كان محمد المتوكل على الله بعد هزيمته من عمِّه عبد الملك قد اتصل بمَلِك البرتغال سبستيان، واتَّفق معه على أن يُعينَه على طرد عمِّه من حكم المغرب، وأن يتنازلَ له مقابل ذلك عن جميع شواطئ المغرب، فقَبِلَ سبستيان ذلك العرض المغربي، انتقل المتوكِّل إلى سبتة، وأقام بها أربعة شهور، ومنها اتَّجه إلى طنجة في انتظار سبستيان على رأس القوات العسكرية، وفي أثناء استعدادات الدول الأوروبية- وخاصة البرتغال- للوثوب على المغرب، وإخضاعه بالكامل، حيث استطاع سبستيان أن يحشد من النصارى عشرات الألوف من الإسبان والبرتغاليين والطليان والألمان، وجهَّز هذه الألوف بكافة الأسلحة الممكِنة في زمنه، وجهَّز ألف مركب لتحمِلَ هؤلاء الجنود نحو المغرب، وأقلُّ ما قيل في عددهم ثمانون ألف مقاتل! بينما كان المغاربة بقيادة السلطان أبي مروان عبد الملك السعدي وتَعداد جيشه أربعون ألف مجاهد يملكون تفوقًا في الخيل، ومدافِعُهم أربعة وثلاثون مِدفعًا فقط، وكانت معنوياتهم مرتفعةً جدًّا, وقد أرسل العثمانيون لهم مُدرَّبين وأسلحة متنوعة، مشفوعة بفيلق عسكري, فقامت معركة بين الطرفين صباح الاثنين 30 جمادى الآخرة من هذه السنة تسمى معركة وادي المخازن، أو ما يعرف بمعركة الملوك الثلاثة، والتي تُسمَّى في كتب التاريخ معركة القصر الكبير، استمرت ما يزيد على الأربع ساعات، كتب الله فيها النصر للإسلام والمسلمين، وقد قُتِلَ في المعركة مَلِكُ السعديين عبد الملك أبو مروان، والملك المخلوع ابن أخيه محمد الثاني المتوكل على الله، والملك سبستيان ملك البرتغال، وقد وصَفَ بعض مؤرخي البرتغال نتائجَ المعركة بقوله: كان مخبوءًا لنا في مستقبل الأعصار العصرُ الذي لو وصفتُه لقلتُ: هو العصرُ النحسُ البالِغُ النحوسةِ، الذي انتهت فيه مدَّةُ الصولة والظفر والنجاح، وانقَضَت فيه أيامُ العناية من البرتغال، وانطفأ مصباحُهم بين الأجناس، وزال رونقُهم، وذهبت النخوةُ والقوة منهم، وخلفها الفشلُ الذريع، وانقطع الرجاء واضمحلَّ إبَّان الغنى والربح، وذلك هو العصر الذي هلك فيه سبستيان في القصر الكبير في بلاد المغرب, وكان من أهم أسباب هذه المعارك رغبةُ البرتغاليين أن يمحو عن أنفسهم العار والخزي الذي لحقهم بسبب ضربات المغاربة الموفَّقة، والتي جعلتهم ينسحبون من آسفي وأزمور وآصيلا وغيرها في زمن يوحنا الثالث (1521-1557م)، كما أراد مَلِكُ البرتغال الجديد سبستيان بن يوحنا أن يخوض حربًا مقدَّسة ضِدَّ المسلمين حتى يعلوَ شأنه بين ملوك أوروبا، وزاد من غروره ما حقَّقه البرتغاليون من اكتشافات جغرافية جديدة أراد أن يستفيد منها من أجل تطويق العالم الإسلامي، يدفعُه في ذلك حِقدُه على الإسلام وأهلِه عمومًا، وعلى المغرب خصوصًا، فجمع بين الحقدِ الصليبي والعقليَّة الاستعمارية التي ترى أنَّ يدها مُطلقةٌ في كل أرض مسلمة تعجِزُ عن حماية نفسِها من أي خطر خارجي.
هو الشيخُ أبو محمد عثمان بن محمد الملقب بـ (فودي) بن عثمان بن صالح بن هارون بن محمد أحدُ علماء نيجيريا، كان مالكيَّ المذهب. ولِدَ في قرية طقِل في شمال نيجيريا، سنة 1169هـ يعتبرُ عثمان دان فوديو مؤسِّسَ دولة تكرور في سوكوتو في غربِ أفريقيا قريبًا من نهر الكونغو، وكان قد عاد من الحجِّ وهو ممتلئٌ حماسةً للإصلاح الديني، فكَثُر أتباعُه والمتحمِّسون لأفكارِه، فلما زاد عددُ أتباعه ومريديه، وفكَّرَ في الاتصال بأحدِ الملوك ليشُدَّ مِن أزره، فلجأ إلى أقوى ملوكِ الهوسة- وهو وقتذاك- الملِكُ نافتا (ملك غوبر)، وشرح له الإسلامَ الصحيح وطلبَ إليه إحياءَ معالم الدين، وإقامةَ العدل بين الناس. فاستجاب له أوَّلَ الأمر وأسند إليه الفتوى والإرشادَ بمجلِسِه وديوانه، غيرَ أنَّ بعض مدَّعي العلمِ الحاقدين قاموا يعَيِّرونه لاتصاله بالمَلِك ويتَّهمونه بالرياء والسعي إلى الجاه والسلطان، ووشَوا به عنده، ومنهم من أنكر عليه بعضَ أقواله وأفعاله، فوقعت بينه وبين المَلِك جفوة سافر بسَبَبِها الشيخ إلى بلاد زمفرة وكبي. يقول الإمام محمد بللو ابن الشيخ عثمان بن فودي عن معاناة والده: "ثم إنَّه لما برز هكذا، وكثُرَ أتباعه من العلماء والعوام، وتراسل الخلقُ إلى الاقتداء به، وكفاه اللهُ من ناوأه من علماءِ وَقتِه، حتى نشر أعلامَ الدين، وأحيا السنة الغرَّاء، فتمكَّنت في البلد أيَّ تمكين- نصَبَ أهل الدنيا له العداوةَ مِن أمراء هذه البلاد،..... وإنما غاظهم ما يرون من ظهورِ الدين وقيام ما درس مِن معالم اليقين، وذَهاب بقاءِ ما هم فيه من الضَّلالِ والباطِلِ والتخمين، مع أنَّ سَلطنتَهم.. مؤسَّسة على قواعِدَ مخُالِفة للشريعة.... فلمَّا أوضح الشيخُ الطريق، واهتدى إليه أهلُ التوفيق... وبقِيَ أهل الدنيا من علماءِ السوء والملوك في طغيانِهم يعمهون،... فجعل أولئك الملوك والعلماء يؤذون الجماعةَ (أتباعه)، ويعترضون كلَّ من ينتسب إلى الشيخ،... ولم يزَلْ كُلُّ من تولى من ملوكِ بلادنا مجتَهِدًا في إطفاءِ ذلك النور، ويكيد بالشيخِ وبجماعته، ويمكُرُ بهم ويحتال في استئصالهم" استطاع الشيخ عثمان بالدعوة أن يوحِّدَ تلك الجماعات المتناثرة في شتى أقاليم الحوصة ويجعل منها جماعةً واحدةً مُتماسِكةً، فأصبح له جَيشٌ قوي، ثم تعرض لولايات الحوصة الإسلامية، فسقطت واحدة تلوَ الأخرى في يدِه، وكان قد قسَّم مملكتَه على ولديه، ومات في هذه السنة بعد أن أسَّس مملكةً كبيرة سُرعان ما هبَّ الإنجليز للتدخل فيها, ولفودي مؤلَّفات كثيرة تجاوزت 150 كتابًا. توفِّي في ولاية سقطو (سوكوتو) بنيجيريا.
كان فيصل بن الحسين ثالثُ الأبناء قد نُصبَ ملكًا على سوريا الجزءِ الأكبر من بلاد الشام، لكِنَّه لم يلبث أن طُرِدَ في العاشر من ذي القعدة 1338هـ / 25 تموز 1920م عندما دخل الفرنسيون إلى سوريا، وكانت إنجلترا بعد أن نكَثَت كلَّ العهود التي أعطتها للشريف حسين ظنَّت أنَّ فيصلًا أنسب أبنائه لحُكمِ العراق التي كانت تحت سيطرتها، فكتب وزيرُ الخارجية الإنجليزي كرزون إلى نائب الحاكِمِ الملكي في العراق يسألُه عن هذا الرأي، فرد النائب باقتراح أحدِ هؤلاء: هادي العمري، نقيب أشراف بغداد، عبد الرحمن الكيلاني، أحد أبناء الحسين بن علي، أحد أفراد الأسرة الخديوية في مصر. مع ترشيحِه هو لهادي العمري، كان تفضيل بريطانيا لفيصل ابن الشريف حسين ليكونَ ملكًا على العراق لعدَّةِ أسباب: منها تهدئة خواطر العرب الذين أُصيبوا بخيبةِ أملٍ بعد عزم دول الحُلَفاء بفرضِ سياسة الانتداب على البلاد العربية التي كانت تحت حُكمِ الدولة العثمانية، ووعد بلفور الذي يهدِّدُ مستقبل فلسطين، وكذلك اطمئنان الإنجليز من شِدَّةِ ولاء الشريف حسين وأبنائه للإنجليز واستعدادهم لتنفيذ سياساتها في المنطقة بكلِّ إخلاص. لذلك دعت الحكومةُ البريطانية فيصلًا لزيارة لندن، وقابل الملك جورج الخامس الذي عَرَض عليه مُلكَ العراق، لكن فيصل أبدى اعتراضًا، وهو أن أخاه عبد الله رشَّحه الشاميون لمُلك العراق، فقام لورنس بالتفاوض مع عبد الله على أن يكون هو ملكًا على شرق الأردن، ويترك مُلْك العراق لأخيه فيصل، فوافق، ثم قام برسي كوكس ممثِّل الحكومة البريطانية في العراق بتشكيل حكومةٍ وطنية، فكُوِّنت بمساعدة عبد الرحمن الكيلاني، وكُوِّن مجلس شورى، ثم قَبْلَ تنصيبِ الملك فيصل على العراق ساومه ونستون تشرشل على أن يكونَ بينهما معاهدة -يعني بين العراق وإنجلترا- تقوم مقامَ الانتداب وتؤدِّي غرضَه، يعني: في تحقيق مصالح إنجلترا في العراق، ثم ليبدوَ الأمر ليس مفروضًا على العراق؛ لأن المرشَّحين لمنصب الملك على العراق كُثُر، ومع أنه اقترح غير النظام المَلَكي، لكنَّ إنجلترا رأت أنَّ النظام الملكي حاليًّا أنسب لوضع العراق، ثم أخذت بإشاعةِ الخبر والدعاية لفيصل في العراق، ثم صرحت الحكومةُ البريطانية بموافقتها على ترشيحه، وبعد أن انتهت التمهيداتُ سافر فيصل إلى العراق على متنِ الباخرة البريطانية نورث بروك في ميناء البصرة في السابع عشر من شوال 1339هـ / 23 حزيران 1921م فاستُقبِلَ استقبالًا حارًّا، ثم سافر إلى بغداد، وكلما مرَّ على قرية عُمِلت له الاحتفالات، ووصل إلى بغداد في 23 شوال 1339هـ / 29 حزيران 1921م وبايعه مجلس الوزراء في الخامس من ذي القعدة من العام نفسه / 5 تموز، وأعدت وزارة الداخلية صورةً لمضبطه يُعلِنُ فيها الأهالي تأييدَهم، وتُوِّجَ مَلِكًا على العراق في يوم 18 ذي الحجة 1339هـ / 23 آب 1921م.
هو الشَّيخُ العلَّامة محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب التميمي مفتي الديار السعودية. وُلِدَ يوم عاشوراء من عام 1311هـ، ونشأ نشأةً عِلميَّةً في بيتِ عِلمٍ ودين، فحَفِظَ القرآنَ مبكرًا، ثم بدأ الطلَبَ على العلماء قبل أن يبلُغَ السادسة عشرة، ثم أصيب بمرَضٍ في عينيه وهو في هذه السن ولازمه حتى فَقَد بصَرَه وهو في سن السابعة عشرة، وكان يَعرِفُ القراءة والكتابة قبل فَقدِه لبصرِه. كان متوسِّطَ الطول، مليءَ الجِسم، متوسِّط اللون، ليس بالأبيض ولا بالأسمر، خفيفَ شعرِ العارِضَين جدًّا، يوجَدُ شَعرٌ قليل على ذَقَنِه، إذا مشى يمشي بوقارٍ وسكينة، وكان كثيرَ الصَّمت، وإذا تكلَّم لا يتكلَّم إلَّا بما يفيد، وكان ذكيًّا، و كان صاحِبَ غَيرة شديدة على دين الله، مع حزمٍ وشِدَّة يرهب لها الجميع، وكان رغمَ شِدَّتِه وحزمه وهيبةِ الناسِ له صاحِبَ دُعابةٍ خُصوصًا مع خاصَّته، ومن مشايخِه الذين تعَلَّم عليهم عَمُّه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، والشيخُ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع. ومن أعمالِه أنَّه تولى القضاءَ في الغطغط، وكان إمامًا وخطيبًا للجامع الكبير بالرياض، ولما افتُتِحَت رئاسةُ المعاهد والكليات كان هو الرئيسَ، ولما تأسَّسَت رئاسةُ القضاء عُمِّد رسميًّا برئاسةِ القضاء، ولما افتُتِحَت رئاسةُ البنات كان هو المشرفَ العامَّ عليها، وكان هو مفتي البلاد، ولما افتُتِحَت رابطةُ العالم الإسلامي كان هو رئيسَ المجلس التأسيسي لها، وكان أمينُ الرابطة وقتها محمد سرور الصبان، ولما افتُتِحَت الجامعة الإسلامية في المدينة كان هو المؤسِّسَ لها، وعَيَّن نائبًا له الشيخ عبد العزيز بن باز, وفي سنة 1373 هـ أنشأ المكتبةَ السعودية العامة في الرياض، وجمع فيها حوالي 15.000 كتابٍ مطبوعٍ، و 117 مخطوطًا، وأملى من تأليفِه كُتُبًا، منها: ((الجواب المستقيم))، و ((تحكيم القوانين))، ومجموعة من أحاديث الأحكام، والفتاوى في عدة مجلَّدات، وكان الملكُ عبد العزيز قد أمر بجَمعِها وطباعتها. ومن تلاميذه: الشيخ عبد الله بن حُمَيد، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ سليمان بن عبيد، والشيخ صالح بن غصون، والشيخ عبد الله بن جبرين. وقد أصيب الشيخُ بمرضٍ، فصدر أمرٌ ملَكيٌّ بنقله إلى لندن لمواصلة العلاج، فلما وصل لندن أجرَوا له الفحوصاتِ اللازمةَ فرأوا أنَّ المرضَ بلغَ غايةً لا ينفَعُ معها علاجٌ، ثم دخل في غيبوبة وهو هناك، فأُتيَ به إلى الرياضِ على طائرة خاصة، وبَقِيَ في غيبوبة حتى وافته المنيَّةُ -رحمه الله- صباحَ يوم الأربعاء 24 رمضان، وصلِّيَ عليه بعد صلاة الظهر من نفس اليوم، وأمَّ النَّاسَ عليه الشيخُ ابن باز، وامتلأ المسجِدُ وجميعُ الطُّرُقات المؤدية إليه، حتى إن كثيرًا من النَّاسِ لم يُدركوا الصلاةَ عليه، ودُفِن في مقبرة العود.
هو الشيخُ محمَّد الطاهر بنُ محمَّد بنِ محمَّد الطاهر بن عاشورٍ، الشَّهير بالطاهرِ بنِ عاشورٍ، أحدُ الأعلامِ المشهورين والمفسِّرين المعروفين، وكان أديبًا خطيبًا، ومِن طلائع النَّهضة الحديثةِ النابهينَ في تُونس. كانت حياتُه -التي زادت على 90 عامًا- جهادًا في طلَبِ العِلم، أحدَثَت آراؤه نَهضةً في عُلوم الشريعة والتفسيرِ، والتربيةِ والتعليمِ، والإصلاح. وُلِدَ بتُونسَ سنةَ 1296هـ في أُسرةٍ عِلْمية عريقةٍ، تَمتدُّ أُصولها إلى بلادِ الأندلسِ. حفِظَ القرآنَ الكريمَ، وتعلَّم اللُّغة الفرنسيةَ، والْتَحق بجامعِ الزَّيتونةِ سنة 1310هـ وهو في الرابعة عشرة مِن عُمره، ولم تَمْضِ سنواتٌ قليلةٌ حتى عُيِّن مدرِّسًا من الطَّبقة الأُولى بعد اجتيازِ اختبارِها سنةَ 1324هـ. واختِيرَ للتَّدريسِ في المدرسة الصادقيةِ، وكان لهذه التَّجرِبة المبكِّرة في التدريسِ بين الزَّيتونة -ذات المنْهج التَّقليدي- والصادقيةِ -ذات التعليمِ العصْري المتطوِّر- أثَرُها في حياتِه، ثم اختِيرَ شيخًا لجامع الزَّيتونة في 1351هـ، وحاز الطاهرُ بن عاشور على لقبِ "شيخُ الإسلامِ المالكيُّ"؛ فكان أولَ شُيوخ الزَّيتونة الذين جَمَعوا بين هذينِ المنصبينِ، ولكنه لم يَلبْثَ أن استقالَ مِن المشيخة بعدَ سَنةٍ ونصفٍ؛ بسَبب العراقيلِ التي وُضِعت أمام خُطَطِه لإصلاحِ الزَّيتونة، وأُعِيدَ تعيينُه سنة 1364هـ، وفي هذه المرَّة أدخَل إصلاحاتٍ كبيرةً في نِظام التعليم الزَّيتوني، فارتفَع عددُ الطُّلاب الزَّيتونيين، وزادت عددُ المعاهدِ التَّعليمية. ولَدى استقلالِ تُونس أُسندت إليه رئاسةُ الجامعةِ الزيتونية سنةَ 1374هـ، وقد أحدَثَت آراؤه نَهضةً في عُلوم الشريعةِ والتفسيرِ، والتربيةِ والتعليمِ، والإصلاحِ، وكان لها أثَرُها البالغُ في استمرار جامعةِ الزَّيتونة في العطاء والرِّيادةِ، وكان ابنُ عاشور دَؤوبًا على مُكافَحةِ الاستعمار الذي كان يُسمَّى بالحمايةِ، وألْقى محاضراتٍ في جامعة السُّوربون بفرنسا، وجامعةِ إستانبول في تركيا، وجامعة عليكره في الهندِ. وشارَك في نَدوات علميةٍ كثيرة، وفي بعضِ مُؤتمرات المستشرقينَ، وكان عضوًا في المجمَع اللُّغوي بالقاهرةِ، ورابطةِ العالم الإسلامي بمكَّة. ومِن مُؤلَّفاته: كتاب تَفسير القُرآن المسمَّى بـ ((التَّحرير والتنوير)) الذي احتوى على خُلاصة آرائهِ الاجتهادية والتَّجديدية، وله كِتاب ((مَقاصِد الشريعة)). ومن المواقِف المشهورةِ للطاهرِ بنِ عاشورٍ رفْضُه القاطعُ استصدارَ فَتوى تُبِيحُ الفِطرَ في رمضانَ، وكان ذلك عام 1381هـ عندما دعا الحَبيب بُورقيبة الرئيسُ التُّونسي آنذاكَ العُمَّال إلى الفِطر في رمضانَ بدَعوى زِيادة الإنتاج، وطلَب من الشيخِ أنْ يُفتِيَ في الإذاعة بما يُوافِقُ هذا، لكن الشيخَ صرَّح في الإذاعةِ بما يُريده اللهُ تعالى، بعد أن قرَأ آية الصِّيام، وقال بعدها: "صدَق اللهُ، وكذَبَ بُورقيبة"، تُوفِّي الطاهر بنُ عاشورٍ رحمه الله في 13رجب 1393 هـ.
في ثامِنَ عشر رجب قَدِمَت طائفة كبيرة من جيش المصريِّين فيهم الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأميرُ حسام الدين لاجين المعروف بالاستادار المنصوري، والأميرُ سيف الدين كراي المنصوري، ثم قدمت بعدهم طائفةٌ أخرى فيهم بدر الدين أمير سلاح وأيبك الخزندار فقَوِيَت القلوبُ واطمأنَّ كثير من الناس، وكان الناسُ في حفل عظيم من بلاد حلب وحماة وحمص وتلك النواحي، وتقهقر الجيشُ الحلبي والحموي إلى حمص، ثم خافوا أن يدهَمَهم التتر فجاؤوا فنزلوا المرجَ يوم الأحد خامس شعبان، ووصل التتارُ إلى حمص وبعلبك وعاثوا في تلك الأراضي فسادًا، وقَلِقَ الناس قلقًا عَظيمًا، وخافوا خوفًا شديدًا، واختبطَ البَلَدُ لتأخُّرِ قدوم السلطان ببقيَّة الجيش، وقال النَّاسُ: لا طاقة لجيشِ الشام مع هؤلاء المصريين بلقاءِ التتار لكثرَتِهم، وإنما سبيلُهم أن يتأخَّروا عنهم مرحلةً مرحلة، وتحَدَّث الناسُ بالأراجيف فاجتمع الأمراءُ في يوم الأحد خامس شعبان بالميدان وتحالَفوا على لقاء العدو، وشَجَّعوا أنفُسَهم، ونودِيَ بالبلد أنْ لا يرحل أحدٌ منه، فسكن النَّاسُ وجلس القضاةُ بالجامِعِ وحَلَّفوا جماعة من الفقهاء والعامَّة على القتال، وتوجَّهَ الشيخ تقي الدين ابن تيميَّة إلى العسكَرِ الواصِلِ من حماة فاجتمع بهم في القطيعةِ فأعلَمَهم بما تحالف عليه الأمراءُ والنَّاسُ من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك وحَلَفوا معهم، وكان الشيخ تقي الدين ابن تيمية يَحلِفُ للأمراءِ والنَّاسِ إنَّكم في هذه الكَرَّة منصورون، فيقولُ له الأمراء: قل إن شاء الله، فيقولُ: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا، وكان يتأوَّلُ في ذلك أشياءَ مِن كتاب اللهِ منها قَولُه تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج: 60] ولَمَّا كان يوم الرابع والعشرين من شعبان خرجت العساكِرُ الشاميَّة فخَيَّمَت على الجسورة من ناحية الكسوة، ومعهم القضاةُ، فصار الناسُ فيهم فريقين: فريقٌ يقولونَ إنَّما ساروا ليختاروا موضِعًا للقتالِ؛ فإنَّ المرج فيه مياهٌ كثيرة فلا يستطيعون معها القتال، وقال فريق: إنما ساروا لتلك الجهة لِيَهرَبوا وليلحقوا بالسلطان، فلما كانت ليلةُ الخميس ساروا إلى ناحية الكسوة فقَوِيَت ظنون الناسُ في هَرَبِهم، وقد وصلت التتارُ إلى قارة، وبلغ الأمراءَ قُدومُ السلطانِ فتَوَجَّهوا إليه من مَرجِ راهط، فلَقُوه على عقبة الشحورا في يومِ السبت ثانيَ عَشَر رمضان، ثمَّ وَرَدَ عند لقائِهم به الخبَرُ بوصول التتار في خمسينَ ألفًا مع قطلوشاه نائب غازان، فلبس العسكَرُ بأجمعه السلاح، واتَّفَقوا على قتال التتار بشقحب تحت جبل غباغب (وهي من الطرف الشمالي لمرج الصفر)، فلما تمَّ الترتيبُ زَحَفت كراديس التتار كقِطَع الليل، وكان ذلك وقتَ الظهر من يوم السبتِ ثاني رمضان, وأقبل قطلوشاه بمن معه من الطوامين، وحملوا على الميمنة فثَبَتَت لهم الميمنة وقاتلوهم أشدَّ قِتالٍ، ثم قُتِلَ مِن الميمنة الكثيرُ فأدركَتْهم الأمراءُ مِن القَلبِ ومِن المَيسَرة واستمَرُّوا في القتال إلى أن كَشَفوا التتارَ عن المسلمينَ واستمَرَّ القتالُ بين التتار والمسلمينَ إلى أن وقفَ كل من الطائفتينِ عن القتال، ومال قطلوشاه بمن معه إلى جبَلٍ قريب منه، وصَعِدَ عليه وفي نفسه أنَّه انتصر، وأن بولاي في أثر المنهزمينَ مِن المسلمين، فلمَّا صَعِدَ الجبَلَ رأى السَّهلَ والوَعرَ كُلَّه عساكِرَ، والميسرةَ السُّلطانيةَ ثابتةً وأعلامها تخفُق، فبُهِتَ قطلوشاه وتحيَّرَ واستمَرَّ بمَوضِعِه حتى كَمُلَ معه جمعُه وأتاه مَن كان خلف المنهزمينَ مِن الميمنةِ السُّلطانيَّة ومعهم عِدَّةٌ من المسلمينَ قد أسروهم، فعند ذلك جمَعَ قطلوشاه أصحابَه وشاوَرَهم فيما يفعَلُ، وإذا بكوسات- قطعتان من نحاس تشبهان الترسَ الصغير يدقُّ بأحدها على الآخِرِ بإيقاعٍ مخصوص- السُّلطانِ والبوقات قد زَحَفَت وأزعجت الأرضَ وأرجفت القلوبَ بحِسِّها، فلم يثبت بولاي وخرج من تجاهِ قطلوشاه في نحوِ العشرين ألفًا من التتار، ونزل مِن الجَبَل بعد المغرب ومَرَّ هاربًا، وبات السلطانُ وسائِرُ عساكره على ظهور الخيل والطبولُ تُضرَبُ، وتلاحقَ بهم من كان انهَزَمَ شيئًا بعد شيءٍ، وهم يَقصِدونَ ضَربَ الطبول السلطانيَّة والكوسات؛ وأحاط عسكَرُ السُّلطانِ بالجبَلِ الذي بات عليه التتارُ وشرع قطلوشاه في ترتيبِ مَن معه، ونزلوا مشاةً وفرسانًا وقاتلوا العساكِرَ، فبرزت المماليكُ السلطانية بمقَدَّميها إلى قطلوشاه وجوبان، وعمِلوا في قتالهم عملًا عظيمًا، فصاروا تارةً يرمونهم بالسِّهامِ وتارة يواجهونَهم بالرماح، واشتغل الأمراء أيضًا بقتال من في جهتِهم، وصاروا يتناوبون في القتال أميرًا بعد أمير، وألحَّت المماليك السلطانيَّةُ في القتال وأظهروا في ذلك اليوم من الشجاعةِ والفروسية ما لا يوصَفُ، حتى إن بعضَهم قُتِلَ تحته الثلاثةُ من الخيل، وما زال الأمراءُ على ذلك حتى انتصف نهارُ الأحد، صعد قطلوشاه الجبل وقد قُتِلَ من عسكره نحو ثمانين رجلًا، وجُرح الكثير واشتَدَّ عَطَشُهم، واتفق أنَّ بعضَ من كان أسَرَه التتار هرب ونزل إلى السلطان، وعَرَّفه أنَّ التتارَ قد أجمعوا على النزولِ في السَّحَرِ لمصادمة العساكرِ السُّلطانية، وأنَّهم في شدة من العَطَشِ، فاقتضى الرأيُ أن يُفرِجَ لهم عند نزولِهم ويركَبَ الجيشُ أقفيتَهم، فلما باتوا على ذلك وأصبحوا نهارَ الاثنين، ركب التتارُ في الرابعة من النَّهارِ ونزلوا من الجبل فلم يتعَرَّض لهم أحدٌ وساروا إلى النهر فاقتَحَموه، فعند ذلك رَكِبَهم بلاءُ الله من المسلمين وأيَّدَهم الله تعالى بنَصرِه حتى حَصَدوا رؤوسَ التتار عن أبدانِهم ووضعوا فيهم السَّيفَ ومَرُّوا في أثرهم قتلًا وأسرًا إلى وقت العصر، وعادوا إلى السُّلطانِ وعَرَّفوه بهذا النصر العظيم، واستمَرَّت الأمراء وبَقِيت العساكرُ في طلب التتار إلى القريتينِ، وقد كَلَّت خيولُ التتار وضَعُفَت نفوسُهم وألقَوا أسلحَتَهم واستسلموا للقَتلِ، والعساكِرُ تقتلُهم بغير مدافعةٍ، حتى إن أراذِلَ العامَّة والغِلمان قتلوا منهم خلقًا كثيرًا وغَنِموا عندئذ غنائِمَ، وقتل الواحِدُ من العسكر العشرينَ من التتار فما فوقها، ثم أدركت عُربانُ البلاد التتارَ وأخذوا في كيدهم، فيجيء منهم الاثنانُ والثلاثة إلى العِدَّة الكثيرة من التتار، كأنهم يهدونَهم إلى طريقٍ قريبةٍ مفازة، فيوصلونهم إلى البَرِّيَّة ويتركونهم بها فيموتون عطشًا، ومنهم من دار بهم وأوصلوهم إلى غوطة دمشق، فخرجت إليهم عامَّةُ دِمشقَ فقَتَلوا منهم خلقًا كثيرًا، وفي يوم الاثنين رابع الشهر رجع الناس من الكسوة إلى دمشق فبَشَّروا النَّاسَ بالنصرِ.
كان يَزيدُ فَتَح جُرجان وقُهِسْتان ثمَّ غَدَر أَهلُ جُرجان، فلمَّا صالَح يَزيدُ إصْبَهْبَذ صاحِبَ طَبَرِسْتان سار إلى جُرجان، وعاهَد الله تعالى لَئِن ظَفَر بهم لا يَرفَع السَّيفَ حتَّى يَطحَن بِدِمائِهم، ويَأكُل مِن ذلك الطَّحِين. فأَتاها فحَصَرهم يَزيدُ فيها سَبعةَ أَشهُر، وهُم يَخرُجون إليه في الأيَّام فيُقاتِلونَه ويَرجِعون, فبَيْنَا هُم على ذلك إذ خَرَج رَجَلٌ مِن عَجَم خُراسان يَتَصَيَّد، وقِيلَ: رَجُل مِن طَيِّء، فأَبْصَر وَعْلًا في الجَبلِ، ولم يَشعُر حتَّى هَجَم على عَسكَرِهم، فرَجَع كأنَّه يُريدُ أَصحابَه، وجَعَل يَخْرِق قَباءَه ويَعقِد على الشَّجَرِ عَلامات، فأَتَى يَزيدُ فأَخبرَه، فضَمَنَ له يَزيدُ دِيَةً إن دَلَّهُم على الحِصْن، فانْتَخَب معه ثلاثمائة رَجُل، واسْتَعمَل عليهم ابنَه خالدَ بن يَزيدَ، وقال له: إن غُلِبْتَ على الحَياةِ فلا تُغْلَبَنَّ على المَوتِ، وإيَّاك أن أراك عندي مَهْزومًا. وضَمَّ إليه جَهْمَ بن زَحْر، وقال للرَّجُل: مَتَى تَصِلون؟ قال: غَدًا العَصرَ. قال يَزيدُ: سأَجْهَدُ على مُناهَضَتِهم عند الظُّهْر. فساروا فلمَّا كان الغَدُ وَقْتَ الظُّهْر أَحْرَق يَزيدُ كُلَّ حَطَب كان عندهم، فصار مِثل الجِبال مِن النِّيران، فنَظَر العَدُوُّ إلى النِّيران فهالَهُم ذلك فخَرجوا إليهم، وتَقدَّم يَزيدُ إليهم فاقْتَتلوا، وهَجَم أَصحابُ يَزيدَ الذين ساروا على عَسْكَرِ التُّرك قبلَ العَصرِ وهُم آمِنون مِن ذلك الوَجْهِ، ويَزيدُ يُقاتِلُهم مِن هذا الوَجْهِ، فما شَعَروا إلَّا بالتَّكْبيرِ مِن وَرائِهم، فانْقَطَعوا جَميعًا إلى حِصْنِهم، ورَكِبَهم المسلمون فأَعْطوا بِأَيدِيهم، ونَزَلوا على حُكْم يَزيد، وسَبَى أَهلَها وغَنِمَ ما فيها، وقَتَل مُقاتِلَتَهم، وصَلَبَهم فَرْسَخَيْنِ إلى يَمينِ الطَّريقِ ويَسارِه، وقاد منهم اثني عَشر ألفًا إلى وادي جُرجان وقال: مَن طَلَبَهم بِثَأْرٍ فلْيُقْتَل. فكان الرَّجُل مِن المسلمين يَقتُل الأَربعَة والخَمسَة، وأَجرَى الماءَ على الدَّمِ وعليه أَرْحاء لِيَطْحَنَ بِدِمائِهم لِيُبِرَّ يَمينَه، فطَحَنَ وخَبَزَ وأَكَل، وقِيلَ: قَتَل منهم أَربعينَ ألفًا, وبَنَى مَدينَة جُرجان، ولم تكُن بُنِيت قبلَ ذلك مَدينةً، ورَجَع إلى خُراسان، واسْتَعمَل على جُرجان جَهْم بن زَحْر الجُعفي، وكَتَب إلى سُليمان بالفَتْح يُعَظِّمُه ويُخبِره أنَّه قد حَصَل عنده مِن الخُمُس ستُّمائة ألف ألف، فقال له كاتِبُه المُغيرَة بن أبي قُرَّة مَوْلَى بَنِي سَدوس لا تَكتُب تَسمِيَةَ المالِ، فإنَّك مِن ذلك بين أَمرَيْنِ، إمَّا اسْتَكْثَرَهُ فأَمَرَك بِحَمْلِه، وإمَّا سَمَحَت نَفْسُه لك به فأَعطاكَه، فتَكَلَّف الهَدِيَّة، فلا يَأتِيه مِن قِبَلِك شَيءٌ إلَّا اسْتَقَلَّهُ، فكأَنِّي بك قد اسْتَغْرَقْتَ ما سَمَّيْتَ ولم يَقَع منه مَوْقِعًا، ويَبْقَى المالُ الذي سَمَّيْتَ مُخَلَّدًا في دَواوينِهم، فإن وَلِيَ والٍ بعدَه أَخَذَك به، وإن وَلِيَ مَن يَتَحامَل عليك لم يَرْضَ بأَضعافِه، ولكن اكتُب فَسَلْهُ القُدومَ، وشافِهْهُ بما أَحبَبتَ فهو أَسْلَم. فلم يقبل منه وأَمضَى الكِتابَ، وقِيلَ: كان المَبلَغ أربعة آلاف ألف.
وجَّه المعتصِمُ القائد العسكري التركي بغا الكبيرَ إلى الأفشين، ومعه مالٌ للجندِ والنفقات، فوصل أردبيل، فبلغ بابك الخبر، فتهيَّأ هو وأصحابُه ليقطعوا عليه قبل وُصولِه إلى الأفشين، فجاء جاسوسٌ إلى الأفشين، فأخبَرَه بذلك، فلما صَحَّ الخبَرُ عند الأفشين كتب بغا أن يُظهِرَ أنَّه يريد الرحيلَ، ويحمِل المالَ على الإبل، ويسير نحوه، حتى يبلغ حصنَ النَّهر، فيَحبِس الذي معه، حتى يجوزَ مَن صَحِبَه من القافلة، فإذا جازوا رجع بالمال إلى أردبيل. ففعل بغا ذلك، وسارت القافلةُ، وجاءت جواسيسُ بابك إليه، فأخبَروه أن المال قد سار فبلغ النَّهرَ، وركب الأفشين في اليومِ الذي واعدَ فيه بغا عند العصرِ، مِن برزند، فنزل خارِجَ خندق أبي سعيد، فلما أصبح ركِبَ سِرًّا ورحلت القافلة التي كانت توجَّهَت ذلك اليوم من النهر إلى ناحيةِ الهيثم، وتعبَّى بابك في أصحابِه، وسار على طريق النهر، وهو يظنُّ أن المالَ يُصادِفُه، فخرجت خيلُ بابك على القافلة، ومعها صاحِبُ النهر، فقاتَلَهم صاحبُ النهر، فقتلوه، وقتلوا من كان معه من الجند، وأخذوا جميعَ ما كان معهم، وعَلِموا أن المالَ قد فاتهم، وأخذوا عَلَمَه ولباسَ أصحابِه، فلبسوها وتنكَّروا ليأخذوا الهيثم الغنوي ومن معه أيضًا ولا يعلمونَ بخروج الأفشين، وجاؤوا كأنَّهم أصحابُ النهر، فلم يعرفوا الموضِعَ الذي يقف فيه علَمُ صاحب النهر، فوقفوا في غيرِه وجاء الهيثمُ فوقف في موضِعِه، وأنكر ما رأى، فوجَّهَ ابنَ عم له، فقال له: اذهَبْ إلى هذا البغيضِ فقُلْ له: لأيِّ شَيءٍ وقوفُك؟ فجاء إليهم فأنكَرَهم، فرجع إليه فأخبَرَه، فأنفذ جماعةً غيرَه، فأنكروهم أيضًا وأخبروه أنَّ بابك قد قتَلَ علويه، صاحبَ النهر، وأصحابَه، وأخذ أعلامَهم ولباسَهم، فرحل الهيثمُ راجعًا ونَجَت القافلةُ التي كانت معه، وبقيَ هو وأصحابُه في أعقابهم حاميةً لهم حتى وصلت القافلةُ إلى الحصن، وسيَّرَ رجلين من أصحابِه إلى الأفشين وإلى أبي سعيدٍ يُعَرِّفُهما الخبر، ودخل الهيثمُ الحصن، ونزل بابك عليه، وأرسل إلى الهيثمِ أن خَلِّ الحِصنَ وانصرِفْ، فأبى الهيثمُ ذلك، فحاربه بابك وهو يشرَبُ الخمرَ على عادته والحربُ مُشتَبِكةٌ، وسار الفارسان، فلقيا الأفشين على أقلَّ مِن فرسَخٍ، وأجرى الناسُ خَيلَهم طلقًا واحدًا حتى لَحِقوا بابك وهو جالِسٌ، فلم يُطِقْ أن يركَبَ، حتى وافته الخيلُ، فاشتبكت الحربُ، فلم يُفلِتْ من رَجَّالة بابك أحدٌ، وأفلت هو في نفرٍ يسيرٍ مِن خيَّالتِه، ودخل موقان وأقام بها فلمَّا كان في بعضِ الأيام مرَّت قافلة، فخرج عليها أصبهنذ بابك، فأخذها وقتَل مَن فيها، فقَحِطَ عسكرُ الأفشين لذلك، فكتب الأفشينُ إلى صاحب مراغة بحَملِ الميرة وتعجيلِها، فوجه إليه قافلةً عظيمة، ومعها جندٌ يسيرون بها فخرج عليهم سريةٌ لبابك، فأخذوها عن آخِرِها وأصاب العسكرَ ضِيقٌ شديد، فكتب الأفشين إلى صاحبِ شيروان يأمُرُه أن يحمِلَ إليه طعامًا، فحمل إليه طعامًا كثيرا وأغاث الناسَ، وقدِمَ بغا على الأفشين بما معه.
في هذه السَّنَةِ خَرجَ أرمانوس مَلِكُ الرُّومِ في مائتي ألفٍ من الرُّومِ، والفِرنجِ، والغَربِ، والرُّوسِ، والبجناك، والكرج، وغَيرِهم، من طوائفِ تلك البِلادِ، فجاءوا في تَجَمُّلٍ كَثيرٍ، وزِيٍّ عَظيمٍ، وقَصدَ بِلادَ الإسلامِ، فوَصلَ إلى ملازكرد من أَعمالِ خلاط. فبَلغَ السُّلطانَ ألب أرسلان الخَبرُ. وهو بمَدينةِ خوي من أذربيجان، قد عاد من حَلَب. وسَمِعَ بكَثرَةِ الجُموعِ التي مع مَلِكِ الرُّومِ، فلم يَتَمَكَّن من جَمْعِ العَساكرِ لبُعدِها وقُرْبِ العَدُوِّ، فسَيَّرَ الأَثقالَ مع زَوجتِه ونِظامِ المُلْكِ إلى همذان، وسار هو فيمن عنده من العَساكرِ، وهُم خَمسة عشر ألف فارس. وَجَدَّ في السَّيْرِ وقال لهم: إنَّني أُقاتِلُ مُحتَسِبًا صابرًا، فإن سَلِمْتُ فنِعمةٌ مِن الله تعالى، وإن كانت الشهادةُ فإنَّ ابني ملكشاه وَلِيُّ عَهْدِي. وساروا فلمَّا قارَبَ العَدُوَّ جَعلَ له مُقدِّمةً، فصادَفَت مُقدِّمَتُه، عند خلاط، مُقدِّمَ الرُّوسِيَّة في نَحوِ عشرة آلاف من الرُّومِ، فاقتَتَلوا، فانهَزمَت الرُّوسِيَّةُ، وأَسَرَ مُقدِّمَهم، وحُمِلَ إلى السُّلطانِ، فجَدَعَ أَنْفَهُ، وأَنْفَذَ بالسَّلَبِ إلى نِظامِ المُلْكِ، وأَمرَهُ أن يُرسِلَهُ إلى بغداد، فلمَّا تَقارَب العَسكرانِ أَرسلَ السُّلطانُ إلى مَلِكِ الرُّومِ يَطلُب منه المُهادَنة، فقال: لا هُدْنَةَ إلَّا بالرَّيِّ. فانزَعجَ السُّلطانُ لذلك، فقال له إِمامُه وفَقِيهُه أبو نصرٍ محمدُ بن عبدِ المَلِكِ البُخاريُّ، الحَنَفيُّ: إنَّك تُقاتِل عن دِينٍ وَعَدَ الله بِنَصْرِهِ وإِظهارِهِ على سائرِ الأديانِ، وأَرجو أن يكون الله تعالى قد كَتبَ باسمِك هذا الفَتحَ، فالْقِهِم يومَ الجُمعةِ، بعدَ الزَّوالِ، في الساعةِ التي تكون الخُطباءُ على المنابرِ، فإنَّهم يَدعُون للمُجاهِدين بالنَّصرِ، والدُّعاءُ مَقرونٌ بالإجابةِ. فلمَّا كانت تلك الساعةُ صلَّى بهم، وبَكَى السُّلطانُ، فبَكَى الناسُ لِبُكائِه، وَدَعا ودَعَوا معه وقال لهم: مَن أَرادَ الانصرافَ فليَنصَرِف، فما هاهنا سُلطانٌ يأمرُ ويَنهى، وأَلقَى القَوْسَ والنِّشابَ، وأَخذَ السَّيفَ والدَّبُّوسَ – الدَّبُّوس آلة من آلاتِ الحَربِ تُشبِه الإِبْرَة-، وعَقَدَ ذَنَبَ فَرَسِه بِيَدِه، وفَعلَ عَسكرُه مِثلَه، ولَبِسَ البَياضَ وتَحَنَّطَ، وقال: إن قُتِلتُ فهذا كَفَني. وزَحَفَ إلى الرُّومِ وزَحَفوا إليه، فلمَّا قارَبَهم نَزلَ السُّلطانُ عن فَرَسِه وسَجَدَ لله عزَّ وجلَّ، ومَرَّغَ وَجهَه في التُّرابِ وَدَعا الله واستَنصَرَهُ، فأَنزلَ الله نَصرَهُ على المُسلمينَ، ومَنَحَهم أَكتافَهم فقَتَلوا منهم خَلْقًا كَثيرًا، وأُسِرَ مَلِكُهم أرمانوس، أَسَرَهُ غُلامٌ رُومِيٌّ، فلمَّا أُوقِفَ بين يدي المَلِكِ ألب أرسلان ضَرَبَهُ بِيَدِه ثلاثَ مَقارِع وقال: لو كنتُ أنا الأَسيرَ بين يَديكَ ما كنتَ تفعل؟ قال: كلَّ قَبيحٍ. قال: فما ظَنُّكَ بي؟ فقال: إمَّا أن تقتل تَقتُلَني وتُشْهِرَني في بِلادِك، وإمَّا أن تَعفُو وتَأخُذ الفِداءَ وتُعيدَني. قال: ما عَزمتُ على غَيرِ العَفوِ والفِداءِ. فافتَدَى نَفسَه منه بألف ألف دِينارٍ وخمسمائة ألف دينار، فلما انتهى إلى بِلادِه وَجدَ الرُّومَ قد مَلَّكوا عليهم غَيرَه، فأَرسلَ إلى السُّلطانِ يَعتَذِر إليه، وبَعثَ من الذَّهبِ والجَواهِر ما يُقارِب ثلاثمائة ألف دينار، وتَزَهَّدَ ولَبِسَ الصُّوفَ ثم استغاث بملك الأرمن فأَخذَه وكحله وأَرسلَه إلى السُّلطانِ يَتَقَرَّبُ إليه بذلك.
هو الحافِظُ أبو بكرٍ أَحمدُ بن عليِّ بن ثابتِ بن أَحمدَ بن مَهدِيٍّ، الخَطيبُ البغداديُّ، أَحدُ الحُفَّاظِ الأَعلامِ المَشهورِينَ، صاحبُ ((تاريخ بغداد)) وغَيرِه من المُصنَّفاتِ العَديدةِ المُفيدةِ، وُلِدَ سَنةَ 392هـ، وكان أبوه أبو الحَسنِ الخَطيبُ قد قَرأَ على أبي حَفصٍ الكِتَّانيِّ، وصار خَطيبَ قَريةِ درزيجان، إحدى قُرى العِراقِ، فحَضَّ وَلدَه أبا بكرٍ على السَّماعِ في صِغَرِه، فسَمِعَ وله إحدى عشرة سَنةً، نَشأَ ببغداد، وتَفَقَّهَ على أبي طالبٍ الطَّبريِّ وغَيرِه من أَصحابِ الشيخِ أبي حامدٍ الأسفراييني، وسَمِعَ الحَديثَ الكَثيرَ، ورَحلَ إلى البَصرةِ, ونيسابور, وأصبهان، وهمذان, والشامِ, والحِجازِ. وسُمِّيَ الخَطيبَ لأنه كان يَخطُب بدرزيجان، ولمَّا وقعت فِتنةُ البساسيري ببغداد سَنةَ 450هـ خَرجَ الخَطيبُ إلى الشامِ فأَقامَ بدِمشقَ بالمأذَنةِ الشرقيَّةِ مِن جامِعِها، وكان يَقرأُ على الناسِ الحَديثَ، وكان جَهورِيَّ الصوتِ، يُسمَع صَوتُه من أَرجاءِ الجامعِ كُلِّها، فاتَّفَق أنه قَرأَ على الناسِ يومًا فَضائلَ العبَّاسِ فثَارَ عليه الرَّوافِضُ من أَتباعِ الفاطِميِّين، فأَرادوا قَتْلَه فتَشَفَّعَ بالشَّريفِ الزَّينبيِّ فأَجارَهُ، وكان مَسكَنُه بدارِ العقيقي، ثم خَرجَ من دِمشقَ فأَقامَ بمَدينةِ صور، فكَتبَ شَيئًا كَثيرًا من مُصنَّفاتِ أبي عبدِ الله الصوري بِخَطِّهِ كان يَستَعيرُها من زَوجَتِه، فلم يَزَل مُقيمًا بالشامِ إلى سَنةِ 462هـ، ثم عاد إلى بغداد فحَدَّثَ بأَشياءَ من مَسمُوعاتِه، وله مُصنَّفاتٌ كَثيرةٌ مُفيدةٌ، نحو من سِتِّينَ مُصَنَّفًا، ويُقالُ: بل مائة مُصَنَّف، منها كتاب ((تاريخ بغداد))، وكتاب ((الكفاية))، و((الجامع))، و((شرف أصحاب الحديث))، و((المتفق والمفترق))، و((السابق واللاحق))، و((تلخيص المتشابه في الرسم))، و((اقتضاء العلم للعمل))، و((الفقيه والمتفقه))، وغير ذلك، ويُقال: إن هذه المُصَنَّفات أَكثرُها لأبي عبدِ الله الصوري، أو ابتَدأَها فتَمَّمَها الخَطيبُ، وجَعَلَها لِنَفسِه، قال الذهبيُّ: "ما الخَطيبُ بِمُفْتَقِرٍ إلى الصوري، هو أَحْفَظُ وأَوْسَعُ رِحلةً وحَديثًا ومَعرِفةً" كان الخَطيبُ أولا أَوَّلَ أَمرِهِ يَتكلَّم بمَذهبِ الإمامِ أَحمدَ بن حَنبلٍ، فانتَقلَ عنه إلى مَذهبِ الشافعيِّ. كان مَهيبًا وَقورًا، ثِقَةً مُتَحَرِّيًا، حُجَّةً، حَسَنَ الخَطِّ، كَثيرَ الضَّبْطِ، فَصيحًا، خُتِمَ به الحُفَّاظِ، قال ابنُ ماكولا: "كان أبو بكرٍ آخِرَ الأَعيانِ، ممَّن شاهَدناه مَعرِفةً، وحِفظًا، وإتقانًا، وضَبطًا لِحَديثِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وتَفَنُّنًا في عِلَلِهِ وأَسانيدِه، وعِلمًا بصَحيحِه وغَريبِه، وفَرْدِه ومُنكَرِه ومَطروحِه، ولم يكُن للبَغداديِّينَ بعدَ أبي الحَسنِ الدَّارقطنيِّ مِثلُه". كان الخَطيبُ يقول: "مَن صَنَّفَ فقد جَعلَ عَقلَهُ على طَبَقٍ يُعرِضُه على الناسِ", "كان للخَطيبِ ثَروةٌ من الثِّيابِ والذَّهبِ، وما كان له عَقِبٌ، فكَتبَ إلى القائمِ بأَمرِ الله قال له: إنَّ مالي يَصيرُ إلى بَيتِ مالٍ، فَأْذَنْ لي حتى أُفَرِّقَهُ فيمَن شِئتُ. فأَذِنَ له، ففَرَّقَها على المُحَدِّثين". تُوفِّيَ يومَ الاثنين ضُحًى، وله ثِنتانِ وسَبعون سَنةً، في حُجرَةٍ كان يَسكُنها بِدَربِ السلسلةِ، جِوارَ المَدرسةِ النِّظاميَّةِ، واحتَفلَ الناسُ بجِنازَتِه، وكان فيمَن حَملَ نَعشَه الشيخُ أبو إسحاقَ الشِّيرازيُّ، ودُفِنَ إلى جانبِ قَبرِ بِشْرٍ الحافيِّ.
هو أبو الفَتحِ ملكشاه بن ألب أرسلان محمد بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق، المُلَقَّب بجَلالِ الدولة. لمَّا تُوفِّي أَبوهُ كان ملكشاه وَلِيَّ الأَمرِ مِن بَعدِه بِوَصِيَّةِ والِدِه وتَحليفِ الأُمراءِ والأَجنادِ على طاعَتِه، ووَصَّى وَزيرَه نِظامَ المُلْكِ أبا عليٍّ الحَسنَ على تَفرِقَةِ البِلادِ بين أَولادِه، ويكون مَرجِعُهم إلى ملكشاه، ففَعَلَ ذلك، وعَبَرَ بهم نَهرَ جيحون راجِعًا إلى البلادِ, فلمَّا وَصَلَ وَجَدَ عَمَّهُ قاروتبك صاحِبَ كرمان قد خَرَجَ عليه، فعاجَلَهُ وتَصافَّا بالقُرْبِ من همذان، فهَزَمهُ، فتَبِعَه بَعضُ جُنْدِ ملكشاه فأَسَروهُ وحَمَلوهُ إلى ملكشاه، فبَذَلَ التَّوبَةَ ورَضِيَ بالاعتِقالِ وأن لا يُقتَل، فلم يُجِبهُ ملكشاه إلى ذلك، فأَمَرَ بقَتلِه فخُنِقَ بوَتَرِ قَوسِه، واستَقرَّت القَواعدُ للسُّلطانِ وفَتَحَ البِلادَ واتَّسعَت عليه المَملكَةُ، ومَلَكَ ما لم يَملِكهُ أَحدٌ من مُلوكِ الإسلامِ بعدَ الخُلفاءِ المُتقدِّمين، فكان في مَملَكتِه جَميعُ بلادِ ما وراءَ النهرِ وبلادُ الهياطلة وبابُ الأبوابِ والرُّومُ ودِيارُ بَكرٍ والجَزيرةُ والشامُ، وخُطِبَ له على جَميعِ مَنابرِ الإسلامِ سِوى بلادِ المَغرِب، فإنه مَلَكَ مِن كاشغر وهي مَدينةٌ في أَقصَى بلادِ التُّركِ إلى بَيتِ المَقدِس طُولًا، ومِن القُسطنطينيَّة إلى بلادِ الخزر وبَحرِ الهِندِ عَرضًا، وكأن قد قُدِّرَ لِمالِكِه مُلْكُ الدنيا. وكان من أَحسنِ المُلوكِ سِيرَةً حتى كان يُلَقَّب بالسُّلطانِ العادِل، وكان مَنصورًا في الحُروبِ، ومُغرَمًا بالعَمائِرِ، حَفَرَ كَثيرًا من الأَنهارِ، وعَمَّرَ على كَثيرٍ من البُلدانِ الأَسوارَ، وأَنشأَ في المَفاوِزِ رِباطاتٍ وقَناطِرَ، وهو الذي عَمَّرَ جامِعَ السُّلطانِ ببغداد ابتَدأَ بعِمارَتِه في المُحرَّم من سَنَةِ خمسٍ وثمانين وأربعمائة، وزادَ في دارِ السَّلطَنَةِ بها، وصَنَعَ بطَريقِ مكَّةَ مَصانِعَ، وغَرِمَ عليها أَموالًا كَثيرةً خارِجةً عن الحَصرِ، وأَبطلَ المُكوسَ والخَفاراتِ في جَميعِ البلادِ. وكان لَهِجًا بالصَّيْدِ، حتى قيل: إنه ضُبِطَ ما اصطادَهُ بِيَدِه فكان عشرة آلاف، وكانت السبيلُ في أيامِه ساكِنةً والمَخاوِفُ آمِنةً، تَسيرُ القَوافلُ مِن ما وَراءَ النهرِ إلى أَقصَى الشامِ وليس معها خَفيرٌ، ويُسافِر الواحِدُ والاثنانِ من غَيرِ خَوفٍ ولا رَهَبٍ. سارَ السُّلطانُ ملكشاه، بعدَ قَتلِ نِظامِ المُلْكِ، إلى بغداد، ودَخَلَها في الرابع والعشرين من شَهرِ رمضان، ولَقِيَهُ وَزيرُ الخَليفةِ عَميدُ الدولةِ ابنُ جَهيرٍ، وكان السُّلطانُ قد أَمَرَ أن تُفصَّل خِلَعُ الوِزارَةِ لتاجِ المُلْكِ، وكان هو الذي سَعَى بنِظامِ المُلْكِ، فلمَّا فَرَغَ من الخِلَعِ، ولم يَبقَ غيرُ لُبْسِها والجُلوسُ في الدستِ، اتَّفَقَ أن السُّلطانَ خَرجَ إلى الصَّيدِ، وعادَ ثالثَ شَوَّال مَريضًا، وكان سَبَبُ مَرَضِه أنه أَكَلَ لَحمَ صَيْدٍ فَحُمَّ وافتُصِدَ، ولم يَستَوفِ إخراجَ الدَّمِ، فثَقُلَ مَرضُه، وكانت حُمَّى مُحرِقَةً، فتُوفِّي ليلةَ الجُمعةِ، النصفَ من شَوَّال، ولمَّا ثَقُلَ نَقَلَ أَربابُ دَولتِه أَموالَهم إلى حَريمِ دارِ الخِلافَةِ، ولمَّا تُوفِّي سَتَرَت زَوجتُه تركان خاتون المعروفة بخاتون الجلالية مَوْتَه وكَتَمَتهُ، وأَرسَلَت إلى الأُمراءِ سِرًّا فأَرضَتهُم، واستَحلَفَتهُم لِوَلَدِها محمود، وعُمرُه أربع سنين وشهور، وبِمَوتِ السُّلطان ملكشاه انقَضَى العصر عَصرُ القُوَّةِ للسُّلطَةِ السلجوقية وبَدأَ عَهدُ الانقِساماتِ السياسيَّة والحُروبِ بين وَرَثَةِ العَرشِ السلجوقي ممَّا أَدَّى إلى تَشتيتِ صُفوفِهم وإضعافِ سُلطَتِهم.
هو أبو شُجاعٍ الوَزيرُ محمدُ بن الوَزيرِ حُسينِ بن عبدِ الله بن إبراهيمَ، الروذراوريُّ، أَهوازيُّ الأَصلِ من همذان. كان أبو شُجاعٍ قد قَرأَ الفِقهَ والعَربيَّةَ، وسَمِعَ الحَديثَ من جَماعةٍ منهم: أبو إسحاقَ الشِّيرازيُّ، وصَنَّفَ كُتُبًا منها كِتابُه الذي ذَيَّلَهُ على ((تجارب الأمم)) ووَزَرَ للمُقتدِي بالله سَليمًا مِن طَمَعٍ، وكان يَملِك حِينئذٍ عَيْنًا ستمائة ألف دِينارٍ، فأَنفَقَها في الخَيراتِ والصَّدقاتِ. قال أبو جَعفرِ بن الخِرقيِّ: "كُنتُ أنا مِن أَحَد عشر يَتَولَّون إِخراجَ صَدَقاتِه، فحَسِبتُ ما خَرَجَ على يَدِي فكان مائة ألف دِينارٍ، ووَقَّفَ الوُقوفَ، وبَنَى المَساجِدَ، وأَكثَرَ الإنعامَ على الأَرامِلِ واليَتامَى، وكان يَبيعُ الخُطوطَ الحَسَنَة، ويَتصدَّق بثَمَنِها ويقول: أَحَبُّ الأَشياءِ إليَّ الدِّينارُ والخَطُّ الحَسَن، فأنا أُخرِجُ للَّه مَحبوبي. ووَقَعَ مَرَضٌ في زَمانِه، فبَعَثَ إلى جَميعِ أَصقاعِ البَلدِ أَنواعَ الأَشرِبَةِ والأَدوِيَةِ، وكان يُخرِج العُشْرَ من جَميعِ أَموالِه النَّباتيَّة على اختِلافِ أَنواعِه. حَكَى حاجِبُه الخاصُّ بهِ قال: استَدعاني لَيلةً، وقال: إنِّي أَمَرتُ بعَمَلِ قَطائفَ، فلمَّا حَضَرَ بين يديَّ ذَكرتُ نُفوسًا تَشتَهيهِ فلا تَقدِرُ عليه، فنَغَّصَ ذلك عليَّ أَكْلَهُ، ولم أَذُق منه شَيئًا، فاحمِل هذه الصُّحونَ إلى أَقوامٍ فُقراءَ. فحَمَلَها الفَرَّاشُونَ معه، وجَعَلَ يَطرُق أَبوابَ المَساجِد ببابِ المَراتِبِ، ويَدفَع ذلك إلى الأَضِرَّاءِ المُجاوِرينَ بها" وكان يُبالِغُ في التَّواضُع، حتى تَرَكَ الاحتِجابَ فيُكَلِّم المَرأَةَ والطِّفلَ، وأَوْطَأَ العَوامَّ والصَّالِحينَ مَجلِسَه، وكان يُحضِر الفُقهاءَ الدِّيوانَ في كلِّ مُشكِلٍ، وكانوا إذا أَفتَوا في حَقِّ شَخصٍ بوُجوبِ حَقِّ القَصاصِ عليه سَأَلَ أَولياءَ الدَّمِ أَخْذَ شَيءٍ من مالِه وأن يَعفُوا، فإن فَعَلوا وإلَّا أَمَرَ بالقَصاصِ، وأَعطَى ذلك المالَ وَرَثَةَ المَقتُولِ الثاني، وفي زَمانِه أُسقِطَت المُكوسُ، وأُلبِسَ أَهلُ الذِّمَّةِ الغِيارَ، وتَقدَّم إلى الخِرَقيِّ المُحتَسِب أن يُؤَدِّبَ كلَّ مَن فَتَحَ دُكَّانَه يَومَ الجُمعةِ ويُغلِقَه يومَ السبتِ مِن البَزَّازينَ وغَيرِهم، وقال: هذه مُشارَكةٌ لليَهودِ في حِفْظِ سَبتِهم. وكان قد سَمِعَ أن النَّفَّاطِينَ والكِلابزيَّة -مَن يَتَولَّى تَربيَةَ الكِلابِ وبَيعَها- يَقِفونَ على دَكاكِين المُتعيِّشين فيَأخُذون منهم كلَّ أُسبوعٍ شَيئًا، فنَفَذَ مَن يَمنعُهم مِن الاجتِيازِ بهم. وحَجَّ في وِزارَتِه سَنةَ ثمانين، فبَذَلَ في طَريقِه الزَّادَ والأَدوِيَةَ، وعَمَّ أَهلَ الحَرمَينِ بصَدَقاتٍ، وساوَى الفُقراءَ في إِقامَةِ المَناسِك والتَّعَبُّد، وكان كَثيرَ البِرِّ للخَلْقِ، كَثيرَ التَّلَطُّفِ بهم، ولمَّا عُزِلَ خَرجَ إلى الجامِعِ يومَ الجُمعةِ فانثالَت عليه العامَّةُ تُصافِحُه وتَدعُو له، فكان ذلك سَبَبًا لالتِزامِه بَيتَه، والإنكارِ على مَن صَحِبَهُ، وبَنَى في دِهليزِ دارِهِ مَسجِدًا وكان يُؤَذِّن ويُصلِّي فيه، ثم وَرَدَت كُتُبُ نِظامِ المُلْكِ بإخراجِه من بغداد، فأُخرِجَ إلى بَلدةٍ، فأَقامَ مُدَّةً، ثم استَأذَنَ في الحَجِّ فأُذِنَ له فخَرجَ, وجاوَرَ بالمَدينَةِ، فلمَّا مَرِضَ مَرْضَ المَوتِ حُمِلَ إلى مَسجدِ رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم, وتُوفِّي مِن يَومِه ودُفِنَ بالبَقيعِ بعدَ أن صُلِّيَ عليه بمَسجدِ رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، في مُنتَصفِ جُمادَى الآخِرَة من هذه السَّنَةِ وهو ابنُ إحدى وخمسين سَنةً، وكان له شِعْرٌ حَسَنٌ.
في المحَرَّم حاصَرَ صلاح الدين الحِصنَ، لكنه رآه منيعًا فكان رحيلُه عنها في ربيع الأول إلى دمشق، فأقام بدمشق إلى منتصف رمضان، وسار عن دمشقَ إلى قلعة صفد فحصَرَها وقاتلها، ونصب عليها المجانيقَ، وأدام الرميَ إليها ليلًا ونهارًا بالحِجارةِ والسهام، وكان أهلُها قد قاربت ذخائرُهم وأزوادُهم أن تفنى في المدَّةِ التي كانوا فيها محاصَرينَ، فإنَّ عَسكَرَ صلاح الدين كان يحاصِرُهم مِن أول السنة، فلما رأى أهلُه جِدَّ صلاح الدين في قتالهم، أرسلوا يطلُبونَ الأمان، فأمَّنَهم وتسَلَّمَها منهم، فخرجوا عنها وساروا إلى مدينة صور، وكفى الله المؤمنينَ شَرَّهم، ثمَّ لما كان صلاح الدين يحاصِرُ صفد، اجتمع مَن بصور من الفرنج، وقالوا: إنْ فَتحَ المسلمون قلعةَ صفد لم تبقَ كوكب، ولو أنَّها مُعلَّقة بالكوكب، وحينئذ ينقَطِعُ طَمَعُنا من هذا الطرف من البلاد، فاتفق رأيُهم على إنفاذِ نجدة لها سرًّا من رجال وسلاحٍ وغير ذلك، فأخرجوا مائتي رجلٍ مِن شجعان الفرنج وأجلادِهم، فساروا الليلَ مُستَخفين، وأقاموا النَّهارَ مُكمِنين، فاتَّفق مِن قَدَرِ الله تعالى أنَّ رجلًا من المسلمين الذين يحاصِرونَ كوكب خرج متصَيِّدًا، فلَقِيَ رجلًا من تلك النجدة، فاستغربه بتلك الأرضِ، فضَرَبه ليُعلِمَه بحاله، وما الذي أقدَمَه إلى هناك، فأقَرَّ بالحال، ودلَّه على أصحابِه، فعاد الجنديُّ المسلم إلى قايماز النجمي، وهو مُقَدَّم ذلك العسكر، فأعلمه الخبَرَ، والفرنجيُّ معه، فركب في طائفةٍ مِن العسكر إلى الموضعِ الذي قد اختفى فيه الفرنجُ، فكَبَسَهم فأخَذَهم وتتبعهم في الشِّعابِ والكهوف، فلم يُفلِتْ منهم أحدٌ، ولما فتح صفد سار عنها إلى كوكب ونازلها وحصرها، وأرسل إلى مَن بها من الفرنج يبذُلُ لهم الأمانَ إن سَلَّموا، ويتهَدَّدُهم بالقتل والسبي والنهب إن امتَنَعوا، فلم يسمعوا قولَه، وأصروا على الامتناع، فجَدَّ في قتالهم، ونَصَب عليهم المجانيقَ، وتابَعَ رميَ الأحجارِ إليهم، وزحف مرَّةً بعد مرة، وكانت الأمطارُ كثيرة لا تنقطع ليلًا ولا نهارًا، فلم يتمكَّن المسلمونَ مِن القتال على الوجهِ الذي يريدوه، وطال مقامُهم عليها، وفي آخر الأمر زحفوا إليها دفعاتٍ مُتناوبةً في يوم واحد، ووصلوا إلى باشورة القلعة- الباشورة حائِطٌ ظاهر الحصن يختفي وراءه الجند عند القتال- ومعهم النقَّابون والرُّماة يحمونَهم بالنشاب، فلم يقدِرْ أحد منهم أن يُخرِجَ رأسَه من أعلى السور، فنقَّبوا الباشورة فسقطت، وتقَدَّموا إلى السور الأعلى، فلما رأى الفرنجُ ذلك أذعنوا بالتسليم، وطلبوا الأمانَ فأمَّنَهم، وتسلم الحِصنَ منهم منتصَفَ ذي القعدة، وسَيَّرَهم إلى صور, واجتمع للمُسلمين بفَتحِ كوكب وصفد من حدِّ أيلة إلى أقصى أعمال بيروت، لا يفصِلُ بينه غيرُ مدينة صور، وجميعُ أعمال أنطاكية سوى القصير. قال ابن الأثير: " واجتمع بصور من شياطين الفرنج وشجعانهم كلُّ صنديد، فاشتَدَّت شوكتُهم، وحَمِيَت جمرتهم، وتابعوا الرسُلَ إلى مَن بالأندلس وصقلية وغيرهما من جزائر البحر يستَغيثونَ ويَستَنجِدونَ، والأمدادُ كُلَّ قليل تأتيهم، وكان ذلك كُلُّه بتفريطِ صلاحِ الدين في إطلاقِ كُلِّ مَن حصره، حتى عَضَّ بَنانَه نَدَمًا وأسفًا حيث لم ينفَعْه ذلك".
هو المنصور أبو يوسف يعقوب بن أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن بن علي، القيسي الكومي، صاحِبُ المغرب والأندلس. ولِدَ في ربيع الأول سنة 554كان صافي السمرةِ جدًّا، ليس بالطَّويلِ، جميل الوجه، أفْوَهَ أعيْنَ، شديدَ الكَحَل، ضخم الأعضاءِ جَهْوريَّ الصوتِ، جَزْلَ الألفاظ، مِن أصدَقِ الناس لهجةً وأحسَنِهم حديثًا وأكثَرِهم إصابةً بالظن، مجرِّبًا للأمور، ولِيَ وَزارة أبيه، فبحث عن الأحوالِ بحثًا شافيًا وطالع مقاصِدَ العُمَّال والولاة وغيرهم مطالعةً أفادته معرفةَ جزئيات الأمور. ولَمَّا مات أبوه اجتمع رأيُ أشياخ الموحدين وبني عبد المؤمن على تقديمِه فبايعوه وعَقَدوا له الولايةَ ودَعَوه أميرَ المؤمنين كأبيه وجَدِّه، ولقبوه بالمنصور، فقام بالأمر أحسنَ قيامٍ، وهو الذي أظهَرَ أبَّهةَ مُلكِهم، ورفع رايةَ الجِهاد ونَصَب ميزانَ العَدلِ وبَسَط أحكامَ النَّاسِ على حقيقةِ الشَّرعِ، ونظر في أمور الدينِ والوَرَعِ والأمر بالمعروف والنَّهيِ عن المنكر، وأقام الحدودَ حتى في أهلِه وعشيرته الأقربين كما أقامَها في سائر الناس أجمعين، فاستقامت الأحوالُ في أيامه وعَظُمت الفتوحات, ولَمَّا مات أبوه كان معه في الصحبة، فباشر تدبير المملكةِ من هناك، وأوَّلُ ما رَتَّب قواعِدُ بلاد الأندلس، فأصلحَ شأنَها وقَرَّر المقاتلينَ في مراكزها ومَهَّد مصالحَها في مدة شهرين, ثم عاد إلى مراكش التي هي كرسيُّ ملكهم. بلغ الأميرَ يعقوبَ خَبَرُ مسير الفرنج وكثرةُ جموعهم لبلاد المسلمين في الأندلس، فما هاله ذلك، وجدَّ في السير نحوَهم حتى التَقَوا في شمال قرطبة على قُربِ قلعة رياح في مرج الحديد، وصافَّهم سنة 591، وانهزم الفرنجُ وعَمِلَ فيهم السيف فاستأصلهم قتلًا، وما نجا مَلِكُهم إلَّا في نفر يسير، ولولا دخولُ الليل لم يبقَ منهم أحد، وغَنِمَ المسلمون منهم أموالًا عظيمة, ولم يُسمعْ في بلاد الأندلس بكسرةٍ مثلها. وكان المنصورُ ملكًا جوادًا عادلًا متمَسِّكًا بالشرع المطَهَّر، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر كما ينبغي، مِن غير محاباة، ويصلي بالناس الصلوات الخمس، ويلبَسُ الصوف، ويَقِفُ للمرأة وللضعيفِ، ويأخُذُ لهم بالحَقِّ. وأوصى أن يُدفَنَ على قارعة الطريقِ؛ ليترحم عليه من يمُرُّ به. توفِّيَ ثامن عشر ربيع الآخر، وقيل جمادى الأولى، بمدينة سلا، وكان قد سار إليها من مراكش، وكان قد بنى مدينة محاذية لسلا، وسمَّاها المهدية، مِن أحسن البلاد وأنزَهِها، فسار إليها يشاهِدُها، فتوفِّيَ بها، وكانت ولايته خمس عشرة سنة، وكان ذا جهاد للعَدُوِّ، وكان يتظاهَرُ بمذهَبِ الظاهريةَّ، فعَظُمَ أمرُ الظاهرية في أيامه، ثم في آخِرِ أيامه استقضى الشافعيَّةَ على بعض البلاد ومال إليهم، ولما مات قام ابنُه أبو عبد الله محمد بالملك بعده، وكان أبوه قد ولَّاه عهده في حياته، فاستقام المُلكُ له وأطاعه الناسُ، وجَهَّزَ جمعًا من العرب وسيَّرَهم إلى الأندلس احتياطًا من الفرنجِ.
في أواخر هذه السنة أطاع أهل بلاد أذربيجان جميعها للتتر، وحملوا إليهم الأموالَ والثياب الخطائي، والخوبي، والعتابي، وغير ذلك، وسبب طاعتِهم أن جلال الدين لَمَّا انهزم على آمد من التتر، وتفَرَّقت عساكره، وتمزَّقوا كلَّ مُمزَّق، وتخطَّفَهم الناس، وفعل التترُ بديار بكر والجزيرة وإربل وخلاط ما فعلوا، ولم يمنَعْهم أحد، ولا وقف في وجوههم واقف، وملوكُ الإسلام منجحرون في الأثقاب، وانضاف إلى هذا انقطاعُ أخبار جلال الدين، فإنَّه لم يظهر له خبر، ولا علموا له حالة، سُقِطَ في أيديهم، وأذعنوا للتتر بالطاعة، وحملوا إليهم ما طلبوا منهم من الأموالِ والثياب، وكذلك مدينة تبريز التي هي أصل بلاد أذربيجان، ومرجع الجميعِ إليها وإلى من بها، فإنَّ ملك التتر نزل في عساكره بالقرب منها، وأرسل إلى أهلِها يدعوهم إلى طاعته، ويتهدَّدُهم إن امتنعوا عليه، فأرسلوا إليه المال الكثير، والتُّحَف من أنواع الثياب الإبريسم وغيرها، وكلُّ شيء حتى الخمر، وبذلوا له الطاعة، فأعاد الجوابَ يشكُرُهم، ويطلب منهم أن يحضُرَ مُقَدَّموهم عنده، فقصده قاضي البلد ورئيسُه، وجماعة من أعيان أهله، وتخلَّفَ عنهم شمس الدين الطغرائي، وهو الذي يرجع الجميعُ إليه، إلَّا أنه لا يظهر شيئًا من ذلك، فلمَّا حضروا عنده سألهم عن امتناع الطغرائي من الحضور فقالوا: إنه رجل منقطع، ما له بالملوك تعلُّق، ونحن الأصل، فسكت ثم طلب أن يحضروا عنده من صناع الثيابِ الخطائي وغيرها، ليستعمل لمَلِكهم الأعظم، فأحضروا الصُّنَّاع، فاستعملهم في الذي أرادوا، ووزن أهل تبريز الثمَن، وطلب منهم خركاة لملكه أيضًا، فعملوا له خركاة- بيت من الخشب- لم يُعمَل مِثلُها، وعملوا غشاءَها من الأطلس الجيد المزركش، وعملوا من داخلها السمور والقندر، فجاءت عليهم بجملة كثيرة، وقرر عليهم شيئًا من المال كلَّ سنة، وترددت رسلهم إلى ديوان الخلافة وإلى جماعة من الملوك يطلُبون منهم أنهم لا ينصرون خوارزم شاه. قال ابن خلكان: "ولقد وقفتُ على كتاب وصل من تاجرٍ مِن أهل الري في العام الماضي، قبل خروج التتر، فلما وصل التتر إلى الري وأطاعهم أهلها، وساروا إلى أذربيجان، سار هو معهم إلى تبريز، فكتب إلى أصحابه بالموصل يقول: إن الكافِرَ- لعنه الله- ما نَقدِرُ نَصِفُه، ولا نذكر جموعه حتى لا تنقطع قلوبُ المسلمين، فإن الأمر عظيم، ولا تظنوا أن هذه الطائفةَ التي وصلت إلى نصيبين والخابور، والطائفة الأخرى التي وصلت إلى إربل ودقوقا، كان قصدُهم النهب، إنما أرادوا أن يعلموا هل في البلاد من يردُّهم أم لا، فلما عادوا أخبروا ملكهم بخلو البلادِ مِن مانع ومدافع، وأنَّ البلاد خالية من ملك وعساكر، فقوي طمعُهم، وهم في الربيع يقصدونَك، وما يبقى عندكم مقامٌ إلَّا إن كان في بلد الغرب، فإنَّ عَزمَهم على قصدِ البلاد جميعها، فانظروا لأنفُسِكم، هذا مضمون الكتاب، فإنَّا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".