أنَّ النَّاسَ كَانُوا يقولونَ: أكْثَرَ أبو هُرَيْرَةَ، وإنِّي كُنْتُ ألْزَمُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بشِبَعِ بَطْنِي حتَّى لا آكُلُ الخَمِيرَ ولَا ألْبَسُ الحَبِيرَ، ولَا يَخْدُمُنِي فُلَانٌ ولَا فُلَانَةُ، وكُنْتُ أُلْصِقُ بَطْنِي بالحَصْبَاءِ مِنَ الجُوعِ، وإنْ كُنْتُ لَأَسْتَقْرِئُ الرَّجُلَ الآيَةَ، هي مَعِي؛ كَيْ يَنْقَلِبَ بي فيُطْعِمَنِي، وكانَ أخْيَرَ النَّاسِ لِلْمِسْكِينِ جَعْفَرُ بنُ أبِي طَالِبٍ؛ كانَ يَنْقَلِبُ بنَا فيُطْعِمُنَا ما كانَ في بَيْتِهِ، حتَّى إنْ كانَ لَيُخْرِجُ إلَيْنَا العُكَّةَ الَّتي ليسَ فِيهَا شَيءٌ، فَنَشُقُّهَا فَنَلْعَقُ ما فِيهَا.
الراوي :
أبو هريرة | المحدث :
البخاري
|
المصدر :
صحيح البخاري
الصفحة أو الرقم: 3708 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح]
التخريج :
من أفراد البخاري على مسلم
كان أبو هُرَيْرةَ رَضيَ اللهُ عنه مِن أكثَرِ الصَّحابةِ مُلازَمةً للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولم يكُنْ له حاجةٌ في الدُّنْيا غيرُ أنْ يَتعلَّمَ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فيَحضُرُ ما لا يَحْضُرونَ، ويَحفَظُ ما لا يَحفَظونَ.
وفي هذا الحَديثِ يَحْكي أبو هُرَيْرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النَّاسَ كانوا يَقولونَ: أكثَرَ أبو هُرَيْرةَ مِن رِوايةِ الحَديثِ! وكأنَّهم يُشكِّكونَ في كَثْرةِ رِواياتِه رَغمَ تَأخُّرِ إسْلامِه، وقِصَرِ المدَّةِ الَّتي قَضاها في صُحْبةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولم يَرْوِ مِثلَه غَيرُه مِن قُدَماءِ الصَّحابةِ.
ثمَّ أوضَحَ سَببَ ذلك بأنَّه كان مُلازِمًا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، مُقتَصِرًا على شِبَعِ بَطنِه، وهو كِنايةٌ عن قلَّةِ شُغلِه، والاقْتِصارِ على ما يُقيمُ بَدَنَه في سَبيلِ طلَبِ العِلمِ، ومُصاحَبةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فلمْ يَطلُبْ زِيادةً على ذلك، وأخبَرَ أنَّه كان لا يَأكُلُ الخَميرَ، والمَقصودُ به ما خُبِزَ وجُعِلَ في عَجينةِ الخَميرةِ، وهو ممَّا يَكونُ دَليلًا على الرَّفاهيةِ واليَسارِ، وكان لا يَلبَسُ الحَبيرَ، وهيَ الثِّيابُ الموَشَّاةُ المُخَطَّطةُ الفاخِرةُ في ذلك الوَقتِ، ولم يكُنْ بالأحْرى له خادمٌ، فلم يَخدُمُه عبْدٌ أو أَمةٌ؛ لأنَّ كلَّ هذا يَتطلَّبُ السَّعيَ في طلَبِ المالِ، والشُّغلَ بالأعْمالِ، ومِن شِدَّةِ جُوعِه كان يُلصِقُ بَطْنُه بالحَصْباءِ -وهي الحَصى الصِّغارُ على الأرضِ- حتَّى تَنكَسِرَ حَرارةُ الجوعِ وشدَّتُه، ثمَّ قال عن نفْسِه: «وإنْ كُنتُ لَأسْتَقْرئُ الرَّجلَ الآيةَ»، أي: أطلُبُ منه قِراءةَ الآيةِ، وهو يَحفَظُها، وإنَّما كان يَقصِدُ بفِعلِه ذلك أنْ يَصْحَبَه المَسؤولَ معه إلى بَيتِه فيُطعِمَه.
ويُخبِرُ أنَّ أخيَرَ النَّاسِ للمِسْكينِ جَعفَرُ بنُ أبي طالبٍ، يَعني كانَ جَوَادًا كَريمًا سَخيًّا، فكان يَنقَلِبُ بالمَساكينِ إلى مَنزلِه، فيُطعِمُهم ما كان في بَيتِه مِن طَعامٍ، حتَّى إنَّه كان يُخرِجُ إليهم العُكَّةَ -وهي وِعاءٌ مِن جِلدٍ يُجعَلُ فيهِ السَّمنُ وغَيرُه- الَّتي لَيس فيها شَيءٌ، فيَشُقُّونها فيَلحَسُون ما فيها مِن شدَّةِ الجوعِ، وهذا أيضًا يدُلُّ على شدَّةِ الحاجةِ والفَقرِ في أوَّلِ الإسْلامِ، ورَغْمَ ذلك كانوا يَجودونَ بما في بُيوتِهم على قلَّتِه، ورَغمَ حاجَتِهم له.
وفي الحَديثِ: فَضلُ أبي هُرَيْرةَ رَضيَ اللهُ عنه، وصَبرُه على شدَّةِ الحالِ والفَقرِ، وتَفرُّغُه لأخْذِ العِلمِ والسُّننِ مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفيه: مَنقَبةٌ وفَضيلةٌ لجَعفَرِ بنِ أبي طالِبٍ رَضيَ اللهُ عنه، وبَيانُ عَظيمِ كَرمِه، وحُسنِ خُلُقِه مع المَساكينِ.
وفيه: ردُّ العالِمِ الشُّبُهاتِ عن نفْسِه.
وفيه: فَضْلُ التَّقلُّلِ مِن الدُّنْيا، وإيثارُ طلَبِ العِلمِ على طلَبِ المالِ.