الموسوعة الحديثية


- عن ابن عباس قال: لم أزل حريصا على أن أسأل عمر بن الخطاب رضي اللهُ عنه عن المرأتين من أزواج النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اللتين قال الله تعالى: إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما حتى حج عمر رضي اللهُ عنه وحججت معه فلما كنا ببعض الطريق عدل عمر رضي اللهُ عنه وعدلت معه بالأداوة فتبرز ثم أتاني فسكبت على يديه فتوضأ فقلت: يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اللتان قال الله تعالى إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما فقال عُمَرُ رضي اللهُ عنه واعجبا لك يا ابن عباس قال الزهري كره والله ما سأله عنه ولم يكتمه عنه قال هي حفصة وعائشة قال ثم أخذ يسوق الحديث قال: كنا معشر قريش قوما نغلب النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم قال: وكان منزلي في بني أمية بن زيد بالعوالي قال فتغضبت يوما على امرأتي فإذا هي تراجعني فأنكرت أن تراجعني فقالت: ما تنكر أن أراجعك فوالله إن أزواج النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل قال: فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت: أتراجعين رسول اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالت: نعم قلت وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل قالت نعم قلت قد خاب من فعل ذلك وخسر أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت لا تراجعي رسول اللهِ ولا تسأليه شيئا وسليني ما بدا لك ولا يغرنك إن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسولِ اللهِ منك يريد عائشة رضي اللهُ عنها قال: وكان لي جار من الأنصار وكنا نتناوب النزول إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فينزل يوما وأنزل يوما فيأتيني بخبر الوحي وغيره وآتيه بمثل ذلك قال وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لتغزونا فنزل صاحبي يوما ثم أتاني عشاء فضرب بابي ثم ناداني فخرجت إليه فقال: حدث أمر عظيم قلت: وماذا أجاءت غسان قال لا بل أعظم من ذلك وأطول طلق الرسول نساءه قلت قد خابت حفصة وخسرت قد كنت أظن هذا كائنا حتى إذا صليت الصبح شددت علي ثيابي ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي فقلت: أطلقكن رسول اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقالت: لا أدري هو هذا معتزل في هذه المشربة فأتيت غلاما له أسود فقلت: استأذن لعمر فدخل الغلام ثم خرج إلي فقال: قد ذكرتك له فصمت فانطلقت حتى أتيت المنبر فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم فجلست قليلا ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر فدخل الغلام ثم خرج علي فقال: قد ذكرتك له فصمت فخرجت فجلست إلى المنبر ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر فدخل ثم خرج إلي فقال: قد ذكرتك له فصمت فخرجت فجلست إلى المنبر ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت استأذن لعمر فدخل ثم خرج إلي فقال قد ذكرتك له فصمت فوليت مدبرا فإذا الغلام يدعوني فقال: ادخل فقد أذن لك فدخلت فسلمت على رسول اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فإذا هو متكئ على رمل حصير وحدثنا يعقوب في حديث صالح قال: رمال حصير قد أثر في جنبه فقلت: أطلقت يا رسولَ اللهِ نساءك فرفع رأسه إلي وقال: لا فقلت الله أكبر لو رأيتنا يا رسولَ اللهِ وكنا معشر قريش قوما نغلب النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم فتغضبت على امرأتي يوما فإذا هي تراجعني فأنكرت أن تراجعني فقالت: ما تنكر أن أراجعك فوالله إن أزواج رسول اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل فقلت: قد خاب من فعل ذلك منهن وخسر أفتأمن إحداهن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت فتبسم رسول اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقلت: يا رسولَ اللهِ فدخلت على حفصة فقلت: لا يغرك إن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم منك فتبسم أخرى فقلت: استأنس يا رسولَ اللهِ قال: نعم فجلست فرفعت رأسي في البيت فوالله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر إلا أهبة ثلاثة فقلت: ادع يا رسولَ اللهِ أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله فاستوى جالسا ثم قال: أفي شك أنت يا ابن الخطاب أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا فقلت: استغفر لي يا رسولَ اللهِ وكان أقسم أن لا يدخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله عزَّ وجَلَّ
الراوي : عمر بن الخطاب | المحدث : أحمد شاكر | المصدر : تخريج المسند لشاكر | الصفحة أو الرقم : 1/120 | خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:  مَكَثْتُ سَنَةً أُرِيدُ أنْ أسْأَلَ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ عن آيَةٍ، فَما أسْتَطِيعُ أنْ أسْأَلَهُ هَيْبَةً له، حتَّى خَرَجَ حَاجًّا فَخَرَجْتُ معهُ، فَلَمَّا رَجَعْنَا وكُنَّا ببَعْضِ الطَّرِيقِ عَدَلَ إلى الأرَاكِ لِحَاجَةٍ له، قالَ: فَوَقَفْتُ له حتَّى فَرَغَ، ثُمَّ سِرْتُ معهُ، فَقُلتُ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، مَنِ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا علَى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن أزْوَاجِهِ؟ فَقالَ: تِلكَ حَفْصَةُ وعَائِشَةُ، قالَ: فَقُلتُ: واللَّهِ إنْ كُنْتُ لَأُرِيدُ أنْ أسْأَلَكَ عن هذا مُنْذُ سَنَةٍ، فَما أسْتَطِيعُ هَيْبَةً لَكَ، قالَ: فلا تَفْعَلْ، ما ظَنَنْتَ أنَّ عِندِي مِن عِلْمٍ فَاسْأَلْنِي، فإنْ كانَ لي عِلْمٌ خَبَّرْتُكَ به، قالَ: ثُمَّ قالَ عُمَرُ: واللَّهِ إنْ كُنَّا في الجَاهِلِيَّةِ ما نَعُدُّ لِلنِّسَاءِ أمْرًا، حتَّى أنْزَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ ما أنْزَلَ، وقَسَمَ لهنَّ ما قَسَمَ، قالَ: فَبيْنَا أنَا في أمْرٍ أتَأَمَّرُهُ، إذْ قالتِ امْرَأَتِي: لو صَنَعْتَ كَذَا وكَذَا، قالَ: فَقُلتُ لَهَا: ما لَكِ؟ ولِما هَاهُنَا؟ وفِيمَ تَكَلُّفُكِ؟ في أمْرٍ أُرِيدُهُ، فَقالَتْ لِي: عَجَبًا لكَ يا ابْنَ الخَطَّابِ! ما تُرِيدُ أنْ تُرَاجَعَ أنْتَ وإنَّ ابْنَتَكَ لَتُرَاجِعُ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى يَظَلَّ يَومَهُ غَضْبَانَ، فَقَامَ عُمَرُ فأخَذَ رِدَاءَهُ مَكَانَهُ حتَّى دَخَلَ علَى حَفْصَةَ، فَقالَ لَهَا: يا بُنَيَّةُ، إنَّكِ لَتُرَاجِعِينَ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى يَظَلَّ يَومَهُ غَضْبَانَ؟! فَقالَتْ حَفْصَةُ: واللَّهِ إنَّا لَنُرَاجِعُهُ، فَقُلتُ: تَعْلَمِينَ أنِّي أُحَذِّرُكِ عُقُوبَةَ اللَّهِ، وغَضَبَ رَسولِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يا بُنَيَّةُ، لا يَغُرَّنَّكِ هذِه الَّتي أعْجَبَهَا حُسْنُهَا حُبُّ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إيَّاهَا -يُرِيدُ عَائِشَةَ- قالَ: ثُمَّ خَرَجْتُ حتَّى دَخَلْتُ علَى أُمِّ سَلَمَةَ لِقَرَابَتي منها، فَكَلَّمْتُهَا، فَقالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: عَجَبًا لكَ يا ابْنَ الخَطَّابِ! دَخَلْتَ في كُلِّ شَيءٍ حتَّى تَبْتَغِيَ أنْ تَدْخُلَ بيْنَ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأَزْوَاجِهِ، فأخَذَتْنِي -واللَّهِ- أخْذًا كَسَرَتْنِي عن بَعْضِ ما كُنْتُ أجِدُ، فَخَرَجْتُ مِن عِندِهَا، وكانَ لي صَاحِبٌ مِنَ الأنْصَارِ إذَا غِبْتُ أتَانِي بالخَبَرِ، وإذَا غَابَ كُنْتُ أنَا آتِيهِ بالخَبَرِ، ونَحْنُ نَتَخَوَّفُ مَلِكًا مِن مُلُوكِ غَسَّانَ، ذُكِرَ لَنَا أنَّه يُرِيدُ أنْ يَسِيرَ إلَيْنَا، فَقَدِ امْتَلَأَتْ صُدُورُنَا منه، فَإِذَا صَاحِبِي الأنْصَارِيُّ يَدُقُّ البَابَ، فَقالَ: افْتَحِ افْتَحْ، فَقُلتُ: جَاءَ الغَسَّانِيُّ؟ فَقالَ: بَلْ أشَدُّ مِن ذلكَ، اعْتَزَلَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أزْوَاجَهُ، فَقُلتُ: رَغَمَ أنْفُ حَفْصَةَ وعَائِشَةَ، فأخَذْتُ ثَوْبِي، فأخْرُجُ حتَّى جِئْتُ، فَإِذَا رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مَشْرُبَةٍ له يَرْقَى عَلَيْهَا بعَجَلَةٍ، وغُلَامٌ لِرَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أسْوَدُ علَى رَأْسِ الدَّرَجَةِ، فَقُلتُ له: قُلْ: هذا عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، فأذِنَ لِي، قالَ عُمَرُ: فَقَصَصْتُ علَى رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هذا الحَدِيثَ، فَلَمَّا بَلَغْتُ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ تَبَسَّمَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإنَّه لَعَلَى حَصِيرٍ ما بيْنَهُ وبيْنَهُ شَيءٌ، وتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِن أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، وإنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَصْبُوبًا، وعِنْدَ رَأْسِهِ أَهَبٌ مُعَلَّقَةٌ، فَرَأَيْتُ أثَرَ الحَصِيرِ في جَنْبِهِ فَبَكَيْتُ، فَقالَ: ما يُبْكِيكَ؟ فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ كِسْرَى وقَيْصَرَ فِيما هُما فِيهِ، وأَنْتَ رَسولُ اللَّهِ! فَقالَ: أَمَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ لهمُ الدُّنْيَا ولَنَا الآخِرَةُ.
الراوي : عمر بن الخطاب | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري
الصفحة أو الرقم: 4913 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح]

التخريج : أخرجه مسلم (1479) باختلاف يسير


رُبَّما كان مِن نِساءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَنْ يَقَعُ منها في حَقِّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما يَقَعُ مِنَ النِّساءِ في حَقِّ أزواجِهِنَّ مِنَ الغَيْرَةِ والمُضايَقاتِ وما شابَه.
وفي هذا الحديثِ يَحكي عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنه أنَّه انتظر سنةً يُريدُ أن يسأَلَ عُمرَ بنَ الخطابِ رضِيَ اللهُ عنه عن آيةٍ، فمَا يَستطيعُ أنْ يَسأَلَهُ، وكان سَبَبُ ذلك الخوْفَ مِن عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه وإجْلالَهُ وتَوْقيرَهُ، ومَعرِفةَ قَدْرِه، وتَعظيمَ مَقامِهِ، مع صِغَرِ سِنِّ ابنِ عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما. وكان سؤالُ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما عن المَرْأَتَينِ مِن أزْواجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اللَّتَيْنِ قالَ اللهُ لهمَا: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]. و«صَغَتْ»، أي: مالَتْ وانحَرَفَت عن الواجبِ، والمعْنى: إنْ تَتُوبَا إلى اللهِ، فَلِتَوبتِكُما مُوجِبٌ أو سَببٌ؛ وهو أنْ قدْ مالَتْ قُلوبُكما عن الحقِّ، وانحَرَفَت عمَّا يَجِبُ عَليكما نحْوَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ مِن كِتمانٍ لسِرِّه، وحِرصٍ على راحتِه، واحترامٍ لكلِّ تَصرُّفٍ مِن تَصرُّفاتِه.
فظلَّ ابنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما حَريصًا على ذلك، إلَّا أنَّه مِن هَيْبتِه لعُمَرَ ما اسْتَطاعَ أنْ يَسألَهُ حتَّى جاءَت الفُرصَةُ عندَ خُروجِهمْ للحَجِّ، وكان ابنُ عبَّاسٍ في رُفْقتِه، ويَحْكي ابنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّه في أثناءِ عَودتِهم بعْدَ انقضاءِ حَجِّهم، مالَ عمرُ رضِيَ اللهُ عنه وتَنحَّى جانِبًا عن الطَّريقِ المَسْلوكةِ إلى (الأراك)؛ لِيَقْضيَ حاجَتَه مِن البَولِ والغائطِ، وقيل: إنَّهما كانا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، وهو مَوْضِعٌ قَريبٌ مِن مَكَّةَ، والأَراكُ: هو الشَّجرُ الَّذي يُتَّخذُ منه السِّوَاكُ، فانتظره ابنُ عَبَّاسٍ حتى فرغ من حاجتِه، ثم سار معه فسَأَلَه في أثناء ذلك عن المَرأتينِ مِن أزواجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اللَّتينِ تظاهَرَتا عليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أي: تَعاوَنَتا عليه مِنْ شِدَّةِ الغَيْرَةِ حتَّى ساءَ ذلك النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالَ عُمرُ رضِيَ اللهُ عنه: «تلكَ حفْصَةُ وعائشةُ» رَضِيَ اللهُ عنهما. وذكَرَ له ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّه كان يُريد أن يَسأَلَه عن هذا مُنْذُ سَنَةٍ، ويمنَعُه من هذا السُّؤالِ -مع شِدَّةِ حِرْصِه عليه- الخوْفُ منه ومَهابَتُه.
فنهاه عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه عن أن يفعَلَ هذا ثانيةً، فلا يمنعُه الخوفُ والمهابةُ مِنَ السُّؤالِ، وذكر له أنْ إذا ما عَلِمَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ عِند عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه عِلْمًا لِمَا يُريدُ، فلْيَعْرِضْ عليه سُؤالَه، فإنْ كانَ عند عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه عِلمٌ فسيُجيبه ويَعرِضُ عليه ما عِنده. وهذا تَشجيعٌ مِن عُمرَ لابنِ عبَّاسٍ ألَّا يَجعَلَ شيئًا يَمنعُهُ مِن السُّؤالِ وطَلَبِ العِلْمِ.
ثم بدأ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه سَارِدًا لِقِصَّةِ عائشةَ وحَفْصَةَ رَضِيَ اللهُ عنهما وما كان مِن خبرِهِما مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «واللهِ إنْ كنَّا في الجاهِليَّةِ» -وهي الفترةُ التي سبقت بَعْثةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم «ما نَعُدُّ للنِّساءِ أمْرًا»، أي: لم يكُنْ لَهُنَّ شأْنٌ، «حتَّى أنزَلَ اللهُ فيهنَّ ما أنْزَلَ»، يعني: ما كان مِن وَصِيَّةٍ مِنَ اللهِ عزَّ وجلَّ بمُعاشَرَتِهِنَّ بالمعروفِ والإحسانِ إليهِنَّ، «وقَسَمَ لَهُنَّ ما قَسَمَ»، يعني: مِنَ النَّفقةِ والميراثِ الَّذي لم يكُنْ لَهُنَّ حَقٌّ فيه في الجاهليَّةِ.
وذكَرَ عُمَرُ أنَّه بينما كان مشغولًا في أمرٍ يتفكَّرُ فيه، إذ تدخَّلَت زوجتُه تَعرِضُ عليه رأيَها ومَشورتَها فيه، فأنكر عليها عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنها وقال لها: ما بالُكِ تَتدخَّلينَ فيما ليْس مِن شأْنِكِ مِمَّا أُفكِّرُ فيه؟ فقالَتْ لي: «عَجَبًا لكَ يا ابنَ الخطَّابِ! ما تُريدُ أنْ تُرَاجَعَ أنتَ» أي: تَستنكِرُ ما رَدَّ به عليها، وإنكارَهُ عليها أنْ تُراجِعَهُ في أمْرِهِ وتُشاوِرَهُ فيه وتَعرِضَ عليه رأيَها، «وإنَّ ابْنَتَكَ لَتُرَاجِعُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم»، فهي تَحتَجُّ بفِعْلِ حَفصةَ مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنها تفعَلُ هذا مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى يَبقى سائِرَ يومِهِ في غَضَبٍ ممَّا تَفعَلُهُ حَفصةُ! وفي روايةِ البُخاريِّ: «فواللهِ إنَّ أزواجَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَيُراجِعْنَه، وإنَّ إحداهُنَّ لَتَهْجُرُه اليومَ حتى اللَّيلِ، فأفزَعَني، فقُلْتُ: خابت من فَعَل مِنهن بعظيم».
قال ابنُ عبَّاس: «فقامَ عمرُ، فأخَذَ رِداءَهُ مَكانَهُ»، وفي هذا إشارةٌ إلى سُرعتِهِ في الذَّهابِ إلى حَفصةَ بعْدَما سَمِع ما قالَتْ زَوجتُهُ عنها، «حتَّى دخَلَ على حفْصةَ فقالَ لها: يا بُنَيَّةُ، إنَّكِ لَتُراجِعينَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى يَظَلَّ يوْمَهُ غَضْبانَ؟!» يُريدُ أنْ يَتَثَبَّتَ ممَّا قالَتْهُ فيها زَوْجتُهُ، فقالَتْ حَفْصَةُ: «واللهِ إنَّا لَنُراجِعُه» أي: إنَّنا -أزواجَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- نُراجِعُه، وليسَتْ حَفْصةُ وَحْدَها.
فجعَلَ عمرُ رضِيَ اللهُ عنه يَنصَحُها ويُبْعِدُها عن مِثْلِ هذا الخُلُقِ مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال عمرُ: «فقُلْتُ: تَعلَمِينَ أنِّي أُحَذِّرُكِ عُقوبةَ اللهِ، وغَضَبَ رَسولِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يا بُنَيَّةُ، لا تَغُرَّنَّكِ» أي: لا تُجَرِّئَنَّكِ، «هذِهِ الَّتي أَعْجَبَها حُسْنُها حُبُّ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إيَّاهَا» يُريدُ ضَرَّتها أمَّ المُؤمِنينَ عائشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها، أي: بما لها مِن حَظٍّ وحُبٍّ عِندَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. والمعْنى: إيَّاكِ أنْ تَغترِّي بكونِ عائشةَ رَضيَ اللهُ عنه تَفعَلُ ما نَهَيْتُكِ عنه، فلا يُؤاخِذُها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذلك؛ لاحتمالِ ألَّا تَكوني عندَه في تلك المَنزلةِ، فلا يكونُ لك مِن الإدلالِ مِثلُ الَّذي لها، وأَوصاها رَضيَ اللهُ عنه بألَّا تَطْلُبَ منهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الكَثيرَ، ولا تُراجِعَه في شَيءٍ، ولا تَهْجُرَه ولو هَجَرَها، وأنْ تَطْلُبَ منه كلَّ ما تُرِيدُه وتَحتاجُه، كما في روايةٍ في الصَّحيحينِ.
وأخبر عمرُ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه خرج مِن عِندِ حَفْصةَ رَضِيَ اللهُ عنها، فدخل على أمِّ المُؤمِنينَ أمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عنها؛ لقرابتِه منها، قيل: إنَّ أمَّ عُمرَ كانتْ مَخْزومِيَّةً كأُمِّ سَلَمَةَ، وهي بِنْتُ عَمِّ أُمِّهِ، فكلَّمَها في هذا الشَّأنِ ومُراجَعَتِهِنَّ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالَتْ له أمُّ سَلَمَةَ زَوجُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «عَجَبًا لكَ يا ابنَ الخطَّابِ! دخَلْتَ في كلِّ شيءٍ»، أي: في أُمورِ النَّاسِ؛ وذلك أنَّ عُمرَ رضِيَ اللهُ عنه كان يُعْرَفُ بكثرةِ ما يَقترِحُ به على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في شُؤونِ العامَّةِ والخاصَّةِ، حتَّى إنَّ نِساءَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كُنَّ يَهَبْنَهُ وَيَخْشَيْنَهُ، «حتَّى تَبْتَغِيَ»، أي: تُريدَ، «أنْ تدخُلَ بيْن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأزواجِهِ؟!» أي: تَتدخَّلَ في شُؤونِهِ الَّتي مع زَوجاتِهِ!
قال عمرُ: «فأَخَذَتْنِي واللهِ أَخْذًا كَسَرتْنِي عن بعضِ ما كنتُ أجِدُ»، أي: أَوْقَفَتْهُ ومنَعَتْهُ أنْ يُكْمِلَ نُصْحَهُ لها، وصرفَتْني عمَّا كان بي مِن غَضَبٍ، وأخَذَتْني بلِسانِها أخْذًا دفَعَني عن مَقصِدي وكَلامِي. «فخرَجْتُ مِن عِنْدِها»، أي: أُمِّ سَلَمةَ رضِيَ اللهُ عنها، وذلك دون أن يُتِمَّ ما عنده من نصيحةٍ لها.
قال عُمرُ: «وكانَ لي صاحبٌ مِنَ الأنصارِ» قيل: هو أَوْسُ بنُ خَوْلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، وقيل: هو عِتْبانُ بنُ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، وكانا يتبادلان الذَّهابَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فَينزِلُ صاحبُه يَومًا، ويَنزِلُ عُمرُ رضِيَ اللهُ عنه يَومًا، فإذا نَزَلَ عُمرُ رضِيَ اللهُ عنه جاءهُ مِن خَبرِ ذلك اليَومِ مِن الوَحْيِ أو الأوامِرِ الشَّرعيَّةِ وغَيرِ ذلك مِن الحَوادِثِ الكائنةِ عِندهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإذا نَزَلَ صاحبُه فَعَلَ مِثلَ ذلك؛ وذلك أنَّ الصَّحابةَ رضِيَ اللهُ عنهم كانتْ أشغالُهم تَصرِفُهم عن حُضورِ بعْضِ المجالِسِ.
ويَحْكي عُمرُ رضِيَ اللهُ عنه أنهم في هذا الوَقتِ كانوا يتخوَّفون مَلِكًا مِن مُلوكِ غسَّانَ، ذُكِرَ لهم أنَّه ربَّما يقَعُ منْه غَزْوٌ للمَدينةِ، وقد امتلأت صُدورُهم خوفًا من ذلك، وفي ذلك إشارةٌ إلى أنَّهم كانوا مُهْتَمِّينَ بمَعْرفةِ الأخبارِ، خاصَّةً أنَّ المدينةَ كانتْ في هذا الوقتِ مُهَدَّدَةً بالغَزْوِ، وغَسَّانُ همْ قومٌ مِن قَحْطانَ، نَزَلوا حِين تَفرَّقوا مِن سَدِّ مَأرِبَ بماءٍ يُقالُ له: غَسَّانُ، فسُمُّوا بذلك، وسَكَنوا بطَرَفِ الشَّامِ.
وأخبر عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ صاحِبَه نَزَلَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فسَمِع اعتِزالَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم زَوجاتِه، فرَجَعَ إلى العَوالي -موضعِ بَيتِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه، على بُعْدِ ثَلاثةِ أو أربعةِ أميالٍ مِن المدينةِ- في آخِرِ يَومِه ونِهايتِه، وضَرَبَ بابَ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنه قائلًا: «افتَحِ افتَحْ»، أي: يَستعجِلُ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنه في الفَتْحِ؛ نَظَرًا لأهمِّيَّةِ ما معهُ مِن أخبارٍ، فسأل عُمَرُ: «جاءَ الغسَّانيُّ؟» يَسبِقُهُ عُمرُ رَضِيَ اللهُ عنه بالكلامِ بما هو مُتوقَّعٌ في هذا الميقاتِ. فقالَ صاحِبُه: «بلْ أشدُّ مِن ذلكَ»، أي: إنَّ الحدثَ أكْبرُ ممَّا لو أتى مَلِكُ غسَّانَ! «اعتَزَلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أزواجَهُ»، أي: لا يَدخُلُ عليهِنَّ حُجَرَهنَّ، فقلْتُ: «رَغِمَ أَنْفُ حَفصةَ وعائشةَ!»، أي: لَصِقَتْ أُنوفُهُمَا بالتُّرابِ، وقيل: إنَّه خَصَّهما بالذِّكْرِ لِتَرَؤُّسِهما على هذا الأمرِ حتَّى أغضَبَ ذلك رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
فلَبِسَ عمَرُ رَضيَ اللهُ عنه ثِيابَه، وذَهَبَ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فصَلَّى الفَجْرَ مَعهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ودَخَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَشْربةً له، وهي غُرْفَةٌ مُرتَفِعةٌ يُخزَّنُ فيها الطَّعامُ، فَاعْتَزلَ فيها صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نِساءَه، «وغُلامٌ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أَسْوَدُ»، وفي رِوايةِ مُسلمٍ: إنَّ اسمَهُ رَباحٌ، يَقِفُ على رأسِ الدَّرَجةِ المُوصِلةِ إلى المَشربةِ التي يَعتَزِلُ فيها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نِساءَه، فكلَّمَ عُمرُ بنُ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه الغلامَ في أن يطلُبَ له الإذْنَ في الدُّخولِ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأذِنَ له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
فأخبَرَ عمرُ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قَصَّ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما سبَقَ منه مِن نُصْحٍ لابنتِهِ ولِأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عنهما، فلمَّا بلَغَ حَديثَ أمِّ سلَمَةَ الَّذي ذَكَرَتْ له فيه أنَّه يَتدخَّلُ في شأنِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مع أزواجِهِ، تَبَسَّمَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والتَّبسُّمُ: الضَّحِكُ بلا صَوْتٍ.
وكان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُضْطَجِعٌ على حصيرٍ دونَ فَرْشٍ، وليْس بيْنه وبيْن الحَصِيرِ شَيءٌ، والحَصيرُ: البِساطُ المَنْسوجُ مِن جَريدِ النَّخْلِ أو غيرِهِ، وتحْتَ رأسِهِ وِسادةٌ مِن جِلْدٍ مَدْبوغٍ، وكان حَشْوُهَا لِيفًا، وكان عِنْدَ رِجليْهِ قَرَظٌ مَصْبُوبٌ، والقَرَظُ؛ قيل: نَوْعٌ مِنَ الشَّجرِ يُدْبَغُ به الجُلودُ، والمُرادُ بَعْضُ ثَمَرِ القرَظِ كان مَصْبوبًا، أي: مُكَوَّمًا ومُجَمَّعًا عِند قَدَمِهِ، وكان عِنْدَ رأسِهِ أَهَبٌ مُعَلَّقَةٌ، والأَهَبُ: جَمْعُ إهابٍ، وهو الجِلْدُ غَيْرُ المَدْبوغِ، وهذا كلُّه كِنايةٌ عن رَثاثةِ هَيْئةِ المكانِ الَّذي كان به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وشِدَّةِ الحالِ الَّتي كان عليها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. يقولُ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه: «فرأيْتُ أَثَرَ الحصيرِ»، أي: علامتَهُ، في جَنْبِهِ الشَّريفِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَبَكَيْتُ، وذلك إشفاقًا على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالَ له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ما يُبْكِيكَ؟» فقلتُ: «يا رسولَ اللهِ، إنَّ كِسْرَى وقَيْصَرَ» مَلِكانِ لمَملكَتينِ عَظيمتينِ في ذلك الزَّمنِ، وهما فارِسُ والرُّومُ، «فيما هُما فيهِ» مِن الرَّفاهِيَةِ ونَعيمِ الدُّنيا، «وأنتَ رسولُ اللهِ»، أي: أَوْلَى منهم بهذا النَّعيمِ، فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أمَا تَرْضَى أنْ تكونَ لهم»، أي: للكُفَّارِ، «الدُّنيا»، أي: نَعيمُها الَّذي يَفْنَى ويَنْتَهي إمَّا بِمَوْتِ صاحبِهِ، أو بزَوالِ النَّعيمِ عنه، أو بزوالِ الدُّنيا، «ولنَا» نحْنُ المُسلِمينَ «الآخرةُ»، أي: نَعيمُها وما فيها مِن خُلودٍ وبَقاءٍ.
وفي رِوايةٍ أخرى في الصَّحيحينِ: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان قد أَقْسَمَ ألَّا يَدخُلَ على زوجاتِهِ شهْرًا، فلمَّا مَضَتْ تِسْعٌ وعِشرونَ دخَلَ على عائِشَةَ... وكان ذلك الشَّهْرُ تِسعًا وعِشرينَ، قالَتْ عائشةُ رَضِيَ اللهُ عنها: فَأُنْزِلَتْ آيةُ التَّخْيِيرِ، فبدَأَ بي أوَّلَ امرأةٍ، فقال: «إنِّي ذاكِرٌ لكِ أمْرًا، ولا عليكِ ألَّا تَعْجَلي حتَّى تَسْتَأْمِري أَبَوَيْكِ، قالَتْ: قدْ أَعلَمُ أنَّ أَبَوَيَّ لم يكونَا يأمُراني بفِراقِكَ».
وقيل في بعضِ الرِّواياتِ في الصَّحيحينِ: إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اعتزَلَ نِساءَهُ مِن أَجْلِ ما كان يَشرَبُهُ مِن عَسَلٍ عِندَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، تقولُ عائشةُ رضِيَ اللهُ عنها: «فَتَوَاصَيْتُ أنا وحَفْصَةُ: أنَّ أَيَّتَنا دخَلَ عليها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَلْتَقُلْ: إنِّي أَجِدُ مِنكَ رِيحَ مَغافيرَ، أَكَلْتَ مَغافيرَ -والمَغافيرُ: صَمْغٌ حُلْوٌ له رائحةٌ كريهةٌ-، فدخَلَ على إِحْداهُمَا، فقالَتْ له ذلك، فقال: لا، بَلْ شرِبْتُ عَسَلًا عِندَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، ولَنْ أَعودَ له، فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} [التحريم: 1 - 4] لعائشةَ وحَفْصَةَ، {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ} [التحريم: 3]؛ لقوله: بلْ شرِبْتُ عسلًا».
وقيل: السَّبَبُ مجموعُ ما كان مِنْهُنَّ مِن إغْضابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وليس حَدَثًا بِعَيْنِهِ.
وفي الحَديثِ: حُسنُ خُلقِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وتَبسُّمُه؛ إكرامًا لِمَن يَتبسَّمُ إليه.
وفيه: بَيانُ ما كان عِند ابنِ عبَّاسٍ مِنْ حِرْصٍ على التَّعلُّمِ.
وفيه: مَنقبَةٌ ظاهرةٌ لعُمرَ رضِي اللهُ عنه.
وفيه: مَوعظةُ الرَّجُلِ ابنتَه، وإصلاحُ خُلقِها لزَوجِها.
وفيه: زُهْدُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفَضيلةُ الزُّهْدِ، والاكْتِفاءِ بالقليلِ منَ العَيشِ، وكَونُه مِن أخلاقِ النَّبيِّينَ.
وفيه: أنَّ مَتاعَ الدُّنيا لا يَبقى، بخِلافِ نَعيمِ الآخِرةِ؛ فهو الَّذي له البقاءُ.