مِن الآدابِ الَّتي علَّمَها لنا سيِّدُ الأَنامِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم وأمَرَنا بها: أن نُنْزِلَ النَّاسَ منازِلَهم، وقد كان لأبي بَكرٍ الصِّدِّيق رضِيَ اللهُ عنه فَضلٌ عظيمٌ، ومَنزِلةٌ عاليةٌ أهَّلتْه أنْ يَخلُفَ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم على المُسلِمينَ؛ فهو خيرُ هذِه الأُمَّةِ بعدَ نبيِّها صلَّى الله عليه وسلَّم.
وفي هذا الحَديثِ يقولُ عبدُ اللهِ بنُ زمْعَةَ: "لمَّا استُعِزَّ برسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم"، أي: لَمَّا اشتَدَّ عليهِ وغلَبَه المرَضُ، "وأنا عندَه في نفَرٍ منَ المسلِمين"، أي: جماعةٍ مِن أصحابِه رضِيَ اللهُ عنهم، والنَّفَرُ: مِن ثلاثةٍ إلى تِسْعَةٍ، "دَعاه بلالٌ إلى الصَّلاة"، أي: دَعَا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "مُروا مَن يُصلِّي للنَّاسِ"، وفي روايةٍ موضِّحةٍ لذلك: فقال: فأينَ أبو بكرٍ؟! يأبى اللهُ ذلكَ والمُسلِمونَ- مرَّتَيْنِ- فبعَث إلى أبي بكرٍ فجاءَ بعدَ أنْ صلَّى عُمَرُ فصلَّى بالنَّاسِ؛ قال عبدُ اللهِ بنُ زَمْعةَ: فقال لي عُمَرُ: وَيْحَكَ! ماذا فعَلْتَ بي يا ابنَ زَمْعَةَ، واللهِ ما ظنَنْتُ حِينَ أمَرْتَني إلَّا أنَّ رسولَ اللهِ أمَركَ بذلكَ، ولولا ذلك لَمَا صلَّيْتُ بالنَّاسِ، قُلْتُ: واللهِ ما أَمَرني رَسولُ اللهِ ولكنِّي حِينَ لَمْ أرَ أبا بكرٍ رأَيْتُكَ أحَقَّ مَن حضَر بالصَّلاةِ مِن النَّاسِ.
قال: "فخرَجَ عبدُ اللهِ بنُ زَمْعَةَ، فإذا عُمَرُ في النَّاسِ"، أي: يَحضُرُ الصَّلاةَ، "وكان أبو بكْرٍ غائبًا"، أي: في بَعضِ حاجاتِه، قال عبدُ اللهِ: "فقلتُ: يا عمَرُ، قُم فصَلِّ بالنَّاسِ. فتقَدَّم فكبَّرَ"، أي: شرَع في الصَّلاةِ، "فلمَّا سمِعَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم صوتَه، وكان عُمَرُ رجلًا مُجهِرًا"، أي: كان صاحِبَ صوْتٍ مُرتفِعٍ شديدٍ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "فأين أبو بكْرٍ؟"، أي: لِماذا لم يُصَلِّ بالنَّاسِ؟! "يَأْبى اللهُ ذلك والمسلِمون، يَأْبى اللهُ ذلك والمسلمون"، أي: يَأبَى اللهُ والمسلِمونَ أنْ يَتقدَّمَ للإمامَةِ غيرُ أبي بكْرٍ رضِيَ اللهُ عنهُ.
وفي روايةٍ قال: لَمَّا سَمِعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم صوتَ عُمرَ- قال ابنُ زمعةَ-: خرَج النَّبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم حتَّى أطْلَعَ رأسَه مِن حُجرتِه، ثمَّ قال: لا، لا، لا! ليصلِّ للنَّاسِ ابنُ أبي قُحافَةَ- يعني: أبا بَكرٍ- قال ذلك مُغضبًا.
قال: "فبعَثَ إلى أبي بكْرٍ"، أي: أرسَلَ في طلَبِه، "فجاء بعْدَ أنْ صلَّى عُمَرُ تلك الصَّلاةَ" أي: بعدَ أنْ انتَهى منها؛ "فصَلَّى بالنَّاسِ"، أي: صلّى أبو بَكرٍ رضِيَ اللهُ عنه ما بقِيَ مِن صَلاواتٍ خِلافةً لرَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم.
وفي الحديثِ: مَنقبةٌ ظاهِرةٌ لأبي بَكرٍ رضِيَ اللهُ عنه.