌّ طويل نصراني حلوُ الوجه فاستدعاه وقال: أيش اسمك؟ قال: النشو، فقال: أنا أجعلك نشوي، ثمَّ إنه رتَّبَه مستوفيًا في الجيزية، وأقبلت سعادته، فأرضاه فيما يندبه إليه وملأ عينيه, ثم نقله إلى استيفاء الدولة فباشر ذلك مدة، ثم نقل إلى نظر الخاص مع كتابة ابن السلطان، وحَجَّ مع السلطان في تلك السنة وهي سنة 732 ولما كان في الاستيفاء وهو نصراني, وكانت أخلاقُه حسنة وفيه بِشرٌ وطلاقة وجه وتسَرُّع إلى قضاء حوائج الناس، وكان الناس يحبونه، فلما تولى الخاص وكثُرَ الطلب عليه من السلطان, و أُكرِهَ حتى أظهَرَ الإسلام, فبلغ ما لم يبلُغْه أحَدٌ من الأقباط في دولة الترك- المماليك- وتقَدَّمَ عند السلطان على كل أحد، وخَدَمه جميع أرباب الأقلام، وزاد السلطانُ في الإنعامات والعمائر عليه, وزَوَّج بناته واحتاجَ إلى الكُلَف العظيمة المُفرِطة الخارجة عن الحَدِّ، فساءت أخلاقُه وأنكر مَن يَعرِفُه، وفُتِحَت أبواب المصادرات للكتَّاب ولِمَن معه مال, وكان محضرَ سوءٍ لم يشتَهِرْ عنه بعدها شيءٌ من الخير، وجمع من الأموال ما لم يجمَعْه وزير للدولة التركية، وكان مُظَفَّرًا، ما ضرب على أحدٍ إلا ونال غَرَضَه منه بالإيقاع به وتخريبِ دياره، وقُتِلَ على يديه عِدَّةٌ من الولاة والكتَّاب، واجتهد غايةَ جُهدِه في قتل موسى بن التاج إسحاق، وعاقبه ستَّة أشهر بأنواع العقوبات، من الضَّربِ بالمقارع والعَصرِ في كعابه وتسعيطِه - الاستنشاق بالأنف- بالماء والملح وبالخل والجير وغير ذلك، مع نحافة بدنه ومرضه بالربو والحمى، فلم يَمُت، وعاش التاج موسى هذا ثلاثين سنة بعد هلاك النشو، وكان النشوُ هذا بلغ منه في أذيَّة الناس بالمُصادَرات والضرائب الشيء الكثير الكثير، مِمَّا كاد أن يخرب الديارَ كُلَّها، فشكا منه كُلُّ أحد: الفقير والغني، والأمير والحقير، فلم يسلَمْ مِن ظُلمِه وأخْذِ المال منه أحدٌ، وكل ذلك يدَّعي الفَقرَ وقِلَّة المال وأنه لا يأخُذُ لِنَفسِه شيئًا، ولما مات بعد أن اعتُقِلَ لكثرة الشكاوى والتحريضات حُصِّلَت أمواله فكانت خارجةً عن الحصر، ولو كتبت لخرجت عن الحد المعهودِ، فهي تحتاج إلى عِدَّة صفحات مِمَّا كان له من مالٍ عَينٍ وبضائِعَ وإقطاعاتٍ وحواصِلَ وحيواناتٍ وغَيرِها من الجوهر واللؤلؤ ما يفوق الحَصرَ، توفي في يوم الأربعاء ثاني ربيع الآخر، ثم إنَّه بعد موته وُجِدَ أنه ما يزال غير مختونٍ، فدُفِنَ بمقابر اليهودِ.

العام الهجري : 350 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 961
تفاصيل الحدث:

هو أميرُ المؤمنين، الناصِرُ لدينِ الله، أبو المطرِّف عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن الداخل عبد الرحمن، كان أبوه محمَّدٌ وَلِي عَهْد والده عبد الله بن محمد، فقَتَله أخوه أبو القاسِمِ المطرِّف، فقَتَله أبوهما به. ولَمَّا قُتِلَ محمد، كان لابنِه عبد الرحمن عشرونَ يومًا. ووليَ الخلافةَ بعد جَدِّه عبد الله. قال ابن حزم: "كانت خلافتُه من المُستطرَف؛ لأنَّه كان شابًّا، وبالحَضرةِ جماعةٌ مِن أعمامه، وأعمامِ أبيه، فلم يعتَرِضْ معترِضٌ عليه. واستمَرَّ له الأمر وكان شهمًا صارِمًا ". نظر أهلُ الحَلِّ والعقدِ مَن يقومُ بأمرِ الإسلام، فما وجدوا في شبابِ بني أميَّةَ مَن يَصلُحُ للأمرِ إلَّا عبدُالرحمن بن محمد، فبايعوه، وطلب منهم المالَ فلم يَجِدْه، وطلب العُدَدَ فلم يجِدْها، فلم يزَل السَّعدُ يخدُمُه إلى أن سار بنَفسِه لابن حفصون، فوجده مجتازًا لوادي التُّفاح، ومعه أكثَرُ من عشرين ألف فارس, فهزمه وأفلت ابنُ حفصون في نفرٍ يسيرٍ، فتحصَّنَ بحِصن مبشر. ولم يزل عبدُ الرحمن يغزو حتى أقام العَوَج، ومهَّدَ البلاد، ووضع العدلَ، وكثُرَ الأمنُ، ثم بعث جيشًا إلى المغرب، فغزا سجلماسة، وجميعَ بلاد القبلة، وقتَلَ ابنَ حفصون. ولم تزَلْ كلمته نافذةً, وصارت الأندلسُ أقوى ما كانت وأحسَنَها حالًا، وصَفا وجهُه للروم، وشَنَّ الغاراتِ على العدُوِّ، وغزا بنَفسِه بلادَ الروم اثنتي عشرة غزوةً، ودوخَّهم، ووضع عليهم الخَراجَ، ودانت له ملوكُها، فكان فيما شرط عليهم اثنا عشر ألف رجلٍ يصنعون في بناء الزهراءِ التي أقامها لسُكناه على فرسخ من قُرطُبة. كلُّ مَن تقدَّمَ مِن آباءِ عبد الرحمن لم يتسَمَّ أحَدٌ منهم بإمرةِ المؤمنين، وإنما كانوا يُخاطَبونَ بالإمارة فقط، وفعل مِثلَهم عبدُ الرحمن إلى السَّنَةِ السابعة والعشرين مِن ولايته، وكان قد تلقَّبَ بأمير المؤمنين لما رأى مِن ضَعفِ الخلافةِ في بغداد, وظهورِ الشِّيعةِ العُبَيدية بالقيروان وادِّعائِهم لقبَ الخلافة، وما آلت إليه البلادُ مِن التفرُّقِ والتشَتُّت، فرأى أنَّه أحَقُّ بإمرةِ المؤمنين فتسمَّى بأمير المؤمنين وخليفةِ المُسلِمين سنة 316، ولم يزَلْ منذ وليَ الأندلسَ يستنزِلُ المتغلِّبينَ حتى صارت المملكةُ كُلُّها في طاعته، وأكثَرُ بلادِ العدوة، وأخاف ملوكَ الطوائف حوله. قال عبدُ الواحد المراكشي: " اتَّسَعت مملكة الناصر، وحَكَم على أقطار الأندلس، ومَلَك طنجةَ وسبتة وغيرَهما من بلاد العدوة، وكانت أيامُه كلُّها حروبًا, وعاش المسلمون في آثارِه الحميدة آمنينَ ". وقد ابتدأ الناصِرُ ببناء مدينة الزهراء في أوَّلِ سنة خمس وعشرين وثلاثمائة، فكان يَقسِمُ دَخْلَ مملكتِه أثلاثًا: فثُلُثٌ يرصُدُه للجند، وثلُثٌ يدَّخِرُه في بيتِ المال، وثُلُثٌ ينفقه في الزهراء, وكان دخَلُ الأندلس خمسة آلاف ألف دينار وأربعمائة ألف وثمانين ألفًا، ومن السوق والمُستخلَص سبعمائة ألف دينار وخمسة وستون ألفًا. ويقال: إنَّ بناء الزهراء أُكمِلَ في اثنتي عشرة سنة، بألفِ بنَّاءٍ في اليومِ، مع البنَّاءِ اثنا عشر فاعلًا. حكى أبو الحسن الصفار: " أنَّ يوسف بن تاشفين مَلِكَ المغرب لَمَّا دخل الزهراء، وقد خَرِبَت بالنيران والهَدْمِ، من تسعين سنةً قبل دخولِه إليها، وقد نقل أكثَر ما فيها إلى قُرطُبة وإشبيليَّة، ونظر آثارًا تَشهَدُ على محاسنها، فقال: الذي بنى هذه كان سفيهًا. فقال أبو مروان بن سراج: كيف يكونُ سفيهًا وإحدى كرائمِه أخرجت مالًا في فداءِ أُسارى في أيَّامِه، فلم يوجَدْ ببلادِ الأندلسِ أسيرٌ يُفدَى ". وقد افتتح سبعينَ حِصنًا -رحمه الله. بدأ عبدَ الرَّحمنِ الناصرَ المرَضُ وبقي فترةً على ذلك، إلى أن توفِّيَ في هذه السنة في صدر رمضان، فكانت إمارتُه خمسين سنة وستة أشهر، ثم خَلَفه ابنُه الحكمُ الذي تلقَّبَ بالمُستنصِر.

العام الهجري : 500 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1106
تفاصيل الحدث:

هو سلطان المغرب أبو يعقوب يوسف بن تاشفين بن إبراهيم بن ترقنت الصنهاجي اللمتوني المغربي البربري، الملقَّب بأمير المسلمين، وبأمير المرابطين، وبأمير الملثمين. ولد سنة 430. كان أحدَ من ملك البلاد ودانت بطاعته العباد، واتسعت ممالكه، وطال عمره. وقلَّ أن عُمِّرَ أحد من ملوك الإسلام ما عمر. تولى إمارة البربر واستولى على المغرب ثم الأندلس والسودان، وكان يخطب لبني العباس، وهو أول من تسمى بأمير المسلمين من المرابطين، ولم يزل على حاله وعِزِّه وسلطانه إلى أن توفي سنة 500. قال ابن خلدون: "تسمَّى يوسف بن تاشفين بأمير المسلمين، وخاطَبَ الخليفة لعهده ببغداد، وهو أبو العباس أحمد المستظهر بالله العباسي، وبعث إليه عبد الله بن محمد بن العربي المعافري الإشبيلي وولده القاضي أبا بكر بن العربي الإمام المشهور، فتلطفا في القول وأحسنا في الإبلاغ وطلبا من الخليفة أن يعقد لأمير المسلمين بالمغرب والأندلس؛ فعَقَدَ له وتضمن ذلك مكتوبًا من الخليفة منقولًا في أيدي الناس، وانقلبا إليه بتقليد الخليفة وعهده على ما إلى نظره من الأقطار والأقاليم، وخاطبه الإمام الغزالي والقاضي أبو بكر الطرطوشي يحضانه على العدل والتمسك بالخير". وإنما احتاج أمير المسلمين إلى التقليد من الخليفة المستظهر بالله مع أنه كان بعيدًا عنه وأقوى شوكةً منه؛ لتكون ولايته مستندة إلى الشرع، وهذا من ورعه، وإنما تسمى بأمير المسلمين دون أمير المؤمنين أدبًا مع الخليفة حتى لا يشارِكَه في لقبه؛ لأن لقب أمير المؤمنين خاص بالخليفة, وكان أمير المسلمين حين ورد عليه التقليد من الخليفة ضرب السكةَّ باسمه ونقش على الدينار لا إله إلا الله محمد رسول الله، وتحت ذلك أمير المسلمين يوسف بن تاشفين, وكتب على الصفحة الأخرى عبد الله أحمد أمير المؤمنين العباسي, وكان ملكه قد انتهى إلى مدينة أفراغة من قاصية شرق الأندلس، وإلى مدينة أشبونة على البحر المحيط من بحر الأندلس، وذلك مسيرة ثلاثة وثلاثين يومًا طولًا، وفي العرض ما يقرب من ذلك، وملك بعدوة المغرب من جزائر بني مذغنة إلى طنجة إلى آخر السوس الأقصى إلى جبال الذهب من بلاد السودان, ولم يُرَ في بلد من بلاده ولا عَمَلٍ من أعماله على طول أيامه رسمُ مَكسٍ ولا خَراجٌ، لا في حاضرة ولا في بادية إلا ما أمر الله به، وأوجب حكم الكتاب والسنة من الزكوات والأعشار وجزيات أهل الذمة وأخماس الغنائم, وقد جبى في ذلك من الأموال على وجهها ما لم يَجْبِه أحد قبله. يقال: إنه وُجِد في بيت ماله بعد وفاته ثلاثة عشر ألف ربع من الوَرِق، وخمسة آلاف وأربعون ربعًا من مطبوع الذهب, وكان زاهدًا في زينة الدنيا وزهرتها، وَرِعًا متقشِّفًا، لباسه الصوف لم يَلبَس قطُّ غيره، ومأكله الشعير ولحوم الإبل وألبانها مقتصرًا على ذلك، لم يُنقَل عنه مدة عمره على ما منحه الله من سعة الملك وخوَّله من نعمة الدنيا، وقد رد أحكام البلاد إلى القضاة وأسقط ما دون الأحكام الشرعية، وكان يسير في أعماله بنفسه فيتفقد أحوال الرعية في كل سنة، وكان محبًّا للفقهاء وأهل العلم والفضل مكرمًا لهم صادرًا عن رأيهم، يُجري عليهم أرزاقهم من بيت المال، وكان مع ذلك حسن الأخلاق متواضعًا كثير الحياء جامعًا لخصال الخير. هو الذي بنى مدينة مراكش في سنة خمس وستين وأربعمائة، اشتراها يوسف بماله الذي خرج به من الصحراء. وكان في موضعها غابة من الشجر وقرية فيها جماعة من البربر، فاختطها وبنى بها القصور والمساكن الأنيقة, وهو الذي أخذ الأندلس من ملوك الطوائف وأسر المعتمد بن عباد في أغمات.. توفي في قصره بمراكش يوم الاثنين لثلاث خلون من المحرم, وعاش سبعين سنة مَلَكَ منها مدة خمسين سنة, وكان قد عهد بالإمرة من بعده لولده علي الذي بويع له ولُقِب بأمير المسلمين كذلك.

العام الهجري : 699 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1299
تفاصيل الحدث:

دارت مَعركةٌ بين "محمود غازان" سلطانِ الدولةِ الإيلخانية المغوليَّة, والذي أعلن هو وكثيرٌ من التتار دخولَهم في الإسلام سنة 694, و"النَّاصر قلاوون" سلطانُ دولة المماليك، وكانت معركةً هائلةً أسفرت عن انتصار غازان وجنودِه؛ بسَبَبِ تفَوُّقِهم في العِدَّة والعتاد، وتعَرَّض السلطانُ الناصر محمد قلاوون لمؤامرةٍ لخَلعِه, فقد تحرَّك غازان متَّجِهًا إلى بلاد الشام فقَطَع الفرات، وكانت الأخبارُ قد وصلت إلى السلطنةِ وتجهَّزَ العسكرُ مِن مصر ووصل إلى دمشقَ وتجهز عسكر دمشق، ووصلت الأخبارُ أن غازان قد وصل قريبًا من حلب في جيشٍ عظيم، حتى هرب كثيرٌ من أهل حلب وحماة إلى دمشق، ووصل العسكرُ المصري إلى دمشق، ثم خرج السلطانُ بالجيش من دمشق يوم الأحدِ سابع عشر ربيع الأول، ولم يتخَلَّف أحد من الجيوش، وخرج معهم خلقٌ كثير من المتطَوِّعة، فلما وصل السلطانُ إلى وادي الخزندار عند وادي سلمية قريبًا من حمص، التقى مع التَّتَر هناك يوم الأربعاء السابع والعشرين من ربيع الأول وتصادما، وقد كَلَّت خيولُ السلطان وعساكِرُه مِن السَّوْق؛ والتحم القتالُ بين الفريقين، وحمَلَت ميسرةُ المسلمين عليهم فكسَرتَهم أقبحَ كَسرةٍ، وقَتَلوا منهم جماعة كثيرة نحو خمسةِ آلاف أو أكثر، ولم يُقتَل من المسلمين إلا اليسير، ثم حملت القلبُ أيضًا حملةً هائلة وصَدَمت العدوَّ أعظمَ صَدمةٍ، وثبت كلٌّ من الفريقين ثباتًا عظيمًا، ثم حصل تخاذلٌ في عسكَرِ الإسلام بعضُهم في بعضٍ؛ بلاءً مِن الله تعالى، - فانهزمت ميمنةُ السلطان بعد أن كان لاح لهم النصرُ، فلا قوةَ إلا بالله، ولما انهزمت الميمنةُ انهزم أيضًا من كان وراء السناجق- الرايات- السلطانية من غير قتالٍ، وألقى الله تعالى الهزيمةَ عليهم فانهزم جميعُ عساكر الإسلام بعد النصر، وساق السلطان في طائفة يسيرةٍ من أمرائه ومدبري مملكتِه إلى نحو بعلبك وترَكوا جميع الأثقال مُلقاةً، فبقيت العُدَد والسِّلاح والغنائم والأثقالُ ملأت تلك الأراضي حتى بقيت الرماحُ في الطرقِ كأنَّها القَصَبُ لا ينظر إليها أحدٌ، ورمى الجندُ خُوذَهم عن رؤوسِهم وجواشنَهم وسلاحَهم تخفيفًا عن الخيلِ لتنجيَهم بأنفسهم، وقصد الجميعُ دمشق، وكان أكثَرُ من وصل إلى دمشق من المنهزمين من طريق بعلبك، ولما بلغ أهلَ دمشق وغيرها كسرةُ السلطانِ عَظُمَ الضجيج والبكاء، وخرجت المخَدَّراتُ حاسراتٍ لا يعرفن أين يذهبن والأطفالُ بأيديهن، وصار كل واحد في شغلٍ عن صاحِبِه إلى أن ورد عليهم الخبَرُ أن ملك التتار قازان مسلِمٌ، وأن غالِبَ جَيشِه على ملَّة الإسلام، وأنهم لم يتْبَعوا المنهزمين، وبعد انفصال الوقعة لم يقتلوا أحدًا ممن وجَدوه، وإنما يأخذونَ سلاحَه ومركوبَه ويُطلِقونه، فسكن بذلك روعُ أهل دمشق قليلًا، ثم صار من وصل إلى دمشق أخذَ أهلَه وحواصِلَه بحيث الإمكان وتوجَّه إلى جهة مصر، وبقي من بقيَ بدمشق في خمدةٍ وحَيرةٍ لا يدرون ما عاقبةُ أمرهم؛ فطائفةٌ تغَلَّب عليهم الخوفُ، وطائفةٌ يترجَّونَ حَقنَ الدماء، وطائفةٌ يترجَّون أكثَرَ من ذلك من عَدلٍ وحُسنِ سيرة.

العام الهجري : 485 الشهر القمري : شوال العام الميلادي : 1092
تفاصيل الحدث:

هو أبو الفَتحِ ملكشاه بن ألب أرسلان محمد بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق، المُلَقَّب بجَلالِ الدولة. لمَّا تُوفِّي أَبوهُ كان ملكشاه وَلِيَّ الأَمرِ مِن بَعدِه بِوَصِيَّةِ والِدِه وتَحليفِ الأُمراءِ والأَجنادِ على طاعَتِه، ووَصَّى وَزيرَه نِظامَ المُلْكِ أبا عليٍّ الحَسنَ على تَفرِقَةِ البِلادِ بين أَولادِه، ويكون مَرجِعُهم إلى ملكشاه، ففَعَلَ ذلك، وعَبَرَ بهم نَهرَ جيحون راجِعًا إلى البلادِ, فلمَّا وَصَلَ وَجَدَ عَمَّهُ قاروتبك صاحِبَ كرمان قد خَرَجَ عليه، فعاجَلَهُ وتَصافَّا بالقُرْبِ من همذان، فهَزَمهُ، فتَبِعَه بَعضُ جُنْدِ ملكشاه فأَسَروهُ وحَمَلوهُ إلى ملكشاه، فبَذَلَ التَّوبَةَ ورَضِيَ بالاعتِقالِ وأن لا يُقتَل، فلم يُجِبهُ ملكشاه إلى ذلك، فأَمَرَ بقَتلِه فخُنِقَ بوَتَرِ قَوسِه، واستَقرَّت القَواعدُ للسُّلطانِ وفَتَحَ البِلادَ واتَّسعَت عليه المَملكَةُ، ومَلَكَ ما لم يَملِكهُ أَحدٌ من مُلوكِ الإسلامِ بعدَ الخُلفاءِ المُتقدِّمين، فكان في مَملَكتِه جَميعُ بلادِ ما وراءَ النهرِ وبلادُ الهياطلة وبابُ الأبوابِ والرُّومُ ودِيارُ بَكرٍ والجَزيرةُ والشامُ، وخُطِبَ له على جَميعِ مَنابرِ الإسلامِ سِوى بلادِ المَغرِب، فإنه مَلَكَ مِن كاشغر وهي مَدينةٌ في أَقصَى بلادِ التُّركِ إلى بَيتِ المَقدِس طُولًا، ومِن القُسطنطينيَّة إلى بلادِ الخزر وبَحرِ الهِندِ عَرضًا، وكأن قد قُدِّرَ لِمالِكِه مُلْكُ الدنيا. وكان من أَحسنِ المُلوكِ سِيرَةً حتى كان يُلَقَّب بالسُّلطانِ العادِل، وكان مَنصورًا في الحُروبِ، ومُغرَمًا بالعَمائِرِ، حَفَرَ كَثيرًا من الأَنهارِ، وعَمَّرَ على كَثيرٍ من البُلدانِ الأَسوارَ، وأَنشأَ في المَفاوِزِ رِباطاتٍ وقَناطِرَ، وهو الذي عَمَّرَ جامِعَ السُّلطانِ ببغداد ابتَدأَ بعِمارَتِه في المُحرَّم من سَنَةِ خمسٍ وثمانين وأربعمائة، وزادَ في دارِ السَّلطَنَةِ بها، وصَنَعَ بطَريقِ مكَّةَ مَصانِعَ، وغَرِمَ عليها أَموالًا كَثيرةً خارِجةً عن الحَصرِ، وأَبطلَ المُكوسَ والخَفاراتِ في جَميعِ البلادِ. وكان لَهِجًا بالصَّيْدِ، حتى قيل: إنه ضُبِطَ ما اصطادَهُ بِيَدِه فكان عشرة آلاف، وكانت السبيلُ في أيامِه ساكِنةً والمَخاوِفُ آمِنةً، تَسيرُ القَوافلُ مِن ما وَراءَ النهرِ إلى أَقصَى الشامِ وليس معها خَفيرٌ، ويُسافِر الواحِدُ والاثنانِ من غَيرِ خَوفٍ ولا رَهَبٍ. سارَ السُّلطانُ ملكشاه، بعدَ قَتلِ نِظامِ المُلْكِ، إلى بغداد، ودَخَلَها في الرابع والعشرين من شَهرِ رمضان، ولَقِيَهُ وَزيرُ الخَليفةِ عَميدُ الدولةِ ابنُ جَهيرٍ، وكان السُّلطانُ قد أَمَرَ أن تُفصَّل خِلَعُ الوِزارَةِ لتاجِ المُلْكِ، وكان هو الذي سَعَى بنِظامِ المُلْكِ، فلمَّا فَرَغَ من الخِلَعِ، ولم يَبقَ غيرُ لُبْسِها والجُلوسُ في الدستِ، اتَّفَقَ أن السُّلطانَ خَرجَ إلى الصَّيدِ، وعادَ ثالثَ شَوَّال مَريضًا، وكان سَبَبُ مَرَضِه أنه أَكَلَ لَحمَ صَيْدٍ فَحُمَّ وافتُصِدَ، ولم يَستَوفِ إخراجَ الدَّمِ، فثَقُلَ مَرضُه، وكانت حُمَّى مُحرِقَةً، فتُوفِّي ليلةَ الجُمعةِ، النصفَ من شَوَّال، ولمَّا ثَقُلَ نَقَلَ أَربابُ دَولتِه أَموالَهم إلى حَريمِ دارِ الخِلافَةِ، ولمَّا تُوفِّي سَتَرَت زَوجتُه تركان خاتون المعروفة بخاتون الجلالية مَوْتَه وكَتَمَتهُ، وأَرسَلَت إلى الأُمراءِ سِرًّا فأَرضَتهُم، واستَحلَفَتهُم لِوَلَدِها محمود، وعُمرُه أربع سنين وشهور، وبِمَوتِ السُّلطان ملكشاه انقَضَى العصر عَصرُ القُوَّةِ للسُّلطَةِ السلجوقية وبَدأَ عَهدُ الانقِساماتِ السياسيَّة والحُروبِ بين وَرَثَةِ العَرشِ السلجوقي ممَّا أَدَّى إلى تَشتيتِ صُفوفِهم وإضعافِ سُلطَتِهم.

العام الهجري : 1399 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1979
تفاصيل الحدث:

عمِلَ الشاهُ ما سماه الثورة البيضاء والتي هدفُها إخضاعُ رجال الدينِ وأخْذ جزءٍ من ممتلكاتهم أيضًا، وكان الخمينيُّ قد سُجِن بسبب ردِّه على الشاه يوم رفَضَ تعدُّد الزوجات، ثم نُفيَ إلى تركيا، ثم إلى العراق، وعاش في النجف، ثم أُجبر على السفر من العراقِ، ورفضت الكويتُ استقباله فسافر إلى فرنسا، ومع ذلك كانت خُطبه وكلماتُه وحماسه يُنقَل إلى إيران فتحدُث بسببها أعمالُ شغب ومظاهرات، وحدثت عدَّة أعمال عنفٍ في عددٍ من المدن ووقعت الصِّدامات مع الشرطةِ، وكان يسقطُ الكثير من القتلى أثناءَ هذه الصداماتِ، وكلُّ هذه الأمور كانت مقدِّمةً للثورة، ثم أعلن الخمينيُّ من مكان إقامتِه في باريس في 9 ذي القعدة 1398هـ / 10 تشرين الأول 1978م أن الحكومةَ الإيرانيَّةَ قد دعته ليكفَّ عن نشاطه السياسيِّ، مما ألهب المظاهرات في اليوم التالي حتى اقترح حاكمُ طهران العسكري على الشاهِ تدميرَ مدينة قم كلِّها، وأما الخمينيُّ فاجتمعَ في باريس مع قادة المعارضةِ في سبيل التنسيقِ للحركةِ، وفي اليوم التالي لعاشوراء يوم حداد الرافضةِ تدفَّق مليونا متظاهرٍ يلبسون لباسَ الحداد، وهم يهتفون: الله أكبر، وكان الجيشُ على استعداد لأي عملٍ من المتظاهرين، ثم دعا الخمينيُّ الشعبَ إلى الجهادِ، واشتعلت نار الثورةِ وتحوَّلت من مظاهراتٍ إلى ثورة معارضةٍ تطالب بإسقاطِ النظامِ، وبدأ الشاه يسترضي الشعبَ حتى خرج في التلفازِ وقال: إنه سيعمَلُ ما يأمر به الشعبُ، وفي 7 صفر / 7 كانون الثاني 1979م صرَّح حسن منتظري بعد عودته من لقاءِ الخمينيِّ رفضه أية حكومة طالما بقِيَ الشاه، ولن تقبل سوى سقوطِ الشاهِ لإقامة جمهوريةٍ إسلاميةٍ، وذلك أن الشاهَ قد أعلن أنه يريد السفرَ خارجَ البلاد وترْك مجلس وصاية نيابةَ عنه، فغادرَ الشاه إيران في 7 صفر 1399هـ / 7 يناير إلى القاهرةِ، وأعلن الخمينيُّ أنه سيعودُ للبلاد وأنه لا يريد أن يكونَ رئيسًا عليها، ثم وصل الخمينيُّ إلى طهران في 4 ربيع الأول / شباط، وكان في استقبالِه في المطارِ ستَّةُ ملايين شخصٍ، وأحاطت هذه الجموعُ بالرجل ذي 80 عامًا، فاستقلَّ طائرة هليكوبتر ليُكمِلَ رحلته فوق رؤوس البشرِ الذين احتشدوا لاستقبالِه، ومع قدومه ذابتِ الدولةُ وسلطتُها وحكومتُها أمام شخصيتِه، وانضمَّت بعض وحدات الجيش إلى المتظاهرين، وأُعلِنَ أنَّ رحيلَ الشاه نهاية المطافِ؛ فالأهمُّ هو إنهاء التسلُّط الأجنبيِّ، ونقَلَ التلفاز وقائع وصولِه، وأعلن الخمينيُّ عدم شرعية الحكومةِ شهبور بختيار، وعين مهدي بازركان رئيسًا للوزراء، وأعلنت حكومة بختيار رئيس وزراء الشاه منع التجوُّل، لكنَّ الخمينيَّ ردَّ عليه بإعلان العصيان المدني، وكتب ورقةً نُقلت صورتُها على شاشة التلفازِ الذي استولى عليه أنصارُه، فيها: "تحدَّوا حظرَ التجول" فتدفَّق الشعب إلى الشارع، وتصاعدتْ حدَّة المواجهات، واستولى المتظاهرون على كميات كبيرةٍ من أسلحةِ الجيش، فجاء القائد الأعلى للقواتِ المسلَّحة الجنرال قرباغي إلى الخمينيِّ وأعلن استسلامَه وحيادَ الجيش في المواجهات التي تحدُث في المدن بين مؤيِّدي النظامين، وعادت القواتُ العسكريةُ إلى مواقِعها، وأعلن الخمينيُّ قيامَ الجمهورية الإسلاميَّة الإيرانية، وفرَّ شهبور بختيار إلى فرنسا؛ حيث اغتالَه هناك الحرسُ الثوريُّ الإيراني في 6 أغسطس عام 1991م. استمرَّت الثورة سنة كاملةً ذهب ضحيَّتها 76.311 قتيلًا وعشرات الآلافِ من الجرحى، ورفعت الثورةُ الإسلامية في إيرانَ الشعاراتِ التي يمكن أن يسيرَ الشعبُ وراءها ويقبلها؛ وذلك لكسبِ التأييد، فطرحت العملَ بالإسلام دون إعلان الانتسابِ الشيعيِّ المرفوض في العالم الإسلاميِّ، كما أعلنوا معاداةَ الدول الصليبيَّة وخاصَّة أمريكا، وأعلنوا التأييدَ للقضية الفلسطينيةِ وأنها ستعملُ على تخليص أرضِ الشام ممن دنَّسها، وصرَّح الخمينيُّ أنه سيقطع علاقاتِه مع إسرائيلَ، ثم بدا للعالم الإسلامي النوايا عندما أظهر الخميني والقادة معه العقيدةَ الرافضية فخَفَّ التأييد العالمي الإسلامي بل انعدم في أكثرها.

العام الهجري : 784 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1382
تفاصيل الحدث:

حاوَلَ بَعضُ الأمراء القضاءَ على برقوق وقَتْلَه، لكنَّه استطاع أن يقبِضَ عليهم ويسجِنَهم، ولكنه استمَرَّ بعد مَسْك هؤلاء في تخوف عظيم، واحترز على نفسه من مماليكِه وغيرِهم غايةَ الاحتراز، فأشار عليه بعد ذلك أعيانُ خشداشيته- زملاء مهنته- وأصحابه مثل أيتمش البجاسي، وألطنبغا الجوباني أمير مجلس، وقردم الحسني، وجركس الخليلي ويونس النوروزي الدوادار وغيرهم أن يتسلطَنَ ويحتَجِبَ عن الناس ويستريح ويُريحَ مِن هذا الذي هو فيه من الاحترازِ مِن قيامه وقعودِه، فجَبُنَ عن الوثوب على السلطنةِ وخاف عاقبةَ ذلك، فاستحَثَّه الأمراء، فاعتذر بأنه يهابُ قُدَماءَ الأمراء بالديار المصرية والبلاد الشامية، فركِبَ سودون الفخري الشيخوني حاجِبُ الحُجَّاب ودارَ على الأمراء سرًّا حتى استرضاهم، وما زال بهم حتى كلَّموا برقوقًا في ذلك وهَوَّنوا عليه الأمرَ وضَمِنوا له أصحابَهم من أعيان النواب والأمراء بالبلاد الشامية، وساعدهم في ذلك موتُ الأمير آقتمر عبد الغني؛ فإنَّه كان من أكابر الأمراء، وكان برقوقٌ يجلس في الموكِبِ تحتَه لِقِدَم هِجرتِه، وكذلك بموتِ الأمير أيدمر الشمسي؛ فإنه كان أيضًا من أقران اقتمر عبد الغني، فماتا في سنة واحدة، فعند ذلك طابت نفسُه وأجاب، وصار يقَدِّمُ رِجلًا ويؤخر أخرى، حتى كان يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رمضان من هذه السنة طلع الأمير قطلوبغا الكوكائي أمير سلاح وألطنبغا المعلم رأس نوبة إلى السلطان الملك الصالح أمير حاج فأخذاه من قاعة الدهيشة وأدخلاه إلى أهلِه بالدور السلطانيَّة، وأخذا منه النمجاة- سيف خاص بالملك أو السلطان- وأحضراها إلى الأتابك برقوقٍ العثماني، وقام بقيَّةُ الأمراء من أصحابه على الفور وأحضروا الخليفةَ والقُضاة وسَلْطَنوه، وخُلِعَ الملك الصالح من السلطنة، فكانت مُدَّة سلطنته على الديار المصرية سنة واحدة وسبعة أشهر تنقُصُ أربعة أيام، على أنَه لم يكن له في السلطنة من الأمر والنهي لا كثيرٌ ولا قليل، أما السلطان المَلِكُ الظاهر فهو أبو سعيدٍ سَيفُ الدين برقوق بن آنص العثماني اليلبغاوي الشركسي، القائم بدولة الشراكسة بالدِّيارِ المصرية، وهو السلطان الخامس والعشرون من ملوك الترك بالديار المصرية، والثاني من الشراكِسة، إن كان المَلِكُ المظَفَّر بيبرس الجشنكير شركسيًّا؛ فقد قيل إن أصله تركي، وعليه فبرقوق هذا هو الأول من ملوك الشراكسة، وهو الأصحُّ، جلس على تخت الملك في وقت الظهر من يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رمضان بعد أن اجتمع الخليفةُ المتوكل على الله أبو عبد الله محمد والقضاة وشيخُ الإسلام سراج الذين عمر البلقيني، وخطب الخليفة المتوكل على الله خطبة بليغة، ثم بايعه على السَّلطنةِ وقَلَّدَه أمورَ المملكة، ثم بايعه من بعدِه القضاة والأمراء، ثم أُفيضَ على برقوق خِلعة السلطنة، وهي سوداء خليفتية على العادة، وأشار السراجُ البلقيني أن يكون لَقَبُه الملك الظاهر؛ فإنَّه وقت الظهيرة والظهور، وقد ظهر هذا الأمرُ بعد أن كان خافيًا، فتلَقَّبَ بالملك الظاهر، وبه يبدأُ عهد المماليك البُرجية وينتهي عهدُ المماليك البحريَّة، ويُذكَرُ أن أصله من بلاد الشركس، ثمَّ أُخِذَ من بلاده وبِيعَ بمدينة قرم، فاشتراه خواجا عثمان بن مسافر وجلبه إلى مصر فاشتراه منه الأتابك يلبغا العمري الخاصكي الناصري في حدود سنة 764 وقبلها بيسير وأعتَقَه وجعله من جملة مماليكِه، واستمَرَّ أمره حتى صار أتابكَ العساكِرِ.
والشراكسة شعب مسلم موطنه الأصلي مرتفعات القوقاز بين البحر الأسود وبحر قزوين.

العام الهجري : 583 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1187
تفاصيل الحدث:

لَمَّا فَرَغ صلاحُ الدين مِن أمر عَسقلان وما جاورها من البلاد، أرسل إلى مِصرَ؛ لطَلَبِ الأسطول الذي بها في جمَع ٍمن المُقاتِلة، ومُقَدَّمُهم حسامُ الدين لؤلؤ الحاجب، فأقاموا في البَحرِ يقطعون الطريقَ على الفرنجِ، كُلَّما رأوا لهم مركبًا غَنِموه، وشانيًا أخَذوه، فحين وصلَ الأسطول وخلا سِرُّه من تلك الناحية سار عن عسقلان إلى بيت المقدس، وكان به البُطرُك المعظَّم عندهم، وهو أعظَمُ شأنًا من مَلِكِهم، وبه أيضًا باليان بن بيرزان، صاحِبُ الرملة، وكانت مرتبتُه عندهم تقارِبُ مرتبة الملك، وبه أيضًا مَن خَلَص من فُرسانِهم مِن حِطِّين، وقد جمعوا وحشدوا، واجتمع أهل تلك النواحي- عسقلان وغيرها- فاجتمع به كثيرٌ مِن الخلق، وحَصَّنوه ونَصَبوا المجانيقَ على أسواره، ولَمَّا قرب صلاحُ الدين وساروا حتى نزلوا على القُدسِ مُنتصَفَ رجب، فلما نَزَلوا عليه رأى المُسلِمون على سُورِه من الرجال ما هالهم، وسَمِعوا لأهله من الجَلَبةِ والضَّجيجِ مِن وسط المدينة ما استدَلُّوا به على كثرة الجمع، وبقي صلاحُ الدين خمسةَ أيام يطوف حولَ المدينة لينظُرَ مِن أين يقاتلُه؛ لأنَّه في غاية الحَصانةِ والامتناعِ، فلم يجِدْ عليه موضِعَ قتالٍ إلَّا من جهة الشَّمالِ نحو باب عمودا، وكنيسة صهيون، فانتقل إلى هذه الناحيةِ في العشرين من رجب ونزلها، ونصَبَ تلك الليلة المجانيقَ، فأصبح من الغَدِ وقد فُرِغَ مِن نصبها، ورمى بها، ونَصَب الفرنجُ على سور البلد مجانيقَ ورَمَوا بها، وقوتلوا أشَدَّ قتال رآه أحَدٌ مِن الناس، وكان خيَّالة الفرنج كلَّ يوم يخرجون إلى ظاهِرِ البلد يقاتِلونَ ويُبارِزونَ، فيُقتَلُ من الفريقين، ثم وصل المسلمون إلى الخندق، فجاوزوه والتصقوا بالسور فنَقَبوه، وزحف الرماةُ يحمونَهم، والمجانيقُ تُوالي الرميَّ لتكشِفَ الفرنجَ عن الأسوار ليتمَكَّنَ المسلمون من النَّقبِ، فلمَّا نقَبوه حَشَوه بما جرت به العادةُ، فلما رأى الفرنج شِدَّةَ قتال المسلمين، وتحكُّمَ المجانيق بالرمي المتدارِك، وتمكُّن النقَّابين من النَّقبِ، وأنهم قد أشرَفوا على الهلاكِ- اجتَمعَ مُقَدَّموهم يتشاورون فيما يأتونَ ويَذَرونَ، فاتَّفَق رأيُهم على طَلَبِ الأمان، وتسليم ِبيتِ المَقدِسِ إلى صلاحِ الدين، فأرسلوا جماعةً مِن كُبَرائِهم وأعيانِهم في طلب الأمان، فلمَّا ذكروا ذلك للسلطان امتنَعَ من إجابتِهم، وقال: لا أفعَلُ بكم إلَّا كما فعلتُم بأهلِه حين ملَكْتُموه سنة 491؛ مِن القَتلِ والسَّبيِ وجزاءُ السِّيِّئةِ بمِثلِها. فلما رجع الرسُلُ خائبين محرومين، أرسل باليان بن بيرزان وطلَبَ الأمان لنَفسِه ليَحضُرَ عند صلاح الدين في هذا الأمرِ وتحريره، فأُجيبَ إلى ذلك، وحضر عنده، ورَغِبَ في الأمان، وسأل فيه، فلم يُجِبْه إلى ذلك، واستعطَفَه فلم يَعطِفْ عليه، واسترَحَمه فلم يرحَمْه، فلمَّا أيِسَ مِن ذلك هدَّد بقَتلِ أنفُسِهم وتخريبِ المسجِدِ والصَّخرةِ وكُلِّ شَيءٍ، فاستشار صلاحُ الدين أصحابَه، فأجمعوا على إجابتِهم إلى الأمان، وألَّا يُخرَجوا ويُحمَلوا على ركوبِ ما لا يُدرى عاقبةُ الأمر فيه عن أيِّ شَيءٍ تنجلي، ونحسَبُ أنَّهم أسارى بأيدينا، فنبيعُهم نفوسَهم بما يستقِرُّ بيننا وبينهم، فأجاب صلاحُ الدين حينئذ إلى بذلِ الأمان للفرنج، فاستقَرَّ أن يَزِنَ الرجُلُ عشرةَ دنانير يستوي فيه الغنيُّ والفقير، ويَزِن الطفلُ من الذكور والبنات دينارين، وتَزِن المرأة خمسة دنانير، فمن أدَّى ذلك إلى أربعين يومًا فقد نجا، ومن انقَضَت الأربعونَ يومًا عنه ولم يؤَدِّ ما عليه فقد صار مملوكًا، فبذل باليان بن بيرزان عن الفُقَراء ثلاثين ألف دينار، فأُجيبَ إلى ذلك، وسُلِّمَت المدينةُ يوم الجمعة السابع والعشرين من رجَبٍ، وكان يومًا مشهودًا، ورَفَّت الأعلامُ الإسلاميَّةُ على أسوارِها، وكان على رأسِ قُبَّة الصخرةِ صَليبٌ كبيرٌ مُذهَبٌ. فلما دخل المسلمونَ البلد يومَ الجمعة تسَلَّقَ جماعةٌ منهم إلى أعلى القبة ليقلَعوا الصليبَ، فلمَّا فعلوا وسقط صاح النَّاسُ كُلُّهم صوتًا واحدًا من البَلَدِ ومِن ظاهِرِه، المُسلِمونَ والفرنج: أمَّا المسلمون فكَبَّرُوا فرحًا، وأمَّا الفرنجُ فصاحوا تفجُّعًا وتوجُّعًا، فلما ملك البلد وفارقه الكُفَّارُ، أمر صلاح الدين بإعادة الأبنيةِ إلى حالها القديمِ، وأمر بتطهيرِ المسجِدِ والصخرةِ مِن الأقذارِ والأنجاسِ، ففُعِلَ ذلك أجمَعُ، ولما كان الجمعة الأخرى، رابع شعبان، صلى المسلمونَ فيه الجمعة، ومعهم صلاحُ الدين، وصلَّى في قبة صلاح الدين خَطيبًا وإمامًا برَسمِ الصَّلواتِ الخمس، وأمَرَ أن يُعمَلَ له مِنبَرٌ، فقيل له: إنَّ نور الدين محمودًا كان قد عَمِلَ بحَلَبٍ مِنبَرًا أمَرَ الصُّناعَ بالمبالغة في تحسينِه وإتقانه، وقال: هذا قد عَمِلْناه ليُنصَب ببيتِ المَقدِسِ! فعَمِلَه النجَّارون في عِدَّةِ سنين لم يُعمَلْ في الإسلام مثله، فأمر بإحضارِه، فحُمِلَ من حَلَب ونُصِبَ بالقدس، وكان بين عَمَلِ المنبر وحَملِه ما يزيد على عشرينَ سنة، وكان هذا من كراماتِ نور الدين وحُسنِ مقاصِدِه! رحمه الله، ولَمَّا فرغ صلاح الدين من صلاة الجمعةِ تقَدَّمَ بعِمارةِ المسجد الأقصى واستنفاد الوُسعِ في تحسينِه وترصيفِه، وتدقيقِ نُقوشِه، فأحضَروا من الرُّخامِ الذي لا يُوجَدُ مِثلُه، ومِن الفص المُذهَب القسطنطيني وغير ذلك مما يحتاجون إليه، قد ادخر على طول السنين، فشَرَعوا في عمارته، ومحَوا ما كان في تلك الأبنية من الصُّورِ، فعاد الإسلامُ هناك غضًّا طريًّا، وهذه المَكرُمةُ مِن فتح بيتِ المَقدِسِ لم يفعَلْها بعدَ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ- رضي الله عنه- غيرُ صلاحِ الدين- رحمه الله- وكَفَاه ذلك فَخرًا وشَرَفًا!

العام الهجري : 1438 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 2016
تفاصيل الحدث:

هو علي أكبر هاشمي رفسنجاني بهرماني، ولِدَ في 25 أغسطس 1934 بقَريةِ بهرمانَ في ضاحيةِ مدينةِ رفسنجان بمحافظةِ كرمانَ جنوبِ إيرانَ في عائلةٍ ثَريَّةٍ. وبعد أنْ تتلمَذَ في مدرسةٍ دينيةٍ مَحلِّيَّةٍ انتقل إلى الحَوْزةِ الدينيةِ بمدينةِ قُمَّ، وهو في سِنِّ المراهقةِ، فأكمَلَ دُروسَه الدينيةَ. وكان رفسنجاني من أبرَزِ المعارضينَ للشاهِ الموالين للخميني، كما لعِبَ دورًا ملموسًا ومُميَّزًا في ترسيخِ نظامِ الجمهوريةِ الإسلاميةِ الإيرانيةِ بعد سقوطِ نِظامِ الشاهِ، فأصبحَ أحدَ أهمِّ عناصرِ مجلسِ قيادةِ الثورةِ التي تسلَّمَت الحكمَ في إيرانَ. تولَّى رفسنجاني منصِبَ رئيسِ البرلمانِ بين عامَي 1980 و1989. وخلال الحربِ العراقيةِ الإيرانيَّةِ عيَّنه مرشدُ النظامِ آيةُ اللهِ خميني في عامِ 1988 نائبًا عنه في قيادةِ القواتِ المسلَّحةِ؛ إذ يُعَدُّ رفسنجاني من أقرَبِ رجالِ الدينِ إلى الخميني، وبعد وفاةِ الخميني في 1989 لعِبَ دورًا مشهودًا في إقناعِ مجلِسِ خُبَراءِ القيادةِ لاختيارِ المرشِدِ الحاليِّ خليفةً للخميني، وتزامُنًا مع اختيارِ خامنئي مرشدًا للنظامِ تولَّى رفسنجاني منصِبَ رئاسةِ الجمهوريَّةِ في دورتَينِ من 1989م إلى 1997م، وبعدها بدَأَ رفسنجاني يبتعِدُ عن المرشِدِ؛ إذ صار يميلُ إلى حركةِ الإصلاحِ، وفي عامِ 2009م انتَقَدَ بشدةٍ قَمْعَ الاحتجاجاتِ على نتائجِ الانتخاباتِ الرئاسيَّةِ التي فاز فيها أحمدي نجاد، واتهمَّتِ المعارضةُ المتشدِّدين المُقرَّبين من المرشِدِ بتزويرِ الانتخاباتِ، وتعرَّضت أسرتُه إلى مُضايَقاتٍ عِدَّةٍ من المقرَّبينَ من المرشِدِ، لكنَّه ظلَّ رئيسًا لمجلِسِ تشخيصِ مصلحةِ النظامِ. ولعِبَ رفسنجاني دورًا حاسمًا إلى جانبِ الرئيسِ الأسبقِ الإصلاحيِّ محمد خاتمي، في دَعمِ الرئيسِ حسن روحاني، وفازَ رفسنجاني في انتخاباتِ مَجلِسِ خُبَراءِ القيادةِ في عامِ 2016؛ إذ حاز أعْلى الأصواتِ، لكنَّه ظلَّ مَرفوضًا مِن المتشدِّدين المقرَّبين من خامنئي. تُوفِّيَ إثرَ ذَبْحةٍ صَدريَّةٍ عن عمرٍ ناهزَ 82 عامًا، بعد نَقلِه إلى المستشفى في العاصمةِ طَهرانَ.

العام الهجري : 571 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1176
تفاصيل الحدث:

هو الإمامُ العلَّامةُ، الحافِظُ الكبيرُ المجَوِّد، مُحَدِّثُ الشام، ثِقةُ الدين، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين المعروف بابن عساكر، الدمشقي الشافعي صاحب (تاريخ دمشق). من أعيانِ الفُقَهاء الشافعيَّة، ومُحَدِّث الشام في وقته. غَلَب عليه الحديثُ فاشتَهَر به وبالَغَ في طلبه إلى أن جمعَ منه ما لم يتَّفِق لغَيرِه، حتى صار أحدَ أكابر حُفَّاظ الحديث ومن عُنِيَ به سَماعًا وجمعًا وتصنيفًا، واطِّلاعًا وحفظًا لأسانيده ومتونِه، وإتقانًا لأساليبه وفنونه، صاحِبُ الكتاب المشهور (تاريخ دمشق) الذي حاز فيه قَصَب السَّبْق، ومن نظَرَ فيه وتأمَّله، رأى ما وصَفَه فيه وأصَّلَه، وحَكَم بأنَّه فريدُ دَهرِه في التواريخ، هذا مع ما له في علوم الحديث من الكُتُب المفيدة، وما هو مشتَمِلٌ عليه من العبادة والطرائق الحميدة, وله مصنفاتٌ كثيرة منها الكبار والصغار، والأجزاءُ والأسفار، وقد أكثَرَ في طلب الحديث من التَّرحال والأسفار، وجاز المدن والأقاليم والأمصار، وجمع من الكتبِ ما لم يجمَعْه أحدٌ مِن الحُفَّاظ نسخًا واستنساخًا، ومقابلة وتصحيحَ الألفاظ. قال الذهبي: "نقلتُ ترجمته من خَطِّ ولده المحدِّث أبي محمد القاسم بن علي، فقال: وُلِدَ أبي في المحرم سنة 499، وعَدَدُ شيوخِه الذي في معجمه ألف وثلاثمائة شيخ بالسماع، وستة وأربعون شيخًا أنشدوه، وعن مائتين وتسعين شيخًا بالإجازة، الكل في معجمه، وبضع وثمانون امرأة لهن مُعجَم صغير سَمِعْناه. وحدَّث ببغداد، والحجاز، وأصبهان، ونيسابور, وصنف الكثير, وكان فَهِمًا، حافِظًا، متقِنًا ذكيًّا، بصيرًا بهذا الشأن، لا يُلحَقُ شَأنُه، ولا يُشَقُّ غُباره، ولا كان له نظيرٌ في زمانه. وكان له إجازاتٌ عالية، ورُوي عنه أشياءُ من تصانيفه بالإجازة في حياته، واشتهر اسمُه في الأرض، وتفقَّه في حداثته على جمال الإسلام أبي الحسن السلمي وغيره، وانتفع بصحبة جده لأمه القاضي أبي المفضل عيسى بن علي القرشي في النحو، ولازم الدرسَ والتفقُّه بالنظامية ببغداد، وصنف وجمع فأحسن, فمن ذلك تاريخ دمشق في ثمانمائة جزء. قلت (الذهبي): "الجزء عشرون ورقة، فيكون ستة عشر ألف ورقة", وجمع (الموافقات) في اثنين وسبعين جزءًا، و(عوالي مالك)، والذيل عليه خمسين جزءًا، و(غرائب مالك) عشرة أجزاء، و(المعجم) في اثني عشر جزءًا, و(مناقب الشبان) خمسة عشر جزءًا، و(فضائل أصحاب الحديث) أحد عشر جزءًا، (فضل الجمعة) مجلد، و(تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشعري) مجلد، و (المسلسلات) مجلد، و (السباعيات) سبعة أجزاء، (من وافقت كنيته كنيةَ زوجته) أربعة أجزاء، و (في إنشاء دار السنة) ثلاثة أجزاء، (في يوم المزيد) ثلاثة أجزاء، (الزهادة في الشهادة) مجلد، (طرق قبض العلم)، (حديث الأطيط)، (حديث الهبوط وصحته)، (عوالي الأوزاعي وحاله) جزءان, (الخماسيات) جزء، (السداسيات) جزء، (أسماء الأماكن التي سمع فيها)، (الخضاب)، (إعزاز الهجرة عند إعواز النصرة)، (المقالة الفاضحة)، (فضل كتابة القرآن)، (من لا يكون مؤتمنًا لا يكون مؤذِّنًا)، (فضل الكرم على أهل الحرم)، (في حفر الخندق)، (قول عثمان: ما تغنيت)، (أسماء صحابة المسند)، (أحاديث رأس مال شعبة)، (أخبار سعيد بن عبد العزيز)، (مسلسل العيد)، (الأبنة)، (فضائل العشرة) جزءان، (من نزل المزة)، (في الربوة والنيرب)، (في كفر سوسية)، (رواية أهل صنعاء)، (أهل الحمريين)، (فذايا)، (بيت قوفا)، (البلاط)، (قبر سعد)، (جسرين)، (كفر بطنا)، (حرستا)، (دوما مع مسرابا)، (بيت سوا)، (جركان)، (جديا وطرميس)، (زملكا)، (جوبر)، (بيت لهيا)، (برزة)، (منين)، (يعقوبا)، (أحاديث بعلبك)، (فضل عسقلان)، (القدس)، (المدينة)، (مكة)، كتاب (الجهاد)، (مسند أبي حنيفة ومكحول)، (العزل)، (الأربعون الطوال)،  (الأربعون البلدية) جزء، (الأربعون في الجهاد)، (الأربعون الأبدال)، (فضل عاشوراء) ثلاثة أجزاء، (طرق قبض العلم) جزء، كتاب (الزلازل)، (المصاب بالولد) جزءان، (شيوخ النبل)، (عوالي شعبة) اثنا عشر جزءًا، (عوالي سفيان) أربعة أجزاء، (معجم القرى والأمصار) جزء، وغير ذلك, وسرد له عدة تواليف. قال: وأملى أبي أربعمائة مجلس وثمانية. قال: وكان مواظبًا على صلاة الجماعة وتلاوة القرآن، يختم كل جمعة، ويختم في رمضان كل يوم، ويعتكف في المنارة الشرقية، وكان كثير النوافل والأذكار، ويحاسب نفسه على لحظة تذهب في غير طاعة، كان يجري ذكره عند ابن شيخه، وهو الخطيب أبو الفضل بن أبي نصر الطوسي، فيقول: ما نعلم من يستحِقُّ هذا اللقب اليوم يعني: (الحافظ) ويكون حقيقًا به سواه. وقال القاسم: لما دخلت همذان أثنى عليه الحافظ أبو العلاء، وقال لي: أنا أعلم أنه لا يساجِلَ الحافظ ابن عساكر في شأنه أحد، فلو خالط الناسَ ومازجهم كما أصنع، إذًا لاجتمع عليه الموافِقُ والمخالف, وقال لي أبو العلاء يومًا: أي شيء فتح له، وكيف ترى الناس له؟  قلت (الذهبي): "هو بعيد من هذا كله، لم يشتغل منذ أربعين سنة إلا بالجمع والتصنيف والتسميع، حتى في نُزَهِه وخلواته"  ثم قال أبو العلاء: ما كان يسمَّى ابن عساكر ببغداد إلَّا شعلةَ نار؛ من توقُّدِه وذكائه وحُسنِ إدراكه. قال أبو المواهب: لم أرَ مثله ولا من اجتمع فيه ما اجتمع فيه من لزوم طريقة واحدة مدة أربعين سنة، من لزوم الجماعة في الخمس في الصف الأول إلَّا من عذر، والاعتكاف في رمضان وعشر ذي الحجة، وعدم التطلع إلى تحصيل الأملاك وبناء الدور، قد أسقط ذلك عن نفسه، وأعرض عن طلب المناصب من الإمامة والخطابة، وأباها بعد أن عُرِضَت عليه، وقِلَّة التفاته إلى الأمراء، وأخْذ نفسه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا تأخُذُه في الله لومة لائم. قال لي: لَمَّا عزمت على التحديث، واللهُ المطَّلِعُ أنَّه ما حملني على ذلك حُبُّ الرئاسة والتقدم، بل قلت: متى أروي كُلَّ ما قد سمعته، وأيُّ فائدة في كوني أخَلِّفُه بعدي صحائف؟ فاستخرتُ الله، واستأذنت أعيانَ شيوخي ورؤساء البلد، وطُفت عليهم، فكُلٌّ قال: ومن أحقُّ بهذا منك؟ فشرعت في ذلك سنة ثلاث وثلاثين" كانت وفاة ابن عساكر في الحادي عشر من رجب، وله من العمر ثنتان وسبعون سنة، وحضر السلطان صلاح الدين الأيوبي جنازتَه ودُفِنَ بمقابر باب الصغير، وكان الذي صلى عليه الشيخُ قطب الدين النيسابوري.

العام الهجري : 916 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1510
تفاصيل الحدث:

من أقوى الأسباب التي هيأت للإسبان احتلال طرابلس الغرب ضعفُ الحامية فيها، وانصراف الناس إلى تنمية المال، وإلى مُتَع الحياة عن الاهتمام بتقوية الجيش وتحصين القلاع، ومن المناسبات التي انتهزها الإسبان للتعجيل باحتلال طرابلس، أنه في هذه سنة وقع خلاف بين أحمد الحفصي وبين والده الناصر، فذهب إلى الإسبان يستنجد بهم على أبيه، فاستعد الإسبان لغزو طرابلس، فجهزوا 120 قطعة بحرية، وانضم إليها سفن أخرى من مالطة، وشُحنت بخمسة عشر ألف جندي من الإسبان، وثلاثة آلاف من الإيطاليين والمالطيين. وفي 8 من ربيع الآخر أقلع الأسطول من فافينيانا، ومرَّ بجزيرة قوزو بمالطة فتزود منها بالماء، وانضمَّ إلى الجيش خبير مالطي اسمه جوليانو بيلا، له معرفة بطرابلس. وقد أعدت هذه الحملة بإشراف نائب ملك صقلية، وبإعانة الجيوش الصقلية والإيطالية. وقد تسربت أخبار هذه الحملة إلى طرابلس قبل تحركها بنحو شهر، فأخذ الناس في الهجرة منها إلى غريان، وتاجورة، ومسلاتة، وأخذوا معهم كل ما كان مهمًّا من أموالهم، وما أمكنهم من أثقال متاعهم، ولم يبقَ بالمدينة إلا المحاربون، وبعض السكان الذين لم يقدروا على الفرار، وانحازوا إلى قصر الحكومة والجامع الكبير، وصعد المحاربون فوق الأسوار وعلى القلاع.  نزلت جيوش الإسبان في القوارب وكانت بقيادة بييترو نافارو، وفي الصباح، بدأ الهجوم وأطلقت السفن مدافعها على الأسوار وقصر الحكومة. ونزل الجيش المكلف بمنع المسلمين من الاتصال بالمدينة إلى البر بجهة سيدي الشعاب لمنع الاتصال بالمدينة. واندفع الجيش الإسباني نحو المدينة تحميه مدافع الأسطول، فاحتل البرج القائم على باب العرب وبعض الأسوار، وتمكن الإسبان من فتح باب النسور، واتصل الجيش الخارجي بالجيش الداخلي واستبسل الطرابلسيون في الدفاع، وجاء في رسالة القائد نافارو أنه لم يخلُ موضِعُ قَدَمٍ في المدينة من قتيلٍ، ويقَدَّر عدد القتلى بخمسة آلاف، والأسرى بأكثر من ستة آلاف، وتغلَّب الإسبان على مقاومة المسلمين العنيفة، واحتُلَّ قصر الحكومة عَنوةً، وقد حَمِيَ وطيس المعركة حينما تمكَّن حامل العلم الإسباني من نصبِه على برج القصر. وأبدى من التجؤوا إلى الجامع الكبير مقاومة شديدة، فقُتِل منهم نحو ألفي طرابلسي بين رجال ونساء وأطفال. وقتل من الإسبان ثلاثمائة رجل، وكان من بين الموتى كولونيل كبير في الجيش، وأميرال الأسطول، وقبل أن تغرب شمس يوم 18 من ربيع الآخر من هذه السنة، سقطت مدينة طرابلس في يد الإسبان، بعد أن أريقت دماء الطرابلسيين في كل بقعةٍ منها، ولكثرة القتلى فقد أُلقيت جثثُهم في صهاريج الجوامع وفي البحر، وأُحرق بعضها بالنار. وأقام نائب البابا احتفالات الفرح بسقوط هذه المدينة العربية الإسلامية في أيدي النصارى. وأرسل القسيس أمريكو دامبواس رئيس منظمة فرسان القديس يوحنا إلى فرديناند ملك إسبانيا تهنئة، ويرجوه أن يتابع فتوحاته في إفريقية. وعلى الجانب الآخر فقد استاء المسلمون لهذا الاحتلال، وقابله الطرابلسيون المقيمون في الإسكندرية إذ ذاك بإحراق فندق للإسبان في المدينة. انتهز الطرابلسيون المعسكِرون خارج السور غياب القائد الإسباني نافارو وأسطوله، وانقضُّوا على المدينة وتسلَّقوا سورها، ولكنهم لم يوفَّقوا فرجعوا أدراجَهم, وهو ما دفع محمد بن حسن الحفصي إلى إعانة طرابلس، فجمع جيشًا كبيرًا بقيادة محمد أبي الحداد قائد توزر، وكان من أكبر قواده، ووصل طرابلس ونزل خارج السور، وانضم إلى هذا الجيش المحاربون الطرابلسيون، وهاجموا المدينة في ذي الحجة من هذه السنة, ولكنهم لم يظفروا منها بطائل. وظل يحكم طرابلس فرسان القديس يوحنا حتى سنة 936 (1530م) عندما منحها شارل الخامس إمبراطور الإمبراطورية الرومانية لهم، الذين صاروا يعرفون في ذلك الوقت بفرسان مالطا.

العام الهجري : 728 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1328
تفاصيل الحدث:

هو الشَّيخُ الإمامُ العالمُ العَلَمُ العلَّامةُ الفقيهُ الحافِظُ الزاهِدُ العابِدُ القدوةُ شيخُ الإسلامِ: تقيُّ الدين أبو العباس أحمد بن شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم بن أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم محمد بن الخضر بن محمد ابن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية الحراني ثمَّ الدمشقي، وكان مولِدُه يومَ الاثنين عاشر ربيع الأول بحران سنة 661، وقَدِمَ مع والده وأهلِه إلى دمشقَ وهو صغير، فسَمِعَ الحديثَ وقرأ بنفسِه الكثيرَ، وطلب الحديثَ وكُتُبَ الطبقاتِ والأثباتِ، ولازم السَّماعَ بنفسه مُدَّةَ سنين، وقَلَّ أن سَمِعَ شَيئًا إلَّا حَفِظَه، ثم اشتغل بالعلومِ، وكان ذكيًّا كثيرَ المحفوظ، فصار إمامًا في التفسير وما يتعلَّق به عارفًا بالفقه، فيقال: إنه كان أعرَفَ بفقه المذاهِبِ مِن أهلِها الذي كانوا في زمانِه وغيره، وكان عالِمًا باختلاف العلماء، عالِمًا في الأصول والفروعِ، والنحو واللغة، وغير ذلك من العلوم النَّقليَّة والعقلية، وما قُطع في مجلسٍ، ولا تكَلَّمَ معه فاضِلٌ في فنٍّ مِن الفنونِ إلَّا ظَنَّ أنَّ ذلك الفَنَّ فَنُّه، ورآه عارفًا به متقِنًا له، وأما الحديثُ فكان حامِلَ رايتِه حافظًا له مميِّزًا بين صحيحِه وسقيمِه، عارفًا برجاله متضَلِّعًا من ذلك، وله تصانيفُ كثيرة وتعاليقُ مُفيدة في الأصولِ والفروع، كمُلَ منها جملةٌ وبُيِّضَت وكُتِبَت عنه وقُرِئَت عليه أو بَعضُها، وجملةٌ كبيرةٌ لم يُكمِلْها، وأثنى عليه وعلى علومِه وفضائِلِه جماعةٌ من عُلَماءِ عَصرِه، وأمَّا أسماءُ مُصَنَّفاتِه وسيرته وما جرى بينه وبين الفُقَهاءِ والدولة وحَبسُه مراتٍ وأحوالُه، فلا يُحتَمَلُ ذِكرُ جَميعِها في هذا الموضِعِ، توفِّيَ في ليلة الاثنين والعشرين من ذي القعدة بقلعةِ دمشق بالقاعةِ التي كان محبوسًا بها، وحضر جمعٌ كثيرٌ إلى القلعة، وأُذِنَ لهم في الدخول عليه، وجَلَس جماعة عنده قبل الغُسلِ واقتصروا على مَن يُغَسِّلُه، فلما فُرِغَ مِن غُسلِه أُخرِجَ ثم اجتمع الخَلقُ بالقلعة والطريقِ إلى الجامعِ، وامتلأ بالجامع أيضًا وصَحنِه والكلاسة وباب البريد وباب الساعات إلى باب اللبادين والغوارة، وحضرت الجنازةُ في الساعة الرابعة من النهار أو نحو ذلك ووُضِعَت في الجامع، والجندُ قد احتاطوا بها يحفَظونَها من النَّاسِ مِن شِدَّة الزحام، وصُلِّيَ عليه أولًا بالقلعة، تقدَّمَ في الصلاة عليه أولًا الشيخ محمد بن تمام، ثم صُلِّيَ عليه بالجامِعِ الأمويِّ عَقيبَ صلاة الظهر، وقد تضاعَفَ اجتِماعُ الناس ثم تزايد الجَمعُ إلى أن ضاقت الرِّحابُ والأزِقَّة والأسواق بأهلِها ومَن فيها، ثم حُمِلَ بعد أن صُلِّيَ عليه على الرؤوس والأصابع، وخرج النَّعشُ به من باب البريد واشتدَّ الزحامُ وعَلَت الأصواتُ بالبُكاء والنَّحيب والترحُّم عليه والثَّناء والدعاء له، وألقى الناسُ على نعشِه مناديلَهم وعمائِمَهم وثيابَهم، وذهبت النِّعالُ مِن أرجُلٍ, وبالجملةِ كان يومُ جنازته يومًا مشهودًا لم يُعهَدْ مثلُه بدمشقَ إلَّا أن يكون في زمَنِ بني أمية حين كان الناسُ كثيرين، وكانت دار الخلافة، ثم دُفِنَ عند أخيه قريبًا من أذان العصر على التحديد، ولا يمكِنُ أحدًا حصرُ من حضر الجِنازةَ، وتقريبُ ذلك أنَّه عبارةٌ عمَّن أمكنه الحضورُ من أهل البلَدِ وحواضِرِه ولم يتخلَّفْ مِن الناس إلا القَليلُ مِن الصغار والمخَدَّرات، وما تخلَّفَ أحدٌ من أهل العلمِ إلَّا النفرُ اليسير تخلَّف عن الحضور في جنازته، وهم ثلاثةُ أنفس: وهم ابنُ جملة، والصدر، والقفجاري، وهؤلاء كانوا قد اشتهروا بمعاداتِه فاختَفَوا من الناس خوفًا على أنفُسِهم، بحيث إنَّهم علموا متى خرجوا قُتِلوا وأهلَكَهم الناس، ورُئيَت له مناماتٌ صالحةٌ عَجيبةٌ، ورُثِيَ بأشعارٍ كثيرة وقصائِدَ مُطَوَّلة جدًّا، وقد أُفرِدَت له تراجِمُ كثيرة، وصَنَّف في ذلك جماعةٌ من الفضلاء وغيرهم، ويدُلُّ على علمِه وفَضلِه مُصَنَّفاتُه، كالتفسير، ومنهاج السنة، ودرء تعارض العقل والنقل، وفتاويه التي جُمِعَت، وغيرها كثير، كان جريئًا قويًّا لا يخاف في الله لومةَ لائم، حثَّ الناسَ والأمراء على جهاد التتار، بل ذهب بنفسه لمقابلةِ مَلِكهم قازان حين جاء ليدخُلَ دمشق وقال له: أنت تدعي أنك مسلم فلمَ جئت تغزو بلاد الإسلامِ؟ وغير ذلك من المواقف المشَرِّفة، مثل وقت استفتاه السلطان الناصر محمد بن قلاوون في قَتْلِ الفقهاء والقضاة الذين كانوا ضِدَّه يومَ خَلَع نفسَه وكانوا مع المظفَّر بيبرس، وكان منهم من آذى الشيخَ نَفسَه، فلم يُفْتِ له الشيخُ بأذِيَّتِهم، بل بيَّنَ له حُرمةَ وقَدرَ العُلَماءِ، وقال: إنَّه لا ينتصر لنفسِه، وكلُّ من آذاه فهو في حِلٍّ، وهذا من تمامِ فَضلِه وحُسنِ خُلُقِه، وله الأثرُ الكبيرُ في مُناظرة أهلِ البِدَع والعقائِدِ الفاسدة بما أحيا اللهُ على يديه ممَّا اندرس بين النَّاسِ منها، فكان بحَقٍّ مُجَدِّدًا للدين، فرحمه الله تعالى وجزاه عن الإسلامِ والمسلمين خيرًا.