حَدَّثَنَا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ -وهو الصَّادِقُ المَصْدُوقُ- قالَ: إنَّ أحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بَطْنِ أُمِّهِ أرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذلكَ، ثُمَّ يَكونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذلكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فيُؤْمَرُ بأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، ويُقَالُ له: اكْتُبْ عَمَلَهُ، ورِزْقَهُ، وأَجَلَهُ، وشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فيه الرُّوحُ، فإنَّ الرَّجُلَ مِنكُم لَيَعْمَلُ حتَّى ما يَكونُ بيْنَهُ وبيْنَ الجَنَّةِ إلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عليه كِتَابُهُ، فَيَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ النَّارِ، ويَعْمَلُ حتَّى ما يَكونُ بيْنَهُ وبيْنَ النَّارِ إلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عليه الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ.
الراوي :
عبدالله بن مسعود | المحدث :
البخاري
|
المصدر :
صحيح البخاري
الصفحة أو الرقم: 3208 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح]
التخريج :
أخرجه مسلم (2643) باختلاف يسير
كَتَبَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ أقدارَ الخَلائِقِ في اللَّوحِ المَحفوظِ، وهي واقِعةٌ وَفْقَ ما قَضَى اللهُ عَزَّ وجَلَّ وقَدَّرَ.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ الجَنينَ في بَطنِ أُمِّه يَمُرُّ في تَكوينِه بأربَعةِ أطوارٍ؛ فيِمُرُّ بأطوارٍ ثلاثةٍ مُتتابعةٍ ثم طَورٍ رابعٍ بعدَها، وهذه الثَّلاثةُ بمَجموعِها تكونُ في مُدَّةِ أربعينَ يومًا؛ فيَكونُ في الطَّوْرِ الأوَّلِ نُطفةً أيْ حَيَوانًا مَنَويًّا يَجتَمِعُ ببُوَيْضةِ الأُنثى، فيُلَقِّحُها، وتَحمِلُ المَرأةُ بإذْنِ اللهِ تَعالى، ثمَّ يَتَحوَّلُ في الطَّوْرِ الثَّاني إلى عَلَقةٍ أي قِطعةِ دَمٍ جامِدةٍ تَعْلَقُ بالرَّحِمِ، وثبَتَ في عِلمِ الأجِنَّةِ أنَّ في هذا الطَّورِ يتَّخِذُ الجَنينُ شَكلَ الكائنِ الحيوانيِّ المائيِّ الذي يحمِلُ الاسمَ نفْسَه، ويتعلَّقُ ببِطانةِ الرَّحِمِ الدَّاخليةِ، ويبدَأُ تكوُّنُ جِهازِه الدَّوريِّ، فتكثُرُ الأَوعيةُ الدَّمَويَّةُ الممتلِئةُ بالدَّمِ الرَّاكِدِ، فتَظهَرُ كأنَّها تجمُّعاتٌ دَمَويَّةٌ غَليظةٌ شَديدةُ الحُمرةِ، ثمَّ يَتحَوَّلُ في الطَّوْرِ الثَّالِثِ إلى مُضغةٍ أي قِطعةِ لَحمٍ صَغيرةٍ بقَدْرِ ما يَمضُغُ الإنسانُ في الفَمِ. فقَولُه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «مِثلَ ذلك» يَعودُ إلى إحكامِ الخَلقِ لا إلى المُدَّةِ؛ أي يُحكَمُ خَلقُ العَلقةِ كذلك ثُمَّ خَلقُ المُضغةِ كذلك لا أنَّ العَلقةَ تكونُ في أربعينَ ثانيةٍ ثُمَّ المُضغةَ في أربعينَ ثالثةٍ، يُبيِّنُ ذلك رِوايةُ مُسلِمٍ لِلحَديثِ: «إنَّ أحدَكم يُجمَعُ خَلقُه في بَطنِ أُمِّه أربعينَ يومًا، ثُمَّ يَكونُ في ذلك عَلقةً مثلَ ذلك، ثُمَّ يَكونُ في ذلك مُضغةً مثلَ ذلك»، أي «إنَّ أحدَكم يُجمَعُ خَلقُه في بَطنِ أُمِّه أربعينَ يومًا، ثُمَّ يَكونُ في ذلك» أي: في ذلك العَددِ مِن الأيَّامِ «عَلقةً»: مُجتمِعةً في خَلقِها «مثلَ ذلك»: أي مِثلَما اجتمَعَ خَلقُكم في الأربعينَ، «ثُمَّ يكونُ في ذلك»: أي في نَفسِ الأربعينَ يومًا «مُضغةً»: مُجتمِعةً مُكتَمِلةَ الخَلقِ المُقدَّرِ لها «مثلَ ذلك»: أي مِثلَما اجتمَعَ خَلقُكم في الأربعينَ يومًا، ويؤيِّدُ ذلك رِوايةُ حُذَيفةَ بنِ أسيدٍ رضِيَ اللهُ عنه للحَديثِ؛ قال: سمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: «إذا مَرَّ بالنُّطفةِ ثِنتانِ وأربعونَ لَيلةً، بعَثَ اللهُ إليها ملَكًا، فصوَّرَها وخلَقَ سمْعَها وبصَرَها وجِلدَها ولَحمَها وعِظامَها، ثُمَّ قال: يا رَبِّ أذَكَرٌ أمْ أُنثَى؟ فيَقضي ربُّك ما شاء، ويَكتُبُ الملَكُ .. »، وهو المُوافِقُ لِلطِّبِّ والعِلمِ الحَديثِ ومُكتَشفاتِ عِلمِ الأجِنَّةِ.
ثُمَّ بعدَ هذه الأطْوارِ الثَّلاثةِ التي تمَّتْ خِلالَ مُدَّةِ الأربعينَ يومًا؛ يكونُ الطَّورُ الرَّابِعُ ويَبدَأُ تَشكيلُه وتَصويرُه، ويُرسِلُ اللهُ تعالى إليه المَلَكَ المُوَكَّلَ بالأرحامِ؛ فيَكتُبُ أعمالَه التي يَفعَلُها طِيلَةَ حَياتِه خَيرًا أو شَرًّا، ويَكتُبُ رِزقَه وأجَلَه، ويَكتُبُ خاتِمَتَه ومَصيرَه الذي يَنتَهي إليه إنْ كانَ مِن أهلِ الشَّقاوةِ أو مِن أهلِ السَّعادةِ، ثُمَّ بعدَ هذه الأطْوارِ كُلِّها والكِتابةِ يَنفُخُ الملَكُ فيه الرُّوحَ بعدَ ذلك، ويكونُ النَّفخُ بعدَ أربعةِ أشهُرٍ، وقد نُقِلَ على ذلك اتِّفاقُ العُلَماءِ؛ فقَضيَّةُ وَقتِ التَّخليقِ والكِتابةِ شَيءٌ، وقَضيَّةُ وَقتِ نَفخِ الرُّوحِ شَيءٌ آخَرُ.
وتَقَعُ أعمالُ العبدِ وَفْقَ ما كُتِبَ؛ فإنَّ الرَّجُلَ لَيَعمَلُ بعَمَلِ أهلِ الجنَّةِ، حتَّى ما يَكونُ بيْنه وبيْنَ الجَنَّةِ إلَّا ذِراعٌ -وهو غَايةُ القُرْبِ- فيَسْبِقُ عليه كِتابُه، بأنْ يَكونَ قد كُتِبَ عليه سابِقًا في بَطنِ أُمِّه أنَّه شَقيٌّ؛ فيُختَمُ له بالشَّقاوةِ، فيَعمَلُ بعَمَلِ أهلِ النَّارِ فيَدخُلُها كما سبَقَ به القَدَرُ، وفي الجِهةِ الأُخْرى قد يَعمَلُ بعَمَلِ أهلِ النَّارِ، حتَّى يَقتَرِبَ منها اقتِرابًا شَديدًا، بألَّا يَكونَ بيْنَه وبيْنَها إلَّا ذِراعٌ، فيَسبِقُ عليه ما كُتِبَ سَلَفًا في كِتابِه بأنَّه مِن أهلِ الجَنَّةِ، فيَعمَلُ بعَمَلِ أهلِ الجَنَّةِ، فيَدخُلُها.
وهذه الصُّورةُ المذكورةُ في الحديثِ يُفسِّرُها حَديثُ سَهلِ بنِ سَعدٍ السَّاعِديِّ رَضيَ اللهُ عنه في الصَّحيحينِ: «إنَّ الرَّجُلَ لَيَعمَلُ عَمَلَ أهلِ الجَنَّةِ فيما يَبْدو لِلنَّاسِ وهو مِن أهلِ النَّارِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَعمَلُ عَمَلَ أهلِ النَّارِ فيما يَبْدو لِلنَّاسِ وهو مِن أهلِ الجَنَّةِ»؛ فقَولُه «فيما يَبْدو لِلنَّاسِ» فيه إشارةٌ إلى أنَّ باطنَ الأمْرِ يكونُ بخِلافِ ذلك؛ وإنَّ مَن خُتِمَ له بعمَلِ أهلِ النَّارِ لا يكونُ هذا إلا فيمَن عمِلَ خيرًا ظاهِرًا مع فسادِ نيَّةٍ وخُبثِ طويَّةٍ وجَرائمَ خَفيَّةٍ، وإلَّا فالأعمالُ الصَّالحةُ سَببٌ لِزيادةِ الهُدى والتَّوفيقِ، وكذلك الذي خُتِمَ له بعمَلِ أهلِ الجنَّةِ وكان يظهَرُ منه عمَلُ أهلِ النَّارِ إنَّما يُوفَّقُ بسَببِ خِصالٍ خيرٍ كانت فيه وهي خَفيَّةٌ، وإلَّا فالسَّيِّئاتُ تدعو بعضُها بعضًا.
وفي الحَديثِ: بَيانُ قُدرةِ اللهِ تَعالى في خَلْقِ الجَنينِ وبَيانِ أطْوارِه.
وفيه الإيمانُ بالقَدَرِ، سَواءٌ تَعلَّقَ بالأعمالِ أو بالأرزاقِ والآجالِ.
وفيه: عَدَمُ الاغتِرارِ بصُوَرِ الأعمالِ وظَواهِرِها؛ لِأنَّ الأعمالَ بالخَواتيمِ.
وفيه: أنَّ الأعمالَ مِنَ الحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ أمَاراتٌ لا مُوجِباتٌ، وأنَّ مَصيرَ الأمْرِ في العاقِبةِ إلى ما سَبَقَ به القَضاءُ وجَرَى به التَّقديرُ وَفقَ عِلمِ اللهِ تَعالى وحِكمَتِه.