الموسوعة الحديثية


- أنه رأى عُمَرَ بنَ الخطَّابِ رضِي اللهُ عنه قبْلَ أنْ يُصابَ بأيَّامٍ بالمدينةِ وقَف على حُذيفةَ بنِ اليَمانِ وعُثمانَ بنِ حُنيفٍ فقال : أتخافانِ أنْ تكونا قد حمَّلْتُما الأرضَ ما لا تُطيقُ ؟ قالا : حمَّلْناها أمرًا هي له مُطيقةٌ وما فيها كثيرٌ فَضْلٌ فقال : انظُرا ألَّا تكونا حمَّلْتُما الأرضَ ما لا تُطيقُ فقالا : لا فقال : لئِنْ سلَّمني اللهُ لَأدَعَنَّ أراملَ أهلِ العِراقِ لا يحتَجْنَ إلى أحَدٍ بعدي قال : فما أتَتْ عليه إلَّا رابعةٌ حتَّى أُصيبَ قال عمرُو بنُ مَيمونٍ : وإنِّي لَقائمٌ ما بَيْني وبَيْنَه إلَّا عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ غَداةَ أُصيب وكان إذا مَرَّ بيْنَ الصَّفَّيْنِ قام بَيْنَهما فإذا رأى خَلَلًا قال : استَووا حتَّى إذا لَمْ يَرَ فيهم خَلَلًا تقدَّم فكبَّر قال : وربَّما قرَأ سورةَ يوسُفَ أو النَّحلِ في الرَّكعةِ الأُولى حتَّى يجتمِعَ النَّاسُ قال : فما كان إلَّا أنْ كبَّر فسمِعْتُه يقولُ : قتَلني الكلبُ - أو أكَلني الكلبُ - حينَ طعَنه وطار العِلْجُ بسِكِّينٍ ذي طرَفَيْنِ لا يمُرُّ على أحَدٍ يمينًا وشِمالًا إلَّا طعَنه حتَّى طعَن ثلاثةَ عشَر رجُلًا فمات منهم تسعةٌ فلمَّا رأى ذلك رجُلٌ مِن المُسلِمينَ طرَح عليه بُرنُسًا فلمَّا ظنَّ العِلْجُ أنَّه مأخوذٌ نحَر نفسَه وأخَذ عُمَرُ بيدِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ عوفٍ فقدَّمه فأمَّا مَن يَلي عُمَرَ فقد رأى الَّذي رأَيْتُ وأمَّا نواحي المسجِدِ فإنَّهم لا يَدرونَ ما الأمرُ غيرَ أنَّهم فقَدوا صوتَ عُمَرَ وهم يقولونَ : سُبحانَ اللهِ سُبحانَ اللهِ فصلَّى عبدُ الرَّحمنِ بالنَّاسِ صلاةً خفيفةً فلمَّا انصرَفوا قال : يا ابنَ عبَّاسٍ : انظُرْ مَن قتَلني فجال ساعةً ثمَّ قال : غلامُ المُغيرةِ بنِ شُعبةَ فقال : قاتَله اللهُ لقد كُنْتُ أمَرْتُه بمعروفٍ ثمَّ قال : الحمدُ للهِ الَّذي لَمْ يجعَلْ مَنيَّتي بيدِ رجُلٍ يدَّعي الإسلامَ، كُنْتَ أنتَ وأبوكَ تُحِبَّانِ أنْ يكثُرُ العُلوجُ بالمدينةِ وكان العبَّاسُ أكثَرَهم رقيقًا فاحتُمِل إلى بيتِه فكأنَّ النَّاسَ لَمْ تُصِبْهم مصيبةٌ قبْلَ يومَئذٍ فقائلٌ يقولُ : نخافُ عليه وقائلٌ يقولُ لا بأسَ فأُتِي بنَبيذٍ فشرِب منه فخرَج مِن جُرحِه ثمَّ أُتِي بلَبَنٍ فشرِب منه فخرَج مِن جُرحِه فعرَفوا أنَّه ميِّتٌ وولَجْنا عليه وجاء النَّاسُ يُثنونَ عليه وجاء رجُلٌ شابٌّ فقال : أبشِرْ يا أميرَ المُؤمِنينَ ببُشرى اللهِ قد كان لكَ مِن صُحبةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقِدَمِ الإسلامِ ما قد علِمْتَ ثمَّ استُخلِفْتَ فعدَلْتَ ثمَّ شَهادةٌ قال : يا ابنَ أخي ودِدْتُ أنَّ ذلك كَفافٌ لا علَيَّ ولا ليَ فلمَّا أدبَر الرَّجُلُ إذا إزارُه يمَسُّ الأرضَ فقال : رُدُّوا علَيَّ الغلامَ فقال : يا ابنَ أخي ارفَعْ ثوبَك فإنَّه أَنْقَى لثوبِك وأَتْقَى لِربِّكَ، يا عبدَ اللهِ انظُرْ ما علَيَّ مِن الدَّيْنِ فحسَبوه فوجَدوه ستَّةً وثمانينَ ألفًا فقال : إنْ وفَى مالُ آلِ عُمَرَ فأَدِّه مِن أموالِهم وإلَّا فسَلْ في بني عَدِيِّ بنِ كعبٍ فإنْ لَمْ يَفِ بأموالِهم فسَلْ في قُرَيشٍ ولا تَعْدُهم إلى غيرِهم اذهَبْ إلى أمِّ المُؤمِنينَ عائشةَ فقُلْ لها : يقرَأُ عليكِ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ السَّلامَ ولا تقُلْ : أميرُ المُؤمِنينَ فإنِّي لَسْتُ لِلمُؤمِنينَ بأميرٍ فقُلْ : يستأذِنُ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ أنْ يُدفَنَ مع صاحبَيْهِ فسلَّم عبدُ اللهِ ثمَّ استأذَن فوجَدها تبكي فقال لها : يستأذِنُ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ أنْ يُدفَنَ مع صاحبَيْه فقالت : واللهِ كُنْتُ أرَدْتُه لِنفسي ولَأُوثِرَنَّه اليومَ على نفسي فجاء فلمَّا أقبَل قيل : هذا عبدُ اللهِ قد جاء فقال : ارفَعاني فأسنَده إليه رجُلٌ فقال : ما قالت ؟ قال : الَّذي تُحِبُّ يا أميرَ المُؤمِنينَ قد أذِنَتْ لكَ قال : الحمدُ للهِ ما كان شيءٌ أهمَّ إليَّ مِن ذلك المُضطجَعِ فإذا أنا قُبِضْتُ فسلِّمْ وقُلْ : يستأذِنُ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ فإنْ أذِنَتْ لي فأدخِلوني وإنْ ردَّتْني فرُدُّوني إلى مقابِرِ المُسلِمينَ ثم جاءَتْ أمُّ المُؤمِنينَ حفصةُ والنِّساءُ يستُرْنَها فلمَّا رأَيْناها قُمْنا فمكَثَتْ عندَه ساعةً ثمَّ استأذَن الرِّجالُ فولَجَتْ داخِلًا ثمَّ سمِعْنا بكاءَها مِن الدَّاخِلِ فقيل له : أوصِ يا أميرَ المُؤمِنينَ استخلِفْ قال : ما أرى أحَدًا أحَقَّ بهذا الأمرِ مِن هؤلاءِ النَّفرِ الَّذينَ تُوفِّي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو عنهم راضٍ فسمَّى علِيًّا وطَلحةَ وعُثمانَ والزُّبيرَ وعبدَ الرَّحمنِ بنَ عوفٍ وسعدًا رضِي اللهُ عنهم قال : ولْيشهَدْ عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ وليس له مِن الأمرِ شيءٌ كهيئةِ التَّعزيةِ له فإنْ أصاب الأمرُ سعدًا فهو ذلك وإلَّا فلْيستَعِنْ به أيُّكم ما أُمِّر فإنِّي لَمْ أعزِلْه مِن عجزٍ ولا خيانةٍ ثم قال : أُوصي الخليفةَ بعدي بتَقْوى اللهِ وأوصيه بالمُهاجِرينَ الأوَّلينَ أنْ يعلَمَ لهم فَيْئَهم ويحفَظَ لهم حُرمتَهم وأوصيه بالأنصارِ خيرًا الَّذينَ تبَوَّؤُوا الدَّارَ والإيمانَ مِن قبْلِهم أنْ يُقبَلَ مِن مُحسِنِهم ويُعفَى عن مُسيئِهم وأُوصيه بأهلِ الأمصارِ خيرًا فإنَّهم رِدْءُ الإسلامِ وجُباةُ المالِ وغَيْظُ العدوِّ وألَّا يُؤخَذَ منهم إلَّا فَضْلُهم عن رضًا وأُوصيه بالأعرابِ خيرًا إنَّهم أصلُ العرَبِ ومادَّةُ الإسلامِ أنْ يُؤخَذَ منهم مِن حواشي أموالِهم فيُرَدَّ في فُقرائِهم وأوصيه بذِمَّةِ اللهِ وذِمَّةِ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ يُوفَى لهم بعهدِهم وأنْ يُقاتَلَ مِن ورائِهم وألَّا يُكلَّفوا إلَّا طاقتَهم فلمَّا تُوفِّي رضوانُ اللهِ عليه خرَجْنا به نمشي فسلَّم عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ فقال : يستأذِنُ عُمَرُ فقالت : أدخِلوه فأُدخِل فوُضِع هناك مع صاحبَيْهِ فلمَّا فُرِغ مِن دفنِه ورجَعوا اجتمَع هؤلاءِ الرَّهطِ فقال عبدُ الرَّحمنِ بنُ عوفٍ : اجعَلوا أمرَكم إلى ثلاثةٍ منكم فقال الزُّبيرُ : قد جعَلْتُ أمري إلى علِيٍّ وقال سعدٌ : قد جعَلْتُ أمري إلى عبدِ الرَّحمنِ وقال طَلحةُ : قد جعَلْتُ أمري إلى عثمانَ فجاء هؤلاءِ الثَّلاثةُ : علِيٌّ وعُثمانُ وعبدُ الرَّحمنِ بنُ عوفٍ فقال عبدُ الرَّحمنِ للآخَرَيْنِ : أيُّكما يتبرَّأُ مِن هذا الأمرِ ويجعَلُه إليه واللهُ عليه والإسلامُ لَينظُرَنَّ أفضلَهم في نفسِه ولَيحرِصَنَّ على صلاحِ الأمَّةِ قال : فأسكَت الشَّيخانِ : علِيٌّ وعُثمانُ فقال عبدُ الرَّحمنِ : اجعَلوه إليَّ واللهُ علَيَّ ألَّا آلوَ عن أفضلِكم قالا : نَعم فجاء بعلِيٍّ فقال : لكَ مِن القِدَمِ والإسلامِ والقَرابةِ ما قد علِمْتَ آللهِ عليك لئِنْ أمَّرْتُك لَتعدِلَنَّ ولئِنْ أمَّرْتُ عليكَ لَتسمَعَنَّ ولَتُطيعَنَّ ؟ ثمَّ جاء بعُثمانَ فقال له مِثْلَ ذلك فلمَّا أخَذ الميثاقَ قال لِعُثمانَ : ارفَعْ يدَك فبايَعه ثمَّ بايَعه علِيٌّ ثمَّ ولَج أهلُ الدَّارِ فبايَعوه
الراوي : عمرو بن ميمون | المحدث : ابن حبان | المصدر : صحيح ابن حبان | الصفحة أو الرقم : 6917 | خلاصة حكم المحدث : أخرجه في صحيحه

 رَأَيْتُ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنْه قَبْلَ أنْ يُصَابَ بأَيَّامٍ بالمَدِينَةِ، وقَفَ علَى حُذَيْفَةَ بنِ اليَمَانِ وعُثْمَانَ بنِ حُنَيْفٍ، قَالَ: كيفَ فَعَلْتُمَا؟ أتَخَافَانِ أنْ تَكُونَا قدْ حَمَّلْتُما الأرْضَ ما لا تُطِيقُ؟ قَالَا: حَمَّلْنَاهَا أمْرًا هي له مُطِيقَةٌ، ما فِيهَا كَبِيرُ فَضْلٍ، قَالَ: انْظُرَا أنْ تَكُونَا حَمَّلْتُما الأرْضَ ما لا تُطِيقُ، قَالَ: قَالَا: لَا، فَقَالَ عُمَرُ: لَئِنْ سَلَّمَنِي اللَّهُ، لَأَدَعَنَّ أرَامِلَ أهْلِ العِرَاقِ لا يَحْتَجْنَ إلى رَجُلٍ بَعْدِي أبَدًا، قَالَ: فَما أتَتْ عليه إلَّا رَابِعَةٌ حتَّى أُصِيبَ، قَالَ: إنِّي لَقَائِمٌ ما بَيْنِي وبيْنَهُ إلَّا عبدُ اللَّهِ بنُ عَبَّاسٍ غَدَاةَ أُصِيبَ، وكانَ إذَا مَرَّ بيْنَ الصَّفَّيْنِ، قَالَ: اسْتَوُوا، حتَّى إذَا لَمْ يَرَ فِيهِنَّ خَلَلًا تَقَدَّمَ فَكَبَّرَ، ورُبَّما قَرَأَ سُورَةَ يُوسُفَ، أوِ النَّحْلَ، أوْ نَحْوَ ذلكَ في الرَّكْعَةِ الأُولَى حتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ، فَما هو إلَّا أنْ كَبَّرَ، فَسَمِعْتُهُ يقولُ: قَتَلَنِي -أوْ أكَلَنِي- الكَلْبُ، حِينَ طَعَنَهُ، فَطَارَ العِلْجُ بسِكِّينٍ ذَاتِ طَرَفَيْنِ، لا يَمُرُّ علَى أحَدٍ يَمِينًا ولَا شِمَالًا إلَّا طَعَنَهُ، حتَّى طَعَنَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، مَاتَ منهمْ سَبْعَةٌ، فَلَمَّا رَأَى ذلكَ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ طَرَحَ عليه بُرْنُسًا، فَلَمَّا ظَنَّ العِلْجُ أنَّه مَأْخُوذٌ نَحَرَ نَفْسَهُ، وتَنَاوَلَ عُمَرُ يَدَ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ فَقَدَّمَهُ، فمَن يَلِي عُمَرَ فقَدْ رَأَى الذي أرَى، وأَمَّا نَوَاحِي المَسْجِدِ فإنَّهُمْ لا يَدْرُونَ، غيرَ أنَّهُمْ قدْ فَقَدُوا صَوْتَ عُمَرَ، وهُمْ يقولونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! سُبْحَانَ اللَّهِ! فَصَلَّى بهِمْ عبدُ الرَّحْمَنِ صَلَاةً خَفِيفَةً، فَلَمَّا انْصَرَفُوا قَالَ: يا ابْنَ عَبَّاسٍ، انْظُرْ مَن قَتَلَنِي، فَجَالَ سَاعَةً ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: غُلَامُ المُغِيرَةِ، قَالَ: الصَّنَعُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قَاتَلَهُ اللَّهُ! لقَدْ أمَرْتُ به مَعْرُوفًا، الحَمْدُ لِلَّهِ الذي لَمْ يَجْعَلْ مِيتَتي بيَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي الإسْلَامَ، قدْ كُنْتَ أنْتَ وأَبُوكَ تُحِبَّانِ أنْ تَكْثُرَ العُلُوجُ بالمَدِينَةِ -وكانَ العَبَّاسُ أكْثَرَهُمْ رَقِيقًا- فَقَالَ: إنْ شِئْتَ فَعَلْتُ -أيْ: إنْ شِئْتَ قَتَلْنَا- قَالَ: كَذَبْتَ، بَعْدَما تَكَلَّمُوا بلِسَانِكُمْ، وصَلَّوْا قِبْلَتَكُمْ، وحَجُّوا حَجَّكُمْ! فَاحْتُمِلَ إلى بَيْتِهِ، فَانْطَلَقْنَا معهُ وكَأنَّ النَّاسَ لَمْ تُصِبْهُمْ مُصِيبَةٌ قَبْلَ يَومَئذٍ، فَقَائِلٌ يقولُ: لا بَأْسَ، وقَائِلٌ يقولُ: أخَافُ عليه، فَأُتِيَ بنَبِيذٍ فَشَرِبَهُ، فَخَرَجَ مِن جَوْفِهِ، ثُمَّ أُتِيَ بلَبَنٍ فَشَرِبَهُ فَخَرَجَ مِن جُرْحِهِ، فَعَلِمُوا أنَّه مَيِّتٌ، فَدَخَلْنَا عليه، وجَاءَ النَّاسُ، فَجَعَلُوا يُثْنُونَ عليه، وجَاءَ رَجُلٌ شَابٌّ، فَقَالَ: أبْشِرْ يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ ببُشْرَى اللَّهِ لَكَ؛ مِن صُحْبَةِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقَدَمٍ في الإسْلَامِ ما قدْ عَلِمْتَ، ثُمَّ وَلِيتَ فَعَدَلْتَ، ثُمَّ شَهَادَةٌ، قَالَ: وَدِدْتُ أنَّ ذلكَ كَفَافٌ لا عَلَيَّ ولَا لِي، فَلَمَّا أدْبَرَ إذَا إزَارُهُ يَمَسُّ الأرْضَ، قَالَ: رُدُّوا عَلَيَّ الغُلَامَ، قَالَ: يا ابْنَ أخِي، ارْفَعْ ثَوْبَكَ؛ فإنَّه أبْقَى لِثَوْبِكَ، وأَتْقَى لِرَبِّكَ. يا عَبْدَ اللَّهِ بنَ عُمَرَ، انْظُرْ ما عَلَيَّ مِنَ الدَّيْنِ، فَحَسَبُوهُ فَوَجَدُوهُ سِتَّةً وثَمَانِينَ ألْفًا أوْ نَحْوَهُ، قَالَ: إنْ وَفَى له مَالُ آلِ عُمَرَ، فأدِّهِ مِن أمْوَالِهِمْ، وإلَّا فَسَلْ في بَنِي عَدِيِّ بنِ كَعْبٍ، فإنْ لَمْ تَفِ أمْوَالُهُمْ فَسَلْ في قُرَيْشٍ، ولَا تَعْدُهُمْ إلى غيرِهِمْ، فأدِّ عَنِّي هذا المَالَ. انْطَلِقْ إلى عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ، فَقُلْ: يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ السَّلَامَ، ولَا تَقُلْ: أمِيرُ المُؤْمِنِينَ؛ فإنِّي لَسْتُ اليومَ لِلْمُؤْمِنِينَ أمِيرًا، وقُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ أنْ يُدْفَنَ مع صَاحِبَيْهِ، فَسَلَّمَ واسْتَأْذَنَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهَا، فَوَجَدَهَا قَاعِدَةً تَبْكِي، فَقَالَ: يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ السَّلَامَ، ويَسْتَأْذِنُ أنْ يُدْفَنَ مع صَاحِبَيْهِ، فَقَالَتْ: كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي، ولَأُوثِرَنَّ به اليومَ علَى نَفْسِي، فَلَمَّا أقْبَلَ، قيلَ: هذا عبدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ قدْ جَاءَ، قَالَ: ارْفَعُونِي، فأسْنَدَهُ رَجُلٌ إلَيْهِ، فَقَالَ: ما لَدَيْكَ؟ قَالَ: الذي تُحِبُّ يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ؛ أذِنَتْ، قَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ، ما كانَ مِن شَيءٍ أهَمُّ إلَيَّ مِن ذلكَ، فَإِذَا أنَا قَضَيْتُ فَاحْمِلُونِي، ثُمَّ سَلِّمْ، فَقُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، فإنْ أذِنَتْ لي فأدْخِلُونِي، وإنْ رَدَّتْنِي رُدُّونِي إلى مَقَابِرِ المُسْلِمِينَ، وجَاءَتْ أُمُّ المُؤْمِنِينَ حَفْصَةُ والنِّسَاءُ تَسِيرُ معهَا، فَلَمَّا رَأَيْنَاهَا قُمْنَا، فَوَلَجَتْ عليه، فَبَكَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً. واسْتَأْذَنَ الرِّجَالُ، فَوَلَجَتْ دَاخِلًا لهمْ، فَسَمِعْنَا بُكَاءَهَا مِنَ الدَّاخِلِ، فَقالوا: أوْصِ يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، اسْتَخْلِفْ، قَالَ: ما أجِدُ أحَدًا أحَقَّ بهذا الأمْرِ مِن هَؤُلَاءِ النَّفَرِ -أوِ الرَّهْطِ- الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو عنْهمْ رَاضٍ، فَسَمَّى عَلِيًّا، وعُثْمَانَ، والزُّبَيْرَ، وطَلْحَةَ، وسَعْدًا، وعَبْدَ الرَّحْمَنِ، وقَالَ: يَشْهَدُكُمْ عبدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ، وليسَ له مِنَ الأمْرِ شَيءٌ -كَهَيْئَةِ التَّعْزِيَةِ له- فإنْ أصَابَتِ الإمْرَةُ سَعْدًا فَهو ذَاكَ، وإلَّا فَلْيَسْتَعِنْ به أيُّكُمْ ما أُمِّرَ؛ فإنِّي لَمْ أعْزِلْهُ عن عَجْزٍ ولَا خِيَانَةٍ، وقَالَ: أُوصِي الخَلِيفَةَ مِن بَعْدِي بالمُهَاجِرِينَ الأوَّلِينَ؛ أنْ يَعْرِفَ لهمْ حَقَّهُمْ، ويَحْفَظَ لهمْ حُرْمَتَهُمْ، وأُوصِيهِ بالأنْصَارِ خَيْرًا الَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ والإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ؛ أنْ يُقْبَلَ مِن مُحْسِنِهِمْ، وأَنْ يُعْفَى عن مُسِيئِهِمْ، وأُوصِيهِ بأَهْلِ الأمْصَارِ خَيْرًا؛ فإنَّهُمْ رِدْءُ الإسْلَامِ، وجُبَاةُ المَالِ، وغَيْظُ العَدُوِّ، وأَلَّا يُؤْخَذَ منهمْ إلَّا فَضْلُهُمْ عن رِضَاهُمْ، وأُوصِيهِ بالأعْرَابِ خَيْرًا؛ فإنَّهُمْ أصْلُ العَرَبِ، ومَادَّةُ الإسْلَامِ؛ أنْ يُؤْخَذَ مِن حَوَاشِي أمْوَالِهِمْ، ويُرَدَّ علَى فُقَرَائِهِمْ، وأُوصِيهِ بذِمَّةِ اللَّهِ، وذِمَّةِ رَسولِهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُوفَى لهمْ بعَهْدِهِمْ، وأَنْ يُقَاتَلَ مِن ورَائِهِمْ، ولَا يُكَلَّفُوا إلَّا طَاقَتَهُمْ. فَلَمَّا قُبِضَ خَرَجْنَا به، فَانْطَلَقْنَا نَمْشِي، فَسَلَّمَ عبدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ، قَالَ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، قَالَتْ: أدْخِلُوهُ، فَأُدْخِلَ، فَوُضِعَ هُنَالِكَ مع صَاحِبَيْهِ، فَلَمَّا فُرِغَ مِن دَفْنِهِ اجْتَمع هَؤُلَاءِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عبدُ الرَّحْمَنِ: اجْعَلُوا أمْرَكُمْ إلى ثَلَاثَةٍ مِنكُمْ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: قدْ جَعَلْتُ أمْرِي إلى عَلِيٍّ، فَقَالَ طَلْحَةُ: قدْ جَعَلْتُ أمْرِي إلى عُثْمَانَ، وقَالَ سَعْدٌ: قدْ جَعَلْتُ أمْرِي إلى عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ، فَقَالَ عبدُ الرَّحْمَنِ: أيُّكُما تَبَرَّأَ مِن هذا الأمْرِ، فَنَجْعَلُهُ إلَيْهِ، واللَّهُ عليه والإِسْلَامُ، لَيَنْظُرَنَّ أفْضَلَهُمْ في نَفْسِهِ؟ فَأُسْكِتَ الشَّيْخَانِ، فَقَالَ عبدُ الرَّحْمَنِ: أفَتَجْعَلُونَهُ إلَيَّ؟ واللَّهُ عَلَيَّ ألَّا آلُ عن أفْضَلِكُمْ؟ قَالَا: نَعَمْ، فأخَذَ بيَدِ أحَدِهِما فَقَالَ: لكَ قَرَابَةٌ مِن رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والقَدَمُ في الإسْلَامِ ما قدْ عَلِمْتَ، فَاللَّهُ عَلَيْكَ لَئِنْ أمَّرْتُكَ لَتَعْدِلَنَّ، ولَئِنْ أمَّرْتُ عُثْمَانَ لَتَسْمعنَّ ولَتُطِيعَنَّ، ثُمَّ خَلَا بالآخَرِ فَقَالَ له مِثْلَ ذلكَ، فَلَمَّا أخَذَ المِيثَاقَ قَالَ: ارْفَعْ يَدَكَ يا عُثْمَانُ، فَبَايَعَهُ، فَبَايَعَ له عَلِيٌّ، ووَلَجَ أهْلُ الدَّارِ فَبَايَعُوهُ.
الراوي : عمرو بن ميمون | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري
الصفحة أو الرقم: 3700 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح]

هذا الحَديثُ في مَقتَلِ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه، وكان ذلك في أربَعٍ بَقِينَ مِن ذِي الحِجَّةِ سَنةَ ثَلاثٍ وعِشرينَ مِن الهِجرةِ، وفيه يُخبِرُ التَّابِعيُّ عَمرُو بنُ مَيمونٍ: أنَّهُ رَأى عُمَرَ قبْلَ أنْ يُقتَلَ بأيَّامٍ في المَدينةِ، فوقَفَ عُمَرُ على حُذَيْفةَ بنِ اليَمانِ وعُثمانَ بنِ حُنَيفٍ رَضيَ اللهُ عنهما، والمُرادُ بوُقوفِ عُمَرَ عليهما: أنَّ حُذَيْفةَ وعُثمانَ رَضيَ اللهُ عنهما كانا مِن عُمَّالِه على أرْضِ العِراقِ، وكان عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه بعَثَهما يَضْرِبانِ الخَراجَ والجِزْيةَ على أهْلِها، يَسْأَلُهما: كيف فَعلْتُما؟ أتَخافانِ أنْ تَكونا قدْ حمَّلْتُما الأرضَ ما لا تُطيقُ؟ خَشيَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه أنْ يَكونا قدْ فَرَضا على أهْلِها ما لا يُطيقوهُ، ولَيس لهمُ القُدْرةُ على دَفْعِه، فأجابَهُ حُذَيْفةُ وعُثمانُ بأنَّ أهْلَها لدَيْهمُ القُدرةُ على دَفعِ ما فُرِضَ عليهم، وأنَّ ما فُرِضَ لَيس فيه زِيادةٌ كَثيرةٌ، فطَلَب منهما عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه أنْ يُعيدَا النَّظرَ في سُؤالِه وإجابَتِهما، وهذا مِن بابِ الحَذَرِ والخَشيةِ مِن عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه في أنْ يقَعَ منهما ظُلمٌ، ثمَّ وعَدَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه إنْ سلَّمَه اللهُ ألَّا يَدَعَ أرامِلَ العِراقِ في حاجةٍ لأحَدٍ بعدَه، والأرْمَلةُ: هي مَن ماتَ زَوجُها، فما أتى عليه أربَعةُ أيَّامٍ مِن وَعْدِه هذا حتَّى أُصيبَ، وكان مَوتُه في تلك الإصابةِ.
ثمَّ حَكى عَمرُو بنُ مَيْمونٍ كيفَ كانت إصابَتُه؛ فقال: إنَّهُ كان قائمًا في صَّلاةِ الصُّبحِ، وكان بيْنَه وبيْنَ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه عَبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما، وكان عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه إذا مرَّ بيْن صُفوفِ الصَّلاةِ، قال: اسْتَوُوا، أي: اعْتَدِلوا في صُفوفِكم، فإذا لم يَرَ رَضيَ اللهُ عنه في الصُّفوفِ خَللًا وأنَّ الصُّفوفَ قدِ استَوَتْ، تَقدَّمَ للإمامةِ، وكبَّرَ للصَّلاةِ، ورُبَّما قَرَأ سُورةَ يوسُفَ، أو سُورةَ النَّحلِ، أو نَحْوَ ذلك في الرَّكعةِ الأُولى؛ حتَّى يَجتَمِعَ النَّاسُ، فلمَّا دخَلَ في الصَّلاةِ وكبَّرَ تَكبيرةَ الإحرام، طَعَنَه مُباشَرةً أبو لُؤْلؤةَ المَجوسيُّ غُلامُ المُغيرةِ بنِ شُعْبةَ، فقال عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه حينَ طُعِنَ: قَتَلَني -أو أكَلَني- الكَلبُ. وقولُه: «فطارَ العِلْجُ بسِكِّينٍ ذاتِ طَرَفينِ، لا يمُرُّ على أحدٍ يَمينًا ولا شِمالًا إلَّا طَعَنهُ»، العِلْجُ: الرَّجلُ مِن كفَّارِ العَجَمِ، والمُرادُ: فِرارُ القاتلِ بعْدَ طَعْنِه عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه، وكانت معَه سِكِّينٌ ذاتُ طَرَفينِ لا يمُرُّ بأحدٍ في صُفوفِ المُصلِّينَ إلَّا طعَنَه، حتَّى إنَّه طعَنَ ثَلاثةَ عَشَرَ رَجلًا، مات منهم سَبعةٌ، فلمَّا رَأى ذلك رَجلٌ مِن المُسلِمينَ رَمَى عليه بُرنُسًا؛ ليَمنَعَه مِن طَعنِ أحدٍ، والبُرنُسُ: رِداءٌ ذُو كُمَّينِ يتَّصِلُ به غِطاءٌ للرَّأسِ، فلمَّا عَلِم القاتلُ أنَّه قدْ تُمُكِّنَ منهُ، ولنْ يَستَطيعَ الفِرارَ قَتَل نفْسَه.
وأمسَكَ عُمَرُ حينَ طُعِنَ بيَدِ عبْدِ الرَّحمنِ بنِ عَوفٍ رَضيَ اللهُ عنه، وكان فيمَن يُصلِّي خلْفَه، فقدَّمَه للإِمامةِ مَكانَه لإتْمامِ الصَّلاةِ، وكان مَن يَلي عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه رَأى وعَلِم ما حَصَل، فلمْ يَتأثَّروا بما تَغيَّرَ في الإمامةِ، وأمَّا مَن كانوا في نَواحي المَسجِدِ وبَعيدينَ عنه، فتَأثَّروا بفَقْدِ صَوتِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه، وهمْ يَقولونَ: سُبحانَ اللهِ! سُبحانَ اللهِ! فصلَّى بهم عبدُ الرَّحمنِ صَلاةً خَفيفةً.
فلمَّا انصَرَفَ النَّاسُ مِن الصَّلاةِ طلَب عُمَرُ مِن عَبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ أنْ يَعرِفَ له مَن قتَلَه، فجالَ ساعةً، أي: تأخَّرَ مدَّةً مِن الزَّمنِ باحِثًا عمَّن هو، فجاءَه وأخبَرَه أنَّه غُلامُ المُغيرةِ، والمُرادُ به: العَبدُ المَمْلوكُ، فاستَوْضَحَه عُمَرُ بقَولِه: «الصَّنَعُ؟» أيِ: الغُلامُ الصَّانِعُ؛ فإنَّه كان غُلامًا نجَّارًا، فأجابَهُ ابنُ عبَّاسٍ: نَعمْ. فقال عُمَرُ: قاتَلَهُ اللهُ! لقد أمرْتُ بهِ مَعْروفًا، أي: أوصَيْتُ له بخَيرٍ ومَعروفٍ، ثمَّ حمِدَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه ربَّهُ الَّذي لم يَجعَلْ مَوتَه بيَدِ رَجلٍ يَدَّعي الإسْلامَ، ثمَّ وجَّهَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه كلامَهُ إلى عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ: قدْ كُنتَ أنتَ وأبوكَ تُحبَّانِ أنْ تَكثُرَ العُلوجُ بالمَدينةِ، ويَقصِدُ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه العبَّاسَ بنَ عبدِ المُطَّلِبِ؛ لأنَّه كان أكثرَ الصَّحابةِ رَقيقًا، فقال ابنُ عبَّاسٍ: إنْ شئْتَ فعَلْتُ، أي: قَتَلْنا؟ فقال عُمَرُ: كذَبْتَ! بعْدَما تكَلَّموا بلِسانِكُم، وصلَّوْا قِبلَتَكم، وحَجُّوا حَجَّكم، أي: بعدَ ما تكَلَّموا العَربيَّةَ، وأسْلَموا، ويُقالُ: إنَّ أهلَ الحِجازِ يَقولونَ: «كذَبْتَ» في مَوضعِ «أخْطأْتَ».
ثمَّ حُمِلَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه إلى بَيتِه، وانطلَقَ النَّاسُ معَه، وكأنَّهم لم تُصِبْهم مُصيبةٌ مِن قبْلُ، فمنهم مَن يقولُ: لا بَأسَ عليه، وآخَرُ يقولُ: أخافُ عليه، ثمَّ إنَّهم أَتَوْا عُمَرَ بنَبيذٍ فشَرِبَه، فخَرَج مِن جَوفِه، ثمَّ أُتيَ بلَبنٍ فشَرِبَه، فخَرَج مِن جُرْحِه، فعَلِموا أنَّه ميِّتٌ، والنَّبيذُ: نَقيعُ التَّمرِ والزَّبيبِ قبْلَ أنْ يَشتَدَّ ويُصبِحَ مُسكِرًا، ويُقصَدُ بخُروجِ النَّبيذِ مِن الجَوفِ، أي: مِن مَوضِعِ الجُرْحِ، وقدْ شَرِبَ لَبنًا بعْدَ النَّبيذِ ليَتَبيَّنَ الخارجُ مِن الجُرحِ، هل مَشْروبُه أمْ دَمُه؛ لأنَّهُ عندَ خُروجِ النَّبيذِ لم يَتبيَّنْ لَونُه مِن لَونِ الدَّمِ، فلمَّا شَرِبَ اللَّبنَ ظهَر بَياضُهُ عندَ خُروجِه مِن مَوضِعِ الجُرحِ، فعَلِموا أنَّهُ ميِّتٌ على كلِّ حالٍ، فتَوافَدَ النَّاسُ عليه يَرَوْنه ويُثْنون عليه، فدَخَلَ عليه رَجلٌ شابٌّ، فقال: «أبْشِرْ يا أميرَ المؤمِنينَ ببُشْرى اللهِ لكَ؛ من صُحْبةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقَدمٍ في الإسْلامِ ما قد علِمْتَ، ثمَّ وَلِيتَ فعدَلْتَ، ثمَّ شَهادةٌ»، فردَّ عليه عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنهُ: وَدِدتُ أنَّ ذلكَ كَفافٌ، لا عَليَّ ولا لي، أي: إنَّ الَّذي أدَّيتُ يكونُ بقَدْرِ الحاجةِ لا فَضْلَ فيهِ ولا نُقْصانَ، فلمَّا أدْبَرَ الشَّابُّ، والتَفَّ بظَهْرِه للذَّهابِ، رأَى عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه إزارَه يَمَسُّ الأرضَ، فثِيابُه بَلَغَت ما تحتَ الكَعبَينِ، والإزارُ: ثَوبٌ يُحيطُ بالنِّصفِ الأسفَلِ مِنَ البدَنِ، فطلَبَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه مِن الحاضِرينَ أنْ يَأْمُروا الرَّجلَ بالرُّجوعِ إليه، فلمَّا جاءَه، قال لهُ عُمَرُ: «ابنَ أَخي، ارفَعْ ثَوبَكَ؛ فإنَّهُ أنْقى لثَوبِكَ»، أي: أطهَرُ لهُ، ويَحفَظُه منَ النَّجاساتِ، «وأتْقى لربِّكَ»؛ لأنَّ فيه طاعةً للهِ.
ثمَّ طلَبَ رَضيَ اللهُ عنه مِنِ ابنِه عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ أنْ يَنظُرَ ما عليه مِن دَينٍ ويَحْسُبَه، فحَسَبوهُ، فوَجدُوه ستَّةً وثَمانينَ ألفًا أو نَحْوَ ذلك، فحدَّدَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه لهم كيفَ يكونُ سَدادُه؛ فبَدأ بمالِ آلِ عُمَرَ، فإنْ لم يَكْفِ فمِن مالِ بَني عَديِّ بنِ كَعبٍ، وهمُ العَدَويُّونَ، وهم بَطْنٌ مِن قُرَيشٍ، وعَديٌّ الجَدُّ الأعْلى لعُمَرَ، فإنْ لم يَكْفِ فمِن مالِ قُرَيشٍ، وقولُه: «وَلا تَعْدُهم إلى غَيرِهم»، أي: لا تَتجاوَزْ ما حدَّدْتُ لكَ في مُطالَبتِهم لسَدادِ الدَّينِ، ثمَّ طلَب منِ ابنِه عَبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنه أنْ يَذهَبَ إلى عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها ويقولَ لها: «يَقْرَأُ عَلَيكِ عُمَرُ السَّلَامَ»، وألَّا يقولَ: «أمِيرُ المُؤْمِنِينَ»، وعلَّل ذلك بقولِه: «فإنِّي لَسْتُ اليومَ لِلْمُؤْمِنِينَ أمِيرًا»، قال ذلك لتَيقُّنِه بالموتِ حينئذٍ، وإشارةً إلى عائشةَ حتَّى لا تُحابِيَه لكونِه أميرَ المؤمنينَ وأنْ يَطلُبُ منها أنْ يُدفَنَ عُمَرُ معَ صاحِبَيْه؛ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه -وكانا قد دُفِنا في حُجرةِ عائشةَ- وكانت عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها تَحتَفِظُ لنفْسِها بقَبرٍ بجِوارِهما، فآثَرَتْ به عُمَرَ على نفْسِها، فقال عُمَرُ عندَما أتَتْه مُوافَقَتُها: الحَمدُ للهِ، ما كان مِن شَيءٍ أهمُّ إلَيَّ من ذلكَ، وهو أنْ يُدفَنَ بجِوارِ صاحِبَيْه، ومعَ ذلك فقدْ خَشيَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه أنْ تَكونَ مُوافَقَتُها تلك حَياءً منه؛ لصُدورِها في حَياتِه، وأنْ تَرجِعَ بعدَ موتِه؛ ولذلك طلَب مِن عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ أنْ يُعيدَ عليها الإذْنَ بعْدَ وَفاتهِ، وإلَّا رُدَّ لمَقابرِ المُسلِمينَ، ويَقصِدُ مَدافنَ البَقيعِ.
ثمَّ أتَتْ أمُّ المؤمِنينَ حَفْصةُ بنتُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما، والنِّساءُ تَسيرُ معَها، قال: فلمَّا رَأيْناها قُمْنا، فوَلَجَتْ عليه، والوُلوجُ: الدُّخولُ، فبكَتْ عندَه مدَّةً مِن الزَّمنِ، فلمَّا استأذَنَ الرِّجالُ، وَلَجَتْ داخِلًا لهم، أي: دخَلَتْ حُجْرةً أُخْرى في المَكانِ الَّذي فيه عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه؛ لتُفسِحَ مَكانًا للرِّجالِ، فسَمِعوا بُكاءَها مِن الدَّاخلِ.
ثمَّ أخبَرَ عَمرُو بنُ مَيمونٍ أنَّ الرِّجالَ طَلَبوا مِن عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه أنْ يُوصيَ ويَستَخلِفَ رَجلًا بعْدَه، فترَكَ الأمرَ خيارًا بيْن ستَّةٍ مِن الصَّحابةِ، وقالَ رَضيَ اللهُ عنه: ما أجِدُ أحدًا أحقَّ بهذا الأمرِ مِن هؤلاء النَّفرِ -أوِ الرَّهطِ- الَّذين تُوفِّيَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو عنهم راضٍ، وهم: عَليُّ بنُ أبي طالبٍ، وعُثمانُ بنُ عفَّانَ، والزُّبَيرُ بنُ العوَّامِ، وطَلْحةُ بنُ عُبَيدِ اللهِ، وسَعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ، وعبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوفٍ رَضيَ اللهُ عنهم جَميعًا. ثمَّ قال رَضيَ اللهُ عنه: «يَشهَدُكم عَبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ، وليس له مِنَ الأمرِ شَيءٌ»، أي: يَحضُرُكم عَبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ، وليس له من أمْرِ الخِلافةِ شَيءٌ قال عَمرُو بنُ مَيمونٍ: «كهَيْئةِ التَّعْزيةِ له»، لمَّا أخْرَجَه مِن أهْلِ الشُّورى في الخلافةِ، أراد جَبْرَ خاطِرَه بأنْ جَعَلَه مِن أهْلِ المشاوَرةِ في ذلك، ثمَّ أوْصَى في سَعدٍ إنْ كانتِ الإمارةُ له فهو ذاك، أي: هو أهْلٌ لها، وإلَّا فعَلى المُتبَقِّينَ مِن السِّتَّةِ إنِ استُخلِفَ فلْيَستَعِنْ بسَعدٍ، وقولُه: «فإنِّي لم أعزِلْه عن عَجزٍ ولا خِيانةٍ»؛ فإنَّ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه كان قدْ عزَلَه عنِ الكُوفةِ.
ثمَّ إنَّهُ رَضيَ اللهُ عنه أوْصَى الخَليفةَ بعْدَه بالمُهاجِرينَ والأنْصارِ، وسائرِ أهلِ الأمْصارِ، والأعْرابِ، والمِصْرُ: البلَدُ، والمُرادُ: البُلدانُ الإسْلاميَّةُ الَّتي فُتِحَتْ، وقولُه في أهلِ الأمْصارِ: «فإنَّهم رِدْءُ الإسْلامِ، وجُباةُ المالِ، وغَيظُ العَدوِّ، وألَّا يُؤخَذَ منهم إلَّا فَضْلُهم عن رِضاهُم»؛ فوَصيَّةُ عُمَرَ في أهلِ الأمْصارِ مِن أجْلِ أنَّهم عَونُ الإسْلامِ وقوَّتُه، وهمُ الَّذين يُجمَعُ منهمُ الأمْوالُ الَّتي تُساعِدُ على نُموِّ الدَّولةِ، يَغيظونَ الأعْداءَ بكَثرَتِهم وشَوْكتِهم.
وقولُه في أهلِ الأعْرابِ وهم ساكِنو الصَّحْراءِ: «فإنَّهم أصْلُ العَربِ، ومادَّةُ الإسْلامِ، أنْ يُؤخَذَ مِن حَواشي أمْوالِهم»، أي: همُ المُكَوِّنُ الرَّئيسُ الَّذي اعتَمَدَ عليهمُ الإسْلامُ، وأنْ يُؤخَذَ الوسَطُ مِن أمْوالِهمُ الَّتي ليست خَيرَها ولَيست أسْوَأَها، ثمَّ تُرَدُّ تلك الأمْوالُ فتُنفَقُ على فُقرائِهم، ثمَّ وَصَّى بأهلِ الذِّمَّةِ، وهم مَن له عَهدٌ وأمانٌ معَ المُسلِمينَ، وأنْ يُوفَى معَهم بقَدْرِ ما لَهم مِن عَهدٍ، وإنْ أرادَ عَدوٌّ قِتالَهم والاعْتِداءَ عليهم، خرَج المُسلِمونَ لقِتالِ هذا العَدوِّ وحِمايتِهم منه.
فلمَّا قُبِضَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه، أنفَذَ عَبدُ اللهِ بنُ عمَرَ وَصيَّةَ أبيهِ في سَلامِه واستِئْذانِه لعائِشةَ رَضيَ اللهُ عنهما، فدُفِنَ معَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومعَ أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، فلمَّا فَرَغوا مِن دَفنهِ اجتَمَعَ السِّتَّةُ الَّذين أوْصى عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه أنْ يكونَ الخَليفةُ مِنهم، فقال عَبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوفٍ رَضيَ اللهُ عنه: اجْعَلوا أمْرَكم إلى ثَلاثةٍ منكم، أي: أنْ يَختارَ ثَلاثةٌ ثَلاثةً غَيرَهم، ومنها يَنتَهي الأمرُ إلى واحدٍ، فانْتَهى الأمرُ إلى عَليِّ بنِ أبي طالبٍ، وعُثمانَ بنِ عفَّانَ، وعَبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوفٍ، قال عَبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوفٍ رَضيَ اللهُ عنه مُخاطِبًا علِيًّا وعُثمانَ رَضيَ اللهُ عنهما: «أيُّكُما تَبرَّأَ مِن هذا الأمْرِ، فنَجعَلُه إليه، واللهُ عليه والإسْلامُ؟»، أي: مَن منكما يَتبرَّأُ مِن أمْرِ الخِلافةِ، ويَبتَعِدُ عنه، فنَجعَلُ الاخْتيارَ بيْن الاثْنَينِ المُتبقِّيَيْنِ له، واللهُ رَقيبٌ عليه يُحاسِبُه على فِعلهِ، والإسْلامُ حاكِمٌ عليه بأحْكامِه، «لَيَنظُرَنَّ أفْضَلَهم في نفْسِه؟» أي: ليَتفكَّرَ كلُّ واحدٍ منهما في نفْسِه: مَن فيهما أفضَلُ منَ الآخَرِ؟ فلمْ يُجِبْه الشَّيخانِ، أي: أنَّ عَليًّا وعُثمانَ لم يُرجِّحْ أحَدُهما الآخَرَ للخِلافةِ، فطلَبَ منهمُ ابنُ عَوفٍ رَضيَ اللهُ عنه أنْ يَجْعَلوا الأمرَ إليه، على ألَّا يَحيدَ عنِ الحقِّ في اخْتيارِ أفْضَلِهما، فوافَقاه، فأخَذَ بيَدِ عَلِيٍّ وانفَرَدَ به عن عُثمانَ، وذكَّرَه بقَرابتِه مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقَدَمِه في الإسْلامِ، ثمَّ أخَذ عليه العَهدَ: لَئنْ أمَّرتُكَ لتَعدِلَنَّ، ولئنْ أمَّرتُ عُثمانَ لتَسمَعَنَّ ولتُطيعَنَّ، ثمَّ فعَل معَ عُثمانَ مِثلَ الَّذي فعَل معَ عَلِيٍّ، فلمَّا أخَذ عبدُ الرَّحمنِ منهما الميثاقَ والعَهدَ، قال: ارفَعْ يدَكَ يا عُثمانُ، فبايَعَه، ثمَّ دخَلَ أهلُ الدَّارِ فبايَعوه، والمُرادُ بـ«أهلِ الدَّارِ»: أهلُ المَدينةِ، وتمَّتِ البَيعةُ بالخِلافةِ لعُثمانَ بنِ عفَّانَ رَضيَ اللهُ تعالَى عنه.
وفي الحَديثِ: فَضلُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ تعالى عنه، وعَظيمُ شَفَقتِه على المُسلِمينَ، وعَدْلُه بيْنَ النَّاسِ جَميعًا.
وفيه: أنَّ الإمامَ والحاكِمَ مُسْتأمَنٌ على رَعيَّتِه، وعليه أنْ يَسألَ، ويَتَحرَّى عن أحْوالِهم، ولا يَظلِمَهم.
وفيه: الأخذُ بأسبابِ العِلاجِ، والاستِشْفاءُ.
وفيه: أنَّ الشُّورى بينَ أهلِ الحَلِّ والعَقدِ في المُلِمَّاتِ سَبيلٌ للخُروجِ منها.
وفيه: أنَّ لأهلِ الذِّمَّةِ حُقوقًا، يَجِبُ على إمامِ المُسلِمينَ رِعايَتُها، والمُحافَظةُ عليها، وأنَّ لهم عَهدًا وذِمَّةً يَجِبُ الوَفاءُ بها.