كان الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهم يُجاهِدون في سبيلِ الله بأموالِهم وأنفسِهم، ويَأتَمِرون بأمرِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم في ذلك، ولا يتخلَّفون عنه، ولا يَرغَبُون بأنفسِهم عن نفسِه.
وفي هذا الحَديثِ يقولُ أبو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْه: "بَعَث"، أي: أرسَل "رسولُ الله صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم عَشَرَةً" مِن الرِّجالِ، وهم: عاصِمُ بن ثابِتٍ، ومَرْثَدُ بن أبي مَرْثَدٍ، وزَيْدُ بنُ الدَّثِنَةِ، وخُبَيْبُ بنُ عَدِيٍّ، وعبدُ الله بنُ طارِقٍ، وخالِدُ بنُ البُكَيْرِ، ومُعَتِّبُ بنُ عُبَيدٍ، وثلاثةٌ آخَرِينَ، "عَيْنًا"، أي: جَوَاسِيس لِمَعرفةِ أخبارِ العَدُوِّ، وكان النَّبِيُّ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم قد بعَثهم عُيونًا إلى مَكَّةَ لِيَأتُوه بِخَبَرِ قُرَيْشٍ، "وأمَّر"، أي: جعَل أميرًا "عليهم: عاصِمَ بنَ ثابِتٍ" وهو جَدُّ عاصِم بنِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، "فنَفَروا"، أي: خرَجوا ومَشَوْا "لهم هُذَيْلٌ"، أي: قَبِيلةُ هُذَيْلٍ، "بقَرِيبٍ مِن مِئةِ رَجُلٍ رامٍ"، أي: يُجِيدون الرَّميَ بالسِّهامِ، "فَلمَّا أحسَّ بهم"، أي: رآهم، "عاصِمٌ" وأصحابُه، "لَجَئُوا"، أي: انْحازُوا وتوجَّهوا، إلى "قَرْدَدٍ" وهو الموضِعُ المُرتَفِعُ مِن الجَبلِ ونحوِه، "فقالوا"، أي: هُذَيْلٌ "لهم"، أي: لعاصِمٍ وأصحابِه: "انزِلوا" عن القَرْدَدِ، "فأَعْطُوا بأَيْدِيكُم"، أي: انْقَادُوا لنا، "ولكم العَهْدُ والمِيثاقُ"، أي: نُعطِيكُم العَهْدَ والوَعْدَ والميثاقَ: "أن لا نَقتُلَ منكم أحدًا، فقال عاصِمٌ" وهو ابنُ ثابِتٍ أميرُهم: "أمَّا أنا فلا أَنزِلُ في ذِمَّةِ كافِرٍ"، أي: لا أَنزِل في عهدِ كافرٍ ولا مِيثاقِه، "فرَمَوْهُم" أي هُذَيْلٌ "بالنَّبْلِ"، أي: بالسِّهامِ، "فقَتَلوا عاصِمًا في سَبْعَةِ نَفَرٍ"، أي: في جُملَةِ سَبْعَةٍ مِن أصحابِه، "ونزَل إليهم ثلاثةُ نَفَرٍ"، أي: على حُكمِهم "على العَهْدِ والمِيثاقِ" الَّذِي وَاعَدُوهم به، "منهم"، أي: مِن الثلاثةِ: "خُبَيْبٌ" وهو ابنُ عَدِيٍّ، "وزَيْدُ بنُ الدَّثِنَةِ، ورَجُلٌ آخَرُ" هو عبدُ الله بنُ طارِقٍ، "فَلمَّا استَمْكَنُوا مِنهُم"، أي: قَدَرُوا عليهم، "أَطْلَقُوا"، أي: حَلُّوا "أَوْتَارَ قِسِيِّهم"، أي: الحِبَال الَّتِي تُشَدُّ بها الأَقْوَاسُ، "فرَبطوهم بها"، أي: قيَّدوهم، "فقال الرَّجُلُ الثالِثُ" وهو عبدُ الله بنُ طارِق: "هذا أوَّلُ الغَدْر، واللهِ لا أَصْحَبُكم"، أي: لا أَنزِلُ على عهدِكم ومِيثاقِكم، "إنَّ لي بِهَؤُلاءِ" الَّذِينَ اختاروا القَتْلَ على الأَسْرِ "لَأُسْوَةً"، أي: قُدْوَةً، فإنَّي أَختارُ القتلَ معهم، "فجَرُّوه"، أي: سَحَبُوه، "فأَبَى أن يَصْحَبَهم" ويَنْقَادَ لهم، "فقَتَلوه".
قال: "فلَبِثَ"، أي: مَكَث "خُبَيْبٌ أَسِيرًا" بعدَ أن باعوه بِمَكَّةَ، وكان الَّذِي اشتَراه صَفْوَانُ بنُ أُسَيِّدٍ لِيَقتُلَه بأَبِيه، وكان خُبَيْبٌ قد قَتَل أُسَيِّدًا يومَ بَدْرٍ، "حَتَّى أَجْمَعُوا قَتْلَه"، أي: عَزَموا على ذلك، "فاسْتَعَارَ" خُبَيْبٌ "مُوسَى" وهي آلةُ الحَلْقِ، "يَسْتَحِدُّ بها"، أي: يَحْلِقُ بها شَعْرَ العَانَةِ، "فَلمَّا خَرَجُوا به"، أي: مِنَ الحَرَمِ إلى الحِلِّ، "لِيَقْتُلُوه، قال لهم خُبَيْبٌ: دَعُونِي أَرْكَعْ ركعتَيْنِ"، أي: أُصَلِّي ركعتَيْنِ، "ثُمَّ قال: واللهِ لَوْلَا أن تَحْسَبُوا" أي تَظُنُّوا "ما بِي"، أي: الَّذِي مُتَلَبِّسٌ بي "جَزَعًا"، أي: فَزَعًا وخَوْفًا مِن المَوْتِ، "لَزِدْتُ" في الصَّلاةِ أكثرَ مِن ركعتَيْن.
وفي الحَدِيثِ: فضلُ أصحابِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم.
وفيه: تعلُّقُ الصَّحَابَةِ بِرَبِّهم حَتَّى في أَصْعَبِ المَواقِفِ.
وفيه: أنَّه لا ذِمَّةَ لكافرٍ في حالِ الحربِ والمُعادَاةِ.