حقَّق القائد العثماني الشهير حسن باشا بن بربروسا انتصارًا كبيرًا على النصارى الإسبان في معركة "مستغانم" بالجزائر؛ حيث قُتل في هذه المعركة 12 ألفًا من الإسبان، وتشتهرُ هذه المعركة في التاريخ بأنَّه لم يبقَ فيها جندي إسباني على قيدِ الحياة، حيث تمَّ إفناءُ الجيش الإسباني عن بَكرة أبيه. وكان سببُها أن حاكم وهران دو الكوديت كان يدركُ أنَّ استرجاع العثمانيين لتلمسان يهدِّدُ الوجود الإسباني تهديدًا خطيرًا، فقرَّر الاستيلاءَ على مستغانم التي جعلها العثمانيون قاعدةً لهم للهجومِ على وهران، وكان دو الكوديت يأملُ أن يجعَلَها قاعدةً للهجوم على الجزائر؛ لذلك أعدَّ قوة كبيرة تتكون من اثني عشر ألف مقاتل وخرج على رأسها فهاجم مدينة مستغانم، إلَّا أن محاولته باءت بالفشل، وكان حاكم وهران الكوديت من بين هؤلاء القتلى.
عيَّن السلطانُ أحمد لالا محمد باشا صدرًا أعظم خليفةً للصدر الأعظم يمشجي حسن باشا، حيث كان سردارًا عامًّا للجيوش التي جاهدت في النمسا، وهو من خيرة قوَّاد الجيوش، فاهتمَّ بتقوية الجيوش العثمانية وحاصر قلعةَ استراغون وفتحها، كما حارب إماراتِ الأفلاق والبغدان والأردل، وعقد صلحًا معهم، ولما مات لالا باشا خلَفَه قبوجي مراد باشا صدرًا أعظم، وكان قائدًا لإحدى فرق الجيش، وقد نجحت الجيوشُ العثمانية في هزيمة النمسا واسترداد القلاع الحصينة من مدن يانق واستراغون وبلغراد وغيرها، كما نجحت الجيوشُ العثمانية في جهادِها بالمجر وهزمت النمسا هناك، ونجم عن ذلك قبول النمسا بطلب الصلحِ ودفعِ جزية للدَّولة العثمانية مقدارها مائتا ألف دوكة من الذهب، وبقيت بلادُ المجر بموجِب هذه المعاهدة تابعةً للدولة العثمانية.
حجَّ الإمام سعود الحجَّةَ الرابعة بجميعِ نواحي رعاياه، حَجَّ معه أكثر من 100 ألف, ودخل مكَّةَ بجميع تلك الجموع واعتَمَروا وحَجُّوا بأحسن حال, وزار الشريفُ غالب الإمامَ سعودًا مرارا وصار معه كالشقيقِ فيزورُه أحيانًا وحده ومعه رجل أو رجلين، وأحيانًا بخيله ورجالِه, وكثيرًا ما يدخل سعود الحرم ويطوف بالبيتِ ويجلس فوقَ زمزم ومعه خواصُّه، وبَثَّ في مكة الصدقات والعطاء لأهلها وضعفائها شيئًا كثيرًا، وكسا الكعبةَ كسوةً فاخرةً، وجعل إزارَها وكسوة بابها حريرًا مطرَّزًا بالذهب والفضة، وأقام فيها نحوًا من ثمانية عشر يومًا, ثم رحل منها وقصد المدينة وأقام فيها عدة أيام ورتب مرابِطةً في ثغورِها، وأخرج مَن في القلعة من أهلِها، وجعل فيها مرابِطةً مِن أهل نجدٍ.
وقع وباءٌ وموتٌ عظيم في مكة، وهو الوباء المعروف بـ أبو زويعة (العقاص) وأوَّل ما وقع فيها قبل قدومِ الحاجِّ، ومات منه فئامٌ مِن الناس ثم ارتفع عنها مع دخول ذي الحجة، فلما كان يومُ النحر حلَّ الوباء والموت العظيم ثانيًا في الحاجِّ وغيرِهم، وقيل: لم يبقَ من حاج الشامِ إلا قدرُ ثلُثِه، ومن حاجِّ أهل نجد من كلِّ بلد هلك بعضُهم نصفُه، وبعضهم أقل أو أكثر، وأُحصي من مات من أهل مكة فكانوا 16 ألف نفسٍ، ولَمَّا قَدِمَ الحاج الشامي المدينةَ بالليل راجعًا من مكة وقع الموتُ في الناس وقتَ السَّحَرِ، وحل بهم أمرٌ عظيمٌ، فخرج أهل المدينة بالنساء والأطفال وتضرَّعوا في حرَمِ النبي صلى الله عليه وسلم، حتى رفع اللهُ عنهم البلاء.
استطاع إبراهيم باشا أن يستوليَ على بلاد الشام جميعِها ويهزِمَ جيشَ حسين باشا من قِبَلِ الخليفة العثماني، فتابع إبراهيمُ سيرَه باتجاه الأناضول فجهَّز الخليفةُ أيضًا جيشًا آخر بقيادة رشيد باشا الذي التقى مع إبراهيم قرب قونية بعد أن اجتاز إبراهيم جبالَ طوروس، واحتَلَّ أضنة، وانتصر إبراهيم باشا وأخذ القائِدَ رشيد باشا أسيرًا، وأصبحت أبوابُ استانبول مفتوحةً أمامه، فخَشِيَت الدول الأوربية أن يتوغَّلَ أكثر من ذلك خوفًا على مصالحِهم، وكان أكثرُهم خوفًا روسيا التي عَرَضت الدعمَ، فأرسلت خمسة عشر ألفَ مقاتل لحمايةِ استانبول، فخافت إنكلترا وفرنسا أيضًا من أن تحظى روسيا بمفردها بالنفوذِ، فطلبوا من الخليفة التفاهُمَ مع محمد علي باشا، فكانت معاهدة كوتاهية في عام 1248هـ التي أوقفت تقَدُّمَ إبراهيم باشا عن دخولِ الأناضول.
الدكتور مصطفى كمال محمود حُسين آل محفوظ، وُلِد عامَ (1921م)، وكان توأمًا لأخٍ توفِّي في العامِ نفسِه، وهو طبيبٌ وكاتبٌ من مواليدِ شبين الكوم بمحافظة المنوفية، درس الطبَّ وتخرَّج عامَ (1953م)، ولكنه تفرَّغ للكتابةِ والبحثِ عامَ (1960م)، تزوَّج مرَّتَين، وانتهى كلا الزواجَين بالطلاق. ألَّف (89) كتابًا، منها الكتبُ العلميةُ والدينيَّةُ والفلسفية والاجتماعيةُ والسياسيَّةُ والحِكاياتُ والمَسرَحياتُ وقَصَص الرِّحْلاتِ، بالإضافة إلى برنامَجِه التلفزيونيِّ (العلم والإيمان). له عددٌ من الكتبِ فيها كثير من الشَّطَحات والفلسفات التَّشكيكيَّةِ، منها: كتاب (الله والإنسان) وكتاب (الشفاعة) وكتاب (محاولة لفهمٍ عصري للقرآن)، وقد أُصيب بجلطةٍ مُخِّيَّة عامَ (2003م) وعاش مُنعزلًا وحيدًا، وتُوفِّي بعد معاناةٍ طويلةٍ مع المرض ظلَّ خلالَها طريحَ الفراشِ.
تُوفِّي الشيخُ ملا محمد عزيزي -رحمه الله- عن عمرٍ ناهَزَ الثَّمانين، بعد معاناةٍ طويلةٍ مع المرضِ، وتمَّ تشيِيعُ جُثمانه في جموعٍ حاشدةٍ من الطَّلَبة والعلماءِ وغيرِهم، وذلك في مسقط رأسِه، قرية "برده رش" من توابِعِ مدينة "بانه" في مديرية "نمشير". وكان من المُجتَهدين في الدعوة، في محافظةِ كُردستان الإيرانية. وقد وُلد في سنةِ (1349هـ) من أسرةٍ عُرِفت بالتديُّن والالتزام. وكان والدُه الشيخ عبد القادر من عُلَماء المِنطَقة، وكان يهتمُّ كثيرًا بتربِيَةِ ولدِه تربيةً إسلامية، وبتلقِّيه العلومَ الشرعية. وأقبل الشيخُ عزيزي -بعد إكمالِه الدراسةَ الشرعيةَ- إلى النَّشاطات العِلميَّة والدَّعويَّة في المنطقة؛ حيث ألَّف كثيرًا من الرسائلِ والكتب باللُّغَتين الكُردية والفارسِيَّة، بالإضافةِ إلى نشاطاتِه الدعويَّةِ والثقافيَّة، ومنها: تخريجُ عددٍ كبيرٍ من الطَّلبةِ والدُّعاةِ، ومكافحةِ البِدَعِ والخُرافات وسائر المُحرَّمات الشرعيةِ.
هو السلطانُ المَلِكُ المظَفَّر فخر الدين داود ابن الملك الصالح صالح ابن الملك المنصور غازي بن ألبي بن تمرتاش بن إيل غازي بن أرتق الأرتقي، صاحِبُ ماردين وابنُ صاحبها بماردين، وكان الملك المظفَّر هذا وَلِيَ مُلكَ ماردين بعد ابن أخيه الملك الصالح محمود الذي أقام في سلطنة ماردين أربعة أشهر عوضًا عن والده الملك المنصور أحمد ابن الملك الصالح صالح، وخُلِعَ الملك الصالح محمود، وتسلطن الملِكُ المظفر، فأظهر العدلَ واقتفى أثر والده الملك الصالح في الإحسان إلى الرعية وإصلاح الأمور إلى أن مات، توفِّيَ في هذه السنة بعد أن حكمها نحو عشرين سنة، وتولى سلطنةَ ماردين من بعدِه ابنُه الملك الظاهر مجد الدين عيسى.
هو الملك المغيث فتح الدين أبو الفتح عمر بن الملك العادل أبي بكر بن الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، صاحب الكرك، كان مولده بالقاهرة في صفر سنة 606. قتل المَلِك المغيث في هذه السنة, وسَبَب قتله كما قال الذهبي: "أنه كان في قلب الملك الظاهِرِ بيبرس منه غيظٌ عظيم، لأمورٍ كانت بينهما، قيل إنَّ المغيث أكره امرأةَ الملك الظاهر بيبرس، لَمَّا قبضَ المغيث على البحرية. وأرسَلَهم إلى الناصر يوسف صاحب دمشق، وهرب الملِكُ الظاهر بيبرس، وبقيت امرأتُه في الكرك، والله أعلم بحقيقة ذلك، وكان من حديثِ مَقتَلِه: أنَّ الملك الظاهر بيبرس ما زال يجتهد على حضور المغيث، وسار المغيثُ حتى وصل إلى بيسان، فركب الملك الظاهِرُ بعساكره والتقاه في يوم السبت السابع والعشرين من جمادى الأولى من هذه السنة، فلما شاهَدَ المغيث الملك الظاهر، ترجَّلَ فمنعه الملك الظاهِرُ وأركبه وساقَ إلى جانِبِه، وقد تغير وجهُ الملك الظاهر، فلما قارب الدهليز، أفرد المَلِكَ المغيثَ عنه وأنزَلَه في خيمةٍ وقَبَضَ عليه، وأحضر الفُقَهاءَ والقضاة وأوقَفَهم على مكاتبات من التتار إلى الملك المغيث، أجوبةً عمَّا كتب إليهم به في إطماعِهم في ملك مصر والشام, ثم أرسَلَه مُعتَقَلًا إلى مصر، فكان آخرَ العهد به. وقيل إنه حُمِلَ إلى امرأة الملك الظاهر بيبرس بقلعة الجبل، فأمَرَت جواريَها فقتَلْنَه بالقباقيبِ" قُتِلَ المغيث في السابع والعشرين من ذي الحجة.
توفي الملك الكامل خليل ابن الملك الأشرف أحمد ابن الملك العادل سليمان، صاحب حصن كيفا من ديار بكر، تولى ملك الحصن بعد قتل أبيه الملك الأشرف سنة 836 على يد أعوان قرايلك, وتوفِّي هو قتيلًا بيد ولده في شهر ربيع الأول. وتولى ولده الملك من بعده، ولقِّبَ بالملك الناصر، ودام في مملكة الحصن إلى شهر رمضان من نفس السنة, فوثب عليه ابن عمه الملك حسن وقتله، وسلطن أخاه أحمد، ولقَّبه بلقب أبيه المقتول، الملك الكامل.
كان لأهلِ الهندِ صَنمٌ مَعروفٌ بسومنات يُعَظِّمونَه أشَدَّ التَّعظيمِ، ويقَدِّمونَ له مِن القَرابينِ ما لا يُقَدَّمُ لصَنَمٍ غَيرِه، وكان يمينُ الدَّولة كلَّما فتَحَ مِن الهندِ فتحًا، وكسَرَ صنمًا يقولُ الهنود: إنَّ هذه الأصنامَ قد سَخِطَ عليها سومنات، ولو أنَّه راضٍ عنها لأهلَكَ مَن تقَصَّدَها بسُوءٍ، وقد كانوا يَفِدونَ إليه مِن كُلِّ فَجٍّ عَميقٍ، كما يفِدُ النَّاسُ إلى الكعبةِ بالبيتِ الحَرامِ، ويُنفِقونَ عنده النَّفَقاتِ والأموالَ الكثيرةَ التي لا تُوصَفُ ولا تُعَدُّ، وكان عليه من الأوقافِ عَشرةُ آلافِ قَريةٍ ومدينةٍ مشهورةٍ، وقد امتلأت خزائِنُه أموالًا، وعنده ألفُ رجُلٍ يَخدُمونَه، ومئاتُ الرِّجالِ يَحلِقونَ رُؤوسَ حَجيجِه، وكان عنده من المجاورينَ ألوفٌ يأكُلونَ مِن أوقافِه، فلَمَّا بلغ خبَرُ هذا الصَّنمِ وعُبَّادِه السُّلطانَ يَمينَ الدَّولةِ محمودَ الغَزنويَّ، عَزَمَ على غَزوِه وإهلاكِه, فاستخار اللهَ لِما بلَغَه مِن كَثرةِ الهُنودِ في طريقِه، والمفاوِز المُهلِكة، والأرض الخَطِرة، في تجَشُّم ذلك في جَيشِه، وعليه أن يقطَعَ تلك الأهوالَ، فانتَدَب معه ثلاثون ألفًا مِن المُقاتِلة مِمَّن اختارهم لذلك سِوى المتطَوِّعةِ، فسَلَّمَهم اللهُ حتى انتَهَوا إلى بلدِ هذا الوَثَن، ونزلوا بساحةِ عُبَّادِه، فإذا هو بمكانٍ بقَدرِ المدينةِ العظيمة، فما أسرَعَ أن مَلَكَه، وقتَلَ مِن أهله خمسينَ ألفًا وقلَعَ الوَثَن وأوقد تحته النَّارَ. قال ابنُ كثير: "ذكر غيرُ واحدٍ أنَّ الهنودَ بَذَلوا للسُّلطانِ مَحمود أموالًا جزيلةً لِيَترُكَ لهم هذا الصَّنمَ الأعظَمَ، فأشار من أشار مِن الأمراءِ على السلطان محمود بأخذِ الأموالِ وإبقاءِ هذا الصَّنَم لهم، فقال: حتى أستخيرَ اللهَ عَزَّ وجَلَّ، فلمَّا أصبَحَ قال: إنِّي فكَّرتُ في الأمرِ الذي ذُكِرَ، فرأيتُ أنَّه إذا نودِيتُ يومَ القيامةِ أين محمود الذي كسَرَ الصَّنَم، أحَبُّ إليَّ مَن أن يقالَ: الذي ترَكَ الصَّنَمَ لأجْلِ ما ينالُه من الدُّنيا! ثمَّ عَزَم رَحِمَه اللهُ فكَسَرَه، فوجد عليه وفيه مِن الجواهِرِ واللآلئِ والذَّهَبِ والجواهِرِ النَّفيسة ما يُنَيِّفُ على ما بَذَلوه له بأضعافٍ مُضاعَفةٍ، ونرجو مِن اللهِ له في الآخرةِ الثَّوابَ الجَزيلَ الذي مِثقالُ دانقٍ منه خيرٌ مِن الدنيا وما فيها، مع ما حصَلَ له من الثَّناءِ الجَميلِ الدُّنيوي، فرَحِمَه اللهُ وأكرَمَ مَثواه", ثمَّ رحَلَ يَمينُ الدَّولة عائدًا إلى غزنة، فوصَلَها عاشِرَ صَفَر سنة 417.
كان أبو علي يونُس بنُ عمر وَلِيَ المهديَّةَ، وجَعَل قائِدَ الجيش بالمهدية محمَّد بن عبد الكريم، وهو شجاعٌ مشهور، فعَظُمَت نكايته في العرب، فلم يَبقَ منهم إلَّا من يخافه، فاتَّفَق أنه أتاه الخبَرُ بأن طائفة من عوف نازلون بمكان، فخرج إليهم، وعَدَل عنهم حتى جازهم، ثم أقبَلَ عائدًا يطلُبُهم، وأتاهم الخبَرُ بخروجه إليهم، فهربوا من بين يديه، فلَقُوه أمامهم، فهربوا وتركوا المالَ والعيال من غيرِ قتال، فأخذ الجميعَ ورجع إلى المهديَّة، وسَلَّم العيالَ إلى الوالي، وأخَذَ مِن الأسلاب والغنيمة ما شاء، وسَلَّمَ الباقيَ إلى الوالي وإلى الجند، ثمَّ إن العرب من بني عوف قصدوا أبا سعيدِ بن عمر اينتي، فوحدوا وصاروا من حِزبِ الموحِّدين، واستجاروا به في رَدِّ عيالهم، فأحضَرَ محمد بن عبد الكريم، وأمره بإعادةِ ما أخذ لهم من النَّعَم، فقال: أخَذَه الجُندُ، ولا أقدِرُ على رده، فأغلظ له في القَولِ، وأراد أن يبطِشَ به، فاستمهَلَه إلى أن يرجِعَ إلى المهديَّة ويسترِدَّ مِن الجند ما يجِدُه عندهم، وما عَدِمَ منه غُرِّمَ العِوَضَ عنه من ماله، فأمهله، فعاد إلى المهديَّة وهو خائف، فلما وصلها جمَعَ أصحابَه وأعلمهم ما كان من أبي سعيد، وحالفهم على موافقتِه، فحَلَفوا له، فقَبَضَ على أبي علي يونس، وتغلَّب على المهديَّة ومَلَكَها، فأرسل إليه أبو سعيد في معنى إطلاقِ أخيه يونس، فأطلَقَه على اثني عشر ألف دينار، فلما أرسَلَها إليه أبو سعيد فَرَّقَها في الجند وأطلق يونس، وجمَعَ أبو سعيد العساكرَ، وأراد قَصْدَه ومحاصرته، فأرسل محمد بن عبد الكريم إلى عليِّ بن إسحاق الملثم فحالفه واعتضَدَ به، فامتنع أبو سعيدٍ مِن قصده، ومات يعقوبُ وولي ابنه محمد، فسير عسكرًا مع عَمِّه في البحر، وعسكرًا آخَرَ في البر مع ابنِ عَمِّه الحسن بن أبي حفص بن عبد المؤمن، فلما وصلَ عسكر البحر إلى بجاية، وعسكَرُ البَرِّ إلى قسنطينة الهوى، هرب الملثَّم ومن معه من العرب من بلاد إفريقيَّة إلى الصحراء، ووصل الأسطولُ إلى المهديَّة، فشكا محمد بن عبد الكريم ما لَقِيَ من أبي سعيد، وقال: أنا على طاعةِ أمير المؤمنين محمد، ولا أسَلِّمُها إلى أبي سعيد، وإنما أسلمها إلى من يَصِلُ من أمير المؤمنين؛ فأرسل محمَّد مَن يتَسَلَّمُها منه، وعاد إلى الطاعةِ.
كان ملك المجر فيلاد يسلاف الثاني جاجليو قد عزم على فكِّ أي تعهدات كانت قد أُعطيت من قِبَل أسلافه لسلاطين الدولة العثمانية، وذهب إلى حدِّ قَتْل مبعوث السلطان سليمان إليه، وكان المبعوثُ يطالب بالجزية السنوية المفروضة على المجر، فسيَّرَ السلطان سليمان القانوني جيشًا من القسطنطينية لمحاربة المجر، مؤلفًا من مائة ألف جندي و300 مدفع و800 سفينة في نهر الطونة- الدانوب- لنقل الجيوش من برٍّ إلى آخر، فسار الجيش تحت قيادة السلطان ووزرائه الثلاثة إلى بلاد المجر من طريق الصرب مارين بقلعة بلغراد التي جُعِلت قاعدةً لأعمالهم الحربية، وبعد أن افتتح الجيش عدةَ قلاع ذات أهمية حربية على نهر الطونة، وصل بجمعه إلى وادي موهاكس في 20 ذي القعدة من هذه السنة، وفي اليوم الثاني اصطفَّت الجنود العثمانية على ثلاثة صفوف، وكان السلطان ومعه كافة المدافع وفرقة الانكشارية في الصف الثالث، فهجم فرسان المجر المشهورون بالبسالة والإقدام تحت قيادة ملكِهم على صفِّ العساكر العثماني الأول، فتقهقر أمامهم العثمانيون خلفَ المدافع، ولَمَّا وصلت فرسان المجر بالقرب من المدافع أمر السلطان بإطلاقِها عليهم فأطلقت تباعًا وتوالى إطلاقها بسرعة غريبة أوقعت الرعبَ في قلوب المجَريين، فأخذوا في التقهقر تتبعُهم العساكر المظفرة، حتى قُتِل أغلب الفرسان المجرية وقُتِل مَلِكُهم ولم يُعثَر على جثته، فكانت هذه الواقعة سببًا في ضياع استقلال بلاد المجر بأسرها؛ لعدم وجود جيش آخر يقاوم العثمانيين في مسيرهم، ولحصول الفوضى في البلاد بسبب موت ملِكِهم؛ ولذلك أرسل أهالي مدينة بودبست عاصمة المجر مفاتيحَ المدينة إلى السلطان سليمان فاستلمَها وسار يحفُّ به النصر ويحدوه الجلال حتى وصل إلى مدينة بود ودخلها في 3 ذي الحجة مشددًا الأوامر على الجنود بعدم التعرض للأهالي، والمحافظة على النظام، لكن لم تُجدِ تنبيهاته شيئًا بل انتشرت الجنود في جميع أنحاء المدينة وفي جميع أرجاء بلاد المجر, وبعد دخول السلطان إلى مدينة بود جمع أعيان القوم وأمراءهم، ووعدهم بأن يعيِّنَ جان زابولي أمير ترانسلفانيا ملكًا عليهم ثم غادرها إلى مقر خلافته مستصحبًا معه كثيرًا من نفائس البلاد وأهمُّها الكتب التي كانت موجودة في خزائن متياس كورفن.
ظهر التترُ إلى بلاد الإسلام، وهم نوع كثير من الترك، ومساكنُهم جبالُ طمغاج من نحو الصين، وكان السبب في ظهورِهم أنَّ مَلِكَهم- ويسمى بجنكيزخان، المعروف بتموجين- كان قد فارق بلاده وسار إلى نواحي تركستان، وسيَّرَ جماعة من التجار والأتراك، ومعهم شيءٌ كثير من النقرة- قطع مذابةُ من الذَّهب أَو الفِضَّة- وغيرِها، إلى بلاد ما وراء النهر سمرقند وبخارى؛ ليشتروا له ثيابًا للكسوة، فوصلوا إلى مدينة من بلاد الترك تسمى أوترا، وهي آخرُ ولاية خوارزم شاه محمد، وكان له نائب هناك، فلما ورد عليه هذه الطائفةُ مِن التَّتَر أرسل إلى خوارزم شاه يُعلِمُه بوصولهم ويذكُرُ له ما معهم من الأموالِ، فبعث إليه خوارزم شاه يأمُرُه بقتلِهم وأخْذِ ما معهم من الأموالِ وإنفاذِه إليهم، فقتلهم، وسيَّرَ ما معهم، وكان شيئًا كثيرًا، فلمَّا وصل إلى خوارزم شاه فرَّقه على تجار بخارى، وسمرقند، وأخذ ثمَنَه منهم، وكان بعد أن ملك ما وراء النهر من الخطا قد سدَّ الطرقَ عن بلاد تركستان وما بعدها من البلادِ، وإنَّ طائفةً من التتر أيضًا كانوا قد خرجوا قديمًا والبلادُ للخطا، فلمَّا ملك خوارزم شاه البلادَ بما وراء النهر من الخطا، قتَلَهم. استولى التتَرُ على تركستان: كاشغر، وبلاساغون وغيرهما، وصاروا يحاربونَ عساكِرَ خوارزم شاه، فلذلك منعَ الميرة عنهم من الكسوات وغيرها، فلما قتَلَ نائبُ خوارزم شاه أصحابَ جنكيزخان أرسل جواسيس إلى جنكيزخان لينظُرَ ما هو، وكم مقدارُ ما معه من الترك، وما يريدُ أن يعمل، فمضى الجواسيسُ، وسلكوا المفازةَ والجبال التي على طريقِهم، حتى وصلوا إليه، فعادوا بعد مدَّةٍ طويلة وأخبَروه بكثرةِ عَدَدِهم، وأنَّهم يخرجون عن الإحصاء، وأنَّهم من أصبر خلقِ الله على القتال لا يعرفونَ هزيمةً، وأنهم يعملون ما يحتاجون إليه من السلاحِ بأيديهم، فندم خوارزم شاه على قَتلِ أصحابهم وأخْذِ أموالهم، وكان جنكيزخان قد سار إلى تركستان، فملكها، وأزال عنها التترَ الأولى، فلم يظهر لهم خبَرٌ، ولا بقي لهم أثر، بل بادوا كما أصاب الخطا، وتجهز خوارزم شاه، وسار مبادرًا ليسبِقَ خبره ويكبِسَهم، فأدمن السير، فمضى، وقطع مسيرة أربعة أشهر، فوصل إلى بيوتهم، فلم يرَ فيها إلا النِّساءَ والصبيان والأثقال، فأوقع بهم وغنم الجميع، وسبى النساء والذرية، وكان سببُ غيبة الكفار عن بيوتهم أنَّهم ساروا إلى محاربة ملك من ملوك الترك يقال له كشلوخان، فقاتلوه، وهزموه، وغَنِموا أمواله وعادوا، فلَقِيَهم في الطريق الخبر بما فعل خوارزم شاه بمخَلَّفيهم، فجدُّوا السير، فأدركوه قبل أن يخرجَ عن بيوتهم، وتصافُّوا للحرب، واقتتلوا قتالًا لم يُسمَعْ بمثله، فبَقُوا في الحرب ثلاثة أيام بلياليها، فقُتِلَ من الطائفتين ما لا يُعَدُّ، ولم ينهزم أحد منهم، أما المسلمون فإنهم صبروا حميَّةً للدين، وعلموا أنهم إن انهزموا لم يبقَ للمسلمين باقية، وأنهم يؤخَذون لبُعدِهم عن بلادهم، وأما الكفَّار فصبروا لاستنقاذ أهليهم وأموالهم، واشتدَّ بهم الأمر، حتى إنَّ أحدهم كان ينزل عن فرسِه ويقاتل قرنَه رَجِلًا، ويتضاربون بالسكاكين، وجرى الدمُ على الأرض، حتى صارت الخيلُ تزلق من كثرته، واستنفذ الطائفتان وُسعَهم في الصبر والقتال، هذا القتالُ جميعه مع ابن جنكيزخان ولم يحضُر أبوه الوقعة، ولم يشعرْ بها، فأحصِيَ من قتل من المسلمين في هذه الوقعة فكانوا عشرين ألفًا، وأما من الكفَّار فلا يحصى من قُتِل منهم، فلما كان الليلة الرابعة افترقوا، فنزل بعضُهم مقابل بعض، فلما أظلم الليلُ أوقد الكفار نيرانهم وتركوها بحالها وساروا، وكذلك فعل المسلمون أيضًا، كل منهم سَئِمَ القتال؛ فأما الكفار فعادوا إلى مَلِكهم جنكيزخان؛ وأما المسلمون فرجعوا إلى بخارى، فاستعدَّ صاحبها للحصار لعلمه بعجزه؛ لأنَّ طائفة عسكره لم يقدر على أن يظفَرَ بالتتر، فكيف إذا جاؤوا جميعُهم مع ملكهم؟ فأمر أهل بخارى وسمرقند بالاستعداد للحصار، وجمعَ الذخائرَ للامتناع، وجعلَ في بخارى عشرين ألف فارس من العسكر يحمونَها، وفي سمرقند خمسين ألفًا، وقال لهم: احفظوا البلد حتى أعود إلى خوارزم وخراسان وأجمع العساكر وأستنجد بالمسلمين وأعود إليكم.
كان أوَّلَ مَن أظهرَ إسلامَه سبعةٌ: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكرٍ، وعمَّارٌ، وأمُّهُ سُميَّةُ، وصُهيبٌ، وبلالٌ، والمقدادُ، فأمَّا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فمنعهُ الله بعمِّه أبي طالبٍ، وأمَّا أبو بكرٍ فمنعهُ بقومِه، وأما سائرهُم فأخذهُم المشركون فألبسوهُم أَدراعَ الحديدِ وصَهروهُم في الشَّمسِ، فما منهُم إلَّا مَن واتاهُم فيما أرادوا وأَوْهَمهُم بذلك إلَّا بلالًا، فإنَّه هانتْ عَليهِ نفسُه في الله عزَّ وجلَّ، وهان على قومِه فأخذوه، وأعطوه الوِلدانَ، فجعلوا يطوفون به في شِعابِ مكَّة، وهو يقولُ: أَحَدٌ، أَحَدٌ. فجعلوا في عُنقهِ حبلًا، ودفعوه إلى الصِّبيانِ يلعبون بهِ، حتَّى أثَّر في عُنقهِ، وكان بلالٌ لبعضِ بني جُمَحٍ، وكان الذي يتولَّى كِبْرَ تَعذيبهِ أُميَّةُ بنُ خَلفٍ، فكان يُخرجهُ إذا حَمِيَتِ الظَّهيرةُ، فيَطرَحهُ على ظَهرهِ في بَطحاءِ مكَّة، ثمَّ يأمرُ بالصَّخرةِ العظيمةِ فتوضعُ على صدرهِ. ثمَّ يقولُ له: لا تزالُ هكذا حتَّى تموتَ أو تكفرَ بمحمَّدٍ وتعبدَ اللَّاتَ والعُزَّي. فيقولُ وهو في هذا العذابِ والبلاءِ: أَحَدٌ أَحَدٌ. وكأنَّما كان يزيدُه عذابُه وبلاؤُه إيمانًا فوق إيمانٍ، ورقَّ له أبو بكرٍ حين رآهُ يومًا في هذا الهوانِ الشَّديدِ، فاشتراهُ وأعتقهُ، وأعتقَ معه سِتًّا ممَّن كانوا يُعذَّبون على الإسلامِ.