الموسوعة الحديثية


- ابتاعَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ جَزورًا من أعرابيٍّ بوَسْقٍ من تمرِ الذخرةِ وهي العجوةُ فجاءَ به رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ إلى منزلِهِ فالتمسَ التمرَ فلم يجدْهُ فقال للأعرابيِّ يا عبدَ اللهِ إنا ابتعْنا مِنكَ جزورًا بوسقٍ من تمرِ الذخرةِ ونحن نرى أنَّهُ عِندَنا فالتمسْناهُ فلم نجدْهُ فقال الأعرابيُّ واغَدْراهُ فزجرَهُ الناسُ وقالوا أتقولُ هذا لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ دعوهُ فإن لصاحبِ الحقِّ مقالًا ثم أعادَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ الكلامَ ثانيةً فقال الأعرابيُّ واغدراهُ قال فلمَّا لم يفهمْ عنه الأعرابيُّ أرسلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ إلى أمِّ حكيمٍ أقرِضينا وسقًا من تمرِ الذخرةِ حتى يكونَ عِندَنا فنَقضيَكَ فقالَتْ أرسِلْ رسولًا يأتي يأخذُهُ فقال للأعرابيِّ انطلقْ معه حتى يوفيَكَ
الراوي : عائشة أم المؤمنين | المحدث : ابن حزم | المصدر : المحلى | الصفحة أو الرقم : 9/111 | خلاصة حكم المحدث : صحيح
حَرَصَ الشَّرعُ الحكيمُ على إقامةِ علاقاتٍ طَيِّبةٍ بين المُسلمينَ، فيها التَّكافُلُ والتَّرابُطُ والمَحبَّةُ والتَّعاونُ، وحَثَّ مَن له حَقٌّ على غيرِه أنْ يطلُبَه برِفْقٍ، وأمَرَ مَن عليه الحقُّ بعدَمِ المُماطَلةِ.
وفي هذا الحديثِ تُخبِرُ عائشةُ أمُّ المؤمنين رضِيَ اللهُ عنها: "ابتاعَ" أي: اشتَرى "رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جَزورًا"، والجَزورُ: الواحِدُ مِن الإبلِ ذَكرًا كان أو أُنْثى، "مِن أعرابيٍّ"، والأعرابيُّ: هو الَّذي يَسكُنُ الصَّحراءَ مِن العربِ، ويَتَّصِفُ أكثرُ الأعرابِ بالغِلظةِ والجَفاءِ، "بوَسْقٍ مِن تمْرِ الذَّخرةِ، وهي العجوةُ"، أي: التَّمرِ النَّاضجِ الطَّريِّ، والوسْقُ: وعاءٌ يَسَعُ ستِّينَ صاعًا، والصَّاعُ: أربعةُ أمدادٍ، والمُدُّ: مِقدارُ ما يَملأُ الكفَّينِ المعتدلينِ مِن الطَّعامِ, ولفظُ الذَّخرة، قِيل: صَوابُه: الذَّخيرةُ، وهو موضعٌ يُنسَبُ إليه التَّمرُ الجيِّدُ، "فجاء به رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى مَنزلِه فالْتمَسَ التَّمرَ"، أي: طلَبهُ وبحَثَ عنه؛ لِيَدفَعَه لمَن اشْتَرى منه الجمَلَ، "فلم يَجِدْه، فقال للأعرابيِّ: يا عبدَ اللهِ، إنَّا ابْتَعنا منك جَزورًا بوَسْقٍ مِن تمْرِ الذَّخرةِ ونحن نَرى أنَّه عِندنا"، أي: اشْتَريتُه منك وأنا أظنُّ أنَّ التَّمرَ موجودٌ بالبيتِ، "فالْتمسناهُ فلم نَجِدْه"، أي: طلَبْناهُ وبحَثْنا عنه فلم نَجِدْه، "فقال الأعرابيُّ: واغَدْراهْ"، أي: يَستغِيثُ مِن وُقوعِ الغدْرِ عليه في ظَنِّه، "فزجَرهُ النَّاسُ"، أي: نَهَروه واشْتدُّوا عليه، "وقالوا: أتقولُ هذا لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: دَعُوه"، أي: اتْرُكوه، "فإنَّ لصاحبِ الحقِّ مَقالًا"، أي: يرى صاحبُ الحقِّ لنفْسِه أنْ يقولَ ما شاء؛ لِيَطلُبَ حقَّه، "ثمَّ أعاد رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الكلامَ ثانيةً، فقال الأعرابيُّ: واغَدْراهُ، "فلمَّا لم يَفهَمْ عنه الأعرابيُّ"، أي: لم يَفهَمِ الأعرابيُّ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَعتذِرُ عمَّا وقَعَ، "أرسَلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى أُمِّ حكيمٍ" وهي خَولةُ بنتُ قَيسٍ، "أقْرِضِينا"، أي: أعْطِينا سَلفًا، "وسْقًا مِن تمْرِ الذَّخرةِ حتَّى يكونَ عندنا فنَقْضِيَك"، أي: نرُدَّ ونُوفِيَ لك دَينَك حين نَتحصَّلَ عليه، "فقالت: أرسِلْ رسولًا يأْتي يأخُذُه، فقال للأعرابيِّ: انطلِقْ معه"، أي: اذهَبْ معه، "حتَّى يُوفِيَك"، أي: حقَّك مِن وَسْقِ التَّمرِ المُتَّفقِ عليه، وفي روايةِ ابنِ ماجهْ: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أوفاهُ حقَّه، ثمَّ أطْعَمه، فقال الأعرابيُّ: "أوفَيْتَ، أوفى اللهُ لك، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أولئك خيارُ النَّاسِ؛ إنَّه لا قُدِّسَت أُمَّةٌ لا يأخُذُ الضَّعيفُ فيها حقَّه غيرَ مُتعتَعٍ". وفي رِوايةِ أحمدَ: "فمرَّ الأعرابيُّ برسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو جالسٌ في أصحابِه، قال: جزاكَ اللهُ خيرًا؛ فقد أوفيتَ وأطيبتَ. قالت: فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: " أولئك خِيارُ عِبادِ اللهِ عِندَ اللهِ يومَ القيامةِ المُوفون المطيبونَ". وقِيل: إنَّ الرَّجلَ كان كافرًا فأسلَمَ بمُشاهَدةِ هذا الخُلقِ الأعظمِ.
وفي الحديثِ: بِناءُ المُجتمعِ المُسلمِ على المُسامحةِ وحُسنِ التَّعاوُنِ بين النَّاسِ مع حِفظِ الحُقوقِ .