الموسوعة الحديثية


- كنتُ جالسًا عند أبي الدَّرداءِ في مَسجدِ دِمشقَ، فأتاه رجلٌ، فقال: يا أبا الدَّرداءِ، أتيتُكَ من المدينةِ، مدينةِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لحديثٍ بَلَغني أنَّك تُحدِّثُ به عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: قال: فما جاء بك تِجارةٌ؟ قال: لا، قال: ولا جاء بك غيرُه؟ قال: لا، قال: فإني سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: من سلك طريقا يلتمس فيه علما ، سهل الله له طريقا إلى الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم ، وإن طالب العلم يستغفر له من في السماء والأرض ، حتى الحيتان في الماء ، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ، إن العلماء هم ورثة الأنبياء إنَّ الأنبياءَ لم يُورِّثوا دِينارًا ولا دِرهمًا، إنَّما ورَّثوا العِلْمَ، فمَن أخَذَه أخَذَ بحظٍّ وافرٍ
الراوي : أبو الدرداء | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح ابن ماجه | الصفحة أو الرقم : 183 | خلاصة حكم المحدث : صحيح | التخريج : أخرجه أبو داود (3641)، والترمذي (2682)، وابن ماجه (223) واللفظ له، وأحمد (21715)
العِلْمُ نورٌ للعُقولِ وضِياءٌ للحَضاراتِ، وقد حَثَّ الإسْلام عَلى طَلبِ العِلْم النَّافِعِ بِكُلِّ فُروعِه؛ لِمَا فيه من إعْمارٍ للأَرْضِ وإقامةِ الدِّينِ الحَقِّ على الهُدى والنُّورِ والبَيِّناتِ، وجَعَلَ لِطُلابِ العِلْمِ ولِلعُلَماءِ مَنزِلةً رَفيعةً بين النَّاسِ.
وفي هذا الحديث يقولُ كُثَيرُ بْنُ قَيْس- ويُقالُ: قَيسُ بنُ كَثيرٍ كما في رِوايةِ التِّرمذيِّ-: «كُنْتُ جالِسًا عند أبي الدَّرْدَاءِ في مَسْجِدِ دِمَشقَ، فأتاه رَجُلٌ، فقال: يا أبا الدَّرْداءَ، أتَيتُكَ من المَدينةِ- مَدينةِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-؛ لِحديثٍ بَلغَني أنَّكَ تُحدِّثُ به عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال أبو الدَّرداء- رَضي اللهُ عَنه: «فَما جاءَ بِكَ تِجارةٌ؟»، قال الرَّجُلُ: «لا»، فقال أبو الدَّرداءِ: «ولا جاءَ بِكَ غَيرُه؟»، قال الرَّجُلُ: «لا»، وهذا الاسْتِفْهامُ للإيضَاحِ عن سَببِ المجيءِ، وأنَّه لم يَأتِ لِطلَبِ تِجارةٍ أو عَرَضٍ من أعراض الدُّنيا، وأنَّه ما جاء به غيرُ طَلبِ ذلك الحَديثِ، فقال أبو الدَّرداءِ رضِيَ اللهُ عنه عِندَما عَرَفَ نِيَّةَ الرَّجُلِ، وأنَّ سَفرَه إنَّما كان لطَلَبِ العِلْم: «فَإنِّي سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقول: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا»، ودَخَلَ فيه أو مَشى، «يَلْتَمِسُ فيه عِلْمًا»، أي: يَطلُب فيه عِلمًا نَافعًا خَالصًا لله تَعالى، «سَهَّلَ اللهُ له طَريقًا إلى الجَنَّةِ»، وذلك بالتَّوفيقِ إلى عَملِ الطَّاعاتِ والخَيراتِ في الدُّنيا، أو إدْخالِه الجَنَّةَ بلا تَعبٍ في الآخِرَةِ، «وإنَّ المَلائِكةَ لَتضَعُ أَجْنِحَتَها رِضًا لِطالِبِ العِلْمِ»، وهذا يَحتَمِلُ أن يَكُون مَعناه على حَقيقَتِه، أي: تَضعُ أجْنِحتَها وإن لم يُشَاهَد، فَتضَعُها لتَكونَ وِطاءً له إذا مَشى، أو تَكفُّ أجْنِحَتَها عن الطَّيرانِ وَتنْزِلُ لِسماعِ العِلمِ.
قال: «وإِنَّ طالِبَ العِلْمِ يَستَغْفِرُ له مَن في السَّماءِ والأَرضِ، حتى الحيتانُ في الماءِ»، أي: تَطلُبُ له المَغفِرةَ من اللهِ إذا لَحِقهُ ذَنبٌ، أو تَستَغْفِرُ له مُجازاةً على حُسنِ صَنيعِهِ؛ وذلك لِعمُوم نَفعِ العِلمِ؛ فإنَّ مَصالِحَ كُلِّ شَيءٍ وَمنافِعَه مَنوطةٌ به.
ثم قال مُبيِّنًا فضْلَ العالِمِ على العابِدِ: «وإِنَّ فَضْلَ العالِمِ»، وهو المُشْتَغلُ بالعِلمِ النَّافِعِ بأصولِهِ وقَواعِدِه الصَّحيحةِ، «على العابِدِ»، وهو من غَلبَ عَليهِ العِبادةُ مع اطِّلاعِه على العِلْمِ الضَّروريِّ، «كَفَضْلِ القَمَرِ على سائِرِ الكَواكِبِ»؛ لأنَّه يَعُمُّ بِنورِه الأرْضَ، على عَكْسِ الكَواكِب التي لا تُنير مع وجودِها في الكَون، وفيه تَنبيهٌ على أنَّ كَمال العِلمِ ليس للعالِمِ من ذَاتِه، بل بما تَلقَّاه عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، كنورِ القَمر؛ فإنَّه مُستفَادٌ من نُورِ الشَّمسِ، «وإِنَّ العُلَماءَ هم وَرَثةُ الأنْبياءِ، وإنَّ الأنْبياءَ لم يُورِّثوا دِينارًا ولا دِرهَمًا»؛ فليس من شَأنهم تَوريثُ المالِ، «إنَّما وَرَّثوا العِلمَ، فَمنْ أَخَذَه» أي: بحقِّهِ، وحافَظَ عليه، وعَمِلَ به، وعلَّمَهُ للنَّاسِ، «أَخَذَ بِحظٍّ وافِرٍ»، أي: بَنَصيبٍ تامٍ وكامِلٍ. والعُلماءُ مَنوطٌ بهم تَعليمُ طُلابِ العِلمِ؛ فَينبَغي عليهم أن يُراعوا حُقوقَهم في التَّعلُّم والتَّعليمِ، ونَقلِ أمانةِ العِلمِ إليهم، وهذا يَستَلزِمُ من الطُّلابِ إكْرامَ العُلماءِ أيْضًا وتَبجيلَهم.
وفي الحديث: الحَثُّ على السَّعْيِ في طَلبِ العِلمِ.
وفيه: أنَّ اللهَ سبحَانَه جَعلَ العُلماءَ حامِلينَ لِعلْم الأنْبياءِ، لِتكتَمِلُ المَسيرةُ إلى أنْ يشاءَ اللهُ رفْعَ العِلمِ( ).