اليَهودُ قومٌ بُهتٌ كَثيرو الغَدرِ والخِيانةِ، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم يُعْطيهم العُهودَ والمواثيقَ ولا يَغدِرُ أبدًا، فإذا غدَروا بهِ حارَبهم وقاتَلَهم وأخرَجَهم مِن الأرضِ.
وفي هذا الحديثِ: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم "قاتَلَ أهْلَ خيْبَرَ"، أي: حارَب يَهودَ خيبَرَ؛ وكانت في السَّنةِ السَّابعَةِ مِن الهِجرةِ، "فغلَب على النَّخلِ والأرْضِ"، أي: فانتصَرَ عليهم وأخَذَ أرضَهم ونخْلَهم، "وألجَأَهم إلى قَصْرِهم"، أي: إنَّهم اضْطُّروا إلى التَّحصُّنِ بالقُصورِ خوْفًا وفزَعًا، "فصالَحوه"، أي: فعاهَدوه واتَّفَقوا معَه، "على أنَّ لِرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم"، أي: أنْ يأخُذَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم "الصَّفراءَ"، أي: الذَّهبَ، "والبيْضاءَ"، أي: الفِضَّةَ، "والحَلْقَةَ"، أي: الأسلِحَةَ والدُّروعَ وأدواتِ الحرْبِ، "ولهم"، أي: لليَهودِ أهلِ خيبَرَ، "ما حمَلَت رِكابُهم"، أي: مِقدارَ ما تَحمِلُ الجِمالُ مِن الأمتِعةِ فقط، "على أنْ لا يَكتُموا ولا يُغيِّبوا شيئًا"، أي: بشرْطِ ألَّا يُخْفوا شيئًا مِن الذَّهبِ والفِضَّةِ والحُليِّ وغيرِ ذلك مِن الأمتعَةِ.
قال: "فإنْ فعَلوا"، أي: فإنْ أخفَوْا شيئًا أو خبَّؤوه، "فلا ذِمَّةَ لهم ولا عهْدَ"، أي: فقد نَقَضوا العهْدَ والصُّلحَ، فلا أمانَ لهم ولا مُعاهدَةَ ولا صُلحَ، "فغَيَّبوا"، أي: فأخْفَوا "مَسْكًا"، أي: كِيسًا مِن جِلْدٍ فيه حُليٌّ، لحُيَيِّ بنِ أخطَبَ، "وقد كان قُتِلَ قبْلَ خيبَرَ"، أي: قُتِل حُيَيُّ بنُ أخْطَبَ قبلَ فتْحِ خيبَرَ، "كان احتَمَله معَه يومَ بني النَّضيرِ"، أي: كان حُيَيُّ بنُ أخْطَبَ قد أخَذَ معه كيسَ الحُليِّ يومَ فتْحِ بني النَّضيرِ، "حين أُجلِيَتِ النَّضيرُ"، أي: حين أَخرجَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بَني النَّضيرِ مِن المدينةِ، "فيه حُليُّهم"، أي: أَخَذ حُيَيُّ بنُ أخطَبَ هذا الكيسَ الَّذي فيه حُلِيُّ بَني النَّضيرِ معَه حينَ أخرَجَهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم.
"قال"، أي: راوي الحَديثِ: فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم "لِسَعْيَةَ"، سَعْيَةُ: هو اسمُ عَمِّ حُيَيِّ بنِ أخطَبَ: "أينَ مَسْكُ حُيَيِّ بنِ أخطَبَ؟"، أي: أين ذهَب الكِيسُ الَّذي به حُلِيُّ حُيَيِّ بنِ أخطَبَ؟ "قال"، أي: سعيَةُ، "أذهَبَتْه الحروبُ والنَّفَقاتُ"، أي: أنفَقناه في حُروبِنا ونَفقاتِنا في مَعايِشِنا، "فوَجَدوا المَسْكَ"، أي: فوجَد المسلمون الكِيسَ الَّذي به الحُليُّ، "فقتَلَ ابنَ أبي الحُقَيقِ"، أي: فقَتَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم عبدَ اللهِ بنَ أبي الحُقَيقِ أبا رافِعٍ؛ وهو تاجِرٌ كَبيرٌ مِن أعْيانِ اليَهودِ، "وسَبَى نِساءَهم"، أي: وأَسَر نِساءَهم، "وذرارِيَّهم"، أي: وأولادَهم.
"وأراد أنْ يُجلِيَهم"، أي: وأراد النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم أنْ يُخرِجَهم مِن أرضِهم، "فقالوا"، أي: أهلُ خيبَرَ مِن اليهودِ، "يا محمَّدُ"، أي: رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، "دَعْنا"، أي: اترُكْنا، "نَعمَلْ في هذه الأرضِ"، أي: نَعمَلْ في أرْضِ خيبَرَ، "ولنا الشَّطرُ"، أي: ولنا نِصْفُ ما يَخرُجُ مِنها، "ما بدَا لك"، أي: المدَّةَ الَّتي تَراها وتَرتضِيها، "ولكُم الشَّطرُ"، أي: ولكم يا رسولَ اللهِ نِصْفُ ما يَخرُجُ مِن الأرضِ، "وكان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم يُعطي كلَّ امرأةٍ مِن نِسائِه"، أي: وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم يُنفِقُ على زَوجاتِه مِن هذه الثَّمَرةِ فيُعطِي كلَّ واحدةٍ نفقَةَ سَنةٍ ثَمانين "وسْقًا"، والوَسْقُ: مِكيالٌ كبيرٌ يسَعُ ستِّين صاعًا، ويُعادِلُ 130 كيلو جرامًا تقريبًا، "مِن تمْرٍ"، أي: مِن ثمَرِ النَّخلِ، "وعِشْرين وَسْقًا مِن شَعيرٍ"، أي: وعِشرين مِكيالًا مِن الشَّعيرِ أو الدَّقيقِ.