على وَليِّ الأمرِ الحاكِمِ أن يُبيِّنَ لِنُوَّابِه وأُمرائِه في شُؤونِ الدَّولةِ مَهامَّهم، والمطلوبَ مِنهم، ويُنبِّهَهم إلى المحظوراتِ في أعمالِهم، ثمَّ بعد ذلك يُخيِّرُهم بينَ قَبولِ العَملِ بهذه المواصَفاتِ والشُّروطِ وبينَ رَفْضِه؛ حتَّى تَكونَ الأمورُ واضحةً وبيِّنةً لِجَميعِ الأطرافِ.
وفي هذا الحديثِ يَقولُ أبو مَسعودٍ الأنصاريُّ رضِيَ اللهُ عنه: "بَعثَني النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ساعيًا"، أي: جابيًا للصَّدقةِ، ثمَّ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "انطَلِقْ أبا مَسعودٍ"، أي: اذهَبْ، "ولا أُلفِيَنَّك" أي: ولا أجِدُك تأتي "يومَ القيامةِ، تَجِيءُ وعلى ظَهرِك بَعيرٌ مِن إبِلِ الصَّدقةِ، له رُغاءٌ قد غَلَلْتَه"، أي: واحذَرِ السَّرِقةَ مِن أموالِ الصَّدَقاتِ والزَّكواتِ الَّتي تَجمَعُها، فلا تَسرِقْ بَعيرًا له رُغاءٌ- وهو صوتُ الإبلِ- لأنَّ ما سُرق أو أُخفي سيَأتي على صُورتِه يومَ القيامةِ يَركَبُ على ظهرِ مَن سرَقَه أو أخفاه.
فقال أبو مَسعودٍ رضِيَ اللهُ عنه خَوفًا مِن تلك المسؤوليَّةِ: "إذنْ لا أَنطلِقُ"، أي: لن يَذهَبَ ليَجبِيَ الصَّدقةَ؛ خوفًا مِن أن يَقَعَ في مُخالفةٍ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "إذنْ لا أُكْرِهُك"، أي: لا أُرغِمُك على قَبولِ المهمَّةِ؛ فالأمرُ على الخِيارِ.
وهذا مِن حُسْنِ سِياسةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ حيثُ بيَّن له المحظوراتِ قبلَ تَولِّي مُهمِّتِه، وترَكَ له حُريَّةَ الاختيارِ، ولم يُجبِرْه على شيءٍ حتَّى يَكونَ الأمرُ واضِحًا، والمُحاسَبةُ عليه مَقبولةً.
وفي الحديثِ: تحذيرُ الوُلاةِ والأُمَراءِ مِن السَّرقةِ والغُلولِ.
وفيه: بيانُ ما كان عندَ صَحابةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن وَرَعٍ وغَلقِ بابِ ما يُفتَنون منه.