في هذا الحديثِ تقول أمُّ المؤمنِينَ عائشةُ رضِيَ اللهُ عنها: "وقَعَت جُوَيرِيَةُ بنتُ الحارِثِ بنِ المُصطَلِقِ"، وهو سيِّدُ قومِه "في سَهْمِ ثابتِ بنِ قيسِ بنِ شَمَّاسٍ"، وهو مِن كِبارِ الصَّحابةِ، بشَّرَه اللهُ بالجنَّةِ، "أوِ ابنِ عمٍّ له- شكٌّ مِن الرَّاوي- فكاتَبَتْ على نَفسِها"، أيِ: اتَّفقَت معَه على جَمعِ تِسْعِ أوَاقٍ مِن ذهَبٍ، فإذا قضَت ما علَيها عَتَقَها، "وكانت امرأةً مَلَّاحةً"، أي: فائقةَ الجمالِ، ذاتَ منظَرٍ حسَنٍ، "تَأخُذُها العَينُ"، أي: تَطمَعُ فيها، قالت عائشةُ رَضِي اللهُ عنها: "فجاءَت تَسأَلُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم في كِتَابتِها"، أي: لِكَي يُساعِدَها فيما كتَبَتْه على نفسِها؛ للوُصولِ إلى العِتقِ، والمكاتبةُ: هي أنْ يتعاقَدَ العبدُ مع سيِّدِه على قدْرٍ مِن المالِ إذا أدَّاه لسيِّدِه صارَ حُرًّا.
قالت: "فلمَّا قامَت على البابِ فرَأَيتُها كَرِهتُ مَكانَها"، خافَت عائشةُ مِن وُقوعِها في نَفْسِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم، فيَرْغَبُ فيها فيتَزوَّجُها لِحُسنِها وجَمالِها، قالت: "وعَرَفتُ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم سيَرى مِنها مِثلَ الَّذي رأيتُ"؛ لأنَّ النِّساء يَعرِفْنَ مَكامِنَ الجمالِ في بَعضِهنَّ البَعضِ، "فقالَت: يا رسولَ اللهِ، أنا جُويرِيَةُ بنتُ الحارثِ"؛ إشارةً إلى أنَّها بنتُ سيِّدِ قومِها، "وإنَّما كان مِن أَمْري ما لا يَخْفى علَيك، وإنِّي وقَعتُ في سَهمِ ثابتِ بنِ قيسِ بنِ شَمَّاسٍ، وإنِّي كاتَبتُ على نَفسِي"، أي: كاتَبَني على ما لا طاقةَ لي به، ولا قُدرَةَ لي عليه، "فجِئتُك أسألُك في كِتابتي"، أي: لِكَي تُعينَني، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم: "فهَل لك إلى ما هو خيرٌ منه"؟ أي: ممَّا تَسأليني، "قالت: وما هو يا رسولَ اللهِ؟ قال: أُؤدِّي عَنكِ كِتابتَكِ وأتَزوَّجُكِ"، أي: يُؤدِّي كِتابةَ مُكاتَبةِ غَيرِه لِتُعتَقَ بذلك، ويَدفع عنها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ما كاتبَتْ عليه سيِّدَها، ويَكونَ عِتقُها مَهْرَها وتصير زَوجتَه، "قالَت: قد فعَلتُ"، أي: وافقتْ رسولَ اللهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على شَرْطِه، "فأدَّى عنها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم مُكاتَبتَها وأعتَقَها وتزوَّجَها.
قالَت: فتَسامَعَ - تَعْني النَّاسَ- أي: انتشَر خبَرُها في النَّاسِ: "أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم قد تَزوَّج جُويريةَ، "فأرسَلوا ما في أيديهم مِن السَّبيِ، فأعتَقوهم، وقالوا: أصهارُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم"، أي: أعتَقوا ما بأيديهم؛ إكْرامًا لأصهارِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم، "فما رأَيْنا امرأةً كانت أعظَمَ برَكةً على قَومِها مِنها؛ أُعتِقَ في سبَبِها مئةُ أهلِ بيتٍ مِن بَني المصطلِقِ".
وفي الحديثِ: وقوعُ الغَيرةِ من أزواجِ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّها أمرٌ فطريٌّ ولا يُذمُّ منه إلَّا ما كان فيه مبالغةٌ أو تَسبُّبٌ في إيذاءٍ.
وفيه: بيانُ حُبِّ وتَعظيمِ أصحابِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم له ولِمَن هو على صِلةٍ به.
وفيه: فضلٌ ومنقبةٌ لجُويريَّةَ بنتِ الحارثِ رضِيَ اللهُ عنها.