هو المَلِكُ المنصورُ، أبو الجودِ الأتابك عِمادُ الدين زنكي بنُ الحاجِبِ قسيم الدولة آقسنقر بن عبد الله التركي، صاحِبُ المَوصِل. وُلِدَ سنة 477. قتل والِدُه, قسيمُ الدَّولةِ مملوكُ السُّلطانِ ألب أرسلان, وله يومئذٍ عَشرُ سنينَ، ولم يُخَلِّفْ والِدُه ولدًا غَيرَه، فالتَفَّ عليه غِلمانُ أبيه، ورَبَّاه كربوقا، وأحسَنَ إليه, فكان زنكي بطلًا شُجاعًا مِقدامًا كأبيه، عظيمَ الهَيبةِ مَليحَ الصُّورةِ، أسمرَ جميلًا، قد وَخَطَه الشَّيبُ، وكان عاليَ الهِمَّةِ، لا يَقِرُّ ولا ينامُ، فيه غَيرةٌ حتى على نِساءِ جُندِه، عَمَرَ البِلادَ, وكان يُضرَبُ بشجاعتِه المَثَلُ، وهو من أشجَعِ خَلقِ الله. قبل أن يَملِكَ شارك مع الأميرِ مودود صاحبِ المَوصِلِ حِصارَ مدينةِ طَبريَّة، وهي للفِرنجِ، فوصلت طعنتُه إلى بابِ البَلَدِ، وأثَّرَ فيه. وحمل أيضًا على قلعةِ عقر الحميدية، وهي على جَبَلٍ عالٍ، فوصَلَت طعنتُه إلى سورِها, وأمَّا بعدَ مُلكِه، فكان الأعداءُ مُحدِقينَ ببِلادِه، وكلُّهم يَقصِدُها، ويريدُ أخْذَها، وهو لا يَقنَعُ بحِفظِها، حتى إنَّه لا ينقضي عليه عامٌ إلَّا وهو يفتَحُ مِن بلادِهم, ومِن شجاعَتِه التي لم يُسمَعْ بمِثلِها أنَّه كان في نَفَرٍ أثناءَ حصارِ طَبَريَّة وقد خرج الفِرنجُ مِن البَلَدِ، فحمل عليهم هو ومَن معه وهو يَظُنُّ أنَّهم يَتبَعونَه فتخَلَّفوا عنه وتقَدَّمَ وَحْدَه وقد انهزَمَ مَن بظاهِرِ البلدِ مِن الفرنجِ فدخلوا البلَدَ ووَصَلَ رُمحُه إلى البابِ فأثَّرَ فيه، وقاتلهم عليه وبَقِي ينتظر وصولَ من كان معه فحيث لم يَرَ أحدًا حمى نفسَه وعاد سالِمًا، فعَجِبَ النَّاسُ مِن إقدامِه أوَّلًا، ومِن سلامتِه آخِرًا, وكان زنكي من الأمراءِ المُقَدَّمينَ، فوَّضَ إليه السُّلطان محمودُ بن ملكشاه شحنكية بغداد، سنة 511 في العامِ الذي وُلِدَ له فيه ابنُه المَلِك العادِلُ نورُ الدين محمود، ثمَّ عَيَّنه السُّلطانُ محمود على المَوصِل، بتوصيةٍ مِن القاضي بهاءِ الدينِ أبو الحَسَن علي بن الشهرزوي وصلاح الدين محمد الياغبساني بعد أن أشارا به على وزير السُّلطان بقَولِهما: "قد عَلِمْتَ أنت والسُّلطانُ أنَّ بلادَ الجزيرة والشَّام قد استولى الإفرنجُ على أكثَرِها وتمَكَّنوا منها وقَوِيَت شَوكتُهم، وكان البرسقي يَكُفُّ بعضَ عادِيَتِهم، فمُنذ قُتِلَ ازداد طَمَعُهم، وهذا وَلَدُه طِفلٌ صَغيرٌ ولا بُدَّ للبلادِ مِن شَهمٍ شُجاعٍ يَذُبُّ عنها ويحمي حَوزَتَها، وقد أنهينا الحالَ إليكم لئلَّا يجريَ خَلَلٌ أو وهَنٌ على الإسلامِ والمُسلِمينَ فنَحصُلَ نحن بالإثمِ مِن الله تعالى، واللوم من السُّلطانِ، فأنهى الوزيرُ ذلك إلى السُّلطان فأعجَبَه، وقال: مَن تَرَيانِ يَصلُحُ لهذه البلادِ، فذكرا جماعةً فيهم عمادُ الدين زنكي، وعَظَّمَا محَلَّه أكثَرَ مِن غَيرِه" فأجاب السُّلطانُ إلى توليَتِه؛ لِمَا عَلِمَ مِن شَهامَتِه وكفايتِه، فوَلَّاه البلادَ جَميعَها، وكتب بذلك منشورًا, ولَمَّا قَدِمَ زنكي المَوصِل سَلَّمَ إليه السُّلطانُ محمود وَلَديه ألب أرسلان وفروخشاه المعروف بالخفاجي ليُرَبِّيهما؛ فلهذا قيل لزنكي "أتابك"؛ لأنَّ الأتابك هو الذي يُرَبِّي أولاد الملوك. سار زنكي مِن بغدادَ إلى البوازيج ليَملِكَها ويتقَوَّى بها. كان زنكي يُحسِنُ اختيارَ رِجالِه وقادتِه، فيَختارُ أصلَحَهم وأشجَعَهم, وأكرَمَهم لِمَهامِّ ولايتِه وقيادةِ جُيوشِه، وكان في المُقابِلِ يُكرِمُهم ويَحتفي بهم. عَمِلَ زنكي على تَرتيبِ أوضاعِ المَوصِلِ فقَرَّرَ قواعِدَها فولَّى نصير الدين جقر دزدارية قلعةَ المَوصِل, وجَعَلَ الصَّلاحَ مُحمَّدَ الياغبساني أميرَ حاجِبِ الدولة وجعَلَ بهاء الدين قاضيَ قُضاةِ بلادِه جَميعِها وما يفتَحُه مِن البلادِ، ووفَى لهم بما وعَدَهم وكان بهاءُ الدين أعظَمَ النَّاسِ عنده مَنزِلةً وأكرَمَهم عليه وأكثَرَهم انبساطًا معه وقُربًا منه، ورَتَّبَ الأمورَ على أحسَنِ نِظامٍ وأحكَمِ قاعدةٍ, ثمَّ تفَرَّغَ عِمادُ الدين زنكي لتحريرِ بلاد المُسلِمينَ مِن الفرنج، فبدأ بتَوحيدِ الجَبهةِ الإسلاميَّةِ وهي أراضي المُسلِمينَ المحيطةُ بالفِرنجِ الصَّليبيِّينَ في الشَّامِ, ففَتَحَ مدائِنَ عِدَّةً، وكان خُصومُه من المُسلِمينَ محيطينَ به مِن كُلِّ الجِهاتِ، وهو ينتَصِفُ منهم، ويستولي على بلادِهم, وقد أحاطت ولاياتُهم بولايتِه مِن كُلِّ جِهاتِها، فهو يقصِدُ هذا مَرَّةً وهذا مَرَّةً، ويأخُذُ مِن هذا ويَصنَعُ هذا، إلى أن مَلَك مِن كُلِّ مَن يليه طَرفًا مِن بلادِه، وحاصَرَ دِمشقَ وصالَحَهم على أن خَطَبوا له بها، ثمَّ بعد ذلك اتَّجَه للفِرنجِ واستَنقَذَ منهم كفرطاب والمعرَّة ودوَّخَهم، وشَغَلَهم بأنفُسِهم، ودانت له البلادُ، وخَتَم جِهادَه معهم باستنقاذِ إمارةِ الرَّها منهم. قال أبو شامة: "كان الفِرنجُ قد اتَّسَعَت بلادُهم وكَثُرَت أجنادُهم، وعَظُمَت هيبتُهم، وزادت صَولَتُهم، وامتَدَّت إلى بلادِ المُسلِمينَ أيديهم، وضَعُفَ أهلُها عن كَفِّ عاديهم، وتتابعت غزواتُهم، وساموا المُسلِمينَ سوءَ العذابِ، واستطار في البلاد شَرَرُ شَرِّهم، وامتَدَّت مَملَكتُهم من ناحيةِ ماردين وشبختان إلى عريشِ مِصرَ، لم يتخَلَّلْه مِن ولاية المُسلِمينَ غير حَلَب وحَماة وحمص ودمشق، فلما نظَرَ اللهُ سُبحانَه إلى بلادِ المُسلِمينَ ولَّاها عِمادَ الدِّينِ زنكي فغزا الفرنجَ في عُقرِ دِيارِهم، وأخذَ للمُوحِّدينَ منهم بثَأرِهم، واستنقذ منهم حصونًا ومعاقِلَ" توجَّه أتابك زنكي إلى قلعةِ جعبر ومالِكُها يومذاك سيفُ الدولةِ أبو الحَسَنِ عليُّ بنُ مالك، فحاصَرَها وأشرَفَ على أخْذِها، فأصبح زنكي يومَ الأربعاء خامِسَ شَهرِ ربيع الآخر سنة 541 مَقتولًا، قَتَلَه خادِمُه وهو راقِدٌ على فراشِه ليلًا، ودُفِنَ بصفين. ذَكَرَ بَعضُ خواصِّه قال: "دخَلْتُ إليه في الحالِ وهو حيٌّ، فحين رآني ظَنَّ أني أريدُ قَتْلَه، فأشار إليَّ بإصبُعِه السبَّابة يَستَعطِفُني، فوقَفْتُ مِن هَيبَتِه، وقلتُ له: يا مولانا، مَن فَعَل بك هذا فلم يَقدِرْ على الكلامِ، وفاضَت نفسُه لوقتِه"، فكان- رحمه الله- شديدَ الهَيبةِ على عَسكَرِه ورَعِيَّتِه، عظيمَ السِّياسةِ، لا يَقدِرُ القَويُّ على ظُلمِ الضعيفِ، وكانت البلادُ قبل أن يَملِكَها خرابًا من الظُّلمِ ومُجاوَرةِ الفِرنجِ، فعَمَرَها وامتلأت أهلًا وسُكَّانًا. قال عز الدين بنُ الأثير في تاريخه: "حكى لي والدي قال: رأيتُ المَوصِلَ وأكثَرُها خرابٌ، وكان الإنسانُ لا يَقدِرُ على المشيِ إلى الجامِعِ العتيقِ إلَّا ومعه مَن يحميه؛ لِبُعدِه عن العمارةِ، وهو الآن في وسَطِ العِمارةِ، وكان شديدَ الغيرةِ لا سِيَّما على نساءِ الأجنادِ، وكان يقول: لو لم تُحفَظْ نِساءُ الأجنادِ بالهَيبةِ وإلَّا فَسَدْنَ لِكَثرةِ غَيبةِ أزواجِهنَّ في الأسفارِ". فلمَّا قُتِلَ تَمَلَّك ابنُه نورُ الدين محمود بالشَّامِ، وابنُه غازي بالمَوصِل.
هو القاضي ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن خلدون التونسي الإشبيلي الحضرمي القاهري المالكي. وُلِدَ في تونس سنة 732. اشتغل في بلاده وسمع من الوادي آشي وابن عبد السلام وغيرهما، وأخذ القراءات عن محمد بن سعد بن براد، واعتنى بالأدب وأمور الكتابة والخط، حتى مهر في جميع ذلك. وولي كتابة العلامة عن صاحب تونس. ثم غادرها فارًّا من الطاعون متوجهًا إلى فاس في سنة ثلاث وخمسين، فعلا شأنه فيها حتى كِيدَ له فسُجِن فيها حتى أطلقه الوزير الحسن الفودوي، كان دخل في الأحوال السياسية ثم عافها بعد موت صديقه لسان الدين الخطيب، فاعتزل في قلعة بالجزائر في وهران، وألَّف فيها مقدمته المشهورة، ثم تنقل ابن خلدون بين تونس وغرناطة عند بني الأحمر وتلمسان وفاس، إلى أن استقر في مصر سنة أربع وثمانين. قال ابن حجر العسقلاني: "قدم الديار المصرية سنة 784 في ذي القعدة، وحجَّ ثمَّ رجع فلازم ألطنبغا الجوباني، فاعتنى به إلى أن قرَّره الملك الظاهر برقوق في قضاء المالكية بالديار المصرية، فباشرها مباشرةً صعبة، وقَلَب للناسِ ظَهرَ المجن، وصار يعزِّر بالصفع ويسِّميه الزج. فإذا غضب على إنسان، قال: زجوه، فيُصفَع حتى تحمَرَّ رقبته. قرأتُ بخط البشبيشي: كان فصيحًا مفوهًا جميل الصورة، وخصوصًا إذا كان معزولًا عن القضاء. أما إذا ولي فلا يُعاشَر، بل ينبغي ألَّا يُرى. وقد ذكره لسان الدين ابن الخطيب في تاريخ غرناطة ولم يصِفْه بعلم، وإنما ذكر له تصانيف في الأدب، وشيئًا من نظمه، ولم يكن بالماهر فيه. وكان يبالغ في كتمانه، مع أنه كان جيدًا لنقد الشعر من غير تقدم فيه، ولكن محاضرته إليها المنتهى، ولما دخل الديار المصرية تلقاه أهلها وأكرموه، وأكثروا ملازمته والتردد إليه، فلما ولي المنصب تنكَّر لهم، وفتك في كثير من أعيان الموقعين والشهود. وقيل: إن أهل المغرب لما بلغهم أنه ولي القضاء عجبوا من ذلك، ونسبوا المصريين إلى قلة المعرفة، ولما دخل القضاة للسلام عليه، لم يقم لأحدٍ منهم، واعتذر لمن عاتبه على ذلك. وباشر ابن خلدون بطريقة لم يألفها أهل مصر، حتى حصل بينه وبين الركراكي تنافس، فعُقِد له مجلس، فأظهر ابن خلدون فتوى زعم أنها خط الركراكي، وهي تتضمن الحط على السلطان الظاهر برقوق. فتنصَّل الركراكي من ذلك، وتوسَّل بمن اطَّلع على الورقة فوُجِدت مُدلَّسة. فلما تحقق برقوق ذلك عزل ابن خلدون، وأعاد القاضي جمال الدين. وذلك في جمادى الأولى سنة سبع وثمانين. فكانت ولايته الأولى دون سنتين. واستمر معزولًا ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر، وحجَّ في سنة تسع وثمانين. ولازمه كثير من الناس في هذه العطلة وحَسُن خلقه فيها، ومازح الناس وباسطهم، وتردد إلى الأكابر وتواضع معهم. ومع ذلك لم يغيِّرْ زيه المغربي ولم يلبَس زي قضاة هذه البلاد. وكان يحب المخالفةَ في كل شيء. ولما مات ناصر الدين ابن التنسي، طلبه الملك الظاهر برقوق، ففوض إليه القضاء في خامس عشر شهر رمضان سنة إحدى وثمانمائة. فباشر على عادته من العسف والجنف. لكنه استكثر من النواب والشهود والعقاد، على عكس ما كان في الأول، فكثرت الشناعةُ عليه، إلى أن صرف ببعض نوابه، وهو نور الدين ابن الجلال صرفًا قبيحًا، وذلك في ثاني عشر المحرم سنة ثلاث وثمانمائة. وطلب ابن خلدون إلى الحاجب الكبير فأقامه للخصوم وأساء عليه بالقول. وادَّعوا عليه بأمور كثيرة أكثرها لا حقيقة له, وحصل له من الإهانة ما لا مزيد عليه وعُزل، فتحيَّل لما حاصر تيمورلنك دمشق إلى أن حضر مجلسه، وعرَّفه بنفسه فأكرمه وقرَّبه، وكان غرضه استفساره عن أخبار بلاد المغرب، فتمكَّن منه إلى أن أذن له في السفر وزوَّده وأكرمه. فلما وصل القاهرة أعيد إلى منصب القضاء، فباشره عشرة أشهر. ثم صرف بجمال الدين البساطي إلى آخر السنة. وأعيد ابن خلدون وسار على عادته، إلا أنه تبسَّط بالسكن على البحر، وأكثر من سماع المطربات، ومعاشرة الأحداث، فكثرت الشناعة عليه. قرأت بخط جمال الدين البشبيشي في كتابه (القضاة) قال: وكان -ابن خلدون- مع ذلك أكثر من الازدراء بالناس، حتى شهد عنده الأستادار الكبير بشهادة فلم تُقبَل شهادته، مع أنه كان من المتعصبين له. ولم يشتهر عنه في منصبه إلا الصيانة، إلى أن صُرِف في سابع شهر ربيع الأول سنة ست وثمانمائة. ثم أعيد في شعبان سنة سبع، فباشر في هذه المرة الأخيرة بلين مفرِطٍ وعجزٍ وخَورٍ. ولم يلبث أن عُزِل في أواخر ذي القعدة. وقرأت بخط الشيخ تقي الدين المقريزي في وصف تاريخ ابن خلدون: (مقدمته لم يُعمَل مثالها، وإنه لعزيز أن ينال مجتهد منالها؛ إذ هي زبدة المعارف والعلوم، وبهجة العقول السليمة والفهوم، تُوقِف على كُنهِ الأشياء، وتعرف حقيقة الحوادث والأنباء، وتعبِّرُ عن حال الوجود، وتنبئُ عن أصل كل موجود، بلفظ أبهى من الدر النظيم، وألطف من الماء مر به النسيم). انتهى كلامه. وما وصفها به فيما يتعلق بالبلاغة والتلاعب بالكلام على الطريقة الجاحظية مُسلَمٌ له فيه، وأما ما أطراه به زيادة على ذلك فليس الأمر كما قال، إلَّا في بعض دون بعض، إلا أن البلاغة تُزين بزخرفها، حتى تري حسنًا ما ليس بالحسن. وقد كان شيخنا الحافظ أبو الحسن بن أبي بكر يبالغ في الغض منه. فلما سألته عن سبب ذلك، ذكر لي أنه بلغه أنه ذكر الحسين بن علي رضي الله عنهما في تاريخه، فقال: قُتل بسيف جدِّه. ولما نطق شيخنا بهذه اللفظة، أردفها بلعن ابن خلدون وسَبِّه، وهو يبكي. قلت (ابن حجر): ولم توجد هذه الكلمة في التاريخ الموجود الآن. وكأنه كان ذكرها في النسخة التي رجع عنها. والعجَبُ أن صاحبنا المقريزي كان يُفرِطُ في تعظيم ابن خلدون؛ لكونه كان يجزم بصحة نسب بني عبيد الذين كانوا خلفاء بمصر، وشهروا بالفاطميين إلى علي، ويخالف غيره في ذلك، ويدفع ما نُقِل عن الأئمة في الطعن في نسبهم ويقول: إنما كتبوا ذلك المحضر مراعاة للخليفة العباسي". ثم استعفى وانقطع للتدريس والتأليف وله مصنفات غير مقدمته المشهورة، ومنها: كتاب العِبَر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، وشرح البردة والحساب، ورسالة في المنطق، توفي في القاهرة يوم الأربعاء الخامس والعشرين من شهر رمضان فجأة عن 76 عامًا ودُفِن بمقابر الصوفية.
لمَّا تمَّ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من العُمُرِ اثنَتا عَشْرةَ سنةً، سافر عمُّه أبو طالِبٍ إلى الشَّامِ في رَكبٍ للتِّجارةِ، فأخَذهُ معه. ولمَّا نزلَ الرَّكبُ (بُصرَى) مرّوا على راهِبٍ هناك يُقال له (بَحيرَا)، وكان عليمًا بالإنجيلِ، خبيرًا بالنَّصرانيَّةِ، وهناك أبصرَ بَحيرَا النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فجَعَلَ يتأمَّلُه ويُكلِّمُه، ثم الْتَفَتَ إلى أبي طالبٍ فقال له: ما هذا الغُلامُ مِنكَ؟ فقال: ابني (وكان أبو طالِبٍ يَدعوه بابنِه؛ لشدَّةِ محبَّتِه له وشَفَقَتِه عليه). فقال له بَحيرَا: ما هو بِابنِك، وما ينبغي أن يكونَ أبو هذا الغُلامِ حيًّا. فقال: هو ابنُ أخي. قال: فما فَعَل أبوه؟ قال: مات وأُمُّه حُبلَى به. قال بَحيرَا: صدقتَ. فارجِعْ به إلى بلدِه واحذَرْ عليه يهودَ؛ فوالله لئنْ رأوْهُ هنا لَيَبْغُنَّهُ شرًّا؛ فإنَّه كائنٌ لابنِ أخيك هذا شأنٌ عظيمٌ. فأسرَع به أبو طالبٍ عائدًا إلى مكَّةَ.
وروَى التِّرمذيُّ: أنَّ أبا طالبٍ خرج إلى الشَّامِ، وخَرَج معه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أشياخٍ من قُرَيشٍ؛ فلمَّا أشرَفوا -اقتَرَبوا- على الرَّاهِب -يَعني: بَحيرَا- هَبَطوا فحَلُّوا رِحالَهم؛ فخَرَج إليهمُ الراهبُ، وكانوا قبل ذلك يَمرُّون به فلا يخرُجُ إليهم ولا يَلتفِتُ إليهم، قال: وهم يَحُلُّون رِحالَهم؛ فجَعَل يَتخلَّلُهمُ الرَّاهبُ حتى جاء فأخَذ بيَدِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: هذا سيِّدُ العالَمين، هذا رسولُ ربِّ العالَمين، يبعَثُه اللهُ رحمةً للعالَمين، فقال له أشياخٌ من قُريشٍ: ما عِلمُك؟ قال: إنَّكم حين أشرفتُم من العقبةِ لم يبقَ شجرٌ ولا حجرٌ إلا خرَّ ساجدًا، ولا يَسجُدانِ إلا لنبيٍّ، وإنِّي أعرِفُه بخاتَمِ النبوَّةِ أسفلَ من غُضروفِ كَتِفِه مثلِ التُّفَّاحةِ، ثم رَجَع فصَنَع لهم طعامًا، فلمَّا أتاهم به، وكان هو -أي: الرسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- في رِعيةِ الإبلِ، قال: أرسِلوا إليه. فأقبَلَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعليه غَمامةٌ تُظِلُّه، فلما دنا من القَومِ، وَجَدَهم قد سَبَقوه إلى فيءِ -ظلِّ- الشَّجرةِ، فلمَّا جلس رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مالَ فَيءُ الشجرةِ عليه، فقال بَحيرَا: انظُروا إلى فَيءِ الشجرةِ مالَ عليه! قال: فبينما هو قائمٌ عليهم، وهو يُناشِدُهم ألَّا يَذهَبوا به إلى الرُّومِ؛ فإنَّ الرُّومَ إن رأوه عَرَفوه بالصِّفةِ فيقتُلونَه، فالْتفَتَ فإذا بسَبعةٍ قد أقبلوا من الرُّومِ فاستَقبَلَهم، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جِئنا أنَّ هذا النبيَّ خارِجٌ في هذا الشَّهرِ، فلم يبقَ طريقٌ إلَّا بُعِثَ إليه بأُناسٍ، وإنَّا قد أُخبِرنا خَبَرَه، فبُعِثنا إلى طريقِك هذا، فقال: هل خَلَفَكم أحدٌ هو خيرٌ منكم؟ قالوا: إنَّما أُخبِرنا خَبَرَه إلى طريقِكَ هذا. قال: أفَرَأيتم أمرًا أراد اللهُ أن يقضيَه، هل يستطيع أحدٌ من الناس ردَّه؟ قالوا: لا، قال: فبايَعوه، وأقاموا معه عنده. قال: فقال الرَّاهبُ بَحيرَا: أنشُدكم اللهَ أيُّكم وَليُّه؟ قال أبو طالب: فلم يزَل يُناشِدُه حتى ردَّه أبو طالِبٍ".
كان سببُها أنَّ المشركين حين قُتِلَ مَن قُتِلَ مِن أَشرافِهِم يوْمَ بَدْرٍ، وسَلمَت العِيرُ بما فيها مِنَ التِّجارةِ التي كانت مع أبي سُفيانَ، فلمَّا رجع فَلُّهُم إلى مكَّةَ قال أبناءُ مَن قُتِلَ، ورُؤساءُ مَن بَقِيَ لأبي سُفيانَ: ارْصُدْ هذه الأموالَ لِقتالِ محمَّدٍ، فأَنفَقوها في ذلك، وجمعوا الجُموعَ والأَحابيشَ وأَقبلوا في قَريبٍ مِن ثلاثةِ آلافٍ، حتَّى نزلوا قريبًا مِن أُحُدٍ تِلْقاءَ المدينةِ، فصلَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومَ الجُمعةِ، فلمَّا فَرَغَ منها صلَّى على رجلٍ مِن بني النَّجَّارِ، يُقالُ له: مالكُ بنُ عَمرٍو، واسْتَشار النَّاسَ: أَيخرُجُ إليهِم، أمْ يَمكُثُ بالمدينةِ؟ فأشار عبدُ الله بنُ أُبَيٍّ بالمقامِ بالمدينةِ، فإن أقاموا أقاموا بِشَرِّ مَحْبسٍ وإن دخلوها قاتلَهُم الرِّجالُ في وُجوهِهم، ورَماهم النِّساءُ والصِّبيانُ بالحِجارةِ مِن فوقِهم، وإن رجعوا رجعوا خائِبين. وأشار آخرون مِنَ الصَّحابةِ ممَّن لم يَشهدْ بدرًا بالخُروجِ إليهم، فدخل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فلَبِسَ لَأْمَتَهُ وخرج عليهم... فسار في ألفٍ مِن أصحابِهِ، فلمَّا كان بالشَّوطِ رجع عبدُ الله بنُ أُبَيٍّ في ثُلُثِ الجيشِ مُغْضَبًا؛ لِكَونِه لم يُرجَعْ إلى قولِه، وقال هو وأصحابُه: لو نعلمُ اليومَ قِتالًا لاتَّبَعناكُم، ولكِنَّا لا نَراكُم تُقاتلون اليومَ. واستَمرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سائرًا حتَّى نزل الشِّعْبَ مِن أُحُدٍ في عَدْوَةِ الوادي. وجعل ظَهرَهُ وعَسكرَهُ إلى أُحُدٍ، وتَهيَّأَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للقِتالِ وهو في سبعمائةٍ مِن أصحابِهِ، وأمَّرَ على الرُّماةِ عبدَ الله بنَ جُبَيْرٍ أخا بني عَمرِو بنِ عَوفٍ، والرُّماةُ يَومئذٍ خمسون رجلًا. فقال: انْضَحْ الخَيْلَ عَنَّا بِالنَّبْلِ، لا يَأتونا مِن خَلفِنا، إن كانت لنا أو علينا، فاثْبُتْ مكانَك لا نُؤْتَيَنَّ مِن قِبَلِكَ، وظاهَر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين دِرعَينِ، وأَعطى اللِّواءَ مُصعبَ بنَ عُميرٍ أخا بني عبدِ الدَّارِ، وأجاز رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بعضَ الغِلْمانَ يَومئذٍ وأَرجأَ آخرين، وتَعبَّأتْ قُريشٌ وهُم ثلاثةُ آلافٍ، ومعهم مائتا فَرَسٍ قد جَنَبُوها، فجعلوا على مَيْمَنةِ الخَيْلِ خالدَ بنَ الوليدِ، وعلى المَيسَرةِ عِكْرِمةَ بنَ أبي جَهْلٍ، ودفعوا إلى بني عبدِ الدَّارِ اللِّواءَ... ثمَّ كان بين الفَريقين ما كان، وكانت بَوادرُ النَّصرِ تَلوحُ لِصالحِ المسلمين، فلمَّا رَأى المسلمون تَقَهْقُرَ المشركين أَهملَ الرُّماةُ وَصِيَّةَ نَبِيِّهِم لهم ونزلوا يَحصُدون الغَنائمَ، فانْتهَز خالدُ بنُ الوليدِ الفُرصةَ فالْتَفَّ خَلفَهم وأَعملَ الحربَ فيهم، ممَّا أَدَّى لِقَلْبِ الموازينِ وانْجَلَتِ المعركةُ عن مَقْتَلِ سبعين رجلًا مِن المسلمين مِنهم حمزةُ بنُ عبدِ المُطَّلبِ، ومُصعبُ بنُ عُميرٍ، وعبدُ الله بنُ حَرامٍ والدُ جابرٍ، وعبدُ الله بنُ جُبيرٍ أَميرُ الرُّماةِ....
هو عبدُ الرَّحمن بن محمَّد بن الأشعث بن قَيْس الكِنْدِيُّ، أَميرُ سِجِسْتان كان قائدًا أُمَوِيًّا مِن أهلِ الكوفَة وأَشرافِها، بَدَأ عبدُ الرَّحمن كَأَيِّ قائِدٍ لِبَنِي أُمَيَّةَ، وضَمَّ عددًا كبيرًا مِن البُلدان لِصالِح الدَّولَةِ الأُمويَّة، ولم تكُن أسباب خُروجِه دِينيَّة على الإطلاق. وُلِدَ عبدُ الرَّحمن في الكوفَة في بَيتٍ مِن أَشرافِها، فأَبُوه محمَّدُ بن الأشعث، أَحَدُ وُجوهِ كِنْدَة. كانت عِلاقَةُ الحَجَّاج بن يوسُف به سَيِّئَةً للغايَةِ، وكان الحَجَّاج كلمَّا رأى عبدَ الرَّحمن قال: يالِخُيَلائِه! أنظُر إلى مِشْيَتِه، والله لهَمَمْتُ أن أَضرِب عُنُقَه. فلمَّا انْهَزَم ابنُ الأشعث وَفَرَّ إلى رتبيل مَلِك التُّرْك كَتَب الحَجَّاجُ إلى رتبيل يَقول له: والله الذي لا إله إلَّا هو، لَئِن لم تَبْعَث إِلَيَّ بابنِ الأشعثِ لَأَبْعَثَنَّ إلى بِلادِك ألفَ ألفَ مُقاتِل، ولَأُخَرِّبَنَّها. فلمَّا تَحَقَّق الوَعيدُ مِن الحَجَّاج اسْتَشار في ذلك بعضَ الأُمراء فأشار عليه بِتَسليم ابن الأشعث إليه قبل أن يُخَرِّب الحَجَّاجُ دِيارَه، ويأخذ عامَّة أَمْصارِه، فأرسَل إلى الحَجَّاج يَشترِط عليه أن لا يُقاتِل عشرَ سِنين، وأن لا يُؤَدِّي في كُلِّ سَنة منها إلَّا مِائَة ألف مِن الخَراجِ، فأجابه الحَجَّاجُ إلى ذلك، وقِيل: إنَّ الحَجَّاج وَعَدَه أن يُطلِق له خَراجَ أَرضِه سبعَ سِنين، فعند ذلك غَدَر رتبيل بابن الأشعث، فقَبَضَ عليه وعلى ثلاثين مِن أَقرِبائِه فَقَيَّدَهم في الأَصفادِ، وبَعَث بهم مع رُسُلِ الحَجَّاج إليه، فلمَّا كانوا بِبَعضِ الطَّريق بِمَكان يُقالُ له: الرُّخَّج، صَعَد ابنُ الأشعث وهو مُقَيَّد بالحَديدِ إلى سَطْحِ قَصْرٍ، ومعه رجل مُوكل به; لِئَلَّا يَفِرَّ، وألقى نَفْسَه مِن ذلك القَصْر، وسَقَطَ معه المُوكل به فماتا جَميعًا، فعَمَد الرَّسول إلى رأسِ ابن الأشعثِ فاحْتَزَّهُ، وقَتَل مَن معه مِن أصحابِ ابن الأشعث، وبَعَث بِرُؤوسِهم إلى الحَجَّاج، فأَمَرَ فَطِيفَ بِرَأْسِه في العِراق، ثمَّ بَعَثَه إلى أميرِ المؤمنين عبدِ الملك فَطِيفَ بِرَأْسِه في الشَّام، ثمَّ بَعَث به إلى أَخيهِ عبدِ العزيز بِمِصْرَ فَطِيفَ بِرَأْسِه هُنالِك، ثمَّ دَفَنوا رَأْسَه بِمِصْرَ وجُثَّتَه بالرُّخَّج, وقِيلَ إنَّه مات عامَ 85 هـ. قال عنه ابنُ كثير: "والعَجَبُ كُلُّ العَجَب مِن هؤلاء الذين بايَعُوه بالإمارَةِ وليس مِن قُريشٍ، وإنَّما هو كِنْدِيٌّ مِن اليَمَن، وقد اجْتَمَع الصَّحابَةُ يومَ السَّقِيفَة على أنَّ الإمارَة لا تكون إلَّا في قُريشٍ، واحْتَجَّ عليهم الصِّدِّيقُ بالحديث في ذلك، حتَّى إنَّ الأنصار سألوا أن يكون منهم أَميرٌ مع أَميرِ المُهاجرِين فأَبَى الصِّدِّيقُ عليهم ذلك. فكيف يَعْمِدون إلى خَليفَة قد بُويِعَ له بالإمارةِ على المسلمين مِن سِنين فيَعْزِلونه وهو مِن صُلْبِيَّةِ قُريشٍ ويُبايِعون لِرَجُلٍ كِنْدِيٍّ بَيْعَةً لم يَتَّفِق عليها أَهلُ الحَلِّ والعَقْدِ؟! ولهذا لمَّا كانت هذه زَلَّة وفَلْتَة نَشَأ بِسَبَبِها شَرٌّ كَبيرٌ هَلَكَ فيه خَلْقٌ كَثيرٌ، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجِعُون".
سَارَ محمَّدُ بن القاسِم بن محمَّد بن الحَكَم بِأَمْرٍ مِن الحَجَّاج بِجَيْشٍ مُجَهَّزٍ بالكامِل إلى مُكْران فأَقام بها أيَّاما ثمَّ أَتَى قَنَّزْبُور ففَتَحَها، ثمَّ سَارَ إلى أَرمائِيل ففَتَحَها، ثمَّ سَارَ إلى الدَّيْبُل فقَدِمَها يومَ جُمُعَة، ووافَتْهُ سُفُنٌ كان حَمَلَ فيها الرِّجالَ والسِّلاحَ والأَداةَ فخَنْدَقَ حين نَزَل الدَّيْبُل, وكان بالدَّيْبُل بُدٌّ عَظيمٌ عليه دَقَلٌ عَظيمٌ وعلى الدَّقَلِ رَايةٌ حَمراء إذا هَبَّت الرِّيحُ أَطافَت بالمَدينة، وكانت تَدور، والبُدُّ صَنَمٌ في بِناء عَظيمٍ تحتَ مَنارَةٍ عَظيمةٍ مُرتَفِعَة، وفي رَأسِ المَنارَة هذا الدَّقَل، وكُلُّ ما يُعْبَد فهو عندهم بُدٌّ. فحَصَرها وطال حِصارُها، فرَمَى الدَّقَل بِحَجَر العَرُوس فكَسَرَه، فتَطَيَّر الكُفَّارُ بذلك، ثمَّ إنَّ محمَّد أَتَى ونَاهَضَهُم وقد خَرَجوا إليه فهَزَمَهم حتَّى رَدَّهُم إلى البَلَدِ وأَمَرَ بالسَّلالِيم فنُصِبَت وصَعَد عليها الرِّجالُ، وكان أوَّلَهم صُعودًا رَجُلٌ مِن مُراد مِن أَهلِ الكوفَة، ففُتِحَت عَنْوَة وقَتَّلَ فيها ثَلاثَةَ أيَّام، وهَرَب عامِلُ ذاهر عنها وأَنزَلها محمَّدٌ أَربعةَ آلافٍ مِن المسلمين، وبَنَى جامِعَها وسَارَ عنها إلى البِيرُون، وكان أَهلُها بَعَثوا إلى الحَجَّاج فصالَحوه، فلَقوا محمَّدًا بالمِيرَةِ وأَدخَلوه مَدينَتَهم، وسَارَ عنها وجَعَل لا يَمُرُّ بمدينة إلَّا فَتَحَها حتَّى عَبَرَ نَهْرًا دون مِهْران، فأَتاهُ أَهلُ سَرْبَيْدِس فصالَحوه، ووَظَّفَ عليهم الخَراجَ وسَارَ عنهم إلى سَهْبان ففَتَحَها، ثمَّ سَارَ إلى نَهْرِ مِهْران فنَزَل في وسَطَهِ، وبَلَغ خَبرُه ذاهر فاسْتَعَدَّ لِمُحارَبَتِه وبَعَثَ جَيْشًا إلى سَدُوسْتان، فطَلَبَ أَهلُها الأَمانَ والصُّلْحَ، فآمَنَهُم ووَظَّفَ عليهم الخَراجَ، ثمَّ عَبَرَ محمَّدُ مهران مما يَلِي بِلادَ راسِل الملك على جِسْر عقده وذاهِر مُسْتَخِفٍّ به، فلَقِيَه محمَّد والمسلمون وهو على فِيلٍ وحَولَه الفِيَلَةُ، ومعه التَّكاكِرَة، فاقتتلوا قِتالًا شديدًا لم يُسمَع بِمثلِه، وتَرَجَّلَ ذاهر فقُتِلَ عند المَساءِ، ثمَّ انْهَزَم الكُفَّار وقَتَلَهم المسلمون كيف شاؤوا، فغَلَبَ محمَّدٌ على بِلادِ السِّنْدِ وفَتَحَ مدينةَ راوَرَ عَنْوةً ثمَّ سار إلى بِرْهَمِناباذ العَتيقَة، وهي على فَرْسَخَيْنِ مِن المَنْصُورة، ولم تكُن المَنْصُورة يَومئذٍ، كان مَوْضِعُها غَيْضَةً، وكان المُنْهَزِمون مِن الكُفَّار بها، فقاتَلوه ففَتَحَها محمَّدٌ عَنْوةً وقَتَل بها بَشَرًا كَثيرًا وخُرِّبَت. وسَارَ يُريدُ الرُّورَ وبَغْرورَ فلَقِيَه أهلُ ساوَنْدَرَى فطَلَبوا الأمانَ فأَعطاهُم إيَّاهُ واشْتَرَط عليهم ضِيافَة المسلمين، ثمَّ أَسلَم أَهلُها بعدَ ذلك. ثمَّ تَقدَّم إلى بِسْمَد وصالَح أَهلَها، ووَصَل إلى الرُّور، وهي مِن مدائن السِّنْدِ على جَبَل، فحَصَرَهم شُهورًا فصالَحوه، وسارَ إلى السِّكَّة ففَتَحَها، ثمَّ قَطَع نَهرَ بَياس إلى المُلْتان فقاتَلَه أَهلُها وانْهَزَموا، فحَصَرَهم محمَّدٌ فجاءَه إِنسانٌ ودَلَّهُ على قَطعِ الماء الذي يَدخُل المَدينَة فقَطَعَه، فعَطِشوا فأَلْقوا بِأَيديهم ونَزَلوا على حُكمِه، فقَتَل المُقاتِلَة وسَبَى الذُّرِّيَّة وسَدَنَة البُدِّ.
كان يَزيدُ فَتَح جُرجان وقُهِسْتان ثمَّ غَدَر أَهلُ جُرجان، فلمَّا صالَح يَزيدُ إصْبَهْبَذ صاحِبَ طَبَرِسْتان سار إلى جُرجان، وعاهَد الله تعالى لَئِن ظَفَر بهم لا يَرفَع السَّيفَ حتَّى يَطحَن بِدِمائِهم، ويَأكُل مِن ذلك الطَّحِين. فأَتاها فحَصَرهم يَزيدُ فيها سَبعةَ أَشهُر، وهُم يَخرُجون إليه في الأيَّام فيُقاتِلونَه ويَرجِعون, فبَيْنَا هُم على ذلك إذ خَرَج رَجَلٌ مِن عَجَم خُراسان يَتَصَيَّد، وقِيلَ: رَجُل مِن طَيِّء، فأَبْصَر وَعْلًا في الجَبلِ، ولم يَشعُر حتَّى هَجَم على عَسكَرِهم، فرَجَع كأنَّه يُريدُ أَصحابَه، وجَعَل يَخْرِق قَباءَه ويَعقِد على الشَّجَرِ عَلامات، فأَتَى يَزيدُ فأَخبرَه، فضَمَنَ له يَزيدُ دِيَةً إن دَلَّهُم على الحِصْن، فانْتَخَب معه ثلاثمائة رَجُل، واسْتَعمَل عليهم ابنَه خالدَ بن يَزيدَ، وقال له: إن غُلِبْتَ على الحَياةِ فلا تُغْلَبَنَّ على المَوتِ، وإيَّاك أن أراك عندي مَهْزومًا. وضَمَّ إليه جَهْمَ بن زَحْر، وقال للرَّجُل: مَتَى تَصِلون؟ قال: غَدًا العَصرَ. قال يَزيدُ: سأَجْهَدُ على مُناهَضَتِهم عند الظُّهْر. فساروا فلمَّا كان الغَدُ وَقْتَ الظُّهْر أَحْرَق يَزيدُ كُلَّ حَطَب كان عندهم، فصار مِثل الجِبال مِن النِّيران، فنَظَر العَدُوُّ إلى النِّيران فهالَهُم ذلك فخَرجوا إليهم، وتَقدَّم يَزيدُ إليهم فاقْتَتلوا، وهَجَم أَصحابُ يَزيدَ الذين ساروا على عَسْكَرِ التُّرك قبلَ العَصرِ وهُم آمِنون مِن ذلك الوَجْهِ، ويَزيدُ يُقاتِلُهم مِن هذا الوَجْهِ، فما شَعَروا إلَّا بالتَّكْبيرِ مِن وَرائِهم، فانْقَطَعوا جَميعًا إلى حِصْنِهم، ورَكِبَهم المسلمون فأَعْطوا بِأَيدِيهم، ونَزَلوا على حُكْم يَزيد، وسَبَى أَهلَها وغَنِمَ ما فيها، وقَتَل مُقاتِلَتَهم، وصَلَبَهم فَرْسَخَيْنِ إلى يَمينِ الطَّريقِ ويَسارِه، وقاد منهم اثني عَشر ألفًا إلى وادي جُرجان وقال: مَن طَلَبَهم بِثَأْرٍ فلْيُقْتَل. فكان الرَّجُل مِن المسلمين يَقتُل الأَربعَة والخَمسَة، وأَجرَى الماءَ على الدَّمِ وعليه أَرْحاء لِيَطْحَنَ بِدِمائِهم لِيُبِرَّ يَمينَه، فطَحَنَ وخَبَزَ وأَكَل، وقِيلَ: قَتَل منهم أَربعينَ ألفًا, وبَنَى مَدينَة جُرجان، ولم تكُن بُنِيت قبلَ ذلك مَدينةً، ورَجَع إلى خُراسان، واسْتَعمَل على جُرجان جَهْم بن زَحْر الجُعفي، وكَتَب إلى سُليمان بالفَتْح يُعَظِّمُه ويُخبِره أنَّه قد حَصَل عنده مِن الخُمُس ستُّمائة ألف ألف، فقال له كاتِبُه المُغيرَة بن أبي قُرَّة مَوْلَى بَنِي سَدوس لا تَكتُب تَسمِيَةَ المالِ، فإنَّك مِن ذلك بين أَمرَيْنِ، إمَّا اسْتَكْثَرَهُ فأَمَرَك بِحَمْلِه، وإمَّا سَمَحَت نَفْسُه لك به فأَعطاكَه، فتَكَلَّف الهَدِيَّة، فلا يَأتِيه مِن قِبَلِك شَيءٌ إلَّا اسْتَقَلَّهُ، فكأَنِّي بك قد اسْتَغْرَقْتَ ما سَمَّيْتَ ولم يَقَع منه مَوْقِعًا، ويَبْقَى المالُ الذي سَمَّيْتَ مُخَلَّدًا في دَواوينِهم، فإن وَلِيَ والٍ بعدَه أَخَذَك به، وإن وَلِيَ مَن يَتَحامَل عليك لم يَرْضَ بأَضعافِه، ولكن اكتُب فَسَلْهُ القُدومَ، وشافِهْهُ بما أَحبَبتَ فهو أَسْلَم. فلم يقبل منه وأَمضَى الكِتابَ، وقِيلَ: كان المَبلَغ أربعة آلاف ألف.
اقتَسَم أصحابُ الأطرافِ والرُّؤَساءُ حُكمَ بلادِ الأندلُسِ، وصاروا طوائِفَ مُتناحِرةً، فقُرطبةُ استولى عليها أبو الحَسَنِ بنُ جهور، وكان مِن وزراء الدَّولة العامريَّة، وبقِيَ كذلك إلى أن مات سنةَ خمسٍ وثلاثين وأربعِمِئَة، وقام بأمِرِ قُرطبةَ بَعدَه ابنُه أبو الوليد مُحمَّدُ بنُ جهور، وأمَّا إشبيليَّةُ فاستولى عليها قاضيها أبو القاسمِ مُحمَّدُ بنُ إسماعيلَ بنِ عَبَّاد اللخمي. لَمَّا انقَسَمَت مملكةُ الأندلُسِ، شاع أنَّ المؤيَّدَ هشامَ بنَ الحَكَمِ الذي اختفى خبَرُه قد ظهر وسار إلى قلعةِ رباح، وأطاعه أهلُها، فاستدعاه ابنُ عَبَّاد إلى إشبيليَّة، فسار إليه وقام بنَصرِه، وأمَّا بطليوس فقام بها سابورُ الفتى العامريُّ، وتلقَّبَ سابور بالمنصورِ، ثم انتَقَلت من بعدِه إلى أبي بكر مُحمَّدِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ مَسلَمةَ، المعروفِ بابنِ الأفطس، وتلَقَّبَ بالمظَفَّر، وأصلُ ابنِ الأفطَسِ مِن بربر مِكناسة، وأمَّا طُلَيطِلةُ فقام بأمْرِها ابنُ يعيشَ، ثمَّ صارت إلى إسماعيلَ بنِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ عامر بنِ ذي النون، وتلَقَّب بالظَّافِرِ بحَولِ الله، وأصلُه من البربَرِ، ثمَّ ملَكَ بعدَه ولَدُه يحيى بنُ إسماعيلَ، ثُمَّ أخَذَت الفِرنجُ منه طُلَيطِلةَ في سنة 477، وصار هو ببلنسيَّة، وأقام هو بها إلى أن قتَلَه القاضي ابنُ جحاف الأحنف. وأمَّا سَرقَسطة والثَّغرُ الأعلى، فصارت في يدِ مُنذِرِ بنِ يحيى، ثمَّ صارت سَرقَسطة وما معها بعدَه لوَلَدِه يحيى بنِ مُنذِر بن يحيى، ثم صارت لسُليمانَ بنِ أحمَدَ بنِ مُحمَّد بن هود الجذاميِّ، وتلقَّبَ بالمُستعين بالله، وأمَّا طرطوشة فوَلِيَها لَبيبُ بنُ الفتى العامريِّ. وأمَّا بلنسيَّة فكان بها المنصورُ أبو الحَسَنِ عبدُ العزيز المغافري، ثم انضاف إليه المريةُ، ثمَّ مَلكَ بعدَه ابنُه مُحمَّدُ بنُ عبدِ العزيز، ثم غَدَرَ به صِهرُه المأمونُ بنُ ذي النُّون، وأخَذَ المُلكَ مِن محمَّدِ بنِ عبدِ العزيز في سنة 457. وأمَّا السَّهلةُ فمَلَكَها عَبُّود بنُ رزين، وأصلُه بربري. وأمَّا دانية والجزائرُ فكانت بيَدِ المُوفَّقِ بنِ أبي الحُسَينِ مُجاهِد العامريِّ. وأمَّا مرسيَّةُ فوَلِيَها بنو طاهرٍ، واستقامت لأبي عبدِ الرَّحمنِ منهم، إلى أن أخَذَها منه المُعتَمِدُ بنُ عباد. ثمَّ عصى بها نائبُها عليه، ثمَّ صارت للمُلَثَّمين. وأمَّا المرية فمَلَكَها خيران العامريُّ، ثم ملك المريةَ بعدَه زُهَيرٌ العامريُّ، واتسَعَ مُلكُه إلى شاطبة، ثمَّ قُتِلَ وصارت مملكَتُه إلى المنصورِ عبدِ العزيز بن عبد الرَّحمنِ المنصورِ بنِ أبي عامر، ثمَّ انتقَلَت حتى صارت للمُلَثَّمينَ, وأمَّا غِرناطةُ فمَلَكَها حبوسُ بنُ ماكس الصِّنهاجيُّ, وأمَّا مالقة فمَلَكَها بنو عليِّ بنِ حَمُّود العَلَويُّ، فلم تَزَلْ في مَملكةِ العَلَويِّينَ يُخطَبُ لهم فيها بالخِلافةِ، إلى أن أخَذَها منهم باديسُ بنُ حبوس صاحِبُ غرناطة. فهذه صورةُ تَفَرُّقِ ممالكِ الأندلُسِ، بعد ما كانت مُجتَمِعةً لخُلَفاءِ بني أمَيَّةَ.
هو أبو الفَتحِ ملكشاه بن ألب أرسلان محمد بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق، المُلَقَّب بجَلالِ الدولة. لمَّا تُوفِّي أَبوهُ كان ملكشاه وَلِيَّ الأَمرِ مِن بَعدِه بِوَصِيَّةِ والِدِه وتَحليفِ الأُمراءِ والأَجنادِ على طاعَتِه، ووَصَّى وَزيرَه نِظامَ المُلْكِ أبا عليٍّ الحَسنَ على تَفرِقَةِ البِلادِ بين أَولادِه، ويكون مَرجِعُهم إلى ملكشاه، ففَعَلَ ذلك، وعَبَرَ بهم نَهرَ جيحون راجِعًا إلى البلادِ, فلمَّا وَصَلَ وَجَدَ عَمَّهُ قاروتبك صاحِبَ كرمان قد خَرَجَ عليه، فعاجَلَهُ وتَصافَّا بالقُرْبِ من همذان، فهَزَمهُ، فتَبِعَه بَعضُ جُنْدِ ملكشاه فأَسَروهُ وحَمَلوهُ إلى ملكشاه، فبَذَلَ التَّوبَةَ ورَضِيَ بالاعتِقالِ وأن لا يُقتَل، فلم يُجِبهُ ملكشاه إلى ذلك، فأَمَرَ بقَتلِه فخُنِقَ بوَتَرِ قَوسِه، واستَقرَّت القَواعدُ للسُّلطانِ وفَتَحَ البِلادَ واتَّسعَت عليه المَملكَةُ، ومَلَكَ ما لم يَملِكهُ أَحدٌ من مُلوكِ الإسلامِ بعدَ الخُلفاءِ المُتقدِّمين، فكان في مَملَكتِه جَميعُ بلادِ ما وراءَ النهرِ وبلادُ الهياطلة وبابُ الأبوابِ والرُّومُ ودِيارُ بَكرٍ والجَزيرةُ والشامُ، وخُطِبَ له على جَميعِ مَنابرِ الإسلامِ سِوى بلادِ المَغرِب، فإنه مَلَكَ مِن كاشغر وهي مَدينةٌ في أَقصَى بلادِ التُّركِ إلى بَيتِ المَقدِس طُولًا، ومِن القُسطنطينيَّة إلى بلادِ الخزر وبَحرِ الهِندِ عَرضًا، وكأن قد قُدِّرَ لِمالِكِه مُلْكُ الدنيا. وكان من أَحسنِ المُلوكِ سِيرَةً حتى كان يُلَقَّب بالسُّلطانِ العادِل، وكان مَنصورًا في الحُروبِ، ومُغرَمًا بالعَمائِرِ، حَفَرَ كَثيرًا من الأَنهارِ، وعَمَّرَ على كَثيرٍ من البُلدانِ الأَسوارَ، وأَنشأَ في المَفاوِزِ رِباطاتٍ وقَناطِرَ، وهو الذي عَمَّرَ جامِعَ السُّلطانِ ببغداد ابتَدأَ بعِمارَتِه في المُحرَّم من سَنَةِ خمسٍ وثمانين وأربعمائة، وزادَ في دارِ السَّلطَنَةِ بها، وصَنَعَ بطَريقِ مكَّةَ مَصانِعَ، وغَرِمَ عليها أَموالًا كَثيرةً خارِجةً عن الحَصرِ، وأَبطلَ المُكوسَ والخَفاراتِ في جَميعِ البلادِ. وكان لَهِجًا بالصَّيْدِ، حتى قيل: إنه ضُبِطَ ما اصطادَهُ بِيَدِه فكان عشرة آلاف، وكانت السبيلُ في أيامِه ساكِنةً والمَخاوِفُ آمِنةً، تَسيرُ القَوافلُ مِن ما وَراءَ النهرِ إلى أَقصَى الشامِ وليس معها خَفيرٌ، ويُسافِر الواحِدُ والاثنانِ من غَيرِ خَوفٍ ولا رَهَبٍ. سارَ السُّلطانُ ملكشاه، بعدَ قَتلِ نِظامِ المُلْكِ، إلى بغداد، ودَخَلَها في الرابع والعشرين من شَهرِ رمضان، ولَقِيَهُ وَزيرُ الخَليفةِ عَميدُ الدولةِ ابنُ جَهيرٍ، وكان السُّلطانُ قد أَمَرَ أن تُفصَّل خِلَعُ الوِزارَةِ لتاجِ المُلْكِ، وكان هو الذي سَعَى بنِظامِ المُلْكِ، فلمَّا فَرَغَ من الخِلَعِ، ولم يَبقَ غيرُ لُبْسِها والجُلوسُ في الدستِ، اتَّفَقَ أن السُّلطانَ خَرجَ إلى الصَّيدِ، وعادَ ثالثَ شَوَّال مَريضًا، وكان سَبَبُ مَرَضِه أنه أَكَلَ لَحمَ صَيْدٍ فَحُمَّ وافتُصِدَ، ولم يَستَوفِ إخراجَ الدَّمِ، فثَقُلَ مَرضُه، وكانت حُمَّى مُحرِقَةً، فتُوفِّي ليلةَ الجُمعةِ، النصفَ من شَوَّال، ولمَّا ثَقُلَ نَقَلَ أَربابُ دَولتِه أَموالَهم إلى حَريمِ دارِ الخِلافَةِ، ولمَّا تُوفِّي سَتَرَت زَوجتُه تركان خاتون المعروفة بخاتون الجلالية مَوْتَه وكَتَمَتهُ، وأَرسَلَت إلى الأُمراءِ سِرًّا فأَرضَتهُم، واستَحلَفَتهُم لِوَلَدِها محمود، وعُمرُه أربع سنين وشهور، وبِمَوتِ السُّلطان ملكشاه انقَضَى العصر عَصرُ القُوَّةِ للسُّلطَةِ السلجوقية وبَدأَ عَهدُ الانقِساماتِ السياسيَّة والحُروبِ بين وَرَثَةِ العَرشِ السلجوقي ممَّا أَدَّى إلى تَشتيتِ صُفوفِهم وإضعافِ سُلطَتِهم.
في ربيع الأول، سار أسد الدين شيركوه بن شاذي إلى ديار مصر، فمَلَكَها ومعه العساكر النورية، وسَبَبُ ذلك تمكُّن الفرنج من البلاد المصرية، وأنهم جعلوا لهم في القاهرة شحنةً وتسَلَّموا أبوابها، وجعلوا لهم فيها جماعةً من شجعانهم وأعيان فرسانهم، وحكَموا المسلمين حكمًا جائرًا، ورَكِبوهم بالأذى العظيم، فعَمِلوا أيضًا على تجهيز الجيوش لتمَلُّك مصر كلها، وشرعوا يتجهَّزون ويُظهِرون أنَّهم يريدون قصد مدينة حمص، فلما سمع نور الدين محمود بهم شرع يجمَعُ عساكِرَه، وأمَرَهم بالقدوم عليه، وجَدَّ الفرنج في السير إلى مصر، فقدموها، ونازلوا مدينة بلبيس، ومَلَكوها قهرًا مستهَلَّ صفر، ونهبوها وقتلوا فيها وأسروا وسَبَوا، وكان جماعة من أعيان المصريين قد كاتبوا الفرنج، ووعَدوهم النصرة، فقَوِيَ جنان الفرنج، وساروا من بلبيس إلى مصر، فنزلوا على القاهرة عاشِرَ صَفَر وحصروها، فخاف الناسُ منهم أن يفعلوا بهم كما فعلوا بأهل بلبيس، فحمَلَهم الخوف منهم على الامتناعِ، فحفظوا البلد، وقاتلوا دونَه وبذلوا جُهدَهم في حفظه، وأمر شاور بإحراق مدينة مصر تاسع صفر، وأمر أهلَها بالانتقال منها إلى القاهرة، وأن يُنهَب البلد، فانتقلوا، وبقُوا على الطرق، ونُهِبَت المدينة وافتقرَ أهلُها، وذهبت أموالُهم ونعمتهم قبل نزول الفرنج عليهم بيوم، خوفًا أن يملِكَها الفرنج، فبَقِيَت النار تحرقها أربعة وخمسين يومًا، وأرسل حاكمُ مصر العاضد العبيدي إلى نور الدين يستغيثُ به، ويُعَرِّفُه ضعف المسلمين عن دفع الفرنج، فشرع في تسيير الجيوش، وأما الفرنج فإنهم اشتدوا في حصار القاهرة وضَيَّقوا على أهلها، وشاوِر هو المتولي للأمر والعساكر والقتال، فضاق به الأمر، وضَعُف عن ردهم، فأخلد إلى أعمال الحيلة، فأرسل إلى ملك الفرنج يَذكُرُ له مودته ومحبته القديمة له، وأنَّ هواه معه؛ لخوفه من نور الدين والعاضد، فأجابه إلى ذلك على أن يعطوه ألف ألف دينار مصرية، يُعَجَّل البعض، ويُمهَل البعض فاستقرت القاعدةُ على ذلك، وجعل شاوِر يجمع لهم المال من أهل القاهرة ومصر، فلم يتحصَّل له إلا قدر لا يبلغ خمسة آلاف دينار، وهم في خلالِ هذا يراسلون نور الدين بما الناس فيه، وبذلوا له ثلث بلاد مصر، وأن يكونَ أسدُ الدين مقيمًا عندهم في عسكر، وأقطاعهم في الديار المصرية أيضًا خارجًا عن الثُّلث الذي لهم، وسار أسد الدين شيركوه من رأس الماء مجدًّا منتصف ربيع الأول، فلما قارب مصرَ رحل الفرنج عنها عائدين إلى بلادِهم بخُفَّي حُنَين خائبين مما أمَّلوا، وسمع نور الدين بعودهم، فسره ذلك، وأمر بضَربِ البشائر في البلاد، وبَثَّ رسله في الآفاق مبشرين بذلك، فإنه كان فتحًا جديدًا لمصر، وحفظًا لسائر بلاد الشام وغيرها، فأمَّا أسد الدين فإنه وصل إلى القاهرة سابع جمادى الآخرة، ودخل إليها، واجتمع بالعاضد، وخلع عليه وعاد إلى خيامِه بالعاضدية، وفرح به أهلُ مصر، وأُجريت عليه وعلى عسكره الجرايات الكثيرة، والإقامات الوافرة.
هو المنصور أبو يوسف يعقوب بن أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن بن علي، القيسي الكومي، صاحِبُ المغرب والأندلس. ولِدَ في ربيع الأول سنة 554كان صافي السمرةِ جدًّا، ليس بالطَّويلِ، جميل الوجه، أفْوَهَ أعيْنَ، شديدَ الكَحَل، ضخم الأعضاءِ جَهْوريَّ الصوتِ، جَزْلَ الألفاظ، مِن أصدَقِ الناس لهجةً وأحسَنِهم حديثًا وأكثَرِهم إصابةً بالظن، مجرِّبًا للأمور، ولِيَ وَزارة أبيه، فبحث عن الأحوالِ بحثًا شافيًا وطالع مقاصِدَ العُمَّال والولاة وغيرهم مطالعةً أفادته معرفةَ جزئيات الأمور. ولَمَّا مات أبوه اجتمع رأيُ أشياخ الموحدين وبني عبد المؤمن على تقديمِه فبايعوه وعَقَدوا له الولايةَ ودَعَوه أميرَ المؤمنين كأبيه وجَدِّه، ولقبوه بالمنصور، فقام بالأمر أحسنَ قيامٍ، وهو الذي أظهَرَ أبَّهةَ مُلكِهم، ورفع رايةَ الجِهاد ونَصَب ميزانَ العَدلِ وبَسَط أحكامَ النَّاسِ على حقيقةِ الشَّرعِ، ونظر في أمور الدينِ والوَرَعِ والأمر بالمعروف والنَّهيِ عن المنكر، وأقام الحدودَ حتى في أهلِه وعشيرته الأقربين كما أقامَها في سائر الناس أجمعين، فاستقامت الأحوالُ في أيامه وعَظُمت الفتوحات, ولَمَّا مات أبوه كان معه في الصحبة، فباشر تدبير المملكةِ من هناك، وأوَّلُ ما رَتَّب قواعِدُ بلاد الأندلس، فأصلحَ شأنَها وقَرَّر المقاتلينَ في مراكزها ومَهَّد مصالحَها في مدة شهرين, ثم عاد إلى مراكش التي هي كرسيُّ ملكهم. بلغ الأميرَ يعقوبَ خَبَرُ مسير الفرنج وكثرةُ جموعهم لبلاد المسلمين في الأندلس، فما هاله ذلك، وجدَّ في السير نحوَهم حتى التَقَوا في شمال قرطبة على قُربِ قلعة رياح في مرج الحديد، وصافَّهم سنة 591، وانهزم الفرنجُ وعَمِلَ فيهم السيف فاستأصلهم قتلًا، وما نجا مَلِكُهم إلَّا في نفر يسير، ولولا دخولُ الليل لم يبقَ منهم أحد، وغَنِمَ المسلمون منهم أموالًا عظيمة, ولم يُسمعْ في بلاد الأندلس بكسرةٍ مثلها. وكان المنصورُ ملكًا جوادًا عادلًا متمَسِّكًا بالشرع المطَهَّر، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر كما ينبغي، مِن غير محاباة، ويصلي بالناس الصلوات الخمس، ويلبَسُ الصوف، ويَقِفُ للمرأة وللضعيفِ، ويأخُذُ لهم بالحَقِّ. وأوصى أن يُدفَنَ على قارعة الطريقِ؛ ليترحم عليه من يمُرُّ به. توفِّيَ ثامن عشر ربيع الآخر، وقيل جمادى الأولى، بمدينة سلا، وكان قد سار إليها من مراكش، وكان قد بنى مدينة محاذية لسلا، وسمَّاها المهدية، مِن أحسن البلاد وأنزَهِها، فسار إليها يشاهِدُها، فتوفِّيَ بها، وكانت ولايته خمس عشرة سنة، وكان ذا جهاد للعَدُوِّ، وكان يتظاهَرُ بمذهَبِ الظاهريةَّ، فعَظُمَ أمرُ الظاهرية في أيامه، ثم في آخِرِ أيامه استقضى الشافعيَّةَ على بعض البلاد ومال إليهم، ولما مات قام ابنُه أبو عبد الله محمد بالملك بعده، وكان أبوه قد ولَّاه عهده في حياته، فاستقام المُلكُ له وأطاعه الناسُ، وجَهَّزَ جمعًا من العرب وسيَّرَهم إلى الأندلس احتياطًا من الفرنجِ.
هو الشيخ الإمام العالم القدوة المفتي شيخ الشافعية: فخر الدين، أبو منصور عبد الرحمن بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله الدمشقي، الشافعي. ولد سنة 550, وسمع من عميه؛ الصائن والحافظ، وتفقه على قطب الدين مسعود النيسابوري، وتزوج بابنته، وجاءه ولد منها، سماه مسعودًا. درَّس بالجاروخية، ثم بالصلاحية بالقدس، وبالتقوية بدمشق، فكان يقيم بالقدس أشهرًا، وبدمشق أشهرًا، وكان عنده بالتقوية فضلاء البلد، حتى كانت تُسمى نظامية الشام، ثم درس بالعذراوية سنة 593، وكان فخر الدين لا يَملُّ الشخص من النظر إليه، لحسن سمته، ونور وجهِه، ولطفه، واقتصاده في ملبسِه، وكان لا يفتُرُ من الذكر، استدعاه الملك العادل بعد ما عزل قاضيه ابن الزكي فأجلسه إلى جانبه وقت السماط، وسأل منه أن يلي القضاء بدمشق، فقال حتى أستخير الله تعالى، ثم امتنع من ذلك فشَقَّ على السلطان امتناعه، وهم أن يؤذيَه فقيل له: احمدِ الله الذي في بلادك مثل هذا, وكان قد خاف أن يُكرَه، فجهز أهله للسفر، وخرجت المحابر- طلبة العلم الذين يستملون- إلى ناحية حلب، فردها العادل، وعزَّ عليه ما جرى. قال أبو شامة: كان فخر الدين يتورع من المرور في زقاق الحنابلة لئلَّا يأثموا بالوقيعة فيه؛ وذلك لأن عوامهم يبغضون بني عساكر؛ لأنهم كانوا أعيان الشافعية الأشعرية" لما توفي الملك العادل وأعاد ابنه المعظم الخمور أنكر عليه الشيخ فخر الدين، فبقي في نفسِه منه، فانتزع منه تدريس التقوية، ولم يبق معه سوى الجاروخية ودار الحديث النورية ومشهد ابن عروة، كان زاهدًا عابدًا ورعًا، منقطعًا إلى العلم والعبادة، حسَنَ الأخلاق، قليل الرغبة في الدنيا، وقلَّ من تخلف عن جنازته. قال أبو شامة: "أخبرني من حضره قال: صلى الظهر، وجعل يسأل عن العصر، وتوضَّأ، ثم تشهد وهو جالس، وقال: رضيتُ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ نبيًّا، لقنني اللهُ حُجَّتي، وأقالني عثرتي، ورَحِمَ غُربتي، ثم قال: وعليكم السلام، فعلمنا أنَّه حضرت الملائكة، ثم انقلب ميتًا، غسله الفخر بن المالكي، وابن أخيه تاج الدين، وكان مرضه بالإسهال، وصلى عليه أخوه زين الأمناء، ومن الذي قدر على الوصول إلى سريره" وقال عمر بن الحاجب: "هو أحد الأئمة المبرزين، بل واحدهم فضلًا وقدرًا، شيخ الشافعية، كان زاهدًا ثقةً مجتهدًا، غزير الدمعة، حسنَ الأخلاق، كثير التواضع، قليل التعصُّب، سلك طريق أهل اليقين، وكان أكثر أوقاته في بيته في الجامع، ينشُرُ العلم، وكان مطرح الكلف، عرضت عليه مناصب فتركَها، ولد في رجب وتوفي فيه، وعاش سبعين سنة، وكان الجمع لا ينحصر كثرةً في جنازته، حدث بمكة ودمشق والقدس، وصنف عدة مصنفات". وقال القوصي: "كان كثير البكاء، سريع الدموع، كثير الورع والخشوع، وافر التواضع والخضوع، كثير التهجد، قليل الهجوع، مبرزًا في علمي الأصول والفروع، وعليه تفقهتُ وعرضت عليه (الخلاصة) للغزالي"، ودفن عند شيخه قطب الدين مسعود النيسابوري.
في أواخر هذه السنة أطاع أهل بلاد أذربيجان جميعها للتتر، وحملوا إليهم الأموالَ والثياب الخطائي، والخوبي، والعتابي، وغير ذلك، وسبب طاعتِهم أن جلال الدين لَمَّا انهزم على آمد من التتر، وتفَرَّقت عساكره، وتمزَّقوا كلَّ مُمزَّق، وتخطَّفَهم الناس، وفعل التترُ بديار بكر والجزيرة وإربل وخلاط ما فعلوا، ولم يمنَعْهم أحد، ولا وقف في وجوههم واقف، وملوكُ الإسلام منجحرون في الأثقاب، وانضاف إلى هذا انقطاعُ أخبار جلال الدين، فإنَّه لم يظهر له خبر، ولا علموا له حالة، سُقِطَ في أيديهم، وأذعنوا للتتر بالطاعة، وحملوا إليهم ما طلبوا منهم من الأموالِ والثياب، وكذلك مدينة تبريز التي هي أصل بلاد أذربيجان، ومرجع الجميعِ إليها وإلى من بها، فإنَّ ملك التتر نزل في عساكره بالقرب منها، وأرسل إلى أهلِها يدعوهم إلى طاعته، ويتهدَّدُهم إن امتنعوا عليه، فأرسلوا إليه المال الكثير، والتُّحَف من أنواع الثياب الإبريسم وغيرها، وكلُّ شيء حتى الخمر، وبذلوا له الطاعة، فأعاد الجوابَ يشكُرُهم، ويطلب منهم أن يحضُرَ مُقَدَّموهم عنده، فقصده قاضي البلد ورئيسُه، وجماعة من أعيان أهله، وتخلَّفَ عنهم شمس الدين الطغرائي، وهو الذي يرجع الجميعُ إليه، إلَّا أنه لا يظهر شيئًا من ذلك، فلمَّا حضروا عنده سألهم عن امتناع الطغرائي من الحضور فقالوا: إنه رجل منقطع، ما له بالملوك تعلُّق، ونحن الأصل، فسكت ثم طلب أن يحضروا عنده من صناع الثيابِ الخطائي وغيرها، ليستعمل لمَلِكهم الأعظم، فأحضروا الصُّنَّاع، فاستعملهم في الذي أرادوا، ووزن أهل تبريز الثمَن، وطلب منهم خركاة لملكه أيضًا، فعملوا له خركاة- بيت من الخشب- لم يُعمَل مِثلُها، وعملوا غشاءَها من الأطلس الجيد المزركش، وعملوا من داخلها السمور والقندر، فجاءت عليهم بجملة كثيرة، وقرر عليهم شيئًا من المال كلَّ سنة، وترددت رسلهم إلى ديوان الخلافة وإلى جماعة من الملوك يطلُبون منهم أنهم لا ينصرون خوارزم شاه. قال ابن خلكان: "ولقد وقفتُ على كتاب وصل من تاجرٍ مِن أهل الري في العام الماضي، قبل خروج التتر، فلما وصل التتر إلى الري وأطاعهم أهلها، وساروا إلى أذربيجان، سار هو معهم إلى تبريز، فكتب إلى أصحابه بالموصل يقول: إن الكافِرَ- لعنه الله- ما نَقدِرُ نَصِفُه، ولا نذكر جموعه حتى لا تنقطع قلوبُ المسلمين، فإن الأمر عظيم، ولا تظنوا أن هذه الطائفةَ التي وصلت إلى نصيبين والخابور، والطائفة الأخرى التي وصلت إلى إربل ودقوقا، كان قصدُهم النهب، إنما أرادوا أن يعلموا هل في البلاد من يردُّهم أم لا، فلما عادوا أخبروا ملكهم بخلو البلادِ مِن مانع ومدافع، وأنَّ البلاد خالية من ملك وعساكر، فقوي طمعُهم، وهم في الربيع يقصدونَك، وما يبقى عندكم مقامٌ إلَّا إن كان في بلد الغرب، فإنَّ عَزمَهم على قصدِ البلاد جميعها، فانظروا لأنفُسِكم، هذا مضمون الكتاب، فإنَّا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
هو مَلِكُ التتارِ خَرْبَندا- بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء وفتح الباء الموحدة وسكون النون- بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن تولو بن جنكيزخان السلطان غياث الدين، ملك العراق وخراسان وعراق العجم والروم وأذربيجان والبلاد الأرمينية وديار بكر، ومن الناسِ من يسَمِّيه خُدابَندا بضم الخاء المعجمة والدال المهملة وخدابندا: معناه عبد الله بالفارسي، غير أنَّ أباه لم يسمه إلَّا خربندا، وهو اسمٌ مُهمَل معناه: عبد الحمار، وسبب تسميتِه بذلك أنَّ أباه كان مهما ولِدَ له ولد يموت صغيرًا، فقال له بعض الأتراك: إذا جاءك ولد سمِّه اسمًا قبيحًا يَعِشْ، فلما ولد له هذا سماه خربندا في الظاهرِ واسمه الأصلي أبحيتو، وكان شابًّا مليحًا، لكنه كان أعور جوادًا لعَّابًا, ولما كبر خربندا وملك البلادَ بعد أخيه غازان كَرِهَ هذا الاسم واستقبحه فجعله خدابندا، ومشى ذلك بمماليكِه، وهَدَّد من قال غيره، ولم يُفِدْه ذلك إلَّا من حواشيه خاصة، ولَمَّا ملك خربندا أسلَمَ وتَسَمَّى بمحمد، واقتدى بالكتاب والسنَّة، وحاصر الرحبة سنة 712 وأخذها بالأمان وعفا عن أهلِها ولم يسفك فيها دمًا, وكان محبًّا لأهل الدين والصلاح، وضرب على الدرهم والدينار اسمَ الصَّحابة الأربعة الخلفاء، حتى اجتمع بتاج الدين الآوي الرافضي، وكان خبيثَ المذهب، فما زال بخربندا، حتى جعله رافضيًّا وكتب إلى سائِرِ مماليكه يأمُرُهم بالسبِّ والرفضِ! ووقع له بسبَبِ ذلك أمور، فقد صَمَّم أهل باب الأزج على مخالفتِه فما أعجبه ذلك وتنَمَّرَ ورسم بإباحةِ مالهم ودمهم فعُوجِلَ بعد يومين بهيضة مزعجة داواه الرشيدُ فيها بمُسَهِّل منظف فخارت قواه وتوفِّيَ. قال النويري: "كان خربندا قبل موته بسبعة أيام قد أمر بإشهارِ النداء ألا يذكَرَ أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وعزم على تجريد ثلاثة آلاف فارس إلى المدينةِ النبوية لينقُلَ أبا بكر وعمر رضي الله عنهما من مَدفَنِهما، فعَجَّلَ الله بهلاكِه" وكان موتُه في السابع والعشرين من شهر رمضان بمدينته التي أنشأها وسماها السلطانيَّة في أرض قنغرلان بالقرب من قزوين، وكانت دولتُه ثلاث عشرة سنة, وتسلطن بعده ولده بوسعيد في الثالث عشر من شهر ربيع الأول من سنة 717؛ لأنَّه كان في مدينة أخرى، وأُحضِرَ منها وتسلطَنَ، وأبو سعيد له إحدى عشرة سنة، ومدَبِّرُ الجيوش والممالك له الأمير جوبان، واستمَرَّ في الوزارة على شاه التبريزي، وأخذ أهلَ دولته بالمصادرة وقَتَل الأعيانَ مِمَّن اتهَمَهم بقتل أبيه مسمومًا، ولعب كثيرٌ من الناس به في أوَّلِ دولته، ثم عدل أبو سعيد إلى العَدلِ وإقامة السُّنَّة، فأمر بإقامة الخطبة بالترضِّي عن الشيخينِ أوَّلًا ثم عثمان ثمَّ علي رضي الله عنهم، ففرح الناسُ بذلك، وسكنت بذلك الفِتَنُ والشرور والقتال الذي كان بين أهل تلك البلاد وبهراة وأصبهان وبغداد وإربل وساوه وغير ذلك.
كان تسليم غرناطة للملك فرديناند ملك أراغون والملكة إيزابيلا ملكة قشتالة بناء على معاهدة، لكن فرديناند وزوجته لم يَفيَا بهذه العهود، بل أصدرت إيزابيلا قانونًا يقضي بإجبار المسلمين على التنصر وتحريم إقامة شعائرهم الدينية، وتأمر كذلك بإحراق الكتب الإسلامية في غرناطة, وبعد أن نقض فرديناند شروط تسليم غرناطة شرطًا شرطًا بدا بدعوة المسلمين إلى التنصر وأكرههم عليه فدخلوا في دينه كرهًا وصارت الأندلس كلها نصرانية، ولم يبق من يقول فيها لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم جهارًا إلا من يقولها في نفسه وفي قلبه أو خفيةً من الناس!! وجعلت النواقيس بدل الأذان في مساجدِها والصور والصلبان بعد ذكر الله تعالى وتلاوة القرآن، فكم فيها من عينٍ باكية! وكم فيها من قلب حزين! وكم فيها من الضعفاء والمعدومين لم يقدروا على الهجرة واللحوق بإخوانهم المسلمين! قلوبهم تشتعل نارًا ودموعهم تسيل سيلًا غزيرًا مدرارًا، وينظرون أولادهم وبناتهم يعبدون الصلبان ويسجدون للأوثان ويأكلون الخنزير والميتات ويشربون الخمر التي هي أم الخبائث والمنكرات فلا يقدرون على منعهم ولا على نهيهم ولا على زجرهم! ومن فعل ذلك عوقب أشد العقاب، فيا لها من فاجعة ما أمرَّها ومصيبةٍ ما أعظمَها وأضرَّها وطامَّةٍ ما أكبَرَها! عسى الله أن يجعل لهم من أمرهم فرجًا ومخرجًا، إنه على كل شيء قدير. وقد كان بعض أهل الأندلس قد امتنعوا من التنصر وأرادوا أن يدافعوا عن أنفسهم كأهل قرى ونجر والبشرة وأندراش وبلفيق، فجمع الملك فرديناند عليهم جموعه وأحاط بهم من كل مكان حتى أخذهم عنوة بعد قتال شديد فأخذ أموالهم وقتل رجالهم وسبى نساءهم وصبيانهم ونصَّرهم واستعبدهم إلا أن أناسًا في غربي الأندلس امتنعوا من التنصر وانحازوا إلى جبل منيع وعر فاجتمعوا فيه بعيالهم وأموالهم، وتحصنوا فيه فجمع عليهم الملك فرديناند جموعه وطمع في الوصول إليهم كما فعل بغيرهم، فلما دنا منهم وأراد قتالهم خيب الله سعيه ورده على عَقِبه ونصرهم عليه بعد أكثر من ثلاثة وعشرين معركة، فقتلوا من جنده خلقًا كثيرًا من رجال وفرسان! فلما رأى أنه لا يقدر عليهم طلب منهم أن يعطيهم الأمان ويجوزهم لعدوة الغرب مؤمَّنين فأنعموا له بذلك إلا أنه لم يسَرِّح لهم شيئًا من متاعهم غير الثياب التي كانت عليهم وجوَّزهم لعدوة الغرب كما شرطوا عليه، ولم يطمع أحد بعد ذلك أن يقوم بدعوة الإسلام، وعمَّ الكفرُ جميع القرى والبلدان وانطفأ من الأندلس نور الإسلام والإيمان، فعلى هذا فليبك الباكون، ولينتحب المنتحبون، كما انتحب شاعر الأندلس أبو البقاء الرندي (ت684) في قصيدته المشهورة التي رثا فيه الأندلس بعد سقوط قرطبة سنة 633 ومدن كبرى كإشبيلية وبلنسية وغيرها بيد الفرنج، والتي مطلعها: (لكل شيء إذا ما تم نقصانُ * فلا يغرَّ بطيبِ العيشِ إنسانُ)، فإنا لله وإنا إليه راجعون! كان ذلك في الكتاب مسطورًا، وكان أمر الله قدَرًا مقدورًا، لا مردَّ لأمره ولا معقِّبَ لحكمِه، وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!!